القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الرّابع عشر- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

14-8 في الانفعالات الثّلاثة الّتي زعم الرّواقيّون أنّها توجد في نفس الحكيم ما عدا الألم أو الحزن الّذي يجب ألاّ تتأثّر به النّفس الفاضلة

   تلك العواطف الّتي يدعوها اليونان eupatheiai وسمّاها شيشرون باللآّتينيّة constantiae ( تأثّرات حميدة)، زعم الرّواقيّون أنّها ثلاث تحلّ محلّ الانفعالات الثّلاثة في نفس الحكيم: محلّ الرّغبة العزيمة، ومحلّ الفرح البهجة، ومحلّ الخوف الحيطة، أمّا السّقم أو الألم الّذي آثرنا تسميته الحزن تحاشيا للالتباس فنفوا إمكانيّة وجود ما يقوم مقامه في نفس الحكيم. فالعزيمة على ما يقولون تسعى إلى الخير الّذي لا يتردّد الحكيم في فعله، والبهجة تأتي من نيل الخير الّذي يناله الحكيم في كلّ شيء، والحيطة تقي من الشّرّ الّذي يجب على الحكيم اجتنابه. أمّا الحزن، فلأنّه يأتي من شرّ قد حصل، بينما لا يمكن في رأيهم حصول أيّ شرّ للحكيم، زعموا أنّ لا شيء يمكن أن يقابله في نفس الحكيم. موقفهم إذن أنّ العزيمة والبهجة والحيطة تميّز الحكيم دون سواه، بينما سمات الغافل الرّغبة والفرح والخوف والابتئاس*. فالثّلاث الأولى عواطف حميدة ، أمّا الأربع الأخيرة فهي انفعالات perturbationes حسب شيشرون أو تأثّرات passiones كما يدعوها جلّ الكتّاب؛ أمّا باليونانيّة فتدعى الثّلاث الأولى كما ذكرت eupatheiai والأربع الأخيرة pati. لمّا بحثت بعناية قدر مستطاعي إن كانت هذه المصطلحات تطابق لغة الكتاب المقدّس وجدت قول النّبيّ: "لا سلام  للمنافقين قال الرّبّ"*، كما لو كان ممكنا أن يفرح المنافقون بدلا من أن يبتهجوا بللشّرور، لأنّ البهجة تخصّ الصّالحين والأتقياء. ورد كذلك في الإنجيل: "كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم فافعلوه أنتم بهم"* وقد قيل ذلك كما لو كان يمكن أن لأحد أن يريد ما هو شرّ وخزي لا أن يرغب فيه بالأحرى. أضاف بعض المترجمين لا محالة، بسبب صيغ التّعبير المتداولة، "من خير"، فترجموا بهذا النّحو: "ما تريدون أن يفعل النّاس بكم من خير"، فقد رأوا من اللاّزم الاحتراس من أن يريد أحد أن يفعل له النّاس لا أقول مخزيات لكن على الأقلّ أعمالا غير صالحة، كمجالس القصف والمجون، متصوّرا أنّه بردّ مثلها يكون قد نفّذ هذه الوصيّة. لكنّا لا نقرأ في النّصّ اليونانيّ للإنجيل الّذي تُرجم عنه اللاّتينيّ "من خير" وإنّما فقط: "كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم فافعلوه أنتم بهم". لذلك أعتقد أنّ الإنجيل حيث قال "تريدون" أراد "من خير"، فهو لم يقل "ترغبون".

   مع ذلك لا يجب أن تقيّد كلامنا معاني الألفاظ الاختصاصيّة، بل لنستخدمْها أحيانا. ولمّا نقرأ ما لا يجوز تجاوزز سلطتهم، لنأخذْ بها حيث لا يمكن أن نجد مجالا لمعنى آخر صحيح*، كما في تلك الأقوال الّتي ذكرنا على سبيل المثال، والمستمدّة بعض من الأنبياء وبعض من الإنجيل. إذ من يجهل أنّ المنافقين يستطيرون فرحا؟ ومع ذلك "لا ( بهجة) للمنافقين يقول الرّبّ". ولأيّ سبب سوى أنّ البهجة شعور مختلف إن استُخدمت هذه الكلمة بمعناها الحقيقيّ؟ كذلك من ينكر بطلان الوصيّة القاضية بأن نفعل للنّاس ما نريد أن يفعلوا بنا مخافة أن يستححلّ البعض بها المتعة المتبادلة في خزي اللّذّة الحرام؟ ومع ذلك ما أروعها وصيّة صحيحة صحّيّة: "كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم فافعلوه بهم". ولِم ذلك إن لم يكن لأنّ الإرادة في هذا القول وردت بمعناها الحقيقيّ، حيث لا يمكن فهمها في وجه سيّء؟* لكن باللّغة الأكثر تداولا، كما نجدها غالبا في الكتاب، ما كان هذا القول: "لا تبتغ أن تكذب  بشيء"*، لو لم تكن هناك أيضا إرادة سيّئة تختلف عن انرافها تلك الّتي يشيد بها الملائكة في قولهم: "السّلام للنّاس ( ذوي الإرادة الصّالحة)"*، إذ يكون من نافلة القول إضافة "الصّالحة" إن كان لا يمكن أن تكوون إلاّ صالحة. لكن فيم كلّ تلك الإشادة بالمحبّة من قِبل الرّسول لكونها لا تفرح بالظّلم، لو لم يكن يفرح به الشّرّ المتمكّن من بعض النّفوس؟ عند الكتّاب الدّنيويّين، نجد نفس الازدواج في استخدام تلك المفردات. إذ يقول شيشرون الخطيب البارز: "أرغب أيّها الشّيوخ المسجّلون في أن أكون رحيما"*. ما دام قد استخدم الكلمة في معنى محمود، بمن من المتفيقهين يبلغ الغلوّ حدّ الادّعاء أنّه كان يجب أن يقول "أريد" بدلا من قوله "أرغب"؟ بالعكس، عند ترنتيوس يقول شابّ فاسق وهو يتحرّق بسعير شهوة جنونيّة: "لا أريد سوى فيلومينة". وما كانت إرادته سوى شهوة داعرة، كما يُظهر ردّ عبده الأرجح منه عقلا، إذ يقوول لسيّده: "أفضلُ لك بكثير أن تبذل ما في وسعك لتجتثّ من قلبك هذا الهوى، من قول ما يؤجّج وجدك سدى."* كذلك يشهد على استخدام فرجيليوس الفرح في معنى مرذول هذا البيت حيث ضمّن بغاية الإيجاز تلك الانفعالات الأربعة: "من هنا يخافون ويرغبون ويألمون ويفرحون"، كما يتحدّث أيضا عن: "أفراح الفكر السّيّئة"*. إذن ففي الإرادة والحيطة والبهجة يشترك الأخيار والأشرار على حدّ سواء، أو لعرض نفس المقولة بالمصطلحات الأخرى: في الرّغبة والخوف والفرح يشترك الأخيار والأشرار على حدّ سواء، لكن أولئك في وجه حسن وهؤلاء في وجه قبيح، مثلما تكون للإنسان إرادة إمّا حسنة وإمّا سيّئة. بل حتّى الحزن الّذي زعم الرّواقيّون أنّ لا شيء يقابله في نفس الحكيم، نجده في معنى محمود، وبالأخصّ عند كتّابنا. إذ يمدح الرّسول أهل كورنتوس لأنّهم اغتمّوا بحسب رضى الله؛ قد يقال: لكنّ الرّسول هنّأهم لأنّهم اغتمّوا في توبتهم إلى الله، ولا يمكن أن يوجد مثل ذلك الأسف إلاّ عند من خطئوا. يقول فعلا: "أرى أنّ تلك الرّسالة قد غمّتكم ولو ححينا يسيرا. أفرح الآن لا لأنّكم غُممتم بل لأنّ غمّكم كان للتّوبة، فإنّكم غُممتم بحسب رضى الله حتّى إنّه لم ينلكم من قِبلنا خسران في شيء. لأنّ الغمّ بحسب رضى الله يُنشئ توبة للخلاص لا يذمّ عليها، أمّا غمّ العالم فيُنشئ الموت. فانظروا غمّكم هذا الّذي غُممتموه بحسب رضى الله كم أنشأ من الغيْرة فيكم."* ومن ثمّة يمكن للرّواقيّين أن يردّوا، في ما يتعلّق بهم، أنّ الحزن يبدو مفيدا حيث ينشئ التّوبة على الخطيئة؛ لكنّ ذلك غير ممكن في نفس الحكيم لأنّ لا مجال فيها للخطيئة الّتي يبعث النّدم عليها الحزنَ ولا لأيّ شرّ آخر يسبّب التّعرّض له والإحساس به الحزن. يروى مثلا أنّ ألقبيادس- إن لم تخنّي الذّاكرة بشأن اسم الشّخص المعنيّ- كان يتصوّر نفسه سعيدا، إلى أن ناقشه يوما سقراط فأثبت له كم كان بالعكس تعيسا، فبكى لمّا رأى غفلته. كانت غفلته إذن سبب ذلك الحزن المفيد والمرغوب الّذي يجعل الإنسان يألم من كونه ما لا يجب أن يكون. أمّا الحكيم فيقول الأبيقوريّون إنّه بعكس الغافل لا يمكن أن يحزن.

 

14-9 في انفعالات النّفس الّتي لا تخلو حياة الأبرار من أشكالها القويمة

   لكنّا رددنا على هؤلاء الفلاسفة في ما يتعلّق بالكتاب التّاسع من هذا المؤلَّف مبيّنين أنّهم يؤثرون على الحقيقة الجدل الجدل حول الألفاظ لا الوقائع. أمّا عندنا، وحسب الكتاب المقدّس والدّين القويم، فإنّ مواطني مدينة الله المقدّسة، الّذين يعيشون في رحلة هذه الحياة بحسب رضى الله، يخافون ويرغبون، ويألمون ويبتهجون، ولأنّ حبّهم مستقيم فإنّ هذه المشاعر لديهم مستقيمة: يخافون العذاب الأبديّ ويبتغون الحياة الأبديّة، وويألمون من واقعهم الرّاهن لأنّهم ما زالوا يئنّون مرتقبين نعمة التّبنّي وافتداء جسدهم ويفرحون بالرّجاء إذ "سيتمّ القول الّذي كُتب أن قد ابتُلع الموت في الغلبة".* كذلك يخافون من الوقوع في الخطيئة، ويرغبون في المثابرة؛ يحزنون في الخطايا ويبتهجون الأعمال الصّالحة، يخافون من الخطْء لأنّهم يسمعون: "لكثرة الإثم تبرد المحبّة من الكثيرين"*؛ ويرغبون في المثابرة لأنّهم يسمعون ما كُتب: "الّذي يصبر إلى المنتهى فذلك يخلص"*؛ يألمون في الخطايا لأنّهم يسمعون: "إن قلنا إن ليس فينا خطيئة فإنّما نُضلّ أنفسنا وليس الحقّ فينا"* يبتهجون في الأعمال الصّالحة أنّهم يسمعون: "إنّ الله يحبّ المعطي المتهلّل"*. كذلك حسب ما يجدون في أنفسهم من ضعف أو ثبات، يخافون من التّجريب أو يرغبون فيه؛ يألمون منه أوو يبتهجون به. يخافون منه لأنّهم يسمعون: "إذا سقط أحد في زلّة فأصلحوا أنتم الرّوحيّين مثل هذا بروح الوداعة وتبصّرْ أنت لنفسك لئلاّ تجرَّب أنت أيضا"*، ويرغبون فيه لأنّهم يسمعون: "جرّبني يا ربّ وابلني؛ امتحن بالنّار كليتيّ وقلبي"*؛ يألمون منه لأنّهم يرون بطرس يبكي، ويبتهجون به لأنّهم يسمعون يعقوب يقول: "احتسبوا كلّ سرور يا أيّها الإخوة أن تقعوا في تجارب مختلفة"*.

   لكن ما من أجل أنفسهم فقط تنتابهم هذه المشاعر، بل كذلك من أجل من يرغبون في خلاصهم ويخافوون من هلكتهم، ويألمون عند هلكتهم ويبتهجون عند خلاصهم. لنذكرْ هنا بالأخصّ ذلك الرّجل العظيم الصّلاح والعزم الّذي يفتخر في أوهانه، معلّم الأمم الإيمانَ والحقَّ، الّذي عمل أكثر من كلّ الرّسل الآخرين، وعلّم برسائل عديدة شعوب الله، لا من كان يراهم في عصره فقط، بل كذلك من كان يعلم أنّهم سيعتنقون لاحقا دين المسيح، ذلك الرّجل الملاكم* في المسيح، المتلقّي منه علمه الغزير، الممسوح بيده المصلوب معه*، المجيد فيه، الّذي قدّم على مسرح هذا العالم مشهدا رائعا للملائكة والبشر* وهو يخوض نضالا عظيما، ساعيا وهو في المقدّمة إلى إكليل دعوة الله*؛ فرأوه بعيون الإيمان وبفائض السّرور يفرح مع الفرحين ويبكي مع الباكين*، خائضا معارك بالخارج ونهبا للمخاوف بالدّاخل، راغبا في أن ينحلّ ليكون مع المسيح*، متشوّقا إلى رؤية أهل رومية ليكون له فيهم ثمر كما في سائر الأمم*، غائرا على أهل كورنتوس غيْرة الله خائفا أن تضلّ عقولهم بعيدا عن العفّة الّتي هي في المسيح*؛ واجدا غمّا شديدا ووجعا في قلبه لا ينقطع على بني إسرائيل لأنّهم جهلوا برّ الله وطلبوا أن يقيموا برّ أنفسهم فلم يخضعوا لبرّ الله* معلنا لا ألمه فقط بل كذلك نوْحه لرفضهم التّوبة عمّا صنعوا من النّجاسة والزّنى والفسق.

   إن سُمّيت هذه العواطف، هذه المشاعر النّابعة من حبّ الخير ومن المحبّة الخالصة رذائل، فلنسمحْ إذّاك بأن تدعى الرّذائل الحقيقيّة فضائل! أجل من يجرؤ على تسمية هذه العواطف إذا اتّبعت مسلكا قويما أمراضا أو انفعالات رذيلة بينما المطلوب أن نواظب عليها؟ لذلك فحتّى الرّبّ الّذي اتّضع ليعيش في هيئة العبد حياة إنسانيّة لكن بدون خطيئة أظهر حيثما رأى حسنا أن يظهر مثل تلك المشاعر. فما كانت العاطفة الإنسانيّة زيفا في من كان له جسد إنسانيّ حقيقيّ ونفس إنسانيّة حقيقيّة. وبالتّالي لمّا يروى عنه في الإنجيل أنّه اغتمّ وغضب لقساوة قلب اليهود، وأنّه قال: "وأنا من أجلكم أفرح أنّي لم أكن هناك لتؤمنوا"*؛ ودمع قبل أن يقيم لعازر من بين الأموات، وأنّه اشتهى أن يأكل الفصح مع تلاميذه، وأنّ نفسه صارت حزينة عند اقتراب آلامه*، ليست تلك الأخبار بكذب قطعا؛ بل أحسّ بتلك المشاعر في نفسه الإنسانيّة وفق ما شاء بتدبير ثابت مثلما صار إنسانا وفق مشيئته.

   لذلك يجب الاعتراف بأنّ هذه المشاعر، حتّى لمّا تكون فينا مستقيمة وبحسب رضى الله، تخصّ هذه الحياة دون تلك الّتي نرجوها، وأنّها كثيرا ما تنتابنا غصبا عنّا. فأحيانا حتّى ونحن تحت تأثير محبّة حميدة لا شهوة ذميمة، نبكي قسر إرادتنا. تنتابنا تلك المشاعر جرّاء ضعفنا البشريّ، بينما الأمر مختلف في ربّنا المسيح الّذي كان الضّعف فيه أيضا آتيا من اقتدار. ما دمنا نحمل ضعف هذه الحياة، إن لم تنتبنا قطّ تلك المشاعر، فمعنى ذلك بالأحرى أنّا لا نعيش بنحو سويّ. فقد كان الرّسول يقرّع ويبغض بعض الأشخاص الّذين وصفهم بأنّهم بلا مشاعر*. كذلك أدان المزمور من قال عنهم: "انتظرت من يرثي فلم يكن"*. فعدم التّألّم طالما نحن في دار الشّقاء هذه هو بالتّحقيق كما رأى وقال عالِم من هذا العالَم لا يصل إليه الإنسان بدون ثمن باهظ: وحشيّة النّفس وتبلّد الجسد*. لذلك لا شكّ أنّ ما يُدعى باليونانيّة apathia، ويمكن أن يدعى باللاّتينيّة inpassibilitas ( اللاّتأثّر، الصّفاء)، إن كان يعني، بالنّسبة للنّفس طبعا لا الجسد، العيش بدون تلك الانفعالات المضادّة للعقل والمشوّشة للفكر، حسن ومرغوب جدّا، لكنّه ليس من هذه الحياة*. فما صوت أناس عاديّين بل رجال في منتهى التّقوى وغاية البرّ والقداسة هذا الّذي يقول: "إن قلنا ليس فينا خطيئة فإنّما نُضلّ أنفسنا وليس فينا حقّ". وبالتّالي سيتحقّق مثال اللاّتأثّر apathia  متى يلتغي الخِطء من الإنسان كلّيّا. أمّا الآن ففي العيش بلا إجرام ما يكفي من الصّلاح. أمّا من يظنّ أنّه يعيش بلا خطيئة فذلك لا يقيه من المعثرة بل يحرمه من المغفرة. أمّا إن كان يجب أن ندعو apathia امتناع حصول أيّ انفعال في النّفس كلّيّا، فمن لا يحكم بأنّ هذا الخطل أسوأ من كلّ الرّذائل؟ يمكن القول إذن دون مجانبة الصّواب بأنّ السّعادة الكاملة ستكون خلوا من منخاس الخوف وكلّ حزن، لكن من يدّعي دون مجانبة الصّواب تماما أنّها ستكون خالية من الحبّ والفرح؟ أمّا إن كانت الحالة تتمثّل في غياب كلّ خوف يقضّ وحزن يُمضّ، فيجب فعلا أن نستبعدها في هذه الحياة إن أردنا العيش باستقامة أي بحسب رضى الله وأن نرتجيها في تلك الحياة السّعيدة والأبديّة الموعودة*.

   فالخوف الّذي يقول عنه يوحنّا الرّسول: "لا مخافة في المحبّة بل المحبّة الكاملة تنفي المخافة إلى خارج، لأنّ المخافة لها عذاب فالخائف غير كامل في المحبّة"*، ليس من جنس ذاك الّذي كان يشعر به بولس في خوفه على أهل كورنتوس من أن يغويهم احتيال الحيّة: هذا الخوف يوجد في المحبّة بل لا يوجد في غير المحبّة*، بل هو خوف من النّوع الّذي ليس في المحبّة والّذي يقول عنه بولس الرّسول نفسه: "إذ لم تأخذوا روح العبوديّة أيضا للمخافة"*. أمّا تلك الخشية الطّاهرة الثّابتة إلى الأبد، إن كانت ستوجد أيضا في الحياة الآخرة- وإلاّ فكيف يجب أن نفهم ثباتها إلى الأبد؟- فما هي تلك الّتي تقضّ الصّدر من شرّ  يمكن حصوله، بل هي تلك الّتي تتمسّك بخير لا يمكن فقدانه. فحيث يكون حبّ الخير المكتسب بمأمن من التّغيير، لا شكّ أنّ الخوف الّذي مبعثه توقّي الشّرّ الممكن سيكون، إن جاز التّعبير، في أمان. والمقصود بالخشية الطّاهرة تلك الإرادة الّتي سنمتنع بها حتما عن الخطيئة ونتجنّبها لا بهاجس إمكان الوقوع فيها النّابع من ضعفنا بل بطمأنينة المحبّة. أو إن لم يكن ممكنا أن يوجد خوف من أيّ نوع في تلك الطّمأنينة الآمنة الواثقة من دوام تلك المسرّة والغبطة إلى الأبد، فما قيل: "خشية الرّبّ طاهرة ثابتة إلى الأبد"* يُحمل على المعنى الّذي في قوله: "رجاء البائسين لا ينقطع إلى الأبد"*. ما دام إذن من واجبنا أن نعيش حياة مستقيمة لبلوغ الحياة السّعيدة، كلّ تلك المشاعر في الحياة المستقيمة مستقيمة وفي المنحرفة منحرفة. أمّا الحياة السّعيدة والأبديّة فستتضمّن حبّا وفرحا لا مستقيمين فقط بل كذلك آمنين، لكن لا أثر فيهما لأيّ خوف ولا ألم*.

   من ثمّة بدأ يبدو بنحو ما كيف يجب أن يكون في رحلة هذه الحياة مواطنو مدينة الله الّذين يعيشون بحسب الرّوح لا بحسب الجسد، أي بحسب رضى الله لا بحسب البشريّة، وكيف سيكونون في تلك الحياة الأبديّة الّتي يسعون إليها. أمّا مدينةُ أي فئة الكفرة الّذين يعيشون بحسب هوى الإنسان لا بحسب رضى الله، ويتّبعون ضلالات البشر والشّياطين عابدين الألوهة الباطلة ومستخفّين بالحقيقيّة، فتهزّها هذه الانفعالات والبلابل الّتي هي بمثابة الأسقام. وإن بدا كأنّ بعض مواطنيها يكبحون ويعدّلون تلك الأهواء، فإنّ ذلك يملأهم تيها وتشامخا، فيجعلهم أكثر انتفاخا أكثر ممّا هم أقلّ معاناة. وإن تملّك نفرا منهم غرور تزيده قلّتهم شذوذا عن الخلق السّويّ فأخذهم العُجب بما فيهم من عدم التّأثّر أو الاهتزاز أو التّحرّك أو الانفعال بأيّة عاطفة، فذاك فقدان للإنسانيّة بالكامل أكثر ممّا هو نيل صفاء الرّوح: فما الصّلابة بالاستقامة ولا التّبلّد بالصّحّة.

 

14-10 أيجب أن نتصوّر أنّ الإنسانين الأوّلين تأثّرا قبل الخطيئة بأيّة انفعالات؟

   لكن لنا هنا أن نسأل لا بدون مبرّر هل شعر الإنسان الأوّل- أو بالأحرى الإنسانان الأوّلان فقد كانا زوجين- قبل الخطيئة في جسدهما الحيوانيّ بتلك الانفعالات الّتي لن نشعر بمثلها في أجسادنا الرّوحانيّة بعد تطهير وإزالة كلّ خطيئة. إن كانا يشعران بها فكيف كانا سعيدين في ذاك المكان السّعيد الّذي لا تمّحي ذكراه، أعني الفردوس؟ وهل يمكن حقّا أن يُعَدّ سعيدا بأتمّ المعنى من ينتابه الخوف أوو الألم؟ لكن ممّ كان يمكن أن يخاف أو يألم ذانك الإنسانان في مثل تلك الوفرة من الخيرات حيث لا خوف من المووت ولا من أيّ سقم جسديّ، ولا يغيب شيء ممّا تشتهي إرادة صالحة ولا يحصل ما يتأذّى به جسد أو نفس الإنسان في عيشته الهنيّة؟ لم يكن ثمّة ما يكدّر حبّهما لله ولا حبّهما المتبادل كزوجين يعيشان في عشرة يسودها الوفاء والإخلاص. وكان حبّهما مصدر غبطة كبرى، فالمحبوب دائم الوصال، وطالما استمرّا في اجتناب الخطيئة بدعة بال، لم يكن يدهمهما أيّ شرّ يسبّب لهما الحزن. أم لعلّهما كانا يشتهيان الشّجرة المحرّمة ليطعما ثمرها لكنّهما كانا يخافان من الموت، وبذلك كانت الرّغبة والخوف يكدّرانهما في ذلك المقام حتّى قبل الخطيئة؟ لا، لا نظنّنّ أنّ ذلك حصل حيث لم تكن خطيئة قد وُجدت قطّ، إذ لا يخلو من الخطء اشتهاء ما حرّم ناموس الله والامتناع عنه خوفا من العقاب لا حبّا للبرّ. كلاّ لا نظنّنّ أنّه قبل أيّة خطيئة قد اقتُرفت خطيئة تمثّلت في اشتهاء الأكل من الشّجرة كتلك الّتي يقول عنها الرّبّ في ما يتعلّق بالمرأة: "كلّ من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه."*

   إذن بقدر ما كانا سعيدين لا تكدّرهما متارح النّفس ولا تزعجهما متاعب الجسد، كان يمكن أن يعيش المجتمع البشريّ بأسره سعيدا لو لم يأتيا تلك الخطيئة الّتي أورثاها كذلك نسلهما، ولو لم يأت أحد من ذرّيّتهما إثما يعرّضه للعقاب. كانت تلك السّعادة ستستمرّ إلى أن يكتمل، بمقتضى مباركة الله لمّا قال: "انموا واكثروا"* عدد الصّدّيقين الموسومين لتلقّي بركة أكبر مُنحت للملائكة السّعداء؛ وسيتوفّر الأمان من وقوع الخطيئة من أيّ أحد أو الموت لأيّ أحد؛ وستكون حياة الصّدّيقين مماثلة- بدون معاناة تجربة الجهد والألم والموت*- لمّا تعاد إليه بعد هذه المحن عند قيامة الأموات في الأجساد الممتنعة الفساد.

 

14-11 في سقوط الإنسان الأوّل وأنّ الفساد دبّ إلى طبيعته الّتي أحسن الله خلقها ولا يستطيع إصلاحها إلاّ خالقها

   لكن لأنّ الله علم مسبقا كلّ شيء وما أمكن إذن أن يجهل أنّ الإنسان سيخطأ، لذا يجب أن يرتكز تصوّرنا للمدينة المقدّسة على أساس سابق علمه وتدبيره لا على ما لم يمكن أن يصل إلى علمنا لأنّه لم يكن في تدبير الله. إذ ما كان ممكنا أن يشوّش الإنسان بخطيّته الخطّة الإلهيّة، فيجبر اللهَ- إن جاز التّعبير- على تغيير ما قرّر، والحال أنّ الله في علمه الكلّيّانيّ عرف مسبقا كلتا هاتين الحقيقتين: كم سيصير الإنسان الّذي خلقه حسنا سيّئا، وأيّ خير سيُنشئ من ذلك الشّرّ ذاته. فحتّى إن كان يقال إنّ الله يغيّر قراراته، بل نقرأ في الكتاب المقدّس على سبيل المجاز أنّ الله ندم* فإنّ ذلك يقال على أساس ما كان الإنسان ينتظره أو ما كان نظام الأسباب الطّبيعيّة يحمله، لا بحسب ما كان الله القدير قد قدّر حدوثه. هكذا وكما هو مكتوب، خلق الله الإنسان سويّا وبمشيئة صالحة إذن إذ لا يمكن أن يكون سويّا بدون مشيئة صالحة. الإرادة الصّالحة إذن صنع الله، فبها خُلق الإنسان؛ أمّا الإرادة السّيّئة الأولى، الّتي سبقت في الإنسان كلّ السّيّئات، فلم تكن عملا بقدر ما كانت نقصانا هبط به الإنسان من عمل الله إلى أعمال ذاته الّتي هي أعمال سيّئة لأنّها أتت بحسب ذاته لا بحسب الله. مَثل الإرادة مع أعمالها السّيّئة، أو الإنسان نفسه لمّا تكون فيه إرادة منحرفة، كالشّجرة الفاسدة مع ثمارها الرّديئة*. بيد أنّ الإرادة الفاسدة، وإن كانت لا تطابق الطّبيعة بل تناقضها، هي مع ذلك من الطّبيعة الّتي هي فساد لها إذ لا يمكن أن يكون في غير طبيعة، لكن في تلك الّتي خلقها الباري من عدم لا تلك الّتي ولدها من ذاته كما ولد الكلمة الّذي به كُوّن كلّ شيء. ولئن جبل الله الإنسان من تراب الأرض فإنّ تلك الأرض وكلّ مادّة أرضيّة من العدم المحض، ونفساً مخلوقة من العدم منح الجسدَ لمّا خلق الإنسان.

   لكنّ الخيرات تغلب الشّرور، فحتّى إن سمح الخالق بوجود الشّرّ ليُظهر أيّ خير عظيم يستطيع أن يجعل فيه تدبيره اللّطيف البصير. ومع ذلك يمكن للخير أن يوجد بدون الشّرّ، مثلما هو الله الحقّ العليّ ذاته ومثل كلّ الخلائق السّماويّة المرئيّة واللاّمرئيّة فوق هذا الهواء المظلم؛ بينما لا يمكن للشّرور أن توجد بدون الخيرات، لأنّ الطّبائع الّتي توجد فيها، من حيث كونها طبائع، حسنة بالتّحقيق. والشّرّ لا يُستأصل بإزالة طبيعة أتت من الخارج أو جزء معيّن منها، بل بعلاج وتقويم الطّبيعة الّتي أصابها الفساد والانحراف. وعليه يكون اختيار الإرادة حرّا بحقّ لمّا لا يكون مسخّرا للمفاسد والخطايا. كذلك منحه الله للإنسان الّذي فقده بالنّقيصة الّتي هي منه، ولا يمكن أن يُردّ إليه إلاّ ممّن منحه إيّاه. من هنا يقول الحقّ: "فإن حرّركم الابن صرتم أحرارا حقّا"*، وذاك كما لو قال: "إن خلّصكم الابن خُلّصتم حقّا" فهو المحرّر لأنّه المخلّص.

   هكذا إذن كان الإنسان يعيش بحسب رضى الله في الجنّة الجسديّة والرّوحيّة معا، إذ لم تكن هناك جنّة جسديّة لخيرات الجسد بدون جنّة روحيّة لخيرات الرّوح، أو جنّة روحيّة يتنعّم بها الإنسان بحواسّه الباطنة دون جنّة جسديّة يتنعّم بها بحواسّه الظّاهرة، بل كانت كلتيهما لكلا الصّنفين من اللّذّات. لكنّ ذاك الملاك المستكبر والحسود، بعدما زاغ لكبره عن الله إلى ذاته واستحبّ نشوة اتّخاذ تابعين خاضعين لسلطانه الباطل على الخضوع لخالقه فهبط من جنّة الرّوح- والّذي شرحت قدر المستطاع سقوطه هو وقبيله الّذين كانوا من ملائكة الله فصاروا جندا له في الكتاب العاشر والحادي عشر من هذا المؤلّف-، أراد أن يتسلّل إلى فكر الإنسان إذ كان يغبطه على النّعيم الّذي هبط هو منه، فاختار، في الجنّة الجسديّة حيث كانت تتعايش مع الإنسانين الأوّلين- الرّجل والمرأة- في خضوع وسلام حيوانات الأرض الأخرى، الحيّة، ذاك الحيوان الرّخو المنساب في تلوّ واعوجاج، لأنّها تناسب عمله، ليخاطبهما بواسطتها. فأخضعها بمكره، كروح ذي جوهر لطيف ومن طبيعة أقوى، وسخّرها كأداة له ونمّق على لسانها أكاذيب للمرأة، بادئا بالجزء الأدنى من ذلك الثّنائيّ البشريّ، ليتمكّن بالتّدريج من الكلّ، مفكّرا أنّ الرّجل لا يصدّق بسهولة ولا يمكن جرّه بخداعه إلى الضّلال، لكنّه ينجرّ إلى ضلال الغير. فكما انجرّ هارون إلى ضلال الشّعب المطالب بصنع صنم وهو غير راض وإنّما أذعن مكرها*، ولا يُتصوّر كذلك أنّ سليمان وقع في ضلال الاعتقاد في جواز عبادة الأوثان وإنّما دفعته إلى ذلك قسرا غوايات النّساء*، كذلك يجب الاعتقاد أنّ ذلك الرّجل انزلق إلى تعدّي حدود الله استجابة لامرأته، قرينا لقرين وإنسانا لإنسان وزوجا لزوج، لا لأنّه صدّق كلامها وإنّما إذعانا لضرورة اجتماعيّة. فما عبثا قال الرّسول: "ولم يكن آدم الّذي أُغوي لكنّ المرأة أُغويت"*، ولا يعني ذلك سوى أنّها صدّقت ما قالت لها الحيّة، أمّا هو فلم يشأ مفارقة قرينته ولو اقتضى الأمر مشاركتها في الخطيئة. ومع ذلك فليس ذنبه بأخفّ ما دام قد خطئ وهو يعي ويميّز. لذلك لم يقل الرّسول: "لم يخطأ" وإنّما قال "لم يُغو". ذلك فعلا ما يبيّن هو نفسه حيث يقول: "بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم"، وبعبارة أوضح بعد قليل: "على مثال تعدّي آدم"*، قصد من لا يعلمون أنّ ما يعملون خطيئة بينما كان آدم على علم. وإلاّ كيف يكون أنّ آدم لم يُغو؟ لكن لأنّه لم يخبُر بعد بأس الله أمكن أن يقع فيها وهو يحسبها زلّة هيّنة، وهكذا فهو لم يُغو كما أُغويت وإنّما أخطأ في تقدير ما سيكون الحكم على القول الّذي أعدّ: "المرأة الّتي جعلتها معي هي أعطتني من الشّجرة فأكلت"*. لم الإطالة؟ حتّى إن لم يُخدعا معا بالتّصديق، فمعاً وقعا في الخطيئة وشُبكا في حبائل الشّيطان*.

 

14-12 في جسامة خطيئة الإنسانين الأوّلين

   فإن استغرب أحد ألاّ تغيّر الخطايا الأخرى الطّبيعة الإنسانيّة كما أفسدت المعصية طبيعة الإنسانين الأوّلين إلى الدّرجة الّتي نرى ونعلم، فغدت خاضعة للموت متجاذَبة ومتقاذَفة بين شتّى الأهواء العاتية المتضاربة، في حالة لم تكن عليها قطعا في الجنّة حتّى إن كانت في جسد حيوانيّ، إن استغرب أحد ذلك كما قلتُ، لا يعدّنّ خطيئتهما خفيفة وهيّنة لأنّها ارتُكبت في مطعم لم يكن لولا تحريمه سيّئا ولا ضارّا حقّا، فما خلق الله ولا أنبت في ذلك المكان السّعيد شيئا سيّئا، لكنّه أمرهما في وصيّته بالطّاعة الّتي هي الفضيلةُ الأمُّ وبنحو ما حافظة كلّ الفضائل في الخليقة العاقلة. فقد خُلقت بحيث تنفعها الطّاعة بينما يضرّها اتّباع هواها بما يخالف مشيئة خالقها. هكذا كان تحريم الأكل من نوع واحد من الشّجر حيث عُرضت أمامهما تلك الوفرة من الأشجار الأخرى وصيّةً يسيرة لا تشقّ حقّا مراعاتها وبسيطة لا يصعب حفظها، خاصّة والشّهوة لم تكن بعد تقاوم الإرادة- وهو ما تبع فيما بعد نتيجة لعقاب المعصية-، فكان انتهاكها آثم بقدر ما كان الالتزام بها أسهل.

 

14-13 في أنّ الإرادة السّيّئة سبقت في معصية آدم العمل السّيّء

   الحقّ أنّهما بدآ في طويّتهما يصيران سيّئين ليقعا فيما بعد في الخطيئة السّافرة. إذ لا يصل الأمر بالإنسان إلى العمل السّيّء إلاّ إن سبقت فيه إرادة سيّئة. لكن هل كان للإرادة السّيّئة من مبتدإ سوى الكبرياء؟ "فالكبرياء أوّل الخطاء"*. لكن هل الكبرياء سوى ابتغاء رفعة باطلة؟ باطل فعلا هو ترفّع النّفس إذ تتخلّى عن المبدإ الّذي يجب أن تتعلّق به لتتّخذ لها من ذاتها مبدأ بنحو ما. يتمّ ذلك لمّا يأخذها العُجب بذاتها. وهي تُعجب بذاتها بذلك النّحو لمّا تتخلّى عن ذلك الخير الّذي لا يدركه الفساد والّذي كان يجب أن ترتضيه أكثر ممّا ترتضي ذاتها. وتخلّيها ذاك آت من تلقاء ذاتها، إذ لو ثبتت الإرادة على حبّ الخير الأسنى الممتنع الفساد الّذي ينيرها لتراه ويُلهبها لتحبّه ما كانت لتتحوّل عنه إلى رضا ذاتها، فتُظلم وتتجمّد، فتصدّق المرأة الحيّة ويغلّب الرّجل مشيئة امرأته على الأمر الإلهيّ ويحسب معصيته زلّة هيّنة إن لم يفارق شريكة حياته حتّى في الخطيئة. ما ارتكبا إذن تلك السّيّئة، أعني معصيتهما الظّاهرة، إلاّ لأنّهما قد صارا سيّئين في سريرتهما. فما كانت الثّمرة لتصير رديئة لو لم تأت من شجرة فاسدة. لكنّ الفساد دبّ إلى الشّجرة لمّا صارت كذلك ضدّ الطّبيعة. وما كان ليحصل قطعا بدون النّقص الّذي حصل في الإرادة. من جهة أخرى ما كان يمكن أن تفسد بنقيصة إلاّ طبيعة أنشئت من العدم. وهي قد استمدّت وضعها كطبيعة من أنّ الله خلقها، أمّا النّقصان الّذي فيها فأتى من كونها خُلقت من العدم. لم ينقص الإنسان إلى درجة التّحوّل إلى عدم صرف، بل صار بزيغه إلى ذاته أقلّ كينونة ممّا كان لمّا كان متعلّقا بمن له قمّة الكينونة. فتخلّيه عن الله ليكون في ذاته، أي عُجبه بذاته، ليس بعد سقوطا في العدم وإنّما هو اقتراب من العدم. لذا يدعى المتكبّرون حسب الكتاب المقدّس باسم ثان: "ذوي العُجب"*. فحسنٌ أن يكون قلب الإنسان فوق، لكن لا عند ذاته فذاك من الكبر، وإنّما عند الرّبّ* فذاك من الطّاعة الّتي لا تكون إلاّ بالتّواضع. خاصّيّة التّواضع إذن أنّه يرفع القلب بنحو عجيب، وخاصّيّة التّرفّع أنّه يضعه. وقد يبدو من المفارقات أنّ التّرفّع يضع والتّواضع يرفع*؛ لكنّ التّواضع التّقيّ يعني الخضوع لمن هو أعلى، والحال أنّ لا كائن أعلى من الله، وهكذا يرفع التّواضع الّذي يعني الخضوع له. أمّا الاستعلاء الّذي هو مرذول فإنّه يرفض الخضوع، ويُنزل ممّن لا يعلو عليه كائن، ويضع في مقام أدنى، فيكون ما جاء في الكتاب المقدّس: "أوقعتهم ( لمّا علوا)"*. فهو لم يقل: "بعدما علوا"، فنفهم أنّهم علوا ثمّ أوقعوا، بل لمّا علوا أوقعوا في الآن نفسه، فالاستعلاء هو أصلا نزول. من هنا نرى ما الآن في مدينة الله من توصية مشدّدة لمدينة الله بالتّواضع وإشادة عظيمة به في شخص ملكها الّذي هو المسيح، بينما يطغى، كما يعلّمنا الكتاب المقدّس، عكس هذه الفضيلة- أعني رذيلة الاستعلاء- في عدوّها الّذي هو الشّيطان. ذاك بالتّحقيق فرق كبير يميّز بين المدينتين موضوع حديثنا: مدينة البررة ومدينة الكفرة، وكلّ مع الأملاك المنتمين لها الّذين استقرّ فيهم ححبّ الله في جانب وحبّ الذّات في الجانب الآخر.

   إذن ما كان الشّيطان ليجد له على الإنسان سلطانا بهذه الخطيئة البيّنة والسّافرة المتمثّلة في فعل ما حرّم الله عليه لو لم يكن قد بدأ يأخذه العُجب بنفسه. فمن هنا استعذبا قوله لهما: "ستصيران كآلهة"*، وكان بوسعهما أن يكونا كذلك بنحو أفضل بالتّعلّق بالمبدإ الأعلى والحقّ بالطّاعة، لا باتّخاذهما ذاتهما مبدأ كبرا وغرورا. فما بذاتهم بل بالمشاركة في الإله الحقّ يكون الآلهة المخلوقون آلهة. لكن بطلب المزيد ينقص من يحبّ الاكتفاء بذاته فإذا هو ممّن له حقّا فيه الكفاية خاو*. وهكذا فإنّ ذلك الشّرّ الّذي يستقرّ فيه الإنسان لمّا يأخذه العُجب بذاته، ويتّخذ ذاته نورا فيدير وجهه عن ذلك النّور الّذي برضاه يصير نورا، أقول إنّ ذلك الشّرّ سبق سرّا ليتبع الشّرّ الّذي ارتكب جهرا. فحقّ ما كُتب: "قبل الانحطام الكبرياءُ وقبل السّقوط ترفّعُ الرّوح"* ذلك الانحطام الّذي يتمّ سرّا يسبق الانحطام الّذي يتمّ جهرا بينما لا يُحسب انحطاما. إذ من يتصوّر الارتفاع انخفاضا، والحال أنّ النّقصان يبدأ منذ النّأي عن ذي العزّة والمعالي؟ لكن من لا يرى أنّ التّعدّي البيّن الصّريح انحطام؟ لذلك حرّم الله ما لا يمكن بعد اقترافه تبريره بأيّة حجّة مختلقة. بل أذهب إلى حدّ القول بأنّ من صالح المتكبّرين الوقوع في خطيئة صريحة وبيّنة عسى أن يُساؤوا من أنفسهم، فقد سبق سقوطهم لمّا أخذهم العُجب. فلقد كان أسلم لبطرس استياؤه من نفسه لمّا بكى، من رضاه عنها لمّا اعتدّ بها*. ذاك ما يقول المزمور القدسيّ أيضا: "املأ وجوههم عارا فيسألوا عن اسمك يا ربّ"*، أي سترتضيهم لمّا يسألون عن اسمك بعدما كانوا يرتضون أنفسهم ويسألون عن اسمهم.

 

14-14 في كبرياء العاصي الّتي كانت أقبح من المعصية نفسها

   لكنّه كبْر أقبح وأفدح أن يبحث الإنسان في الخطايا البيّنة عن عذر تهرّبا من العقاب، مثلما فعل الإنسانان الأوّلان. فقد قالت هي: "الحيّة أغوتني فأكلت"، وقال هو: "المرأة الّتي جعلتَها معي هي أعطتني من الشّجرة فأكلت"*. لا يُسمع هنا استغفار ولا طلب دواء. فحتّى إن لم يبلغ بغيهما حدّ إنكار فعلتهما مثل قابيل، مع ذلك يبحث كبرهما عن بديل يحمّله الوزر، فألقاه كبْر المرأة على الحيّة وكبر الرّجل على المرأة. لكنّ هذا التّنصّل تأكيد للتّهمة، وما هو بعذر* حقيقيّ حيث الجريمة انتهاك صريح للأمر الإلهيّ. فما يبرّئهما ممّا فعلا أنّ المرأة فعلته مصدّقة ما أشارت به الحيّة، وأنّ الرّجل أكل ما قدّمت له امرأته، كما لو كان جائزا تقديم أيّ أحد على الله، فيصدَّق أو يراعى بدلا منه.

 

14-15 في عدالة العقاب الموقّع على الإنسانين الأوّلين جزاء معصيتهما

   إذن لأنّ الإنسان استخفّ بأمر الله الّذي خلقه وجعله على صورته، والّذي قدّمه على الحيوانات الأخرى، وأقامه في الجنّة وأعطاه من كلّ شيء غدقا وأمّن حياته، والّذي لم يثقله بوصايا كثيرة ومعقّدة وعسيرة بل شرع له واحدة في غاية البساطة واليسر لتثبيته على فضيلة الطّاعة وتذكير الخليقة بطلب هذه الخدمة الحرّة أنّه ربّها*، تبع معصيته عقابها العادل، وكان على صورة نجم عنها أنّ الإنسان الّذي كان معَدّا لو حفظ الوصيّة ليصير روحانيّا حتّى في الجسد صار جسديّا حتّى في الرّوح، ولعُجبه بذاته أسلمته العدالة الإلهيّة لذاته، لا ليجد فيها قوّة لامتناهية بل ليصير في نزاع مع ذاته تحت سلطان من أطاع في ارتكاب خطيئته، وليجد بدلا من الحرّيّة الّتي صبا إليها عبوديّة قاسية بائسة، ميّتا بالرّوح باختياره وآيلا إلى الموت بالجسد قسر إرادته، متخلّيا عن المياه الأبديّة ومحكوما عليه بالموت الأبديّ إن لم تحرّره منه النّعمة الإلهيّة.

   من يرى هذا العقاب مفرطا أو جائرا لا يعرف حقّا تقدير حجم إثمه في إتيان تلك الخطيئة الّتي كان بوسعه تحاشيها بمنتهى السّهولة. فكما استحقّ إبراهيم بطاعته العظيمة الإشادة، إذ تلقّى أمرا في منتهى المشقّة: ذبح ابنه، كذلك كانت المعصية في الجنّة أكبر بقدر ما كانت الوصيّة خالية من المشقّة. وكما أنّ طاعة الإنسان الثّاني جديرة بأعظم الإشادة لأنّه صار يطيع حتّى الموت، كذلك تستحقّ معصية الإنسان الأوّل أشدّ التّنديد لأنّه صار عاصيا حتّى الموت. فحيث كان عقاب المعصية الّذي أنذره به الخالق بذلك الحجم ووصيّته بتلك السّهولة، من يقدّر حقّ قدرها فداحة الشّرّ الّذي تضمّنه عصيان أمر يسير مصدره سلطة بتلك المنزلة وأمام التّرهيب بعقاب بتلك الجسامة؟

   أخيرا وباختصار، هل كان في عقاب هذه الخطيئة جزاء العصيان إلاّ العصيان؟ وهل شقاء الإنسان سوى عصيان ذاته لذاته، فصار لأنّه لم يرد ما كان يستطيع لا يستطيع ما يريد. ففي الجنّة حتّى إن لم يكن قبل الخطيئة يستطيع كلّ شيء، كلّ ما لا يستطيعه كان لا يريده، بحيث كان يستطيع كلّ ما يريد. أمّا الآن فكما نرى في نسله وكما يشهد الكتاب المقدّس، "صار الإنسان شبْه نفَس"*. من يحصي فعلا عدد الأشياء الّتي لا يقدر عليها وهو يريدها، حيث يعصي هو ذاته ذاته، أي نفسُه وجسدُه الأدنى منها إرادتَه؟ فعلى كره منه تتشوّش نفسه في كثير من الأحيان ويألم جسده ويهرم ويموت، ونعاني شقاوات ما كنّا لنعانيها لو كانت طبيعتنا تطيع بكلّ أجزائها وفي كلّ الأحوال إرادتَنا. قد يُعترض بأنّ الجسد يعاني من قصور يمنعه من خدمة الإرادة، لكن فيم يهمّ مصدر الخلل بما أنّه بعدل الله مولانا الّذي رفضنا الخضوع لسلطانه صار جسدنا الّذي كان في الأصل خاضعا كَلاّ علينا، علما بأنّا أنفسنَا ضررنا باستنكافنا عن الخضوع لله وما كنّا بضارّيه شيئا؟ فما هو بحاجة إلى خدمتنا كشأننا مع أجسادنا. ومن ثمّة ما إليه بل إلى أنفسنا أسأنا بسوء عملنا.

   أمّا الآلام المنسوبة للجسد، فإنّها آلام للنّفس في الجسد مصدرها الجسد. وممّ يألم أو ماذا يشتهي الجسد بذاته بدون النّفس؟ ففي الواقع لمّا يقال إنّ الجسد يشتهي أو يألم، يكون الإنسان نفسه كما شرحنا أو جزء من النّفس هو الّذي يتأثّر بالحافز الفاعل في الجسد، سواء كان حادّا فيُحدث ألما أو لطيفا فيُحدث لذّة. لكنّ ألم الجسد ليس سوى تأذّ للنّفس مصدره الجسد، هو بنحو ما مخالفة النّفس للفعل الواقع عليه، كما أنّ ألم النّفس الّذي ندعوه حزنا هو مخالفتها لما حصل ونحن كارهون. لكن كثيرا ما يسبق الحزنَ الخوف الّذي هو أيضا محلّه النّفس لا الجسد. أمّا ألم الجسد فلا يسبقه أيّ شعور جسديّ من قبيل الخوف. بينما اللّذّة يسبقها تشهّ هو شعور جسديّ يقترن بالرّغبة فيها، كالجوع والعطش وما يدعى في الأعضاء الجنسيّة عادة بالشّهوة، وإن كانت هذه اللّفظة تدلّ عموما على كلّ رغبة. حتّى الغضب ليس سوى شهوة الانتقام حسب تعريف القدماء، وإن كان الإنسان يستشيط أحيانا دون أيّة رغبة في الانتقام، حتّى على أشياء جامدة، وفي غضبه يقذف على الأرض مخرز الكتابة أو يكسر القلم. لكن رغم طابعه اللاّعقلانيّ، ينمّ هذا الغضب عن رغبة في الانتقام تحمل في شكل لجلج مبدأ الذّحل إن جاز التّعبير: من يُسئ يُسأ إليه. هناك بالتّالي شهوة الانتقام الّتي هي الغضب، وشهوة امتلاك المال الّتي هي الحرص، وشهوة الغلبة بأيّة تكاليف وهي العناد، وشهوة المجد الّتي تدعى المباهاة. هناك شهوات متعدّدة ومتنوّعة، لبعضها أسماؤها الخاصّة لكنّ أخرى لا تحمل أسماء متعارفا عليها. من فعلا يجد بسهولة لفظة لتسمية حبّ السّيطرة الّذي يطغى في نفوس أصحاب السّلطان وتشهد به الحروب الأهليّة مثلا؟

 

14-16 في شرّ الشّهوة الّتي يوافق اسمها عدّة رذائل لكن يخصَّص بالمعنى الضّيّة لنزوعات الشّبق

   إذن مع أنّ هناك شهوات لأشياء عديدة، إذا ذُكرت الشّهوة بدون إضافة موضوعها يكون المقصود غالبا، من بين شتّى شهوات النّفس، تلك الّتي تثير أعضاء الجسد الدّاعرة. لا تستولي هذه الشّهوة فقط على الجسد كلّه، ظاهره وباطنه، بل تهزّ كيان الإنسان بكامله، جامعة وماشجة هوى النّفس بشاهية الجسد، لتنتج تلك اللّذّة الّتي لا تفوقها أيّة لذّة من لذّات الجسد. ففي اللّحظة الّتي تبلغ فيها أوجها، يتوارى بالكامل تقريبا تفطّن وتيقّظ التّفكير. ومن من محبّي الحكمة والمسرّات القدسيّة والعائشين في إطار الزّوجيّة، لكنّه كما نصح الرّسول: "يعرف كيف يصون إناءه في القداسة والكرامة، لا في فجور الشّهوة كالأمم الّذين لا يعرفون الله"* لا يؤثر لو استطاع إنجاب ذرّيّة بدون هذه الشّهوة، بحيث يتحقّق في وظيفة التّناسل أيضا خضوع الأعضاء الّتي خُلقت لأداء هذه المهمّة كبقيّة الأعضاء المخصّصة لشتّى المهامّ للعقل، فتسيّرها توجيهات الإرادة عوض أن يحفّزها اهتياج الشّهوة؟ بل حتّى المهووسون بهذه الشّهوة لا يستثارون متى شاؤوا سواء لمجامعة أزواجهم أو لممارسة الفواحش المخزية. فأحيانا تأتي الإثارة في وقت غير مناسب والإنسان لا يطلبها، بينما تخذله أحيانا أخرى وهو راغب وفي حين تتلظّى الشّهوة في النّفس يظلّ الجسد باردا كالجليد. فيا عجبا كيف لا تخضع الشّهوة حتّى لشهوة الفجور بلْه إرادة الإنجاب، وبينما تتصدّى غالبا بأجمعها للعقل، تنقسم أحيانا على ذاتها، فتحرّك النّفس ولا تتبع ذاتها محرّكة كذلك الجسد.

 

14-17 في عري الإنسانين الأوّلين الّذي رأيا فيه بعد الخطيئة سوأة يُستحى بها

   بحقّ يُستحى بهذه الشّهوة بالخصوص، وبحقّ تدعى الأعضاء الّتي تحرّكها أو تتركها ساكنة حسب قانونها إن جاز التّعبير لا حسب مشيئتنا على الإطلاق سوأة ، بينما لم تكن كذلك قبل الخطيئة. فكما جاء في الكتاب المقدّس "كانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان"*، لا لأنّ عريهما كان غير معروف لهما وإنّما لم يكن إذّاك معيبا في أعينهما، إذ لم تكن الشّهوة تحرّك بعد تلك الأعضاء خلافا لمشيئتهما، ولم يكن الجسد يتمرّد مندّدا بتمرّد الإنسان مدليا بنحو ما بشهادته ضدّه. فما خُلقا كفيفينكما يتصوّر العوامّ، فإنّ آدم رأى الحيوانات وأعطاها أسماء*، وعن زوجه نقرأ: "ورأت المرأة أنّ الشّجرة طيّبة للمأكل وشهيّة للعيون"*. كانت عيونهما مفتوحة إذن، لكن لا على عريهما، أي لم تكن تنتبه إليه لتعرف ما ووري عنهما بلباس النّعمة لمّا كانت أعضاؤهما تجهل التّمرّد على إرادتهما. وبزوال تلك النّعمة جزاء وفاقا لمعصيتهما، نشأت في جسدهما حركة جديدة غير بريئة جعلت عريهما غير لائق، فلفتت انتباههما وأربكتهما. من هنا ما كُتب عنهما بعد انتهاكهما بمعصيتهما وصيّة الله جهارا: "فانفتحت أعينهما فعلما أنّهما عريانان فخاطا من ورق التّين وصنعا لهما منه مآزر"*. يقول: "انفتحت أعينهما"، لا ليريا فقد كانا يريان من قبل، بل ليميّزا الخير الّذي فقداه والشّرّ الّذي وقعا فيه. كذلك استمدّت الشّجرة الّتي أدّى تناول ثمرها رغم تحريمه إلى هذا التّمييز اسمها ممّا حدث، فسُمّيت شجرة معرفة الخير والشّرّ*. فلمن يخبر مرارة المرض تبين أكثر حلاوة الصّحّة.  علما إذن أنّهما عريانان، أي معرّيان من تلك النّعمة الّتي بفضلها لم يكن ناموس# الخطيئة بمعارضته للرّوح يولّد فيهما الارتباك بسبب عري جسدهما. هكذا علما ما كان أسعد أن يظلاّ يجهلانه لو حافظا على الإيمان والطّاعة فلم يرتكبا ما عرّضهما لعقابه الوبيل الكفر والعصيان. هكذا في ارتباكهما من تمرّد جسدهما، عقاب تمرّدهما الشّاهد عليهما، "خاطا من ورق التّين وصنعا لهما منه مآزر campestria" أي مناطق لعوراتهما. فقد وضع هنا بعض المترجمين succintoria ( مناطق) . وفي الواقع campestria كلمة لاتينيّة تقال لإزار كان الشّبّان يغطّون به عوراتهم أثناء التّدريب العسكريّ في الميدان campus المخصّص له. لذلك يدعو النّاس من ينتطقون بذلك النّحو campestrati. وهكذا فإنّ ما كانت الشّهوة المتمرّدة على الإرادة المدانة جزاء تمرّدها تحرّكه، راح الحياء يخفيه في خجل. لذلك نرى كلّ الشّعوب، لأنّهم ينحدرون من ذلك الأصل المشترك، يحرصون بالفطرة على إخفاء سوءاتهم إلى درجة أنّ بعض البرابرة لا يعرّون في الحمّامات تلك الأجزاء من أجسامهم، بل يغتسلون محتفظين بأُزُر*. وفي قفار الهند النّائية حيث يختلي بعض الزّهّاد للتّفكير عراة- من هنا تسميتهم بالحكماء العراة gymnosophistae– يحملون مع ذلك ألبسة على سوءاتهم دون بقيّة أعضائهم.

 

14-18 الحياء في الجماع لا بالخارج فقط بل حتّى مع الأزواج

   بل إنّ العمليّة الّتي يتمّ بها إشباع تلك الشّهوة، لا فقط في تلك الأعمال المستقذرة الّتي يُبحث لممارستها عن مخابئ للفرار من حكم النّاس، بل كذلك في ارتياد المومسات، وهو خزي تُحلّه المدينة الأرضيّة، رغم أنّ ما يجري فيها لا يعاقب عليه أيّ قانون في شرع تلك المدينة، ورغم أنّ تلك الشّهوة مسموح بها ولا يعاقَب عليها، تتجنّب مع ذلك عيون النّاس. وحتّى المباغي تحرص، باحتشام فطريّ، على السّرّيّة، فقد كان أسهل على الفسق رفض كلّ حظر ممّا كان على السّفاهة* إزالة المخابئ لستر ذلك الخزي. بل حتّى المجّان يدعون هذه العمليّة خزيا ولا يجرؤون، رغم تعلّقهم بها، على إظهارها.

   ماذا؟ ألا يبحث حتّى الجماع في إطار الزّوجيّة والّذي غايته، حسب لائحة قوانين الزّواج إنجاب الذّرّيّة، ومع أنّه مباح ومستقيم، عن مضجع بعيدا عن العيون؟ ألا يصرف العريس إلى الخارج الخدم والحشم وحتّى الأشابنة ومن قد تسمح لهم علاقة قربى بالدّخول قبل أن يبدأ في ملاطفة عروسه؟ فكما يقول أعظم خطيب رومانيّ كلّ الأعمال المشروعة تحبّ الأضواء، أي أن يعلم بها النّاس: وهذا أيضا يحبّ أن يعلم به النّاس لكن يستحي أن يروه. إذ من يجهل ما يفعل الزّوجان لينجبا بنين؟ ليتمّ ذلك، يُحتفل بالزّواج على مرأى من الجميع؛ ومع ذلك، لا يُسمح أثناء العمليّة الّتي يولد منها الأبناء حتّى للأبناء، إن وُجد منهم من وُلدوا سابقا، بمشاهدتها. فهذا العمل المشروع يحبّ أن يُعلم بنور الفكر لكن مع تحاشي الانكشاف للعيون. وهل لذلك من سبب سوى أنّ ما هو سويّ من منظور الطّبيعة يصاحب فعلَه ما هو مخجل تبعا لعقاب الخطيئة؟*

<<