القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّاني

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الثّاني

 

2-1 في الاعتدال الّذي يجب علينا إبداؤه في النّقاش

   إن لم يجرؤ عقل الإنسان الواقع في أسر التّقاليد على الوقوف في وجه الحقيقة البيّنة وأسلم سقمه لعقيدة شافية كما يسلمه لدواء إلى أن ينال بفضل الإيمان والتّقوى وبعون الله وإنعامه الشّفاء، فلن تكون بحاجة إلى محاجّة مستفيضة لنقنع ببطلان أيّ من الضّلالات الشّائعة من يفكّرون بحصافة ويُبينون عن أفكارهم بألفاظ تفي بالمقصود. لكن لأنّ مرض نفوسهم الضّلّيلة الآن أعتى وأنكى، تراهم يدافعون عمّا يجنحون إليه من أباطيل لامعقولة كحقائق ثابتة يقرّها العقل حتّى بعد إقامة البيّنة تماما، قدر ما يُطلب من إنسان مع إنسان، سواء لفرط عماهم الّذي يجعلهم لا يرون حتّى أجلى الحقائق، أو لعنادهم المكابر الّذي يجعلهم حتّى إن رأوها لا يطيقون مرآها. من هنا لزم أن نعرض بإسهاب حقيائق واضحة غالبا، لا مثلما نلفت انتباه مبصرين بل بنحو ما كما نقدّمها للمسّ والجسّ لمن عُمّيت أبصارهم فهم يعمهون. لكن هل من نهاية لحجاجي وحدّ لمقالي إن ألزمت نفسي بالرّدّ على كلّ المعترضين؟ فمن لا يستطيعون إدراك ما أقول أو لجّوا في مجادلتنا إلى درجة الإنكار حتّى مع الإدراك يردّون علينا وكما جاء في الكتاب "ينطقون بالصّلف ويهذرون."* ولو شئنا تفنيد كلّ اعتراضاتهم كلّما عنّ لهم أن يهاترونا برعونة دون التّفكير في ما يقولون، ولا همّ لهم سوى مخالفتنا في كلّ ما نؤكّد، انظر كم سيكون الأمر طويلا ومجهدا وعقيما. لذا لا أحبّ أن تكون يا بنيّ مركلّينوس ولا الآخرون الّذين أضع في خدمتهم عملي هذا حبّا في المسيح بسرور راجيا نفعهم من ذاك النّوع من مقيّمي كتاباتي الّذين يبغون دائما ردّا كلّما سمعوا اعتراضا على ما قرؤوا فيها فتكونوا كأولئك النّسيّات اللاّئي كما يذكر الرّسول "يتعلّمن دائما ولا يبلغن معرفة الحقّ أبدا."*

 

2-2 في ما عرضنا في الكتاب الأوّل

   لذلك لمّا شرعت في الكتاب السّابق في الحديث عن مدينة الله- وانطلاقا منه بدأت# بعون الله هذا العمل في مجموعه- خطر لي أن أبدأ بالرّدّ على من يعزون تلك الحروب الّتي تضرّر منها هذا العالم، وبالأخصّ الدّمار الّذي ألحقه بمدينة رومية البرابرةُ مؤخّرا، للدّين المسيحيّ لمنعه تقديم الذّبائح الأثيمة للأصنام بينما الأوْلى أن يبتغوا مرضاة المسيح الّذي بفضل اسمه وخلافا لأعراف وتقاليد الحروب قدّم البرابرة للفارّين أحراما آمنة وفسيحة، واحترموا في الكثيرين صفة خدّام المسيح لا الحقيقيّة فقط بل كذلك المتصنّعة من الخوف إلى درجة تحريم ما يُحلّ فيهم قانون الحرب.

   هنا يبرز سؤال: لماذا امتدّت هذه النّعم الإلهيّة كذلك إلى الكافرين والجاحدين؟ ولماذا تكبّد تلك المحن العصيبة الّتي وقّعها الأعداء على الأهالي البررةُ مع الكفرة سويّا؟ تتشعّب هذه القضيّة إلى عدّة مسائل فرعيّة. فيوميّا تحلّ نعم الله ونقم البشر غالبا بالمستقيمين والمنحرفين سويّا وبلا تمييز، وهو ما يشوّش بال الكثيرين، ممّا جعلني أتوقّف قليلا لبعض الوقت نزولا عند مقتضيات العمل الّذي شرعت فيه، وخصوصا لتعزية أولئك الصّدّيقات القانتات العفيفات اللاّئي ارتكب عليهنّ الأعداء تجاوزات تأذّى منها حياؤهنّ وإن لم تُنتزع عفّتهنّ الرّاسخة، كيلا يتحسّرن نادبات حياتهنّ، وهنّ لم يأتين فيها سوءا يتحسّرن نادمات عليه. ثمّ قلت بضع كلمات في من يعيّرون المسيحيّين بسفاهة رقيعة بمعاناة ذلك العنت، وبالأخصّ النّساء اللاّئي استبيحت أعراضهنّ وإن حافظن على نقائهنّ وعفافهنّ، ألا إنّهم هم السّفهاء الأرذلون، النّسل المسيخ البعيد كلّ البعد عن أولئك الرّومان الّذين تحظى مآثرهم العديدة بالثّناء في كلّ مكان وبالإشادة في صفحات التّاريخ، بل هم لمجدهم ألدّ العدا. لقد جعلوا رومية الّتي أنشأتها ووسّعتها جهود الجدود أبشع واقفةً منها هائرةً: ففي خرابها هوت أحجارها وأخشابها، أمّا في نهج حياتهم فانهارت دعائم وزِيَن الأخلاق لا الجدران*، واضطرمت قلوبهم بشهوات أضرّ وأشأم من الحرائق الّتي شبّت في أبنية مدينتهم. بذكر هذه الحقائق أنهيت الكتاب الأوّل، وقرّرت أن أعرض بعدئذ ما عانت تلك المدينة من الويلات منذ نشأتها، سواء داخلها أو في الأقاليم الخاضعة لها، والّتي سيعزونها كلّها للدّين المسيحيّ لو كانت تعاليم الإنجيل قد اعتُلنت ملعلعة يومذاك ضدّ آلهتهم الزّائفة والمضلّة، شهادةً حرّة صُراحا.

 

2-3 لزوم الاستعانة بالتّاريخ لبيان أيّة ويلات ألمّت بالرّومان أيّام عبادة آلهتهم قبل نموّ الدّين المسيحيّ

   لكن تذكّرْ أنّي لمّا أعيد للأذهان تلك الأرزاء أنافح ضدّ جهلة من جهلهم نشأ المثل الشّائع: "انحبس المطر: المسيحيّون هم السّبب." فإنّ من درسوا منهم العلوم الشّريفة ويحبّون التّاريخ يعلمون بغاية اليسرهذه الوقائع، لكنّهم لإثارة العوامّ الجهلة ضدّنا يخفون معرفتهم ويحاولون إقناع الرّعاع بأنّ الجوائح الّتي تلمّ بالجنس البشريّ عدلا وفق توزيع زمانيّ ومكانيّ معيّن تحدث بسبب الدّين المسيحيّ الّذي كسف آلهتهم لينتشر في الآفاق بفضل صيته العظيم وهيبته السّاطعة. ليذّكّروا معنا إذن، قبل مجيء المسيح في الصّورة الجسديّة، قبل سطوع اسمه بين عديد الشّعوب بمجد يحسدونه سدى، أيّة كوارث متعدّدة ومتنوّعة قاست رومية، وليدافعوا بخصوصها إن استطاعوا عن آلهتهم الّتي يعبدونها لتحول دون تعرّض عبّادها لتلك الشّرور الّتي إن تعرّضوا اليوم لشيء منها زعمونا المتسبّبين فيه. لماذا سمحت فعلا، قبل أن يؤذيها ذيوع اسم المسيح ويحظر تقديم الذّبائح لها، بحلول النّوائب الّتي سأذكر بعبّادها؟

 

2-4 في أنّ عبدة الأصنام لم يتلقّوا قطّ من آلهتهم أيّ أمر بالمعروف، وأجلّوا في طقوسها كلّ منكر

   بدءا لماذا لم تشأ آلهتهم الاهتمام بتزكيتهم من تلك الأخلاق السّوءى؟ فحقّا وعدلا خذلهم الله الحقّ الّذي أعرضوا عن عبادته*، لكن لِم لمْ تُعِن عبدتَها تلك الآلهة الّتي يشكو أولئك الظّالمون الجاحدون منعهم من عبادتها بأيّة قوانين على العيش بصلاح واستقامة، فقد كان عدلا بالتّحقيق أن تُعنى بأعمالهم مقابل عنايتهم بطقوسها؟ قد يردّون بأنّ الشّرّ في كلّ منّا مأتاه إرادته الذّاتيّة. من ينكر هذا؟ لكن من شأن الآلهة كمرشدين ألاّ تخفي عن جموع عبدتها تعاليم حياة الصّلاح، بل أن تقدّمها لهم بنحو بيّن صريح، وبواسطة كهنتها أن تسائل وتوبّخ الخطأة وتتوعّد المسيئين بالعقاب وتعد المحسنين بالثّواب علانية. من نادى بهذه المبادئ يوما في معابد آلهتهم بصوت بيّن جهير؟

  نحن أيضا كنّا في أيّام شبابنا الخوالي نؤمّ تلك العروض التّهريجيّة الآثمة فنشاهد الخُبْل ونستمع إلى جوقات الموسيقى ونستمتع بألعاب الخزي المقدّمة إكراما للآلهة والإلهات*، لكلستيس عذراء السّماء وبركنتية أمّ الآلهة الّتي يؤدّي علنا يوم الاحتفال بتطهيرها مهرّجون من أحطّ فئة أمام محملها أغاني تستحي من سماعها لا أقول أمّ الآلهة بل أمّ أيّ عضو بمجلس الشّيوخ أو أيّ مواطن كريم، بل حتّى أمّهات أولئك المهرّجين أنفسهم. ففي الإنسان مسكة من الحياء لا تزيلها حتّى حطّة خُلقه، لذا سيستحي حتما حتّى أولئك المهرّجون من أداء تلك الأقوال والأفعال الفاحشة في بيوتهم أمام أمّهاتهم أثناء التّدرّب عليها قبل عرضها، مستشنعين ذلك الخزي الّذي يمثّلونه علنا أمام أمّ الآلهة وعلى مرأى ومسمع من جمهور عريض من كلا الجنسين. وإن أمكن أن يجتذب الفضول ذلك الجمع الغفير ليحضر العرض حافّا من حولهم، فلا بدّ أنّه انصرف من هناك وقد خُدش حياؤه وشُوّشت أفكاره على الأقلّ*. ما انتهاكات المقدّسات إن كانت تلك طقوس تقديس؟ وما التّدنيس إن كان ذلك تطهيرا؟ كانوا يدعون تلك الاحتفالات أعياد المناضد* كما لو احتُفِل فيها بوليمة تقتات فيها الشّياطين النّجسة بما تعدّه أطعمتها المثلى؛ ومن فعلا لا يدرك أنّ تلك الأرواح النّجسة تلتذّ بمثل تلك الفواحش إلاّ إن كان يجهل تماما وجود الأرواح النّجسة المستترة خلف اسم الآلهة غشّا وخداعا، أو يعيش حياة تجعله يرجو نعمتها ويخشى نقمتها هي بدلا من الله الحقّ.

 

2-5 في الفواحش الّتي كانت أمّ الآلهة تعظَّم بها من قِبل عبدتها

   لا أودّ أن أحكّم في هذه المسألة من همّهم التّسلّي بالفواحش المقترنة بهذا التّقليد الزّريّ أكثر من محاربتها* بل شبيون ناسيكا الّذي اختاره مجلس الشّيوخ كأفضل رجل وتلقّى بين يديه تمثال تلك الشّيطانة ونقلها إلى رومية. سيقول لنا إن كان يودّ أن تنال أمّه كمكافأة مثلى من الدّولة إسناد أشراف الألوهة لها، فمعلوم أنّ اليونان والرّومان وأقواما غيرهم قرّروا إسنادها لبعض من كانوا يولونهم تقديرا كبيرا بسبب خدماتهم الجليلة ويتصوّرون أنّهم صاروا خالدين وتُقُبِّلوا في عداد الآلهة. لا شكّ أنّه سيتمنّى لها ذلك المقام المحمود لو أمكن ذلك. لو زدنا فسألناه إن كان يحبّ أن تقام لها احتفالاً بأمجادها الإلهيّة تلك المخازي، أما تراه سيهتف بأنّه يفضّل أن يرى أمّه تثوي جثّة هامدة على أن تعيش إلهة لتسمع بسرور مثل تلك الفواحش! وحاشا أن يحبّ عضو بارز مثله بمجلس الشّيوخ أوتي فكرا نبيها جعله يمنع بناء مسرح في مدينة رجال أولي بأس وشجاعة أن تُعبد أمّه بنحو مماثل فترتضي كإلهة طقوسا تتأذّى من بذاءة كلماتها كسيّدة كريمة. أو أن يظنّ بحال من الأحوال أن يتحوّل حياء امرأة قمينة بطيّب الثّناء إلى نقيضه بتأليهها، فيدعوها عبّادها بعبارات تعظيم لو تلفّظوا بمثلها لسبّ أيّ شخص يوم كانت تعيش بين بني البشر لسدّت أذنيها وانصرفت، وإلاّ لاحمرّ خجلا بها الأهل والبعل والبنون. هكذا طلبت إذن أمّ الآلهة الّتي يخجل أيّ أحد، حتّى أرذل رجل، بمثلها أمّا، لتستحوذ على ألباب الرّومان أفضلَ رجل فيهم، لا لتجعله بوعظه ومساعدته أفضل دوما، بل لتضلّه بكذبها كتلك الّتي قال عنها الكتاب: "المرأة ذات البعل تصطاد النّفس الكريمة،"* كيلا يبحث ذلك الرّجل ذو الخلق العظيم المتسامي بحماسه لما يعدّه آية ربّانيّة والحامل فكرة عالية عن فضله عن التّقى والدّين الحقّ الّذي بدونه لا يلبث كلّ طبع حميد، مهما بلغ من السّموّ، أن ينحلّ ويضمحلّ بفعل الكبْر. بأيّ أسلوب إذن سوى المكر أمكن أن تطلب تلك الإلهة أفضل رجل والحال أنّها تطلب في طقوسها ما يستشنع التّلفّظ به في سبابهم أفاضل الرّجال.

 

2-6 في أنّ آلهة الوثنيّين لم تضع أبدا تعاليم حياة الصّلاح

   هذا ما جعل تلك الآلهة لا تولي عناية بحياة وأخلاق المدن والشّعوب الّتي تعبدها، وبلغ ذلك الإهمال حدّ السّماح بإثخانها بأدواء خبيثة ومقيتة تفشّت لا في الحقول والبساتين، ولا في البيوت والأموال، ولا أخيرا حتّى في الأبدان الّتي تخضع للأذهان، بل في الأذهان ذاتها، في الرّوح الّذي يسيّر الجسد، فتهوي بها في غياب أيّة موانع رهيبة تردعها إلى الحضيض. وإن ادّعوا أنّها كانت تُصدر موانع، فليبيّنوا ذلك بالأحرى، ليثبتوه لنا، ولا يحتجّنّ لدينا بكلام مبهم مهسوس في آذان قلّة من العارفين ومنقول كديانة أسرار ويعلّم في زعمهم الاستقامة والنّقاوة نهجا للحياة. بل فلْيُرونا أو يذكروا المحالّ المخصّصة في ما مضى لتلك النّدوات، حيث لا يؤدّي مهرّجوهم ألعابا تمثيليّة بأقوال وحركات فاحشة، ولا يُحتفل بأعياد الإبعاد* بإطلاق العنان للمخازي والفساد، وهي فعلا أعياد إبعاد، لكن للحياء والرّشاد، بل حيث تستمع الجماهير إلى تعاليم الآلهة عن كبح حبّ المال وكسر تطلّع الطّموح وكبت تفلّت الشّهوة، حيث يتعلّم البائسون ما يحضّهم برْسيوس على تعلّمه: "تعلّموا أيّها البائسون واعرفوا أسباب الأشياء: من نحن ولأيّة حياة وُلدنا، ما معيار سعادتنا وكيف الوصول بمنعرج لطيف إلى غايتنا، أيّ حدّ نضع للمال، ما المشروع تمنّيه وما نفع المال كاوينا بحبّه، بكم من مالنا يحسن أن نجود على وطننا وأحبّتنا وأهلينا، كيف يأمر الله أن نكون وأيّ موقع نحتلّ في الواقع الإنسانيّ."* ليقولوا لنا في أيّة أماكن كانت هذه التّعاليم تتلى هدى من لدن أربابهم وتواظب على سماعها جماهير عبّادها، مثلما نريهم من جهتنا الكنائس المقامة لهذا الغرض حيثما ينتشر دين المسيح. 

2-7 لا نفع ممّا يبتدع الفلاسفة دون مرجع ربّانيّ، فأفعال الآلهة تؤثّر أكثر من جدالات الفلاسفة في من ينزع نحو الرّذيلة

   لعلّهم سيذكرون لنا مدارس وجدالات الفلاسفة؟ بدءا ما هي رومانيّة بل هي يونانيّة، أو إن أضحت اليوم رومانيّة لأنّ بلاد اليونان صارت إقليما رومانيّا فما هي بتعاليم من الآلهة بل من وضع بشر ذوي أذهان حذّاء سعوا بالتّفكير العقلانيّ إلى اكتشاف الأسرار المكنونة في الطّبيعة وما يجب نشدانه أو اجتنابه في مجال الأخلاق، وفي مجال الاستدلال ما الاستنتاج اليقينيّ والقياس المفتقر إلى التّماسك والمناقض لمقدّماته؛ كذلك اكتشف البعض منهم قدر ما منحهم الله عونه أسرارا جليلة* لكنّهم وقعوا قدر ما عاقهم نقص طبيعتهم البشريّة في الخطإ، سيما والعناية الإلهيّة قاومت عدلا كبْرهم لتبيّن خلافا لسبيله أنّ طريق التّقوى تنطلق من التّواضع لترتقي إلى الأعالي. وسيتاح لنا لاحقا بمشيئة الله الحقّ مجال لبحث وتحليل هذا الموضوع.

   لكن إن اكتشف الفلاسفة نهجا يتيح حياة صالحة وبلوغ السّعادة الحقيقيّة، فكم سيكون أعدلَ أن يُسند لأمثالهم شرف الألوهة، وكم كان أفضل وأليق أن تُقرأ في معبد مخصّص لأفلاطون كتاباته من أن يشاهَد في معابد الأصنام استنزاف كهنة خصيان* وسيامة مخنّثين وتشويه أجساد معاتيه وغير ذلك ممّا يؤتى عادة من أعمال وحشيّة أو شائنة، أو شائنة بوحشيّتها أو وحشيّة بشينها طقوسا لتلك الآلهة! كم كان أنسب أن تتلى علنا شرائع الآلهة لتعليم الشّباب البِرَّ من الثّناء سدى على سنن ومؤسّسات الأجداد! فعبدة كلّ تلك الآلهة حالما تنتابهم الشّهوة "المضرّجة بسمّ مستعر" كما يقول برسيوس* تجذب انتباههم أعمال يوبتر أكثر من تعاليم أفلاطون وزجر كاتون. هكذا نجد في مسرحيّة لترنتيوس شابّا ماجنا يتأمّل لوحة مرسومة على الجدار "صُوّر فيها كيف أرسل يوبتر في حضن دناية، حسب ما يروي البعض، مطرا من التّبر" ويتّخذ من سلطة بمثل تلك العظمة تغطية لفجوره، متباهيا بتقليد إله، " وما أدراك من هو بين الآلهة! ذاك الّذي، كما يقول، تخرّ من رعده قبّة السّماء. أفلا أفعل أنا الإنسان الضّعيف ذلك؟ ففعلتُ وبكلّ سرور."*

 

 

2-8 في الألعاب التّمثيليّة الّتي لا تغتاظ بل ترتاح الآلهة لعرضها

   قد يُعترض بأنّ تلك المنكرات لا تقال في طقوس الآلهة، وإنّما في اختلاقات الشّعراء. لا أريد تأكيد أنّ تلك العربدات الدّينيّة أخزى من تلك الرّوايات المسرحيّة، لكنّي أقول ما تكذّب منكريه شهادة التّاريخ: أنّ الرّومان لم يُدخلوا في طقوس آلهتهم تلك الألعاب التّمثيليّة الّتي تطغى عليها أخيلة الشّعراء اجتهادا بغير علم بل أنّ تلك الآلهة نفسها لجّت في طلب إقامتها احتفالا بها وتكريسا لشرفها حتّى نالتها، وبنحو ما افتكّتها، وهو ما تناولتُه في لمحة مقتضبة في الكتاب الأوّل. ذلك أنّ الألعاب التّمثيليّة استنّتها لأوّل مرّة سلطة أحبار رومية لمّا استفحل فيها وباء خطير، فمن لا يرى لزاما بالتّالي أن يتّبع كنهج لحياته ما يتمّ عرضه في ألعاب تمثيليّة سنّتها سلطة ربّانيّة بالأحرى عمّا تنصّ عليه صادرة عن فكر البشر؟ لو كذب الشّعراء في تقديم يوبتر بمظهر الزّاني لغضبت وانتقمت منهم حتما آلهة عفيفة على افترائهم ذلك الإدّ في تلك العروض، لا على إهمالها. الألعاب التّمثيليّة الأقرب للقبول من سواها هي بالتّحقيق المآسي ( التّراجيديات) والملاهي ( الكوميديات)، وهي قصص نسجتها أخيلة الشّعراء وأُعدّت لتمثَّل في عروض تشتمل نصوصها على كثير من التّصرّفات المنحرفة، لكنّها على الأقلّ لا تتضمّن ألفاظا بذيئة كما هو الشّأن في ألعاب كثيرة أخرى، ويفرض الكبار على الصّغار قراءتها وتعلّمها ضمن الدّراسات الّتي يدعونها شريفة.

 

2-9 رأي الرّومان القدامى حول ضرورة تحجيم حرّيّة الشّعراء الّتي كان اليونان يريدون إطلاقها

   أمّا ما كان الرّومان يرون بهذا الصّدد، فيخبرنا به شيشرون في كتابه "في الجمهوريّة" حيث يقول شبيون في حوار: "ما كان ممكنا أن تحظى الملاهي بقبول مخازيها في المسارح لو لم تسمح بذلك الأخلاق العامّة". والحقّ أنّ اليونان الّذين هم أقدم لازموا أكثر منهم جانب التّماسك في رأيهم الخليع، فقد كان مرخَّصا لديهم قانونيّا أن تقول الملهاة ما تشاء عمّن تشاء ومع ذكر الأسماء. لذلك، وكما يقول الإفريقيّ* في نفس الكتاب: "من لم تمسّ أو بالأحرى من لم تنل بالقدح، من أعفت من التّجريح؟ يقولون إنّها فضحت أناسا لئاما وغوغائيّين ومثيري فتن في المدينة من جنس كليون وكليوفون وهيبربولوس. ليكنْ، نقبل بذلك- والقول له- حتّى إن كان أفضل أن يفضح مواطنين مثلهم حسيب لا شاعر. لكنّ التّعريض في أبيات تمثَّل على الرّكح برجل كبركليس خدم وطنه في قمّة السّلطة عدّة سنوات في السّلم والحرب سويّا لا يليق أكثر ممّا لو ثلب عندنا بلاوتوس أو نيويوس بُبليوسَ وقنيوسَ شبيون، أو قيقليوسُ مرقسَ كاتون"، ويضيف بعد ذلك بقليل: "في المقابل نجد ألواحنا الاثنتي عشر الّتي قلّما تنصّ على عقوبة الإعدام استحسنت إقرارها في حال تأليف أغان وأشعار تسيء إلى سمعة أو شرف الغير*. رائع! فالمفروض أن تخضع حياتنا للتّحرّيات القانونيّة وأحكام القضاة لا لآراء الشّعراء، ومن حقّنا ألاّ نسمع أيّة مذمّة إلاّ بمقتضى القانون الّذي يتيح لنا الرّدّ عليها والدّفاع عن أنفسنا أمام محكمة." رأيتُ أن أستشهد بهذا النّصّ من الجزء الرّابع من "جمهوريّة" شيشرون حرفيّا مع شيء من الحذف والتّحوير اليسير لتيسير فهمه فهو ذو صلة أكيدة بالموضوع الّذي أحاول قدر المستطاع شرحه. يقول بعد ذلك أشياء أخرى ثمّ يختم هذا الباب مبيّنا أنّ قدماء الرّومان كانوا يستهجنون ذكر أيّ إنسان في حياته على المسرح مدحا أو قدْحا. لكنّ اليونان، كما ذكرتُ، أرادوا السّماح بذلك لأنّه وإن أخلّ بالحياء أصوبُ، إذ رأوا آلهتهم تقبل وتستحسن عرض قبائح النّاس، بل وحتّى الآلهة، في الأعمال المسرحيّة، سواء كانت اختلاقات شعراء أو مخازي حقيقيّة تُقال وتمثَّل على الرّكح. وليتها بدتْ تستحقّ من عبدتها الضّحك فقط، لا المحاكاة أيضا. كان عجبا إذن إعفاءُ سمعة زعماء المدينة والمواطنين بينما أبوا إعفاء سمعة الآلهة.

 

2-10 أيّ مكر يجعل الشّياطين تحبّ أن تروى عنها جرائم صدقا أو كذبا

   فالعذر الّذي يُحتجّ به للآلهة، وهو أنّ الأخبار المرويّة عنها غير حقيقيّة بل كاذبة وخياليّة، جرم أقبح من تلك المخازي، إن رجعنا إلى ما تقضي به التّقوى الّتي يمليها الدّين الحقّ. لكن إن فكّرنا في مكر الشّياطين، أتُرانا سنجد أسلوبا أدهى وأبرع في الخداع؟ أليس قذف زعيم مستقيم ومتفان أقبح بقدر ما يكون أبعد عن الحقيقة وأغرب عن نهج حياته؟ أيّة عقوبات تكفي إذن لمّا تُلحق بإله إساءة بهذا القبح وبهذا الحجم؟ لكنّ الأرواح الشّرّيرة الّتي يعدّونها آلهة تحبّ أن تروى عنها حتّى مخاز لم تأتها، مادامت توقع بذلك أذهان البشر في هذه الأباطيل كما في أحابيل وتجرّهم معها إلى العذاب المعَدّ لها، سواء لأنّ بشرا يُفرحها أن يُعَدّوا آلهة- إذ تُفرحها ضلالات البشر- أتوا فعلا تلك القبائح الّتي لتُعبَد عليها هي الأخرى تستعين بألف مكيدة وخديعة، أو لأنّ لا أحد اجترح تلك السّيّئات الّتي تقبل تلك الأرواح الماكرة بسرور أن تُنسب للآلهة ليبدو كما لو أُنزل من السّماء على الأرض سلطان لإجازة الجرائم والقبائح. لمّا أدرك اليونان أنّهم عبيد لتلك الآلهة، رأوا أنّه لا ينبغي بحال وسط تلك القبائح العديدة والجسيمة أن يعفيهم الشّعراء، سواء لرغبتهم في التّشبّه حتّى في ذلك بآلهتهم أو لخوفهم من إثارة غضبها بالظّهور كأنّهم يطلبون لأنفسهم سمعة أحسن مفضّلين هكذا أنفسهم عليها.

 

2-11 في الممثّلين الّذين قبلهم اليونان في إدارة شؤون الدّولة بينما يزدري النّاس ظلما من يبتغون مرضاة الآلهة

   يندرج في هذا الإطار تقديرهم أنّ ممثّلي تلك المسرحيّات يستحقّون من الدّولة فائق الاعتبار، فإنّ أسخينوس الأثينيّ الخطيب المفوّه، حسب ما ورد في الجزء المذكور من كتاب "الجمهوريّة"، رغم تمثيل تراجيديات في شبابه، اشتغل بإدارة شؤون الدّولة؛ وأرسطوديموس الّذي كان ممثّلا تراجيديّا مثله، أرسله الأثينيّون مرارا إلى فيليب لمفاوضته حول أهمّ شؤون السّلم والحرب. فعلا لم يكن يبدو منطقيّا، ما داموا يرون تلك الفنون وتلك الألعاب التّمثيليّة مقبولة حتّى عند آلهتهم، اعتبار ممثّليها في عداد الأراذل. ذلك يعيب اليونان حقّا لكنّه بلا شكّ يوافق تماما آلهتهم: فهم لم يجرؤوا على استثناء حياة المواطنين من سَلق ألسنة الشّعراء والمهرّجين وهم يشاهدونهم يتناولون حياة الآلهة برضاها وسرورها، واعتبروا من يمثّلون في المسرح تلك الوقائع الّتي يعلمون أنّها ترضي الآلهة الّتي يخضعون لها يستحقّون في المدينة لا ألاّ يُزدروا فحسب، بل كذلك أن يحظوا بكلّ تقدير. إذ أيّ مبرّر كان يمكن أن يجدوا ليُكرموا الكهنة الّذين تقدَّم بواسطتهم ذبائح مرتضاة للآلهة، ويهينوا الممثّلين الّذين تقدَّم بواسطتهم فرجة مسلّية للآلهة بطلبها، وتعلّموا، وبإنذارها هي نفسها، أنّها تغضب إن لم ينفَّذ طلبها؟

   الواقع أنّ لابيون الّذي يُعَدّ خبيرا ممتازا في مثل هذه الشّؤون يفرّق الآلهة الطّيّبة من الآلهة السّيّئة* كذلك باختلاف عباداتها، مؤكّدا أنّ الآلهة السّيّئة تسترضى بالذّبائح والأدعية الحزينة، والطّيّبة على العكس بالطّقوس الفرحة والمرحة كالألعاب والأعياد والولائم على حدّ قوله. سنبحث هذه المسألة باستفاضة لاحقا بعون الله، أمّا الآن فنقول في ما يتعلّق بموضوعنا الحاليّ، وسواء قُدّمت كلّ طقوس التّعظيم بلا تفرقة لكلّ الآلهة باعتبارها طيّبة- إذ لا يستساغ القول بوجود آلهة سيّئة، وإن تكن آلهتهم الّتي هي أرواح نجسة سيّئةً* كلّها في الواقع-، أو وُزّعت بتمييز واضح كما ارتأى لابيون، هذه لهذه وتلك لتلك، إنّ اليونان بنحو منطقيّ كرّموا الكهنة الّذين يقدّمون الذّبائح والممثّلين الّذين يقدّمون الألعاب كيلا تثبت عليهم الإساءة إلى كلّ آلهتهم إن كانت كلّها تحبّ تلك الألعاب، أو، وهو أسوأ، إلى الّتي يعدّونها طيّبة إن كانت هي وحدها تحبّها.

 

2-12 في أنّ الرّومان بنزعهم من الشّعراء، في ما يتعلّق بالنّاس، الحرّية الّتي منحوهم في ما يتعلّق بالآلهة، كانوا أحسن رأيا بأنفسهم ممّا هم بالآلهة

   إلاّ أنّ الرّومان، كما يفتخر شبيون في الحوار المذكور من كتاب "الجمهوريّة"، لم يشاؤوا أن تعرَّض حياتهم وسمعتهم لتعيير وتجريح الشّعراء، بل عاقبوا بالإعدام من يتجرّأ على تأليف شعر من ذلك النّوع، وهو قرار مشرّف حقّا في ما يتعلّق بأنفسهم، لكنّه ينمّ عن تشامخ واستهتار تجاه آلهتهم، فلعلمهم أنّها تقبل، لا بصبر فقط بل وبطيب خاطر أيضا، تمزيق الشّعراء لسمعتها بقدحهم وثلبهم، اعتبروا أنفسهم أحقّ منها بأن يأمنوا إهانات من هذا النّوع وحموا أنفسهم منها بالقانون، بينما خلطوها لها بطقوس عباديّة. أهكذا إذن تمتدح يا شبيون منع الشّعراء من حرّيّة التّشهير بأيّ من الرّومان بينما تراهم لا يُعفون منه أيّا من آلهتكم؟ أهكذا تجب في رأيك إذن مراعاة مجمعكم أكثر من الكابيتوليوم*، بل رومية بمفردها أكثر من السّماء بأجمعها، حتّى تُمنع ألسنة الشّعراء قانونيّا عن إيذاء مواطنيك بينما تكيل أقذع الشّتائم لآلهتك دون أن يمنعها أيّ نائب أو حسيب، ولا أيّ كاهن أو نقيب؟ الظّاهر أنّه كان معيبا أن يقدح بلاوتوس أو نيويوس في ببليوس وقِنيوس شبيون أو قيقليوس في مرقس كاتون، ولائقا أن يشجّع شاعركم ترنتيوس بمخزية يوبتر الأكرم الأعظم مجون شبابكم.

 

2-13 كان مفروضا أن يفهم الرّومان أنّ آلهتهم الّتي تطلب أن تُعبد بألعاب معيبة لا تستحقّ شرف الألوهة

   لكن قد يجيبني لو لم يزل حيّا: "كيف نرفض ترخيص ألعاب شاءت الآلهة نفسها أن يكون لها طابع القداسة، وهي أدخلت في عادات الرّومان الألعاب التّمثيليّة حيث تمجَّد وتردَّد وتمثَّل* تلك المخازي وأوعزت بأن تُنشَد وتُعرَض لتكريمها؟" كيف لا يُدرَك من هذا تحديدا، وأكثر من أيّ مؤشّر، أنّها ليست آلهة حقيقيّة، ولا تستحقّ بتاتا أن تسند لها الدّولة شرف الألوهيّة؟ ما كانت عبادتها ستُعَدّ لائقة ولا مناسبة* لو طلبت ألعابا تنتقص الرّومان، فكيف تُعَدّ جديرة بالعبادة، أخبروني، وكيف لا يُرى أنّها أرواح ذميمة، وهي قد طلبت غشّا وخداعا أن يشاد في إطار طقوس تعظيمها بجرائم موصوفة؟ والرّومان من جهتهم، مع أنّهم أضحوا تحت تأثير ترّهات ضارّة جعلتهم يعبدون آلهة يرون رغبتها في تكريس مخاز تمثيليّة لها، لم ينسوا مع ذلك كرامتهم وحياءهم فلم يكرّموا أبدا ممثّلي تلك المسرحيّات أبدا دأب اليونان بل، كما يقول شبيون في كتاب شيشرون، "بما أنّهم وصموا بالخزي فنّ التّمثيل والمسرح بأكمله، أرادوا لا حرمان هذا النّوع من النّاس من شرف بقيّة المواطنين فحسب، بل كذلك فصلهم من قبيلتهم بلائحة تشهير من الحسيب." فأيّة حكمة رائعة جديرة حقّا بأن تُعَدّ من مناقب الرّومان! لكن حبّذا لو واصلت متماسكة وطُبّقت بنحو منطقيّ! بصواب كان كلّ من يختار مهنة التّمثيل من المواطنين الرّومان يُحرم لا من جميع أشراف المواطنة فحسب بل كذلك، وبلائحة تشهير من الحسيب، من حقّ البقاء في قبيلته. فيا لروح مدينة حريصة على حسن سمعتها، روح رومانيّة قلبا وقالبا! لكن أجيبوني: بأيّ منطق يقصى الممثّلون من كلّ شرف وتؤدّى ألعاب تمثيليّة على شرف الآلهة كجزء من طقوس تعظيمها؟

   ظلّت الفضيلة الرّومانيّة ردحا من الزّمان تجهل تلك الفنون المسرحيّة الّتي إن طُلبت لمتعة البشر زحفت لتُفسد أخلاقهم، لكنّ الآلهة هي الّتي طلبت أن تؤدّى لها، فكيف يُنبذ الممثّل إذّاك وبواسطته يعظَّم الإله؟ أيّ منطق غريب في التّعامل مع ذلك الفجور التّمثيليّ أن يُرذل مؤدّيه ويُعبد مبتغيه*؟

   حول هذه المسألة يختلف اليونان والرّومان: يستصوب اليونان تكريم الممثّلين انطلاقا من تعظيمهم للآلهة الّتي تطالب بالألعاب التّمثيليّة، بينما لا يسمح الرّومان للمثّلين بتلويث شرف الفئة الشّعبيّة بله الأعيان. في هذا الخلاف، يحلّ الإشكال قياس من هذا القبيل: يطرح اليونان: "إن كان يجب أن تُعبد تلك الآلهة، فيجب حتما أن يكرَّم كذلك أولئك الأشخاص"؛ ويؤكّد الرّومان: "لكن لا يجب بتاتا أن يكرَّم أولئك الأشخاص"؛ فيستنتج المسيحيّ: "إذن لا يجب بتاتا أن تُعبد تلك الآلهة."

 

2-14 في أنّ أفلاطون الّذي لم يعط في مدينته الفاضلة مكانا للشّعراء كان أفضل من تلك الآلهة الّتي أحبّت أن تكرَّم بألعاب تمثيليّة

   سنعالج الآن لماذا لم يُنظر إلى الشّعراء مؤلّفي تلك المسرحيّات الممنوعين بمقتضى قانون الألواح الاثنتي عشر من مسّ سمعة المواطنين، وقاذفي الآلهة بأقذع الشّتائم كأشخاص أراذل شأن الممثّلين. أيّ منطق في التّعامل مع تلك الاختلاقات الشّعريّة الشّائنة عن الآلهة يسوّغ ترذيل ممثّليها وتكريم مؤلّفيها*؟ ألا يبدو أصوب منح سعفة الإصابة لليونانيّ أفلاطون الّذي عند إقراره على أساس العقل ما يجب أن تكون عليه مدينته الفاضلة رأى من اللاّزم نبذ الشّعراء منها باعتبارهم أعداء الحقّ، إذ استنكر إهانة الآلهة ورفض تغشية وإفساد أذهان المواطنين بهذه الاختلاقات؟ والآن قارن إنسانيّة أفلاطون مقصي الشّعراء لمنعهم من تضليل المواطنين بألوهيّة الأرباب المطالبة بإقامة تلك الألعاب التّمثيليّة على شرفها: هو نصح، وإن لم يُقنع بالحجاج نزق ومجون اليونان، بأن تُمنع حتّى كتابة تلك الاختلاقات، وهي انتزعت باللّجاج من رزانة وحزم الرّومان* أن تمثَّل فوق ذلك، بل لم تشأ فقط أن تمثَّل، بل كذلك أن تهدى وتكرَّس لها وتُعرَض بجلال لتكريمها.* فليت شعري من أحقّ بأن تسند له المدينة شرف الألوهة: أفلاطون مانع تلك القبائح والمخازي، أم الشّياطين الجذلى بخداعها ذاك للبشر الّذين لم يستطع إقناعهم بالحقيقة؟

   رأى لابيون وضع أفلاطون في مصافّ أنصاف الآلهة مثل هرقل أو رومولوس، علما بأنّه يقدّم أنصاف الآلهة على الأبطال وإن كان يُدرج كلا الفريقين ضمن القوى الرّبّانيّة. أمّا أنا فلا أشكّ في أنّ هذا الّذي يدعوه النّاس نصف إله خليق بالتّفضيل لا على الأبطال فقط بل وحتّى على الآلهة. تقترب هنا قوانين الرّومان من آراء أفلاطون: فهو يدين كلّ اختلاقات الشّعراء أمّا هم فيسحبون منهم على الأقلّ حرّيّة ثلب النّاس؛ هو يستبعد الشّعراء حتّى من سكنى المدينة، أمّا هم فعلى الأقلّ يُقصون ممثّلي المسرحيّات الشّعريّة من هيئة المواطنين، ولو توفّرت لديهم الجرأة على فعل شيء ضدّ الآلهة طالبة الألعاب التّمثيليّة لأقصوهم من المدينة تماما.

   لم يمكن إذن أن يتلقّى ولا يرتجي الرّومان قوانين لإحلال الأخلاق الفاضلة أو تقويم السّيّئة من آلهتهم الّتي أثبتوا بقوانينهم تفوّقهم عليها وسفاهة أحلامها*: فهي تطلب تمثيليّات على شرفها وهم ينبذون الممثّلين من كلّ شرف، هي تأمر بتمجيد مخازي الآلهة بالأساطير الشّعريّة، وهم يمنعون من إذاعة مخازي البشر سفاهةَ الشّعراء. أمّا أفلاطون ذاك الّذي عدّ نصف إله فقد تصدّى في نفس الوقت لولع تلك الآلهة بمثل هاتيك القبائح، وبيّن ما كان يُنتظر من الرّوح الرّمانيّة فعله: إذ حرم الشّعراء أنفسهم تماما من العيش في المدينة الفاضلة، سواء لتلفيقهم أكاذيب على هواهم أو لعرضهم على البشر البائسين فعالا ذميمة لحثّهم، بإسنادها للآلهة، على الاقتداء بها. من جهتنا، لا نعدّ قطعا أفلاطون إلها ولا نصف إله، ولا نقارنه بأيّ من ملائكة الله الأبرار، ولا بنبيّ صادق أمين، ولا بأيّ من حواريّي أو شهداء المسيح، ولا بأيّ من المسيحيّين. وسنبيّن في محلّه، بإذن الله، مبرّر حكمنا. لكن ما داموا يريدون أكيدا أن يكون نصف إله، فإنّا نرى من اللاّزم تفضيله، إن لم نقل على رومولوس وهرقل- وإن لم يذكر أو يختلق أيّ من المؤرّخين أو الشّعراء أنّه قتل أخاه أو أتى أيّ خزي- فعلى الأقلّ على بريابوس أو على أشباه كينوكيفالوس أو أخيرا على فبريس، وهي أرباب اتّخذها الرّومان بعضها دخيل وبعضها أصليّ.

   كيف يمكن لآلهة من ذلك الطّراز أن تحول بتعاليم وشرائع صالحة دون حلول أدواء كبرى تتهدّد النّفوس والأخلاق العامّة، أو إن حلّت بها أن تُعنى باجتثاثها، هي الّتي اعتنت بزرع وتنمية المخازي، في حرصها على نشر ما تأتي أو ما يُنسب لها منها في الشّعب بدعاية المسرح، لتستعر الأهواء البشريّة السّيّئة في ذاتها بمحاكاة مثال الآلهة المهيب. وعبثا أهاب شيشرون قائلا عن الشّعراء: "لمّا ينالون الهتاف والاستحسان من الشّعب كما من معلّم عظيم حكيم، أيّة ظلمات ينشرون وأيّة مخاوف يبثّون وأيّة أهواء يسعّرون!"

 

2-15 في أنّ الرّومان اتّخذوا بعض آلهتهم لا بداع عقلانيّ بل غرورا

   لكن أكان اختيارهم للآلهة، فضلا عن زيفها، من وحي العقل أم بداعي الغرور بالأحرى؟ فبينما لم يستحقّ في نظرهم ولو معبدا صغيرا أفلاطون الّذي يريدون أن يروا فيه نصف إله والّذي اجتهد من خلال حواراته الرّائعة للحيلولة دون أن تُفسد الأخلاقَ شرورُ النّفس الإنسانيّة الّتي يجب الاحتراس منها بصفة خاصّة، فضّلوا رومولوس ابن ملّتهم على عدّة آلهة مع أنّه نصف إله لا إله كما يقدّر مذهب لديهم يعدّونه من الأسرار المضنون بها على غير أهلها. فقد جعلوا له سادنا* وهو نوع من الكهنة يحظى في عبادات الرّومان بمنزلة متميّزة كما تشهد بذلك شُرّابة قلنسوّته، حتّى أنّهم لم يجعلوا سدنة لغير ثلاثة من الأرباب: الدّياليّ ليوبتر والمرتياليّ لمارس والكويرينيّ لرومولوس، ذلك أنّه بعد إكرام مواطنيه له بقبوله في السّماء سمّي كويرينوس*. هكذا يتفوّق رومولوس على نبتونوس وبلوتون أخوي يوبتر، وحتّى على أبيهم ساترنوس بشرف إسناد سادن له لم يسندوا مثله إلاّ ليوبتر ولمارس بصفته أباه وعلى الأرجح اعتبارا لشخصه.

 

2-16 لو كان العدل شاغل الآلهة لاستحقّ الرّومان أن يتلقّوا منها تعاليم لتنظيم حياتهم عوض استعارة قوانين غيرهم من الشّعوب

   ثمّ لو أمكن أن يتلقّى الرّومان من آلهتهم تعاليم تنظيم حياتهم لما استعاروا من الأثينيّين، بعد عدد من السّنوات من تأسيس رومية، تشريعات صولون الّتي لم يبقوها كما تلقّوها بل حاولوا تحسينها وتعديلها، ومع أنّ  ليكرغوس ادّعى سنّ تشريعات للّخدمونيّين موحاة من الآلهة*، رفض الرّومان بحكمة تصديق ذلك ولم يقبلوها بالتّالي على أنّها من ذلك المصدر. يقال إنّ نوما بمبليوس الّذي خلف رومولوس في الحكم وضع بعض القوانين الّتي لم تكن في الواقع تكفي لتسيير مدينة، وأنشأ لهم كذلك كثيرا من الطّقوس الاحتفاليّة، لكن لا يُذكر أنّه تلقّى تلك القوانين من الآلهة*. لم تهتمّ آلهتهم إذن بحفظ عبدتها من شرور النّفس وشرور الحياة وشرور الأخلاق، وهي شرور وخيمة جدّا، حتّى أنّ فطاحل علمائهم يؤكّدون أنّها تقوّض الدّول حتّى مع بقاء الأبنية قائمة*، بل إنّها حرصت بكلّ الطّرق، كما أسلفنا، على مضاعفتها.

 

2-17 في خطف السّابينيّات ومظالم أخرى تفشّت في رومية حتّى في العصور المشاد بها

   أم ترى لم تسنّ الآلهة قوانين للشّعب الرّومانيّ ربّما لأنّ "نزعة العدل والخير كانت تسود فيهم فطرة أكثر ممّا بفعل القوانين"، كما يقول سالّستيوس؟ من نزعة العدل والخير تلك أتى في ظنّي خطف السّابينيّات*. وهل ثمّة ما يطابق العدل والخير أكثر من استقدام بنات أجنبيّات خبّا إلى حفل، لا لاستنكاحهنّ من آبائهنّ بل لاختطافهنّ غلابا حسب قوّة كلّ رجل؟ فإن يكن السّابينيّون قد ظلموا برفض إعطائهنّ لمّا طلبوهنّ، فكم كان أظلم خطفهنّ بعد رفض آبائهنّ إعطاءهنّ! كان أعدل خوض حرب مع القوم عند رفضهم تزويج بناتهم رجالا من نفس المنطقة ومن الجوار طلبوهنّ، من خوضها ضدّهم لمّا طلبوا ردّهنّ بعدما احتُجزن. كان أوْلى أن تتمّ الأمور بذلك النّحو، إذ كان مارس سيساعد ابنه* وهو يحارب بسلاحه للثّار من إهانة رفض طلب الزّواج الجماعيّ، وبذلك يفوز بالنّسوة اللاّئي كان يريد إنكاحهنّ قومه، فربّما يحقّ، بمقتضى بند ما من حقّ الحرب، أن ينتزع النّسوة اللاّئي رُفض إعطاؤهنّ بغير وجه حقّ، لكنّه اختطفهنّ عند رفض إعطائهنّ خلافا لكلّ بنود حقّ السّلم ودخل في حرب مخالفة للحقّ مع آبائهنّ المحقّين في غضبهم*. مع ذلك كان للحادثة هذا الأثر الحسن والسّارّ: هو أنّ مثال تلك الجريمة، رغم بقاء عرض في السّرك يحيي ذكرى تلك الخدعة، لم يحظ في رومية وامبراطوريّتها بغير الاستهجان. ولقد أخطأ الرّومان باتّخاذ رومولوس إلها بعد تلك الفعلة النّكراء، لا بالسّماح، بأيّ قانون أو عرف، بتقليد ما فعل من خطف نسوة آمنات.

   من نزعة الحقّ والخير تلك أنّه بعدما أُبعد مع أبنائه الملك تركوينيوس الّذي اغتصب ابنه لكريتية أجبر القنصل بروتوس زوجها وزميله لوقيوس تركوينيوس كُلاّتينوس، وهو رجل يميل إلى الخير ويستنكف عن الأذى، على الاستقالة من منصبه بسبب اسمه وقرابته مع آل تركوينيوس، ومنعه من العيش في المدينة: وهو جرم اقترفه بمباركة أو تغاضي الشّعب، ذلك الشّعب الّذي كان قد عيّن كُلاّتينوس قنصلا مثل بروتوس.

   من نزعة الحقّ والخير تلك أنّ مرقس كامِلّوس، الّذي يعدّ من أبرز رجال زمانه واستطاع بعد عشر سنوات من حرب تكبّد فيها الجيش الرّومانيّ بسبب تخاذله هزائم منكرة حتّى باتت رومية في شكّ وخوف على مصيرها، أن يغلب الوايسيّين أعداء الرّومان اللّدّ ويستولي على مدينتهم الثّريّة، واجه الاتّهام من حسّاده القادحين في شجاعته وخطباء الفئة الشّعبيّة الوقحين، وأحسّ بمدى جحود المدينة الّتي حرّرها فانطلق تلقائيّا إلى المنفى، وهو على يقين من إدانته: وبالفعل حُكم عليه غيابيّا بغرامة قدرها عشرة آلاف دانق، ومع ذلك لم يلبث أن ثأر لوطنه من شعب الغال المعادي. يسوؤني التّذكير الآن بالقبائح والمظالم المتعدّدة الّتي كانت تهزّ تلك المدينة، إذ طفق المتنفّذون يحاولون إخضاع الفئة الشّعبيّة وهي ترفض الخضوع، وأنصار الحزبين يتصرّفون بدافع الرّغبة في الانتصار، أكثر من التّفكير في أيّ عدل أو خير.

<<