القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّالث

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الثّالث  

 

3-1 في الويلات الّتي منها وحدها يخاف الأشرار والّتي عانى العالم منها دوما لمّا كان يعبد الأوثان

   أظنّني قلت ما فيه الكفاية عن أدواء الأخلاق والأنفس الّتي يجب توقّيها أكثر من سواها، وأنّ تلك الآلهة الزّائفة لم تهتمّ قطّ بتقديم العون لشعب عبدتها لتخفيف وطأة تلك الأدواء، بل بالعكس عملت على مضاعفتها. وأرى الآن من اللاّزم الحديث عن تلك الّتي منها وحدها يكرهون المعاناة كالجوع والمرض والحرب والنّهب والأسر والقتل وشرور مماثلة سبق ذكرها في الكتاب الأوّل. فالأشرار لا يرون شرورا سوى تلك الّتي لا تجعل النّاس أشرارا، ولا يخجلهم أن يكونوا وسط تلك الخيرات الّتي يمدحون هم مادحوها أشرارا، ويسوؤهم أكثر أن تكون لهم ضيعة سيّئة من أن تكون لهم حياة سيّئة، كما لو كان الخير الأعظم للإنسان أن يكون كلّ ما لديه جيّدا سوى ذاته. لكن حتّى تلك الأسواء الّتي منها وحدها يفزعون لم تحل دون حلولها بهم آلهتهم أيّام كانوا يعبدونها بحرّيّة تامّة. فعلا لمّا كانت في شتّى الأمكنة ومختلف الأزمنة قبل مجيء فادينا كوارث لا تحصى تسحق الجنس البشريّ، أيّة آلهة سوى تلك كان يعبد العالم باستثناء الشّعب العبريّ وحده بين الشّعوب، وبعض أشخاص من خارجه استحقّوا في كلّ مكان بحكم الله الخفيّ والعادل إنعامه؟

   لكن تجنّباً للإطالة سأغفل الجوائح العظمى الّتي أصابت الأمم الأخرى في الأرض جمعاء، مقتصرا على الحديث عمّا عانت من ويلات قبل مجيء المسيح رومية وامبراطوريّتها، أي المدينة ذاتها مع البلدان المتّحدة بها بمعاهدة أو الخاضعة لسيطرتها، لمّا كانت في ما يشبه الارتباط العضويّ بها.

 

3-2 هل كانت للآلهة الّتي دأب على عبادتها الرّومان واليونان سويّا مبرّرات للقبول بدمار إليوم

   بدءا لماذا شيءَ لطروادة، أو إليوم، الّتي تعود إليها أصول الشّعب الرّومانيّ- إذ لا ينبغي إغفال أو إخفاء ما ألمعت إليه في الكتاب الأوّل- أن يجتاحها ويدمّرها اليونان وهي تعبد نفس آلهتهم؟ يقولون: "رُدّ لبرياموس حنث أبيه لاومِدون بعهده." صحيح إذن أنّ أبولّون ونبتونوس خدما كأجيرين لاومِدون؟ إذ يقال إنّه وعدهما بأجر ونكث عهده، وأنا أعجب كيف أنجز أبولّون المكنيّ بالعرّاف عملا بتلك العظمة وهو يجهل أنّ لاوميدون سيُخلف وعده* ولا كان أيضا يليق بنبتونوس وهو من هو: عمّه وأخ يوبتر وملك البحر أن يجهل ما سيحدث، فإنّ هوميروس يظهره لنا متنبّئا بمستقبل باهر لذرّيّة أيناس الّذي رومية من نسله، علما بأنّ الشّاعر عاش قبل تأسيس تلك المدينة، فقد انتشله حسب قوله في غمامة لينقذه من بطش أخيلس، رغم تعطّشه، حسب ما يقرّ به في ملحمة فرجيليوس، "ليقوّض من الأساس أسوار طروادة ناكثة اليمين الّتي بيديه بناها."* اشتغل إذن نبتونوس وأبولّون- وأعظمْ بهما إلهين- وهما يجهلان أنّ لاوميدون سيلِتُهما أجرهما فيبنيان أسوار طروادة بلا جزاء ولا شكور*. فلينظروا إن لم يكن الإيمان بآلهة مثلهما أضرّ من الحنث بأيمان آلهة من هذا القبيل! هوميروس نفسه لم يصدّق ذلك بسهولة، فهو يجعل نبتونوس يحارب ضدّ الطّرواديّين وأبولّون لصالحهم، بينما تخبرنا الأسطورة أنّ كليهما غيظ من ذلك المقلب. إن كانوا يؤمنون بتلك الأساطير فليخجلوا من عبادة مثل تلك الآلهة، وإن كانوا لا يؤمنون بها فلا يحتجّوا بحنث طروادة أو فليعجبوا كيف عاقبت الآلهة حنث طروادة وارتضت حنث رومية. إذ كيف جمعت مؤامرة كاتلينا في تلك المدينة الكبيرة والمليئة بالمفاسد ذلك العدد الهائل من الأوباش الّذين كانت تغذّيهم ألسنتهم وأيديهم من الحنث ومن دم مواطنيهم؟ وهل ارتشاء أعضاء من مجلس الشّيوخ مرارا، والشّعب في عديد الانتخابات والقضايا المحالة عليه للبتّ فيها في اجتماعات اللّجان الشّعبيّة سوى نقض أثيم للأيمان؟ فقد احتُفظ حتّى مع انحطاط الأخلاق بعادة القسم القديمة، لا للحيلولة بوازع الدّين دون الجرائم، بل لإضافة جرائم أخرى إليها بالحنث باليمين.

 

3-3 ما أمكن أن تغتاظ الآلهة من زنا فارس بينما يروى عنها هي نفسها ممارسة ذلك بكثرة

   لا مبرّر إذن للتّفكير أنّ الآلهة الّتي قام عليها هذا المُلك حسب زعم البعض، وقد ثبت اندحارها أمام اليونان الأشدّ منها بأسا، قد غضبت من حنث الطّرواديّين، ولا كذلك أنّها اتّقدت نقمة من زنا فارس، كما يدّعي آخرون، فرحلت عن طروادة وتركتها للدّمار، فقد اعتادت إتيان وتعليم الآثام لا الانتقام منها. يقول سالّستيوس: "بنى مدينة رومية وملكها في البداية، على ما بلغني، الطّرواديّون الّذين كانوا يهيمون فارّين على غير هدى تحت إمرة أيناس."* إن رأت الآلهة حقّا أن تنتقم من الزّنا الّذي أتى فارس، فقد كان من المفروض أن تعاقبه أكثر، أو على الأقلّ سويّا، في الرّومان بما أنّ أمّ أيناس أتت ذلك الجرم. فكيف أمكن ترى أن تكره ذلك الشّين وهي قد ارتضت فينوس في ناديها- وأمرّ هنا على وقائع شبيهة أخرى- مع أنّها ارتكبته مع أنخيسس الّذي منه أنجبت أيناس؟ أم لعلّ ذلك كان يثير استنكار مينلاوس بينما يجد قبولا عند ولكانوس؟ الآلهة كما أرى لا يغارون قطّ على زوجاتهم، حتّى أنّهم يرضون بالاشتراك فيهنّ مع الرّجال. قد يُظنّ أنّي أهزأ من الأساطير ولا أعالج بجدّ قضيّة بمثل هذه الخطورة. لانصدّقْ إذن إن شئنا أنّ أيناس ابن فينوس؛ أقبل ذلك إن قبلنا أنّ رومولوس هو الآخر ليس ابن مارس: إن نقبل هذا، فلِم لا ذاك؟ أم حلال على الآلهة جماع الإنسيّات، لكن حرام على ذكور الإنس جماع الإلهات؟ بند مجحف لعمري أو بالأحرى يتعذّر تصديقه أنّ ما يجوز بشرع فينوس لشبق مارس لا يجوز بشرعها لها هي نفسها! لكنّ كلتا الواقعتين وجدت الدّعم من سلطة رومية: فقيصر الأحدث عهدا لم يكن أقلّ اعتقادا في أنّ فينوس جدّته* ممّا كان رومولوس الأقدم في أنّ مارس والده.

 

3-4 في رأي وارّون القائل بنفع دعوى النّاس الانتساب للآلهة

   قد يقول قائل: أتصدّق إذن هذه الأساطير؟ قطعا لا أصدّقها، فحتّى وارّون أعلم رجالهم، وإن لم يعلن كذبها بجرأة وثقة، يعترف بذلك تقريبا وبصفة ضمنيّة. حيث يقول إنّه من المفيد للدّول أن يعتقد الأفراد المتميّزون حتّى خطأ أنّهم ينحدرون من الآلهة، فبهذا النّحو تتعلّق همّة الإنسان، وهي واثقة في أصله الإلهيّ، بعظائم المستصعبات بجرأة أقوى، وتُقدم عليها بعزم أمضى، وبفضل هذه الثّقة بالذّات تنجزها بنجاح أكبر. بالتّمعّن في رأي وارّون الّذي لخّصته كما تيسّر لي بعباراتي، نرى أيّ مجال واسع يفتح للافتراء، فندرك كيف أمكن أن تُختلق طقوس عديدة، على أنّها من الدّين، حيثما عُدّت مفيدة للمواطنين الأكاذيب على الآلهة*.

 

3-5 ليس ثابتا أنّ الآلهة عاقبت زنا فارس إذ أنّها لم تعاقب أمّ أيناس

   أمّا هل أمكن لفينوس من مجامعة أنخيسس إنجاب أيناس، أو لمارس من مجامعة بنت نوميطور إنجاب رومولوس، فأمر نتركه مطروحا للمناقشة، فإنّ مسألة شبيهة إلى حدّ ما تبرز# من كتابنا المقدّس: هل جامعت الأملاك المتمرّدة إنسيّات فوُلد من ذلك عماليق، أي أناس في غاية الضّخامة والقوّة، عمروا الأرض يومذاك. فلنعد الآن إلى الحالتين، موضوع نقاشنا. إن كان صدقا ما نقرأ في عديد المراجع عن أمّ أيناس وأب رومولوس، كيف يمكن أن تغتاظ الآلهة من الزّنا بين البشر وهي تأتيه فيما بينها بأتمّ الرّضى؛ وإن كان كذبا فما يمكن قطعا أن تغضب من زنا البشر وهي تبتهج حتّى بما يُنسب لها زورا. إضافة إلى ذلك، إن لم نصدّق ما يُنسب لمارس ولا بالتّالي كذلك ما يُنسب لفينوس، فلا موجب حينئذ لدعوى جماع أمّ رومولوس بإله. والحال أنّها كانت من قيّمات وستة، فكان المفروض أن تنتقم في أشخاص الرّومان من ذلك العار والانتهاك للمقدّسات أكثر ممّا في أشخاص الطّرواديّين من زنا فارس. فقد كان الرّومان القدامى يئدون قيّمات وستة إن ضُبطن بالعهر* مع أنّهم، رغم إدانة المحصنات إن زنين، لم يكونوا يحكمون عليهنّ بالإعدام: كانوا يعاقبون بصرامة أشدّ وإلى مثل ذلك الحدّ تدنيس معابدهم، الرّبّانيّة في ظنّهم، ممّا يفعلون بالنّسبة للفُرش البشريّة.

 

3-6 في قتل رومولوس لأخيه، الّذي لم تنتقم منه الآلهة

   أضيف شيئا آخر: إن كانت آثام البشر تسوء الآلهة إلى درجة أنّها لغضبها من فعلة فارس بارحت طروادة وأسلمتها للحديد والنّار، فلا بدّ أن يثيرها قتل رومولوس لأخيه ضدّ الرّومان أكثر من التّعدّي على زوج يونانيّ  ضدّ الطّرواديّين، ويسخطها قتل أخ في مدينة قيد النّشوء أكثر من زنا في مدينة مكتملة العمران. ولا يهمّ المسألة الّتي نحن بصددها إن كان رومولوس أمر بذلك أو فعله بيديه، الأمر الّذي ينكره الكثيرون سفها، ويشكّ فيه الكثيرون خجلا، ويخفيه الكثيرون ألما. لا نتخلّفْ إذن في البحث بتدقيق في هذه المسألة، موازنين شهادات عديد الكتّاب: الثّابت أنّ أخ رومولوس قُتل علنا، لا من قبل أعداء ولا على أيدي أجانب، وسواء فعل رومولوس ذلك أو أوعز به، واضح أنّه كان رئيس الرّومان أكثر ممّا كان فارس رئيس الطّرواديّين. لِم أثار إذن غضب الآلهة على الطّرواديّين ذاك الّذي خطف زوجة أجنبيّة، وجلب رعاية نفس تلك الآلهة للرّومان هذا الّذي قتل أخاه؟ أمّا إن لم تكن تلك الجريمة بفعل ولا إيعاز رومولوس، وما دامت تستوجب العقاب بلا شكّ، فالمدينة بأسرها هي الجانية، بما أنّها بأسرها لم تعرها بالا، وما أخاً إذّاك بل أبا قتلتْ، وهو أسوأ. إذ كان كلا الأخوين مؤسّس المدينة، حتّى إن لم يُتح لأحدهما، لإزالته بجريمة، تولّي حكمها. لا يمكن لأحد في اعتقادي أن يقول بأيّ سوء استحقّت طروادة أن تدعها الآلهة تواجه دمارها، ولا بأيّ خير استحقّت رومية أن تحلّ بها وتفتح عليها بركاتها*. اللّهمّ إلاّ إن اعتبرنا أنّها فرّت من هناك هزيمة ولجأت إلى هؤلاء لتخدعهم مثل أولئك. كلاّ بل بقيت أيضا هناك لتخدع وفق عادتها من عمروا بعدهم تلك البلاد، وبممارسة نفس أساليب الخداع بتفنّن أكبر، تمجَّد هناك أيضا بأشراف أعظم.

 

3-7 في تدمير إليوم على يدي فِمبريا قائد ماريوس

   ماذا جنت فعلا إليوم المسكينة زمن اندلاع الحرب الأهليّة حتّى يهدّها على أركانها فمبريا أشرس رجال حرب ماريوس، بأكثر قسوة ووحشيّة ممّا فعل اليونان قديما؟ يومذاك تسنّى لكثيرين أن يفرّوا منها ولكثيرين ممّن أُسروا أن يحفظوا على الأقلّ حياتهم في الرّقّ، أمّا فمبريا فأصدر أمرا بألاّ يُعفى أحد، وأحرق المدينة كلّها وبكلّ من فيها. تعرّضت إليوم لهذا النّكال لا من اليونان الّذين أغضبتهم بظلمها، بل من الرّومان الّذين أنسلتهم بمصابها وتشاركهم عبادة نفس الآلهة الّتي لم تُجْدها نفعا لأنّها في الحقيقة عاجزة عن دفع ضرّ. فهل هذه المرّة أيضا "انسحبت جميعا، متخلّية عن المذابح والهياكل، آلهتها" الّتي بفضلها ظلّت المدينة قائمة بعد ترميمها من آثار نيران وتهديم اليونان. إن انسحبت، أسأل: ما السّبب, وأجد قضيّة الأهالي في وضع أحسن بقدر ما قضيّة الآلهة في وضع أسوأ. إذ كانوا قد غلّقوا الأبواب في وجه فمبريا للاحتفاظ بالمدينة سليمة لسولاّ، فعمد في سورة غضبه إلى إحراقهم، أو إخماد أنفاسهم بالأحرى. فإلى ذلك الحدّ كان سولاّ قائد الحزب الأفضل في الحرب الأهليّة، إلى ذلك الحدّ كان يسعى جاهدا لاستعادة الجمهوريّة بالسّلاح، ولم تكن تلك البدايات الطّيّبة قد أفضت إلى آثار وخيمة. أيّ شيء كان يمكن إذن لأهالي المدينة أن يفعلوا أصلح وأقوم وأكثر ولاء وأجدر بقرابتهم من الشّعب الرّومانيّ من حفظ مدينتهم للحزب الرّومانيّ الأفضل وإغلاق أبوابها في وجه السّاعي في خراب الجمهوريّة الرّومانيّة؟ فلير أنصار الآلهة بأيّ وبال عاد عليهم ذلك! قديما تخلّت الآلهة عن مستجيزي الزّنا وتركت إليوم نهبا لنيران اليونان لتنشأ من رمادها رومية الأزكى خلقا. فلِم تخلّت فيما بعد عن نفس المدينة وهي والدة الرّومان ولم تثُر ضدّ رومية ابنتها الفاضلة بل حافظت على ولاء ثابت برّ لأكثر حزبيها شرعيّة، وتركتها للدّمار لا على أيدي محاربي اليونان الأبطال، بل على يدي أحطّ رجل بين الرّومان؟ أمّا إن كانت الآلهة غير راضية عن قضيّة حزب سولاّ الّذي لحفظ المدينة له غلّق المساكين أبوابها، فلِم كانت تبشّر سولاّ ذاك وتعده بعديد الأحداث السّارّة؟ أم هي تكشف هنا أيضا عن حقيقتها كنصيرة للمحظوظين لا للمنكودين؟ إذن في هذه المرّة أيضا لم تدمَّر إليوم لمّا تخلّت عنها تلك الآلهة. فقد فعلت الشّياطين الدّائمة اليقظة للخداع ما في وسعهم: فبينما تحطّمت واحترقت تماثيلها مع المدينة، بقي على ما يقال، حسب ما كتب ليويوس، صنم مينرفة وحده منتصبا تحت أنقاض معبدها، لا كي يقال مدحا لها: "آلهة الوطن الّتي تعيش طروادة تحت رعايتها الدّائمة"*، بل كيلا يقال دفاعا عنها: "انسحبوا جميعا متخلّين عن المذابح والهياكل، آلهتها." فما سُمح لها بالطّاقة على فعله كان يرمي لا إلى إثبات قدرتها بل إلى فضح حضورها.

 

3-8 هل كان ينبغي لرومية أن تسلّم أمرها لآلهة إليوم

    أيّة حيطة حكيمة لعمرك بعد درس طروادة أن توكل رومية لرعاية آلهة إليوم! قد يقال إنّها كانت قد اعتادت الإقامة في رومية لمّا هوت إليوم تحت بطش فمبريا. كيف بقي منتصبا إذن تمثال مينرفة؟ ثمّ إن كانت في رومية لمّا محق فمبريا إليوم، فلعلّها كانت في إليوم يوم استولى الغال على رومية وأحرقوها! لكن لحدّة سمعها وسرعة تحرّكاتها عادت حالما أطلقت البطّة طقطقتها،  لتهتمّ على الأقلّ بتلّ الكابتوليوم الّذي تبقّى؛ أمّا المناطق الأخرى فقد أتى تنبيهها متأخّرا لتعود للدّفاع عنها.

 

3-9 هل يجب الاعتقاد بأنّ السّلام الّذي ساد طيلة حكم نوما منحته الآلهة

   يظنّون أنّها هي أيضا ساعدت نوما بمبليوس خلف رومولوس على حفظ السّلام وإبقاء بوّابة يانوس الّتي تُفتح عادة أثناء الحروب مغلقة طيلة فترة حكمه، وذلك حسبما يقولون جزاء وضعه عديد الطّقوس للرّومان. لا شكّ أنّ ذلك الرّجل يستحقّ التّهنئة على تلك الدّعة الطّويلة، لو عرف فقط كيف يستخدمها لما فيه صلاح شؤون مواطنيه وتخلّى عن فضوله الضّارّ للبحث بورع حقيقيّ عن الله الحقّ. غير أنّ الآلهة لم تدع له فراغا لذلك، لكن ربّما كانت ستخدعه أقلّ لو وجدته أقلّ فراغا: فبقدر ما وجدته عاطلا شغلته هي بأباطيلها. إذ يخبرنا وارّون كيف حاول وبأيّة أساليب استطاع كسب صداقة تلك الآلهة له وللمدينة، وهو ما سنتحدّث عنه بإذن الله  في محلّه بمزيد من العناية. أمّا الآن فبحثنا يتعلّق  بأنعمها. نعمة كبرى هي السّلم، لكنّها نعمة من الله الحقّ، كالشّمس والمطر وأسباب البقاء الأخرى الّتي غالبا ما تُمنح كذلك للجاحدين والمسيئين. لكن لو منحت تلك النّعمةَ الكبرى لروميةَ أو لبمبليوسَ تلك الآلهةُ، لم لم تمنحها فيما بعد للامبراطوريّة الرّومانيّة حتّى في الفترات الجديرة بالثّناء؟ أم كانت تلك الطّقوس أجدى عند سنّها ممّا كانت عند إقامتها بعد سنّها؟ بيد أنّها لم تكن موجودة إذّاك وأضيفت لتصير جزءا من العبادة، أمّا فيما بعد فباتت موجودة وتُرعى لجلب النّفع. لماذا مرّت إذن سنوات حكم نوما الثّلاث والأربعون، أو التّسع والثّلاثون كما يريد البعض، في سلام طويل، وفيما بعد، بينما تلك الطّقوس تقام بانتظام وتحت إشراف ورعاية الآلهة نفسها الّتي كانت تدعى بتلك الطّقوس، بالكاد يمكن على مدى سنين عديدة منذ تأسيس المدينة حتّى عهد أغسطس ذكر سنة واحدة بعد الحرب البونيقيّة الأولى- وإنّها لعمري معجزة كبرى- استطاع الرّومان إغلاق بوّابة الحرب؟

 

3-10 هل كان يجب ابتغاء توسّع الدّولة الرّومانيّة بتسعير سلسلة من الحروب بينما كان يمكنها، بتوخّي النّهج المتّبع في عهد نوما أن تنعم بالدّعة والأمن

   لعلّهم سيجيبون أنّ الدّولة الرّومانيّة ما كانت لولا تلك السّلسلة المتواصلة من الحروب المتلاحقة لتتوسّع إلى ذلك الحدّ طولا وعرضا ولا أن يذيع صيتها إلى ذلك المدى؟ مبرّر وجيه حقّا! أكان لزاما، لتصير امبراطوريّة عظمى، أن تعيش في اضطراب مستمرّ؟ أليس أفضل لأجسام البشر أن تكون ذات قامة متواضعة مع الصّحّة من أن تبلغ حجما ضخما مع توعّك متواصل فلا تجد إلى الرّاحة سبيلا، بل تظلّ تعاني أسقاما كبيرة بقدر ضخامة أعضائها؟ أيّ ضير، لا بل أيّ خير عظيم كان سيحصل لو دامت تلك الفترة الّتي حوصلها سالّستيوس قائلا: "في البداية إذن، كان ملوك- ذاك اسم السّلطة على الأرض أوّل الأمر- مختلفون في شخصيّاتهم يُعملون هذا فكره وهذا بدنه، وكان النّاس يعيشون إذّاك حياة قناعة، كلّ راض بما لديه."* أكان ينبغي بالأحرى، ليمتدّ مُلكها إلى أبعد مدى، أن يحصل ما ينعيه فرجيليوس قائلا: "ثمّ تلا شيئا فشيئا عصر أردأ وأقبح، وتلت حمّى الحرب وحبُّ التّملّك."* لكنّ للرّومان بلا شكّ مبرّرا مشروعا لشنّ وخوض كلّ تلك الحروب، إذ لم تحملهم على التّصدّي لهجمات أعدائهم العتاة الرّغبة في نيل ثناء النّاس بل ضرورة حفظ حياتهم وحرّيّتهم: حسنا، ليكن كذلك. فكما يكتب سالّستيوس نفسه "بعدما نمت دولتهم بتشريعاتها وأخلاقها وأراضيها، وباتت تبدو على حظّ لا بأس به من الازدهار والغنى، وُلد من الرّفاهية الحسد. فانقضّ عليها ملوك وشعوب الجوار: ولم يهبّ لنصرتها سوى قليل من أصدقائها، وخذلها الآخرون متحاشين الخطر* خوفا. فبادر الرّومان، وكلّهم عيون يقظى في السّلم كما في الحرب، إلى الاستعداد فورا والتّحاضّ والعدو نحو العدوّ وحماية حرّيّتهم ووطنهم وأهاليهم بسلاحهم. وبعدما درؤوا بفضل شجاعتهم الأخطار، هبّوا يعينون الحلفاء والأصدقاء، ويربطون صداقات ليُسْدوا أكثر ممّا يتلقّوا جمائل."* بهذه الأساليب نمت رومية بنحو مقبول. لكن في عهد نوما، ليسود السّلام على مدى تلك الفترة الطّويلة، أكان أعداء بغاة يحاولون أن ينقضّوا ويقضوا على رومية، أم لم يحصل منهم شيء من ذلك فأمكن أن يدوم السّلام؟ إن كانت رومية تتعرّض إذّاك للتّحرّشات ولا تأخذ السّلاح لمواجهتها، أيّة أساليب استخدمت لإبقاء الأعداء هادئين دون غلبتهم في معركة بعمليّات عسكريّة؟ كان يمكن أن تستخدم دوما تلك الأساليب، وأن تعيش رومية دوما في ظلّ سيادتها بسلام وبوّابة يانوس موصدة باستمرار. أمّا إن لم يكن ذلك في مستطاعها، فرومية لم تنعم بالسّلم إذن طالما طاب ذلك لآلهتها بل لجيرانها الّذين لم يستفزّوها لحرب. اللّهمّ إلاّ إن أقدمت تلك الآلهة ربّما على بيع إنسان ما بيد إنسان آخر أن يريد أو يرفض. يهمّ فعلا تلك الشّياطين ترهيب أو تحريض النّفوس السّيّئة أصلا جرّاء رذائلها الذّاتيّة قدر ما يُسمح لها بأن تفعل. لكن لو كانت تستطيع ذلك دوما، ولم تجْرِ الأمور، بتدبير قوّة أخفى وأعلى، بخلاف مساعيها في أغلب الأحوال، لكانت بمَلْكها السّلم والحرب والانتصارات العسكريّة، الّتي تنجم في كلّ الأوقات تقريبا عن أهواء النّفوس البشريّة. لكنّها تحصل غالبا ضدّ إرادتها كما تخبرنا لا الأساطير الملأى بالأكاذيب والّتي لا تكاد تبين أو تعني ذرّة من الحقيقة فقط، بل حتّى التّاريخ الرّومانيّ.

 

3-11 في ظنّ البعض أنّ تمثال أبولّون بكومية أنبأ بدموعه بهزيمة اليونان الّذين لم يستطع إغاثتهم

   فما من مصدر آخر أُخبرنا بأنّ أبولّون الّذي بكومية ظلّ يبكي أربعة أيّام أثناء الحرب ضدّ الآخيّين وملكهم أرسطونيقوس؛ ولمّا رأى العرّافون الّذين هالتهم هذه العجيبة أن يلقى التّمثال في البحر، تدخّل شيوخ كومية ورووا أنّ نفس العجيبة ظهرت أثناء الحرب ضدّ أنطيوكوس وبرسيس على نفس التّمثال، وشهدوا بأنّ النّتيجة كانت لصالح الرّومان فأُرسلت بقرار من مجلس الشّيوخ هدايا لأبولّون. إذّاك دُعي عرّافون أحذق فأجابوا أنّ دموع تمثال أبولّون كانت لصالح الرّومان لأنّ كومية كانت مستوطنة يونانيّة، وبكاء أبولّون يعني الهزيمة والحزن لبلاده الّتي استُقدم منها أي بلاد اليونان. وما لبث أن أتى خبر هزيمة وأسر الملك أرسطونيقوس الّذي كان أبولّون يكره وينعي غلَبه مبديا أساه بدموعه الحجريّة. نرى من هنا أنّ أناشيد الشّعراء، الخرافيّة واللاّعقلانيّة لا محالة، والشّبيهة مع ذلك بالحقيقة صوّرت سلوكيّات الشّياطين؛ فعند فرجيليوس بكت ديانة كامِلّة وهرقلُ بالاّسَ المحتضر. ربّما أتى من هنا أنّ نوما بمبليوس الّذي نَعِم بسلم طويلة دون معرفة مانحها ولا البحث عنه، لمّا راح يفكّر في فراغه في أيّة آلهة يوكّل بحماية سلامة ومُلك رومية، ظنّ الإلهَ الحقَّ العليَّ القديرَ غير معنيّ بهذه الأمور الدّنيويّة، وتذكّر أنّ آلهة طروادة الّتي جلبها أيناس معه لم تستطع أن تحفظ طويلا مُلك طروادة ولا مُلك لاوِنيوم الّذي أسّسه أيناس نفسه، رأى أن يأتي بآلهة أخرى أضافها إلى الأولى الّتي انتقلت مع رومولوس إلى رومية أو ستنتقل إليها بعد تدمير ألبة، لرعاية الملهوفين وغوث المستضعفين.

 

3-12 كم أضاف الرّومان من الآلهة  إلى الّتي نصّبها نوما فلم تجْدهم كثرتها نفعا

   مع ذلك لم تقبل رومية الاكتفاء بتلك الطّقوس العديدة الّتي وضعها لها بمبليوس. إذ لم يكن ليوبتر نفسه بعد معبده المنيف، والملك تركوينيوس هو الّذي شاد فيها الكابتوليوم، كذلك هاجر أسكولابيوس من إبيدوروم إلى رومية  ليمارس كطبيب نطاسيّ في المدينة المكرّمة فنّه العظيم، وكذلك أمّ الآلهة من  معقلها النّائي ببسّيننتة، إذ لم يكن لائقا أن يتربّع ابنها على عرش الكابتوليوم بينما تظلّ هي نفسها حتّى ذلك الوقت مختفية في مخبئ مجهول. لكن إن تكن أمّ الآلهة، فإنّها لم تتبع فقط إلى رومية بعضا من أبنائها، بل سبقت إليها كذلك آخرين لاحقين. وإنّي لأعجب حقّا إن ولدت كينوكيفالوس الّذي قدم من مصر بعدها بأمد طويل. أمّا هل وُلدت منها هي كذلك الإلهة فبريس، فمسألة يعود النّظر فيها إلى حفيدها أسكولابيوس؛ على أيّة حال أيّا كانت أمّها لن تجرؤ في ظنّي الآلهة الغريبة اعتبار إلهة مواطنة رومانيّة وضيعة المحتد. تحت رعاية هذا الكم الهائل من الآلهة- وهل بوسع أحد إحصاؤها، ما بين محلّيّة ومستوردة*، ومن سماويّة وأرضيّة وسفليّة وبحريّة ونبعيّة ونهريّة، وكما يقول وارّون ثابتة وظنّيّة، ومن كلّ فئة منها كما في الحيوانات ذكريّة وأنثويّة-، تحت ذلك الكم من الآلهة إذن وُضعت رومية، فكان من المفروض ألاّ تهزّها وتلمّ بها كلّ تلك المصائب الكبيرة والفظيعة الّتي سأذكر من كثرتها عددا قليلا. فلقد حشدت رومية بدخانها الكبير المرسل كإشارة تجمّع كثرةً مهولة من الآلهة، وهي بإقامة وتقديم معابد ومذابح وأضاح وكهنة لها، أغضبت الله الحقّ العليّ الّذي له وحده تجب العبادات شرعا. ولا شكّ أنّها عاشت أسعد بعدد أقلّ منها لكنّها بقدر ما كبرت رأت من اللاّزم جلب المزيد كالنّوتيّة للسّفينة، يأسا في ظنّي من أن يكفي لمساعدة عظمتها العدد الأقلّ الّذي عاشت تحت حمايته بحال أفضل مقارنة بحياتها السّوءى لاحقا. فأوّلا حتّى تحت حكم الملوك، باستثناء نوما بمبليوس الّذي تحدّثت عنه سابقا، كم نخرها داء الشّقاق والتّنافس الّذي سبّب قتل أخ رومولوس.

 

3-13 بأيّ حقّ وبأيّة اتّفاقيّة عقد الرّومان زيجاتهم الأولى

   كيف لم تستطع يونون الّتي باتت مع بعلها يوبتر "ترعى الرّومان أسياد العالم، والأمّة الملتفعة بالتّوجة"*، ولا فينوس نفسها مساعدة نسل أيناس على الحصول على زوجات وفق الأعراف القويمة السّليمة، فانجرّت عن نقص النّساء المذكور كارثة كبرى، فقد اختطفوهنّ بالحيلة واضطرّوا إثر ذلك إلى محاربة أحمائهم، بحيث كان على البنات التّعيسات قبل أن يطيب خاطرهنّ لأزواجهنّ من الإساءة الأولى أن "يُمهرن بدم آبائهنّ"*؟ صحيح أنّ الرّومان في هذا النّزاع غلبوا جيرانهم*، لكن بكم من الجراح وبقتل كم من أقاربهم وجيرانهم حقّقوا ذلك الانتصار! بسبب حم واحد، قيصر، وزوج واحد، صهره بمبيوس، ماتت بنت قيصر زوجة بمبيوس حتّى قبل الحرب، وبأيّة نبرة أسى مشروعة يتألّم لوقانوس: "نتغنّى بالحرب الأفظع من حرب أهليّة، الّتي دارت رحاها على سهول إماطية والشّرعيّة الممنوحة للجريمة"*. انتصر الرّومان إذن، لينتزعوا وأيديهم مضرّجة بدماء أحمائهم عناقات بائسة من بناتهم اللاّئي ما كنّ يجرؤن على بكاء آبائهنّ القتلى مخافة إغاظة أزواجهنّ المنتصرين، وقد كنّ أثناء المعركة إلى حين عودتهم لا يدرين لأيّ الفريقين يدعوْن بالانتصار. أعدّت الشّعب الرّومانيّ لمثل تلك الزّيجات لا فينوس بل بلّونة، أو ربّما أبيح لألّكتو جنّيّة النّقمة الجهنّميّة أن تفعل به وقد بات يحظى برضى يونون أكثر ممّا فعلت لمّا أثارتها قديما بتحريضاتها ضدّ أيناس.

   كانت أندروماكة أحسن حظّا بأسرها منهنّ باقترانهنّ بأزواجهنّ الرّومان. فلئن صارت أمة، إلاّ أنّ بيرّوس بعدما ضمّتها ذراعاه لم يقتل أيّا من الطّرواديّين، بينما مضى الرّومان يقتّلون في معارك أحماءهم الّذين كانوا يعانقون بناتهم في مضاجعهم. وبينما أمكنها بعد استسلامها للمنتصر أن تبكي فقط، لا أن تخشى، موت ذويها*، كنّ لارتباطهنّ بالمتحاربين يخفن عند ذهاب أزواجهنّ موت آبائهنّ، ويتألّمن لها عند عودتهم، ولا يستطعن إبداء خوفهنّ ولا ألمهنّ. وما كان أمامهنّ سوى الالتياع ببرّ لمقتل مواطنيهنّ وأقاربهنّ، إخوتهنّ وآبائهنّ، أو الابتهاج بوحشيّة بانتصارات بعولتهنّ. ولمّا كانت الحرب سجالا، كان يحدث أن تفقد بعضهنّ آباءهنّ بسيوف أزواجهنّ، وأخريات آباءهنّ وأزواجهنّ معا بسيوف الفريقين.

   فعلا لم تكن الأضرار طفيفة في صفوف الرّومان؛ فقد آل الأمر إلى حصار مدينتهم، واعتصامهم داخلها بغلق أبوابها؛ وبعدما فتحها الأعداء بحيلة وولجوا داخل الأسوار دارت معركة أثيمة وفظيعة في ميدان المدينة بين الأصهار والأحماء، وانهزم الخاطفون بدورهم وفرّوا أفواجا إلى بيوتهم ملطّخين بمزيد من الخزى انتصاراتهم السّابقة الخليقة بالخجل والرّثاء أصلا. وإذ يئس رومولوس من شجاعة جماعته، دعا يوبتر أن يوقف فرارهم ويثبّت أقدامهم، وخلع عليه بهذه المناسبة لقب "المثبّت" Stator. ولم يوضع حدّ لاندحارهم إلاّ لمّا هرعت المخطوفات وقد مزّقن شعورهنّ فجثين أمام أقدام آبائهنّ وسكّنّ غضبهم المشروع لا بحدّ القنا الظّافرات بل باستعطاف البنات البارّات. ثمّ اضطرّ رومولوس إلى تحمّل ملك السّابينيّين تيطس طاتيوس شريكا له في الحكم، هو الّذي لم يطق أخاه شريكا: فكيف يقبل به وهو لم يحتمل شقيقه التّوأم؟ لذا وبعد قتله هو كذلك انفرد بالحكم ليصير من الآلهة الكبرى. فأيّة عقود نكاح تلك وأيّة مناخيس حروب وأيّة مواثيق ومصاهرة وشراكة وألوهة وأيّة حياة للمدينة* لاحقا تحت رعاية ذلك الكم الهائل من الآلهة؟ تَرى كم يمكن أن نجد هنا ونقول من العبر، لو لم يكن علينا الاهتمام ببقيّة جوانب بحثنا والمبادرة فورا إلى الحديث عن مسائل أخرى.

 

3-14 في الطّابع الأثيم للحرب الّتي شنّها الرّومان على الألبيّين والنّصر الّذي حقّقه لهم حبّ السّيطرة

   ماذا حدث بعد نوما تحت الملوك الآخرين؟ أيّ ويل وقع لا على الألبيّين فقط بل كذلك على الرّومان لمّا شنّوا عليهم الحرب، بعدما ضاقوا على الأرجح بسلم نوما الّتي دامت على مدى تلك المدّة الطّويلة! أيّة مجازر متلاحقة منيت بها جيوش رومية وألبة حتّى باتت المدينتان مهدّدتين بالانقراض! إزاء استفزاز الملك تلّوس هُستِليوس، اضطرّت ألبة الّتي أنشأها أسكنيوس بن أيناس والّتي هي أمّ لرومية أقرب حتّى من طروادة إلى القتال، وفي القتال ضُربت وضربت، إلى أن كلّ الجانبان من تلك الصّراعات الطّويلة، فبدا لهما أن يحدَّد مآل الحرب بمبارزة بين ثلاثة إخوة من كليهما. انبرى من الرّومان الإخوة الثّلاثة هوراتيوس ومن الألبيّين الإخوة الثّلاثة كورياتيوس؛ فهُزم وقُتل اثنان من الإخوة هوراتيوس على أيدي الإخوة كوراتيوس، ثمّ الإخوة كوراتيوس ثلاثتهم على يد ثالث الإخوة هوراتيوس. هكذا خرجت رومية منتصرة من تلك المعركة، لكن في صراع في منتهى الفظاعة: فمن أصل ستّة أشخاص عاد واحد إلى بيته سالما. وعلى من الخسار في كلا الجانبين، وعلى من الحداد، سوى نسل أيناس وسلالة أسكنيوس، سوى ذرّيّة فينوس وحفدة يوبتر؟ هذا أيضا كان أسوأ من حرب أهليّة، حيث قاتلت مدينة بنت مع المدينة الأمّ. وقد حصل في هذا الصّراع النّهائيّ بين فريقين من الإخوة أمر فظيع وشنيع. ذلك أنّ الشّعبين كانا من قبل صديقين، ولا غرو فبينهما أواصر جوار وقربى، فكانت أخت هوراتيوس خطيبة أحد الإخوة كورياتيوس، فلمّا رأت أسلاب خطيبها* بكته، فقُتلت على يد أخيها قاتله. كانت مشاعر هذه المرأة وحدها أكثر إنسانيّة في رأيي من الشّعب الرّومانيّ بأجمعه: فبإخلاصها لرجل ربطها به عهد مشروع، أو ربّما كذلك بأسفها لأخيها الّذي قتل من كان قد وعده بأخته، لم تذنب في بكائها حسبما أرى. وإلاّ فلِم يثنى في ملحمة فرجيليوس على أيناس الدّيّن لأساه على عدوّه الّذي قتله بيده؟* ولِم لم يتمالك مركلّوس نفسه لمّا تذكّر مجد ورفعة سرقوسة قبيل إحلال الدّمار بها بيديه إذ فكّر في حال عامّة* الأهالي عن البكاء رثاء لهم؟ فرجاء، باسم المشاعر الإنسانيّة، لا تجرَّمنّ امرأة بكت خطيبها القتيل بيد أخيها، ما دام قد نال الثّناءَ كذلك بكاءُ رجال على أعداء هزموهم بأيديهم! بينما راحت تلك المرأة تبكي مصرع خطيبها على يد أخيها، كانت رومية تتهلّل فرحا بحربها الضّروس ضدّ مدينة هي أمّها، وبانتصارها بعد إراقة كلّ تلك الدّماء من الجانبين. لم التّذرّع لي باسم المجد وباسم النّصر؟ لننْض حجب الرّأي السّائد الأخرق، ولننظر إلى الجرائم عارية، ولنزنْها عارية، ولنحكمْ عليها عارية. ليُذكرْ جرم ألبة كما كان يُذكر زنا طروادة: لا يوجد شيء من ذلك ومن قبيله، فلتحريك السّواكن فقط "دعا تولّوس إلى السّلاح الرّجال والصّفوف الّتي قدُم بها العهد على الانتصارات."* هذه الرّذيلة وحدها أصل جريمة الحرب مع الأحماء والأقرباء، وهي رذيلة كبرى يشير إليها سالّستيوس إشارة عابرة. فبعدما ذكر باقتضاب وامتدح العصور القديمة لمّا "كان النّاس يعيشون حياة قناعة، كلّ راض بما لديه"، قال: "لكن بعدما  بدأ قورش في آسية واللّخدمونيّون والأثينيّون في بلاد اليونان يُخضعون المدن والأمم، ويتّخذون حبّ السّيطرة تعلّة للحرب، ويرون غاية المجد في اتّساع الملك إلى أقصى الحدود"*، وأمورا أخرى مضى في عرضها. من جهتي يكفيني تضمين أقواله السّابقة. حبّ السّيطرة ذاك يهزّ ويسحق الجنس البشريّ بكُرب عظام: فرومية الّتي غلبها حبّ السّيطرة كانت تتباهى إذّاك بغلبتها ألبة وتدعو مجدا إشادتها بجريمتها. "إذ الخاطئ يفتخر بشهوات نفسه والصّانع الإثم يباركه النّاس"* كما يقول كتابنا المقدّس. فلنُزل الأقنعة الزّائفة والتّبييض الخادع عن الوقائع لنلقي عليها نظرة صادقة متفحّصة. لا يقلْ لي أحد: عظيم ذاك أو ذاك لأنّه قاتل وغلب ذاك وذاك. فالمجالدون يقاتلون ويغلبون هم أيضا، ولهذا الفنّ من الوحشيّة أيضا نصيبه من الإشادة. لكن أرى التّعرّض لأيّ نوع من العقاب على الخمول أفضل من نشدان مجد تلك الأسلحة. مع ذلك لو تقدّم إلى الحلبة مجالدان ليقتتلا، أحدهما الولد والآخر والده، من يطيق مشهدا كذلك؟ من لا يسارع بإلغائه؟ كيف أمكن إذن أن يمجَّد صراع مسلّح بين مدينتين، إحداهما أمّ والأخرى ابنتها؟ أم اختلف الأمر لأنّ لا حلبة هناك بل ميادين رحبة غطّتها لا جثّتا مجالديْن بل جثث عديد المقاتلين من شعبين، ولا مدرّج يطوّق تلك الصّراعات بل كان ذلك الاستعراض الأثيم يقدَّم للعالم أجمع ولأناس ذلك العصر وخلفهم حيثما ذاع خبره؟

   مع ذلك كانت تلك الآلهة، راعية مُلك الرّومان المتفرّجة على تلك الصّراعات كالنّظّارة في المسارح، تعاني ضيقا لعدم تحقّق مبتغاها تماما، إلى أن أضيفت أخت هوراتيوس بسيف أخيها إلى أخويْها، إذ كان لا بدّ مقابل القتلى الثّلاثة من آل كورياتوس من ضحيّة ثالثة في الجانب الآخر، كيلا يكون لرومية من الموتى أقلّ من المدينة الّتي هزمت. ثمّ كمكسب لذلك النّصر دُمّرت ألبة، هناك حيث اتّخذت الآلهة الطّرواديّة، بعد إليوم الّتي دمّرها اليونان، وبعد لاونيوم أين أقام أيناس دويلة من الأغراب والفارّين، محلّ سكناها الثّالث. لكن لعلّها هاجرت هذه المرّة أيضا وفق عادتها، فدمِّرت المدينة. لا شكّ أنّها "انسحبت جميعا، متخلّية عن المذابح والهياكل، الآلهة" الّتي قامت عليها تلك الدّولة. ها هي قد انسحبت للمرّة الثّالثة، لتوكل إليها روميةُ بتبصّر منقطع النّظير مُقاما رابعا. إذ كانت تستاء من ألبة حيث حكم أموليوس بعد طرد أخيه، وترتاح لرومية حيث حكم رومولوس بعد قتل أخيه. قد يُعترض بأنّ شعب ألبة رُحّل قبل تدميرها إلى رومية لتكوَّن من المدينتين مدينة واحدة. ليكن، لنسلّم بأنّ ذاك ما تمّ فعلا. مع ذلك فإنّ تلك المدينة الأمّ، مملكة أسكنيوس وثالث مقرّ للآلهة الطّرواديّة، دُمّرت من قبل ابنتها؛ كذلك ليُصهر ما أبقت الحرب من الشّعبين في شعب واحد جُمّع بنحو يثير الرّثاء أريق دم غزير من الجانبين. لِم الحديث بالتّفصيل بعد الّذي تقدّم عن الحروب المتعدّدة المتجدّدة تحت الملوك الآخرين، المنهاة في الظّاهر بانتصارات، والمجراة مرّة إثر أخرى  بعديد المجازر، والمعادة مرّة إثر أخرى بعد الصّلح والسّلم بين الأصهار والأحماء وذرّيّتهم وحفدتهم؟ فما بقليل دليلا على تلك الآفة أنّ لا أحد منهم أغلق بوّابة الحرب، ولا أحد منهم إذن مَلك في كنف السّلام تحت رعاية كلّ تلك الآلهة.

 

3-15 كيف كانت حياة ونهاية الملوك الرّومان

   لكن كيف كانت ترى نهاية أولئك الملوك؟ عن رومولوس لنر الأسطورة التّمجيديّة القائلة إنّه قُبل بين آلهة السّماء، ولنر بعض كتّابهم القائلين إنّ مجلس الشّيوخ مزّقه إربا بسبب وحشيّته، ثمّ رشا رجلا يقال له يوليوس بروكولوس ليزعم أنّه ظهر له وأوصاه للشّعب الرّومانيّ بأن يعبده بين آلهته، فأمكن بذلك احتواء وتهدئة غضب الشّعب الّذي بدأ يتململ ضدّ مجلس الشّيوخ. واتّفق أن حدث كذلك كسوف للشّمس، فنسبه العوامّ، في جهلهم بأنّه وقع وفق قانون سيرها الثّابت، لكرامات رومولوس. كما لو لم يكن الأوْلى الظّنّ، إن عُدّ ذلك حدادا للشّمس، بأنّه يعود لاغتياله، وأنّ احتجاب ضوء النّهار يشير إلى تلك الجريمة. ذلك ما حدث فعلا لمّا صُلب المسيح بفعل وحشيّة وكفر اليهود، والدّليل على أنّ إظلام الشّمس لم يحدث وفق قوانين حركة الأجرام السّماويّة وقوعه في عيد الفصح اليهوديّ الّذي يحتفلون به والبدر تمّ بينما يقع كسوف الشّمس حسب القوانين الفلكيّة في فترة المحاق*. شيشرون هو الآخر يُفهمنا أنّ قبول رومولوس بين الآلهة أمر ظنّيّ أكثر ممّا هو واقع ثابت لمّا يمدحه في كتاب الجمهوريّة وعلى لسان شبيون قائلا: "اكتسب من الصّيت ما جعل النّاس يظنّونه، لمّا أظلمت الشّمس واختفت فجأة، انضمّ إلى عداد الآلهة، وهو اعتقاد لم يستطع أيّ بشر نيله إلاّ بفضل عظيم."* أمّا قوله إنّها اختفت فجأة فيجب أن يُفهم منه بالتّأكيد أنّ السّرّ يكمن في عنف عاصفة أو جريمة قتل، إذ يضيف بعض كتّابهم الآخرين إلى احتجاب الشّمس عاصفة فجائيّة لا شكّ أنّها قدّمت فرصة للجريمة أو أهلكت هي نفسها رومولوس.

   عن تولّوس هستليوس، ثالث ملك بدءا من رومولوس، والّذي حملته صاعقة هو الآخر، يقول شيشرون في نفس الكتاب أنّ النّاس "لم يظنّوه هو أيضا قُبل بين الآلهة بسبب تلك الميتة، ربّما لأنّ الرّومان لم يشاؤوا تعميم ما كانوا واثقين منه، أعني مقتنعين به، في حال رومولوس، ومن ثمّة جعله مبتذلا، إن تساهلوا في إسناده لهذا وذاك."* يقول كذلك صراحة في إحدى خطبه التّشهيريّة: "لقد رقّينا رومولوس مؤسّس هذه المدينة إلى مصافّ الآلهة إنعاما وإشادة"* ليبيّن أنّ ذلك لم يقع حقّا وإنّما اُعلن وأذيع في الآفاق اعترافا بفضله. على أنّه في حوار "هرتنسيوس" في معرض حديثه عن كسوفات الشّمس طبق القوانين الفلكيّة يقول: "لإحداث نفس الظّلمة الّتي حدثت عند موت رومولوس، إذ تزامن مع إظلام الشّمس.*" هنا على الأقلّ لم يخش الحديث عن موت الرّجل إذ بدا مفكّرا أكثر منه مدّاحا.

   أمّا ملوك شعب رومية الآخرون، باستثناء نوما بمبيليوس وأنكوس مرقيوس اللّذين ماتا بمرض، فأيّة ميتات شنيعة كانت نصيبهم! فتُلّوس هستليوس غالب ومدمّر ألبة أُحرق كما ذكرتُ بصاعقة مع بيته بكامله. وقُتل تركوينيوس برسكوس بأيدي ابني سَلفه. واغتيل سرويوس تُلّيوس في جريمة نكراء من تدبير صهره تركوينيوس المتكبّر الّذي خلفه في الحكم. وما "انسحبت متخلّية عن المذابح والهياكل آلهة" رومية إزاء جريمة القتل المقترفة ضدّ الأفضل بين ملوك شعبها، هي الّتي يقال إنّها في نقمتها على زنا فارس فعلت ذلك لطروادة البائسة، وتركتها لليونان يعيثون فيها تخريبا وتحريقا؛ بل فوق ذلك خلف تركوينيوس حماه الّذي اغتاله بيده. شهدت تلك الآلهة ذاك القاتل الزّنيم يتولّى ملك رومية بعد اغتيال حميه، ويتمجّد بحروبه وانتصاراته العديدة، ويشيد من غنائمه# الكابتوليوم، شهدت ذلك وهي حاضرة ملازمة معابدها لم تهجرها، ولم يزعجها أن يرأسها ويحكمها ملكها يوبتر المنتصب في معبده السّامق، أي في مبنى شاده قاتل أثيم. إذ لم يبن الكابتوليوم وهو لا يزال خلوا من الآثام، ثمّ أُطرد لاحقا من المدينة جزاء جرائمه، بل وصل أصلا بجريمة نكراء إلى الحكم الّذي شاد أثناءه الكابتوليوم. لكن لمّا خلعه الرّومان فيما بعد من الحكم ونبذوه خارج مدينتهم بسبب اغتصاب لكريتية، لم يكن ذلك ذنبه بل ذنب ابنه الّذي اقترفه لا بدون علمه فقط، بل وفي غيابه: حيث كان يومذاك يحاصر مدينة أردية ويقود حربا لأجل الشّعب الرّومانيّ. لا ندري ماذا كان سيفعل لو أحيط علما بمخزية ابنه؛ مع ذلك دون استطلاع رأيه ولا العلم به انتزع الشّعب الرّومانيّ منه الحكم، وبعدما استقبل الجيش الّذي أمره بالتّخلّي عنه، أغلق الأبواب لمنعه من الدّخول عند عودته. بيد أنّه بعد حروب ضارية سحق الرّومان بعدما ألّب عليهم جيرانهم؛ ثمّ بعدما تخلّى عنه من كان يعوّل على عونهم فلم يستطع استعادة ملكه، قضى، على ما يقال، لمدّة أربع عشرة سنة في بلدة تُسكلوم بجوار رومية، حياة فرد عاديّ في دعة، وشاخ فيها مع زوجته، وربّما كانت نهايته أفضل من ميتة حميه المقتول بيد صهره وعلى ما يقال بعلم ابنته. مع ذلك لم يدْع الرّومان تركوينيوس الوحشيّ ولا المجرم بل المتكبّر، ربّما لأنّهم لم يحتملوا خيلاءه الملكيّة بسبب كبريائهم الخاصّة. فقد استهانوا بجريمة قتل حميه زيْن ملوكهم إلى حدّ تمليكه عليهم. فواعجبا إن لم يكن جرماً أعظم جزاءُ جرم عظيم بمثل تلك المكافأة العظمى! كلّ ذلك وما "انسحبت متخلّية عن المذابح والهياكل آلهتهم"، اللّهمّ إلاّ إن قال أحد لتبريرها إنّها بقيت برومية ليمكنها أن تعاقب بأنكالها أكثر ممّا تساعد بأفضالها الرّومان، بغوايتهم بالانتصارات الزّائفة وسحقهم بالحروب الطّاحنة.

   تلك كانت حياة الرّومان تحت الملوك في تلك الفترة الغرّاء من تاريخ دولتهم إلى غاية إقصاء تركوينيوس المتكبّر زهاء ثلاث وأربعين ومائتي سنة، سمحت خلالها كلّ تلك الحروب والانتصارات الممهورة بدماء جِمام وخطوب جسام، بتوسّع الدّولة عشرين ميلا بالكاد حول المدينة، وهي مساحة حاشا أن تقارَن اليوم حتّى برقعة أيالة من حجم قيتولة*.

 

3-16 في القنصلين الرّومانيّين الأوّلين اللّذين أخرج أحدهما الآخر من الوطن وما لبث بعد قتل أقاربه أن مات جريحا بيد عدوّ جريح

   لنضفْ إلى هذه الحقبة تلك الفترة الّتي ساد فيها حقّ عادل وقويم على حدّ قول سالّستيوس، لمّا خيّم الخوف من تركوينيوس وضربت حرب رهيبة مع إترورية أطنابها؛ فعلى امتداد مساعدة الإترسكيّين لتركوينيوس في جهوده لاستعادة الحكم، زعزعت رومية حروب رهيبة. لذا يقول إنّ الدّولة سيست على أساس "حقّ عادل وقويم" تحت وطأة الخوف لا امتثالا لصوت العدل. في تلك الفترة الوجيزة كم كانت نحسة تلك السّنة الّتي عُيّن فيها أوّل قنصلين بعد إلغاء الحكم الملكيّ! فإنّهما لم ينهيا سنتهما؛ إذ أقصى يونيوس بروتوس عن المدينة زميله لوقيوس تركوينيوس كُلاّتينوس، ثمّ ما لبث بدوره أن مات في الحرب متأثّرا بجراح عدوّ أوقع به مثلها؛ وكان قد قتل قبل ذلك ابنيه وأختانه بعدما علم بتآمرهم لإعادة تركوينيوس إلى الحكم. وهي فعلة يذكرها فرجيليوس ممتدحا ثمّ يستشنعها فورا مستجيبا لصوت الرّحمة؛ فقد قال: "لم ير الأب بدّا، حيال دسائس بنيه لإثارة حروب جديدة، من إيقاع العقاب عليهم لأجل الحرّيّة الغرّاء"، ثمّ ما لبث أن هتف بتأثّر: "يا لشقائه، أيّا كان حكم النّشء على هذه الفعال!" يقول إذن: أيّا كان حكم الأجيال القادمة على تلك الوقائع، أي مهما قرّظته ومجّدته، شقيّ حقّا قاتل بنيه. ثمّ من باب تعزية ذلك الأب الشّقيّ يردف: "غلب فيه حبّ الوطن وظمأ لامحدود للأمجاد."* ألا يبدو في بروتوس هذا الّذي قتل ابنيه ولم يستطع البقاء حيّا بعد عدوّه ابن تركوينيوس الّذي سدّد له وتلقّى منه طعنة مردية، وبقي تركوينيوس نفسه حيّا بعده، كأنّما ثُئر لبراءة زميله المواطن الصّالح الّذي تعرّض، بعد إبعاد تركوينيوس، لنفس الإجراء؟ يقال فعلا إنّ بروتوس نفسه ذو قرابة بتركوينيوس، وإنّما أضرّ بكلاّتينوس لا شكّ شبه اسمه باسم الملك المخلوع، إذ كان يدعى هو أيضا تركوينيوس. كان يمكن إجباره على تغيير اسمه لا وطنه، وحذف هذه النّسبة من اسمه* بحيث يدعى لوقيوس كلاّتينوس. لكن لم يُتح له فقدان ما يمكنه بدون ضرر فقدانه لإزاحة أوّل قنصل من منصبه وحرمان مواطن صالح من وطنه. أفكان مجدا أيضا ليونيوس بروتوس بغيه المنكر والّذي لا نفع فيه للجمهوريّة؟ أليقترفَ ذلك البغيَ أيضا "غلب فيه حبّ الوطن وظمأ لامحدود للأمجاد؟" يلاحَظ هنا أنّ لوقيوس تركوينيوس كلاّتينوس زوج لكريتية عُيّن قنصلا مع بروتوس إثر إبعاد الطّاغية تركوينيوس؛ فكم أنصف الشّعبُ إذ اعتبر في مواطن خلقه لا اسمه، وكم بغى بروتوس إذ جرّد زميله في تلك السّلطة العليا الجديدة، الّذي كان يمكنه تجريده من اسمه فقط إن كان يضايقه، من وطنه ومنصبه معا! حصلت هذه الأسواء ووقعت هذه الأدواء لمّا كان يسود تلك الدّولة "حقّ عادل وقويم"! لُكرتيوسُ هو الآخر، الّذي عُيّن عوضا عن بروتوس، مات بمرض قبل انتهاء نفس السّنة. هكذا أنهى ببليوس والريوس الّذي خلف كلاّتينوس ومرقس هوراتيوس الّذي عُيّن عوضا عن لكرتيوس إثر وفاته تلك السّنة النحسة المشؤومة الّتي شهدت خمسة قناصل والّتي افتتحت فيها الجمهوريّة الرّومانيّة خطّة وسلطة القنصليّة الجديدةَ.

<<