القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّادس عشر 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب السّادس عشر

 

16-1 هل نجد بعد طوفان نوح حتّى عصر إبراهيم بعض الأسر تعيش بحسب رضى الله

   هل تواصلت بعد الطّوفان مسيرة مدينة الله إلى الأمام، أم قطعتها فترات من الكفر لم يكن يوجد خلالها بين النّاس من يعبد الله الواحد الحقّ، تلك مسألة يصعب البتّ فيها بيقين ممّا جاء في الكتاب المقدّس. فبعد نوح الّذي استحقّ أن يُنجّى في التّابوت من دمار الطّوفان مع امرأته وبنيه الثّلاثة ونسوتهم الثّلاث حتّى إبراهيم، لا نجد في الأسفار القانونيّة أحدا نصّ كلام الله بوضوح على تقواه، اللّهمّ إلاّ تلك المباركة النّبويّة الّتي خصّ بها نوح ابنيه ساما ويافثا مستشعرا ومبصرا ما كان سيحدث بعد أمد طويل. بهذا الصّدد وردت كذلك قصّة اللّعنة الّتي دعا بها على ابنه الأوسط، الأصغر من البكر والأكبر من الأخير، بعدما خطئ في حقّ أبيه، وجعلها لا فيه هو ذاته بل في ابنه، حفيد نوح، بهذه العبارة: "ملعون كنعان عبدا يكون لعبيد إخوته"*. كان كنعان قد وُلد لحام الّذي لم يُخْفِ سوءة أبيه النّائم، بل كشفها. لذلك أيضا فإنّ قوله بعد ذلك لمّا أضاف مباركة ابنيه البكر والأصغر: "ليرحّب الله ليافث، يسكن في أخبية سام ويكون كنعان عبدا له"*، وكذلك غرسه الكرْمة وسكره من ثمرها وانكشاف سوءته أثناء نومه والوقائع الأخرى المدوّنة في الكتاب مليئة بمعان نبويّة ومغلّفة بأستار.

 

16-2 ما رُمز إليه في أبناء نوح على سبيل الإنباء بالآتي

   أمّا الآن، فبفضل ما تحقّق فعلا في العصور اللاّحقة، فقد أُبدي ما كان خافيا*. إذ من لا يتعرّف تلك التّوريات عند تفحّصها بتنبّه وتفطّن في المسيح؟ فسام الّذي وُلد المسيح من نسله بحسب الجسد يعني "المسمّى" (= ذائع الاسم). ومن أشهر اسما من المسيح الّذي يتضوّع اسمه في الآفاق حتّى أنّه شُبّه في نشيد الأناشيد بالدّهن المُهراق*، وفي مساكنه، أي كنائسه، يسكن رُحب الأمم؟ فإنّ يافث يعني "الرّحابة". أمّا حام الّذي يعني السّخين، ابن نوح الأوسط المنفصل عن أخويه والواقع بينهما، لا هو في بواكير إسرائيل ولا هو في ملاء الأمم، فهل يعني سوى أهل البدع، ذلك الجنس المتسعّر لا بروح الحكمة بل بروح التّعصّب* الّذي يلهب عادة قلوب دعاة البدع ويعكّر صفو الصّدّيقين؟ لكنّ بدعهم تعود بالنّفع على السّائرين في طريق الحقّ، حسب قول الرّسول: "إذ لا بدّ من البدع فيما بينكم ليظهر فيكم المزكّوْن"*. لذلك كُتب أيضا: "( الابن المؤدّب يكون عاقلا ويتّخذ السّفيه خادما)"*. فعلا لمّا يدفع أهلَ البدع اضطراب واضطرام قلوبهم إلى إثارة مسائل عديدة تتعلّق بالعقيدة الكاثوليكيّة، ليمكن إذّاك الدّفاع عنها ضدّهم تُفحص بمزيد من العناية وتُفهم بمزيد من الوضوح وتُشرح بمزيد من الاجتهاد، وهكذا تسنح فرصة للتّعلّم حول المسألة الّتي طرحها الخصم. يمكن مع ذلك أن نعتبر، دون تجنّ، لا المارقين المجاهرين فقط، بل ومعهم كلّ من يتباهون باسم الدّين المسيحيّ ويعيشون مع ذلك حياة انحراف، ممثَّلين توريةً في ابن نوح الأوسط. فمع إيمانهم بآلام المسيح بالقول الصّريح يهينونها بالعمل القبيح. عن أولئك قيل إذن: "من ثمارهم تعرفونهم"*. لذلك لُعن حام في ابنه باعتباره ثمره أي عمله. لذلك يفسَّر كنعان أيضا بنحو مقبول "بحركاتهم" أي أعمالهم. أمّا سام ويافث، أي الختان والقلف، أو كما يدعوهما الرّسول بتعبير آخر: "اليهود واليونانيّين"، أو المدعوّين والمبرَّرين، لمّا علما بنحو ما بعري أبيهما- الّذي يرمز إلى آلام المخلّص- أخذا رداء فوضعاه على ظهريهما ودخلا مستدبرين فغطّيا سوءة أبيهما ولم يريا ما سترا بتوقير. بنفس النّحو نُجلّ في آلام المسيح ما تمّ من أجلنا ونستدبر جريمة اليهود. والرّداء هنا يعني السّرّ والظّهر ذكرى الماضي؛ لأنّ الكنيسة منذ تلك الأيّام لمّا سكن يافث في أخبية سام، وأخوهما المسيء يتوسّطهما، تمجّد آلام المسيح كحدث تمّ ولا تتطلّع إلى تحقّقه مستقبلا.

   لكنّ الأخ الشّرّير يكون في ابنه، أي في عمله، عبدا أي خادما لأخويه الصّالحين، لمّا يستخدم الصّالحون الأشرارَ بأرابة لعجم اصطبارهم والتّقدّم في الحكمة. فكما يشهد الرّسول، هناك من يكرزون بالمسيح بنيّة غير صالحة، لكنّ "المسيح يبشَّر به على كلّ وجه بغرض كان أو بالحقّ"* كما يقول. فهو نفسه غرس الكرم الّذي يقول عنه النّبيّ: "إنّ كرْم ربّ الجنود هو آل إسرائيل"*، وشرب خمرته سواء فهمنا هنا تلك الكأس الّتي يقول عنها: "أتستطيعان أن تشربا الكأس الّتي أنا مزمع أن أشربها؟"* و"يا أبت إن كان يُستطاع فلتعبر عنّي هذه الكأس"* وبذلك يعني بلا شكّ آلامه، أو كان المقصود من ذلك بالأحرى، ونظرا إلى أنّ الخمرة ثمرة الكرمة، أنّه اتّخذ من تلك الكرمة ذاتها، أي من نسل إسرائيل، جسدا ودما ليمكن أن يتألّم من أجلنا، و"سكر" أي تألّم*، و"تكشّف" إذ انكشف، أي ظهر، ضعفه الّذي يقول عنه الرّسول: "فإنّه وإن يكن قد صُلب عن ضعف"*. لكن بما أنّ الكتاب بعدما قال: "وتكشّف" يضيف "داخل خبائه"*، بذلك يُظهر بتعبير جميل أنّه سيتعرّض للعذاب والموت على أيدي بني جنسه ودمه وبيته، أي اليهود. بآلام المسيح يقرّ كذلك المارقون عن الملّة، لكنّما ذلك قولهم بأفواههم فقط إذ لا يدركون ما يقرّون. أمّا المزكّون فإنّهم يحملون في إنسانهم الباطن سرّا عظيما، وفي باطن قلوبهم يعظّمون مستضعَف ومستجهَل الله، فإنّه أعظم قوّة وحكمة من البشر. يرمز إلى ذلك أنّ حاما خرج ليعلن بالخارج عري أبيه، أمّا سام ويافث، فليغطّياه، من باب التّوقير، دخلا، أي فعلا ذلك بالدّاخل.

   نسبر أغوار هذه الأسرار المكنونة في كتاب الله حسب طاقاتنا، فيصيب هذا أكثر من ذلك أو أقلّ، لكن نؤمن موقنين بأنّ تلك الأحداث تتضمّن تورية عن أحداث لاحقة، وما كُتبت إلاّ لأنّه يجب أن تُردّ إلى المسيح وكنيسته الّتي هي مدينة الله المعلن عنها منذ بدء الجنس البشريّ بنبوءات نراها تتحقّق يوما فيوما*.

   هكذا إذن، بعد مباركة ابني نوح ولعنة الابن الّذي يتوسّطهما إلى إبراهيم، لم يُذكر عن أيّ واحد من المستقيمين عابدي الله ومتّقيه حقّ تقاته، طيلة ما يزيد عن ألف سنة. ولا إخالهم انعدموا، لكن لو استُعرضوا جميعا لطال تعدادهم أكثر ممّا ينبغي، ولكان ذلك استقصاء تاريخيّا أكثر منه تبشيرا نبويّا. لذلك يتتبّع كاتب تلك الأسفار المقدّسة، أو بالأحرى روح الله من خلاله، الوقائع الّتي لا تخبرنا فقط عمّا حدث في الماضي، بل تنبئ سلفا بما سيكون مستقبلا، طبعا إن كانت له صلة بمدينة الله. لأنّ كلّ ما يُذكر فيها عمّن ليسوا من مواطنيها إنّما يقال قصد إفادتها أو إبرازها بالمقابلة. لا ينبغي بطبيعة الحال الظّنّ بأنّ كلّ الأحداث المرويّة ذات دلالة تتعلّق بها. فبالسّكّة وحدها تُحرث الأرض، لكن ليمكن ذلك لا بدّ أيضا من بقيّة قطع المحراث. كذلك وحدها الأوتار في الكنّارة وما شابهها من الآلات الموسيقيّة تحدث الأنغام، لكن ليمكنها أن تفعل، تدخل في تركيب تلك الأجهزة قطع أخرى لا تنقرها أصابع العازفين، لكنّ تلك الّتي تصوّت عند لمسها متّصلة بها. والشّأن مماثل في قصص الأنبياء، حيث تروى كذلك أخبار لا مغزى لها، لكنّها تلتحم بالّتي تحمل دلالة، وبنحو ما ترتبط بها.

 

16-3 في ذرّيّات أبناء نوح الثّلاثة

   علينا إذن أن نفحص بعد الّذي تقدّم أنسال أبناء نوح الثّلاثة، ونُرفق ما يجدر في ظنّنا قوله بشأنهم بمؤلَّفنا حيث نبيّن مسيرة كلتا المدينتين، الأرضيّة والسّماويّة، عبر الزّمان. بدأ ذكرهم انطلاقا من يافث أصغرهم، فقُدّمت أسماء أبنائه الثّمانية، وسبعة من أحفاده، ثلاثة من واحد وأربعة من الآخر*، فيكون المجموع خمسة عشر. أمّا ذرّيّة حام ابن نوح الأوسط فأربعة مع خمسة أحفاد من أحدهم وابنين لأحد أولئك الأحفاد، فيكون المجموع أحد عشر. بعد تعدادهم يعود الكاتب إلى البداية فيقول: "وكوش ولد نمرود وهو أوّل جبّار في الأرض. وكان جبّار صيد أمام الرّبّ ولذلك يقال كنمرود جبّارُ صيد أمام الرّبّ. وكان أوّل مملكته بابل وأرك وأكّد وكلنة في أرض شنعار. ومن تلك الأرض خرج أشّور فبنى نينوى وساحات المدينة وكالح وراسن بين نينوى وكالح وهي المدينة العظيمة."* وكوش هذا أب الجبّار نمرود هو أوّل من سُمّي بين أبناء حام الّذي كان قد عُدّد له خمسة أبناء وحفيدان. فلعلّه ولد ذلك الجبّار بعد ولادة أحفاده، أو، وهو الأرجح، أفرده الكتاب المقدّس بسبب مكانته البارزة، بما أنّه ذكر كذلك مملكته الّتي أوّلها مدينة بابل المشهورة، والمدن أو الأقاليم المذكورة إلى جانبها. أمّا ما قيل عن أرض شنعار الّتي كانت تابعة لمملكة نمرود- أنّ أشّور خرج منها وبنى نينوى ومدنا أخرى ذكرها معها، فحدثٌ متأخّر عنه بكثير، أشار إليه بالمناسبة، نظرا إلى شهرة مملكة الأشوريّين الّتي وسّعها بنحو عجيب نين بن بالي مؤسّس مدينة نينوى الكبرى الّتي اشتُقّ اسمها من اسمه، إذ بيّنٌ أنّ تسمية نينوى أتت من نين. أمّا أشّور الّذي انحدر منه الأشوريّون فلم يكن من أبناء جام ابن نوح الأوسط، بل نجده بين أبناء سام بكر نوح. من هنا يتّضح أنّ أولئك القوم الّذين استولوا على مملكة ذلك الجبّار وانطلقوا منها فأسّسوا مدنا جديدة أوّلها نينوى الّتي تحمل اسم مؤسّسها نين هم من نسل سام. من تلك النّقطة يعاد بنا إلى ابن آخر لحام يدعى مصرائيم، ويُذكر بنوه لا بتسمية كلّ على حدة، بل كسبع أمم. ومن السّادسة المنحدرة من سادس بنيه نقرأ أنّ شعبا خرج يدعى الفلسطينيّين، هكذا تكون ثمانيا. ثمّ من هناك يعاد بنا مرّة أخرى إلى كنعان الّذي لُعن فيه حام، وتُعطى أسماء بنيه الأحد عشر. ثمّ يخبرنا الكتاب عن التّخوم الّتي وصلوا إليها مع ذكر بعض المدن. هكذا بإحصاء البنين والحفدة يُذكر واحد وثلاثون من نسل حام.

   يبقى إذن أبناء سام بكر نوح الّذين يصل إليهم سرد الأجيال متدرّجا من الابن الأصغر. لكنّ منطلق عرض أبناء سام يتضمّن شيئا من الغموض يتعيّن فحصه لتوضيحه لأنّه يهمّ موضوع بحثنا. إذ نقرأ: "وُلد لسام أيضا بنون وهو أبو جميع بني عابر أخو يافث الأكبرُ"*. هذه هي الكلمات مرتّية: لسام وُلد عابر، وله هو أي لسام وُلد عابر، وسام هو أب جميع بنيه. قصد الكاتب إذن إفهامنا أنّ ساما هو الأب الأصليّ لجميع من وُلدوا من نسله والّذين سيأتاي ذكرهم، سواء كانوا بنين أو حفدة أو حفدة أحفاد. لم يلد سام حقّا عابرا، بل نجده في قائمة نسله في الجيل الخامس. فقد ولد سام في جملة ذرّيّته أرفكشاد، وولد أرفكشاد قينان، وولد قينان شالحا، وولد شالح عابرا. فما جزافا إذن كان أوّل من ذُكر من نسل سام وحتّى قبل بنيه، بينما يأتي في الجيل الخامس من نسله، وذلك للتّأكيد على أنّ المدعوّين بالعبريّين ينحدرون منه باعتبارهم عابريّين. حسب رأي آخر يجوز أنّهم سُمّوا كذلك اشتقاقا من إبراهيم على ما يبدو، باعتبارهم أبرائيّين*. لكنّ الصّحيح هو أنّهم سُمّوا عبريّين من عابر، وكذلك اللّغة العبريّة الدّارسة# الّتي أمكن حفظها فقط في شعب إسرائيل الّذي تمثّلت فيه وفي صدّيقيه مدينة الله المرتحلة في العالم والمغلّلة فيهم بوشاح من السّرّ. يُعرض إذن بدءا أبناء سام السّتّة ثمّ أربعة من أحفاده وُلدوا من أحدهم، كذلك ولد آخرُ منهم حفيدا لسام، ومنه وُلد ابن حفيد أتى منه عابر حفيد حفيد نوح. أمّا عابر فولد ابنين سمّى أحدهما فالجا، أي قاسما، ويضيف الكتاب المقدّس لتفسير الاسم: "لأنّه في أيّامه انقسمت الأرض."* أمّا جليّة هذا الأمر فستبدو لاحقا. أمّا ابن عابر الثّاني فولد اثني عشر ابنا. فيكون إذن مجموع مواليد سام سبعة وعشرين، ويبلغ بالتّالي مجموع مواليد نوح الثّلاثة، وهم خمسة عشر من يافث وواحد وثلاثون منم حام وسبعة وعشرون من سام، ثلاثة وسبعين.

   ثمّ يتابع الكتاب قائلا: "هؤلاء بنو سام بعشائرهم ولغاتهم في بلدانهم بأممهم."* وكذلك عن الجميع يقول: "هؤلاء عشائر بني نوح بمواليدهم وأممهم ومنهم تفرّقت الأمم في الأرض بعد الطّوفان"*. يُستنتج من ذلك أنّ ثلاثة وسبعين، أو كما سنثبت لاحقا اثنين وسبعين، شعبا لا رجلا كانوا يوجدون يومذاك. ففي موضع سابق خُتم استعراض أبناء يافث بهذه الجملة: "من هؤلاء تفرّق أهل جزائر الأمم في بلدانهم كلّ بحسب لغته وعشائره بأممهم"*. بل سبق كذلك بخصوص أبناء حام في موضع آخر الحديث عن أمم مثلما أبنتُ أعلاه: "ومصرائيم ولد ( من يُدعون) لوديم"*. وبنفس النّحو بالنّسبة للآخرين إلى سبع أمم. وبعد إحصاء الجميع يختم الكتاب: "هؤلاء بنو حام بعشائرهم ولغاتهم في بلدانهم وأممهم"*.

   لم يذكر أبناء كثيرين لأنّهم دُمجوا عند ولادتهم بأمم أخرى ولم يتح لهم تكوين أمم بدورهم. إذ لأيّ سبب غير ذلك ذكر بعد تعداد أبناء يافث الثّمانية اثنين منهم فقط، وأضاف بعد تسمية أبناء حام الأربعة أبناء ثلاثة منهم فقط، وألحق بتسمية أبناء سام الثّلاثة ذرّيّة اثنين منهم فقط؟ أمعنى ذلك أنّ الآخرين بقوا بلا خلفة؟ لا نظنّنّ ذلك، فإنّما هم لم يكوّنوا أمما حتّى يستحقّوا أن يُذكروا، لأنّهم ضُمّوا إلى أمم أخرى نشؤوا فيها.

 

16-4 في اختلاف اللّغات وبداية بابل

   بعد إخبارنا بأنّ تلك الأمم كانت لها لغاتها الخاصّة، يعود الرّاوي إلى الفترة الّتي كانت فيها للجميع لغة واحدة، فيعرض ماذا حصل لينشأ تنوّع اللّغات. يقول: "وكانت الأرض كلّها لغة واحدة وكلاما واحدا. وكان أنّهم لمّا رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك. وقال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبِنا ونُنضجْه طبخا، فكان لهم اللّبِن بدل الحجارة والحُمر كان لهم بدل الطّين. وقالوا تعالوا نبْن لنا مدينة وبرجا رأسه إلى السّماء ونُقم لنا اسما كي لا نتبدّد على وجه الأرض كلّها. فنزل الرّبّ لينظر المدينة والبرج اللّذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرّبّ هوذاهم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفّون عمّا هم به حتّى يصنعوه. هلمّ نهبطْ ونبلبلْ هناك لغتهم حتّى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبدّدهم الرّبّ من هناك على وجه الأرض كلّها وكفّوا عن بناء المدينة. ولذلك سُمّيت بابل لأنّ الرّبّ هناك بلبل لغة الأرض كلّها، ومن هناك شتّتهم الرّبّ على كلّ وجهها."* تلك المدينة الّتي سمّيت بلبلة هي بابل الّتي ينوّه بروعة بنائها تاريخ الأمم*. تعني بابل البلبلة. يُستنتج أنّ نمرود كان مؤسّسها، كما لمّح الكتاب باقتضاب في موضع سابق، حيث قال في معرض الحديث عنه إنّ بابل كانت أوّل مملكته، أي مركز إدارة المدن الأخرى وعاصمة المملكة حيث مقرّ السّلطة الملكيّة. إلاّ أنّها لم تتطوّر إلى الدّرجة الّتي كان الكفر ينوي تحقيقها. كانوا يخطّطون للوصول بها إلى ارتفاع شاهق، إلى السّماء على ما يقال، سواء تعلّق الأمر ببرج واحد استمرّوا في بنائه ليعلو على البقيّة أو بسائر الأبراج الّتي أشير إليها بصيغة الإفراد مثلما يقال "جنديّ" miles بمعنى آلاف الجنود، أو الضّفدعة والجرادة للإشارة إلى الآلاف المؤلّفة من الضّفادع والجراد الّتي ضَرب بها موسى المصريّين. لكن ماذا كان بمقدور التّعاظم البشريّ الباطل أن يحقّق بتطاوله على الله مهما أعلى ذاك البناء الضّخم ليبلغ سماك السّماء، ولو تجاوز شمّ الجبال، ولو خرق طبقات الجوّ وكِسر السّحاب؟ فيم يستطيع تطاول الرّوح أو الجسد مهما بلغت منجزاته أن يؤذي الله؟ لكنّا هو التّواضع يشيد إلى السّماء الطّريق الصّحيحة المأمونة، رافعا القلب إلى أعلى نحو الرّبّ* لا "ضدّ" الرّبّ كما قيل عن ذلك الّذي نُعت بجبّار صيد "ضدّ" الرّبّ، وهو ما أخطأ البعض، لسوء فهم الكلمة اليونانيّة المزدوجة المعنى enantion بترجمته أمام الرّبّ بدلا من ضدّ الرّبّ، فهي تعني "أمام" و"ضدّ" معا*. وهي الكلمة الّتي توجد في المزمور: "نجثو أمام الرّبّ صانعنا"*، وكذلك في سفر أيّوب: "يهيج على الله روحك"*. بنفس معنى الكلمة الأخير ينبغي أن نفهم أنّ ذاك الجبّار جبّار صيد "ضدّ" الله. لكن هل يُقصد هنا بالصّيّاد سوى خدّاع وظلاّم وسفّاح* حيوانات الأرض؟ كان يشيد إذن مع رعاياه برجا ضدّ الله، وذاك يعني الكبْر الكفور، فحقّ عليه العقاب بما أثم قلبه وإن لم ينفذ مسعاه*. لكن ماذا كانت طبيعة ذلك العقاب؟ بما أنّ سيطرة أولي الأمر تكون بالخطاب، فيه هو عوقب الاستكبار، بحيث لم يعد المأمور يفهم الآمر الّذي أبى أن يفهم أمر الله بالامتثال له. هكذا حبطت تلك المؤامرة إذ انفصل كلّ واحد عمّن صار لا يفهمه، ولم يجتمع إلاّ مع من كان يستطيع مخاطبته*. وهكذا باللّغات انقسمت الأمم وتفرّقت في الأرض، كما شاء الله الّذي صنع ذلأك بطرق خفيّة لا تدركها أفهامنا.

 

16-5 في نزول الله لبلبلة لغة بناة البرج

   كُتب: "فنزل الرّبّ لينظر المدينة والبرج اللّذين كان بنو ( البشر) يبنونهما"، لا بنو الله إذن في ذلك المجتمع الّذي كان يعيش بحسب البشريّة والّذي ندعوه المدينة الأرضيّة. والحقّ أنّ الله الكائن بكلّيّته في كلّ زمان وكلّ مكان لا يتحرّك في حيّز المكان، وإنّما يقال "ينزل" لمّا يعمل على الأرض ما يخرج بنحو معجز عن مجرى الطّبيعة المألوف ويُظهر بنحو معيّن حضوره. كذلك ما بالرّؤية يعلم الشّيء عند حدوثه، إذ لا يمكن أبدا أن يجهل شيئا، وإنّما يقال "يرى" و"يعلم" في وقت ما ما يجعله هو يُرى ويُعلم. لم تكن تلك المدينة تُرى بالنّحو الّذي جعلها الله تُرى به لمّا أظهر شدّة غضبه عليها. لكن يمكن أن نفهم نزول الله إلى تلك المدينة على أنّه نزول ملائكته الّذين يحلّ فيهم، بحيث يكون ما أضيف: "وقال الرّبّ هوذاهم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة"، ثمّ: "هلمّ نهبط ونبلبل هناك لغتهم" ملخّصا يبيّن كيف تمّ ما ذُكر في الجمله: "ونزل الرّبّ". إذ لو سبق أن نزل، فهل من معنى لقوله: "هلمّ نهبط ونبلبل"- ونفهم هنا أنّ الخطاب موجّه إلى الملائكة- سوى أنّه كان ينزل بواسطة الملائكة من حيث كونه حالاّ فيهم إذ ينزلون؟ وهو فعلا لمّا يقول: "هلمّ اهبطوا وبلبلوا" بل "هلمّ نهبط ونبلبل" مبيّنا بذلك أنّه هو الّذي يعمل من خلال خدّامه، بحيث يكونون هم أنفسهم عاملين معه مثلما يقول الرّسول: "فإنّا نحن عاملون مع الله"*.

 

16-6 كيف يجب فهم نوع الكلام الّذي كلّم الله به الملائكة

   يمكن أن نفهم أيضا أنّ الملائكة هم المقصودون بقوله عند خلق الإنسان: "لنصنع الإنسان على صورتنا"، فإنّه لم يقل: "لأصنعْ"، لكن بما أنّه يقول بعد ذلك: "على صورتنا"، ولا يجوز أن نتصوّر أنّ الإنسان صُنع على صورة الملائكة، أو أنّ صورة الملائكة هي عينها صورة الله، فالصّواب أن نفهم هناك تعدّد الثّالوث. لكن بما أنّ الثّالوث إله واحد، فإنّه حتّى لمّا قال: "لنصنع"، أضاف: "فخلق الله الإنسان على صورة الله"، ولم يقل: "وصنع الآلهة" أو "على صورة الآلهة"*. يمكن أيضا أن نفهم نفس ذلك الثّالوث على اعتبار أنّ الآب قال للابن والرّوح القدس: "هلمّ نهبط ونبلبل هناك لغتهم" إن كان هناك ما يمنع أن نفهم أنّ المخاطبين الملائكة الّذين يجدر بالأحرى بهم أن يأتوا* إلى الله بحركات قدسيّة، أي بأفكار تقيّة يطالعون بها الحقّ المنزّه عن التّغيّر، باعتباره النّاموس الأبديّ الّذي يحكم الملأ الأعلى. إذ ليسوا هم الحقّ لأنفسهم، بل يشاركون في الحقّ الخالق ولذلك يتّجهون إليه كما إلى ينبوع الحياة، لينهلوا منه ما لا يملكون في ذاتيّاتهم. وحركتهم تلك استقرار فهم بها يأتون ولا ينأون. والله لا يكلّم الملائكة مثلما نكلّم نحن أناسا آخرين أو الله أو الملائكة، ولا حتّى كما يكلّمنا الملائكة أو يكلّمنا الله بواسطتهم، بل بطريقته الخاصّة الّتي يقصر عن وصفها كلامنا. فإنّ كلام الله الأسمى والأسبق من عمله هو العلّة الأزليّة الثّابتة لعمله، وليس له جرس مصوّت وعابر، بل له قوّة دائمة أبدا وعاملة في الزّمان. به يخاطب الملائكة الأبرار، أمّا نحن الأبعد عنه مقاما فيخاطبنا بنحو مختلف. لكنّا لمّا نلتقط بآذاننا الباطنة شيئا من كلامه نقرب من الملائكة. لست ملزما في هذا المؤلَّف أن أقدّم باستمرار تفسيرا لكلام الله فلأذكّر بأنّ الحقّ الّذي لا يدركه التّغيير يتكلّم إلى فكر الخليقة العاقلة بنحو تقصر كلماتنا عن وصفه، أو يكلّمنا بواسطة خليقة يطالها التّغيير سواء بصور روحيّة إلى روحنا أو بكلام جسديّ إلى حسّنا الجسديّ.

   قوله إذن: "والآن لا يكفّون عمّا هم به" ليس من قبيل الإثبات، بل هو من باب الاستفهام على طريقة ما يقال عادة في الوعيد، نحو قول أحدهم: "ألا نأخذ السّلاح ونتعقّبهم في المدينة بكاملها؟"* إذن يجب فهم ذلك كما لو قال: "ألا يكفّون عمّا هم به؟" لكنّا أضفنا بذلك من أجل ذوي الأفهام البطيئة أداة الاستفهام "أ" فقلنا: "ألا"، لأنّا لا نستطيع أداء نبرة الصّوت كتابيّا*.

   من أولئك الأشخاص الثّلاثة، أبناء نوح، نشأت إذن ثلاث وسبعون، أو كما سنوضّح اثنتان وسبعون أمّة على قدر عدد اللّغات في الأرض، ملأت بنموّها حتّى الجزائر. لكنّ عدد الأمم فاق بكثير عدد اللّغات، ففي إفريقية نعرف عدّة شعوب بربريّة لها لغة واحدة.

 

16-7 هل تلقّت الجزائر النّائيات أيضا كلّ أنواع الحيوانات من العدد الّذي نُجّي في التّابوت من الطّوفان

   هل يشكّ أحد في أنّ البشر استطاعوا بعد تكاثر جنسهم الانتقال بالسّفن إلى الجزر لسكناها؟ لكن لسائل أن يسأل كيف أمكن لكلّ أنواع الحيوانات الّتي لا تعيش تحت رعاية الإنسان ولا هي كالضّفادع تتولّد من الأرض، بل تولد فقط من تزاوج الذّكور والإناث مثل الذّئاب وما شابهها، أن توجد أيضا في الجزر بعد الطّوفان الّذي أباد كلّ الّتي لم تكن في التّابوت، إن لم يُعد تشكيلها إلاّ من تلك الّتي نُجّيت أنواعها من الجنسين في التّابوت. يمكن لا محالة تصوّر انتقالها سبحا إلى الجزر، لكن القريبة. والحال أنّ بعضها على بعد من الأراضي القارّيّة لا يتاح معه بادي الرّأي لأيّ نوع من الحيوانات السّبح إليه. ليس مستبعدا أن يكون البشر قد أمسكوها ونقلوها معهم، وبهذا النّحو وطّنوا في محالّ إقامتهم أجناسها لغرض الصّيد. وإن كان لا يمكن كذلك نفي أن تكون قد نُقلت بأمر الله أو بإذنه وبعمل الملائكة. أمّا إن كانت قد نشأت بحسب النّشأة الأولى لمّا قال الله: "لتُخرج الأرض ذوات أنفس"، بحيث أخرجت الأرض في الجزر حيوانات كثيرة لم تكن تستطيع الانتقال إليها، فإذّاك سيظهر بنحو أوضح بما لا يقاس أنّ وجود كلّ الأنواع في التّابوت لم يكن لإعادة تشكيل الحيوانات بقدر ما كان يرمز إلى شتّى الأمم في التّورية عن سرّ الكنيسة المقدّس*.

 

16-8 هل أنتج بعض الأقوام من نسل آدم أو أبناء نوح مسوخا

   يسأل البعض أيضا إن كان يجب التّصديق بنشأة أنواع مسيخة من البشر انحدرت من أبناء نوح أو بالأحرى من ذلك الإنسان الفرد الّذي انحدروا هم أنفسهم منه، كما يروي تاريخ الأمم*. يزعمون مثلا أنّ للبعض عينا وسط الجبين، ولآخرين أقداما متّجهة إلى خلف الرِّجل، ولآخرين طبيعة مزدوجة الجنس: الجانب الأيمن ذكريّ والأيسر أنثويّ وبالاتّحاد بالتّناوب فيما بينهم يبذرون ويلدون، وأنّ آخرين بلا أفواه ويعيشون بالتّنفّس من الأنف فقط، وأنّ قامة آخرين نحو ذراع لذلك يدعوهم اليونان باسم Pygmaei ( الأقزام) المشتقّ من كلمة ذراع، وأنّ النّساء في بعض البلدان يلدن في الخامسة ولا تتجاوز أعمارهنّ ثماني سنين. يروون كذلك أنّ هناك قوما لهم رجل واحدة بقدمين ولا يثنون رُكبهم ولهم سرعة عجيبة ويدعونهم Sciapodes لأنّهم في الصّيف يستلقون على ظهورهم مستفيئين بأرجلهم، وأناسا بلا هامات وعيونهم على الأكتاف. هناك أنواع أخرى من البشر وأشباه البشر مرسومة على فسيفساء في ساحة مرسى قرطاج، أُخذت أوصافها من كتب عجائب المخلوقات. وماذا أقول عمّن يُدعون Cynocephales، الّذين هم برؤوسهم الشّبيهة برؤوس الكلاب ونباحهم أدنى إلى الحيوان منهم إلى الإنسان؟ هذا وليس علينا أن نصدّق بكلّ أنواع البشر الّتي يتحدّث البعض عنها. لكن حيثما يولد إنسان، أي حيّ عاقل فان، مهما استغربت حواسّنا شكل جسمه أو لونه أو حركته أو صوته أو أيّة قوّة أو جزئيّة أو صفة في طبيعته، لا شكّ لمؤمن في أنّه ينحدر من ذلك الفرد الّذي صوّره الله أوّلا. لكن يظهر بوضوح ما أنتجته الطّبيعة في الأكثريّة وما يبدو غريبا لندرته.

   أمّا الحالات الفرديّة لولادة مسوخ بيننا فيمكن ردّها إلى نفس المأتى الّذي أتت منه جماعات بشريّة مسيخة. فالله خالق الجميع يعلم أين ومتى يكون أو كان مناسبا خلق كائن ما، وهو العالم بكلّ ما في الكون يعرف بتباين أو تناظر أيّة أجزاء منه يؤلّف بهاءه. لكنّ من لا يستطيع النّظر إلى الكلّ يستقبح ما يبدو له تشوّها في جزء منه لأنّه يجهل ماذا يطابق أو في ماذا يندمج. نشاهد أناسا يولدون بأكثر من خمس أصابع في الأيدي أو الأقدام، وذلك محيد طفيف نسبيّا عن السّواء، لكن لا يجهلن أحد فيتصوّر أنّ الخالق أخطأ في عدد الأصابع البشريّة، وإن جهل لماذا فعل ذلك. وحتّى إن نشأ محيد أكبر، فإنّما يعلم ما صنع من لا أحد يعيب محقّا عمله. في هبّونة زريتوم يوجد شخص قدماه على شكل هلال وفيهما إصبعان فقط، وكذلك يداه. لو وُجد شعب بمثل تلك الصّفة لأضيف إلى قائمة طرائف وعجائب المخلوقات. أفننكر لذلك أنّه انحدر من ذلك الفرد الّذي خُلق أوّلا؟ والخناث androgyni الّذين يدعونهم كذلك hermaphrodites لا يكاد على ندرتهم يخلو منهم زمان، ويظهر فيهم كلا الجنسين حتّى ليتعذّر الجزم في أيّهما ينبغي أن يستمدّوا منه تسميتهم بالأحرى*. لكن غلبت عادة تسميتهم بأفضلهما: الذّكورة، إذ لا أحد يدعوهم خناثى بالتّأنيث. قبل عدد من الأعوام، في عهد قريب، وُلد في الشّرق شخص بضِعف الأعضاء العليا وأعداد عاديّة من السّفلى: فقد كان له رأسان وصدران وأربع أيد، لكن مع بطن واحد ورجلين فقط كإنسان واحد. وقد عمّر بما فيه الكفاية ليأتي إليه كثير من النّاس لرؤيته مدفوعين بشهرته. ومن بوسعه استعراض كلّ المواليد المختلفين إلى أبعد الحدود عمّن ولدوهم بلا ريب*؟

   إذن كما لا يمكن إنكار انحدار تلك المسوخ من ذلك الإنسان الأوّل، كذلك لا بدّ من الإقرار بأنّ كلّ الأقوام الّذين يخبروننا بأنّهم بتفرّد خصائصهم الجسمانيّة يخرجون عن مجرى الطّبيعة المألوف الّذي يشترك فيه جلّ بل تقريبا كلّ الآخرين، ما دامت باقية ضمن حدود ماهيّة البشر كأحياء عاقلين فانين من نسل نفس الأب الأوّل الأوحد، هذا طبعا إن صحّ ما يروون عن تفرّد تلك الجماعات واختلافها الكبير عنّا. فلو لم نكن نعلم أنّ القردة والذّيّالات cercopitheci وأبا الهول حيوانات لا بشر لكان كتّاب التّاريخ الطّبيعيّ المباهون بحبّ الاطّلاع على الأرجح سيقدّمونها لنا كذبا ودون عقاب كفئات من البشر. لكن إن كان أولئك الّذين كُتبت عنهم تلك الأوصاف العجيبة بشرا، أليس واردا أنّ الله شاء أن يخلق بعض الشّعوب أيضا بتلك الصّفة كيلا نحسب حكمة الله الّتي صنع بها الطّبيعة البشريّة أخطأت في تلك المسوخ الّتي اقتضت أن تولد عندنا من بشر أسوياء، شأن عمل أيّ صانع أقلّ براعة؟ من ثمّة لا ينبغي أن يبدو لنا مخالفا للحكمة أن يوجد، مثل الحالات الفرديّة الشّاذّة في شتّى الأقوام، أقوام مُسخ في البشريّة ككلّ. لذلك، ولأختم هذه المسألة باحتراز واحتياط، أقول: إمّا أنّ ما كُتب حول بعض الأقوام لا أساس له، أو إن صحّ فليسوا بشرا، أو إن كانوا بشرا فهم من نسل آدم*.

 <<