القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الخامس

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الخامس

توطئة

   واضح أنّ بلوغ كلّ الأماني بالتّمام جوهر السّعادة الّتي ليست إلهة بل هي هبة من الله، وليس على البشر إذن أن يعبدوا أيّ إله سوى من بيده أن يهبهم السّعادة، ومن ثمّة لو كانت السّعادة إلهة لقلنا إنّها وحدها تستحقّ العبادة. بناء على ذلك، لننظر الآن لماذا شاء الله القادر على منح تلك الخيرات الّتي يمكن أن ينالها كذلك من هم غير صالحين- ولا سعداء بالتّالي- أن تكون الامبراطوريّة الرّومانيّة بمثل ذلك الامتداد وذلك الدّوام. فما فعلت ذلك يقينا تلك الكثرة من الآلهة الّتي كانوا يعبدون، قلنا ذلك مرارا وسنعيده كلّما بدا لنا مناسبا أن نعيده.

 

5-1 في أنّ سبب قيام الامبراطوريّة الرّومانيّة وكلّ الممالك لا يعود إلى الصّدفة ولا إلى مواقع النّجوم

   ليس عِظم الامبراطوريّة الرّومانيّة إذن عرضيّا عائدا إلى الصّدفة ولا حتميّا منوطا بالأقدار وفق رأي أو ظنّ من يدعون عرضيّا ما لا سبب له أو لم يأت من نسق عقلانيّ، وحتميّا ما يحصل ضرورة بمقتضى ترتيب خارج عن مشيئة الله والبشر. لا شكّ أنّ العناية الإلهيّة تنشئ الممالك البشريّة، فإن نسب أحد ذلك للقدر لأنّه يطلق على مشيئة أو قدرة الله اسم القدر فليحتفظ بمقولته وليصلح لغته. فعلا لماذا لا يقول منذ البدء ما سيقول لاحقا إن سئل عن معنى القدر؟ فإنّ النّاس لمّا يسمعون ذلك يفهمونه بالمعنى المتداول، أي تأثير وضع النّجوم كما كان بالنّسبة لشخص ما عند تكوّن نطفته أو عند ولادته، وهو ما يخرجه بعض عن إرادة الله ويؤكّد بعض أنّه تابع لها. فأمّا من يتصوّرون أنّ النّجوم، باستقلال عن إرادة الله، تقرّر ما نفعل أو ما نتلقّى من خيرات وما نتعرّض له من شرور فيجب منعهم من تسميم أسماع النّاس، لا أتباع الدّين الحقّ فقط بل حتّى من يختارون عبادة أيّة آلهة وإن تكن زائفة، إذ هل من أثر لهذا الرّأي سوى صدّ أيّ أحد عن عبادة أو دعاء أيّ إله؟ لكن ما ضدّ هؤلاء بل ضدّ من يعارضون الدّين المسيحيّ دفاعا عن آلهتهم نوجّه الآن نقاشنا. وأمّا من يعتبرون وضع النّجوم الّتي تقرّر في تصوّرهم بنحو ما سيرة كلّ شخص وما يصيب من خير أو ما يمسّه من سوء تابعا لمشيئة الله، إن كانوا يحسبون النّجوم تملك تلك القدرة المستمدّة من قدرته العليا على تقرير تلك الأمور حسب مشيئتها فإنّهم يلحقون بالسّماء إساءة كبرى، إذ يتصوّرون في ما يحكي فيها مجلسا ساطعا ومجمعا لامعا قرارات بتنفيذ جرائم لو قرّرت مثلها مدينة على الأرض لقرّر الجنس البشريّ تدميرها؛ ثمّ أيّ حكم يُترك لله على أفعال البشر إن رُدّت إلى حتميّة منوطة بالسّماء، والحال أنّه هو الآخذ بناصية السّماء والبشر؟ فإن لم يزعموا أنّ النّجوم بسلطان أوتيته لا جرم من الله العليّ القدير تقرّر تلك الوقائع بإرادتها، وإنّما تنفّذ وهي تملي تلك الأحداث الحتميّة قراراته بالكامل، فليفكّروا: أيجوز أن نتصوّر بهذا النّحو عن الله ذاته ما استشنعنا تصوّره عن إرادة النّجوم؟ فإن قيل إنّ النّجوم تنمّ على تلك الوقائع ولا تُحدثها، بحيث تكون مواقعها بمثابة لغة تبين عن المستقبل دون إحداثه، وهو ما ذهب إليه فعلا أناس على قدر من العلم غير يسير، فإنّ المنجّمين في الحقيقة لا يتكلّمون عادة بهذه الطّريقة، قائلين مثلا: "المرّيخ في هذا الوضع يشير إلى جريمة قتل" وإنّما "يحدث جريمة قتل". لنسلّم مع ذلك بأنّهم لا يتكلّمون كما ينبغي، وأنّ عليهم أن يأخذوا من الفلاسفة أسلوبهم في الكلام للإنباء بتلك الأحداث الّتي يدّعون أنّهم اكتشفوها في مواقع النّجوم. ما السّبب إذن في أنّهم لم يستطيعوا قطّ أن يفسّروا لماذا توجد غالبا في حياتيْ توأمين وأعمالهما وإنجازاتهما ومهنتيهما ومهاراتهما ومكانتيهما وفي بقيّة جوانب الحياة الإنسانيّة بل وحتّى في الموت اختلاف كبير حتّى لتجدنّ أناسا كثيرين لا يمتّون إليهما بصلة أكثر شبها بهما في تلك الجوانب منهما فيما بينهما مع أنّ فارقا زمنيّا قصيرا جدّا يفصل بينهما في الميلاد، ناهيك أنّ نطفتيهما بُذرتا بنفس العمليّة وفي نفس اللّحظة!

 

5-2 في تشابه واختلاف الحالة الصّحّيّة للتّوائم

   يروي شيشرون أنّ أبقراط الطّبيب المشهور سجّل أنّه لمّا لاحظ كيف أصاب مرض أخوين في نفس الوقت، واشتدّ في نفس الوقت وخفّ في نفس الوقت داخله شكّ في أنّهما توأمان. أمّا بوسيدونيوس الرّواقيّ المولع بالتّنجيم فاعتاد تفسير ظاهرة كتلك بتأكيد أنّهما كُوّنا في الرّحم وولدا تحت نفس البرج. هكذا إذن ما كان الطّبيب يعتقد أنّه آت من تشابه الأمزجة يردّه ذلك الفيلسوف الفلكيّ إلى تأثير النّجوم ووضعها عند تكوّن النّطفة أو الولادة. في هذا الباب تبدو فرضيّة الطّبيب أجدر حقّا بالقبول ولدى الفحص عن كثب أقرب إلى التّصديق، فجائز أن تكون حالة الأبوين الجسديّة ساعة الجماع أثّرت على ابنيهما منذ بداية تكوينهما، وبنموّهما المتشابه المستمدّ من جسم أمّهما لاحقا وُلدا ببنية متشابهة، ثمّ غُذّيا بنفس الأطعمة في بيت واحد، فكما يؤكّد الطّبّ يمارس الهواء ومحلّ السّكنى وخصائص المياه تأثيرا قويّا، إيجابيّا أو سلبيّا، على الجسم، وأمكن بالتّالي أن تؤدّي نفس الظّروف المعيشيّة إلى مرضهما في نفس الوقت. أمّا إرادة أن يكون وضع السّماء والنّجوم ساعة تكوينهما أو ولادتهما قد جرّ إلى إصابتهما معا بنفس المرض، بينما أمكن أن تكوَّن وتولد في نفس الوقت ونفس رقعة الأرض الواقعة تحت نفس كسفة السّماء كائنات عديدة مختلفة أنواعها ومختلفة طاقاتها ومختلفة مجاري حياتها. نحن من جانبنا نعرف توائم لم تختلف أعمالهم وأسفارهم فقط، بل تعرّضوا لأمراض مختلفة كذلك. وهي ظاهرة يستطيع أبقراط بسهولة، حسب ما يبدو لي، تفسيرها بأنّ من الممكن أن يكون اختلاف الأغذية والأنشطة النّاجم لا عن مزاج الجسم بل عن إرادة النّفس قد أدّى إلى اختلاف في الحالة الصّحّيّة. أمّا بوسيدونيوس أو أيّ قائل بتأثير النّجوم فعجب إن استطاع أن يجد هنا ما يقول إن يدع التّمويه على قليلي الدّراية الجاهلين بهذه الأمور جانبا*. فعلا يحاول أنصار هذا المذهب التّذرّع بالبرهة الوجيزة الفاصلة بين ولادة التّوأمين، معلّلين الأمر بتغيّر كسيْفة السّماء الموافقة لوقت الميلاد الدّقيق والّتي يدعونها الطّالع. والحال أنّها إمّا غير ذات تأثير كاف لإيجاد تباين في إرادات وأفعال وأخلاق التّوأمين وأحداث حياتهما، وإمّا ذات تأثير أكبر من أن يتماشى مع التّطابق بينهما في ضعة أو كرم الأصل الّذي يردّون اختلافه الكبير بين النّاس إلى ساعة الميلاد تحديدا. إن وُلد الثّاني بتأخير طفيف عن الأوّل بحيث يكون لهما نفس الطّالع، أطلب تماثل كلّ الظّروف بالنّسبة لهما وهو ما لا يمكن أن نجده في أيّ توأمين؛ أمّا إن كان الفاصل الزّمنيّ بين مولديهما يغيّر الطّالع فأطلب لكليهما أبوين مختلفين، وذاك محال طبعا بالنّسبة لتوأمين.

 

5-3 في الحجّة الّتي يستنبطها المنجّم نيقيدوس في قضيّة التّوائم من مثل دولاب الخزّاف

   عبثا إذن يقدّمون مثل دولاب الخزّاف الشّهير الّذي يروى أنّ نيقيدوس ردّ به وقد أحرجه هذا الإشكال، ولذلك كُني بالخزّاف. فقد عمد إلى دولاب خزّاف فأداره بما أوتي من القوّة، وأثناء دورانه شرطه بمداد أسود بأقصى سرعة بحيث تكون العلامتان في نفس الموضع تقريبا، واكتُشِف بعد توقّف الدّولاب أنّ مسافة* غير يسيرة تفصل بين العلامتين المرسومتين على حافّته. فقال: "كذا هو الشّأن في دورة الفلك، فحتّى لو وُلد الثّاني بعد الأوّل بمثل السّرعة الّتي شرطتُ بها الدّولاب مرّتين فذلك يوافق بونا شاسعا في السّماء؛ من هنا- حسب قوله- ما يُذكر من فروق في سلوكيّات التّوائم وأحداث حياتهم." هذا المثل المصطنع أهشّ حقّا من الأواني الّتي تُصنع* بدوران ذلك الدّولاب، فإن كان هذا الفارق في السّماء المتعذّر تمييزه بمقاس المسافات بين البروج من الأهمّيّة بحيث يؤول جرّاءه الميراث إلى أحد التّوأمين دون الآخر، كيف يجرؤون إذّاك على التّنبّؤ للآخرين الّذين ليسوا توائم بعد مطالعة بروجهم بأمور غيبيّة لا قِبل لأحد بإدراكها، ونسبتها للحظة الميلاد الدّقيقة؟ فإن قالوا تلك التّنبّؤات بخصوص المواليد الآخرين لأنّها تتعلّق بفوارق زمنيّة أكبر بينما تفسّر المدد الدّقيقة الفاصلة بين ولادة التّوائم فروقا في أمور بسيطة لا يستشار عادة حولها المنجّمون، ومن فعلا يستشيرهم حول متى يجلس ومتى يمشي ومتى أو ماذا يأكل، فهل عن أمور كتلك نتحدّث لمّا نشير إلى الفروق العديدة والكبيرة في أخلاق وأعمال التّوائم وأحداث حياتهم؟

 

5-4 في مثال عيسّو ويعقوب التّوأمين المتباينين كثيرا في الأخلاق والأفعال

   وُلد في زمان آبائنا الأوّلين توأمان أسوق مثالهما لشهرتهما كان تتابعهما في الولادة سريعا حتّى أنّ الثّاني خرج ويده قابضة على عقب الأوّل. مع ذلك كان الفرق بين نهجي حياتهما وسلوكيّاتهما، وتباين أعمالهما، والاختلاف في محبّة أبويهما من الأهمّيّة بحيث جعل ذلك البوْن منهما عدوّين. أمعنى ذلك أنّ الواحد كان يمشي بينما الآخر جالس، ويسهر بينما الآخر نائم، ويتكلّم بينما الآخر صامت، وهي أمور ترجع إلى تلك التّفاصيل الدّقيقة الّتي لا يمكن أن يستقصيها من يسجّلون وضع النّجوم المزامن لمولد شخص لمراجعة المنجّمين؟ بل كان أحدهما يخدم بأجرة ولم يخدم الثّاني*، وحظي أحدهما بحبّ أمّه دون الآخر، وأضاع أحدهما واكتسب الآخر شرفا كان ذا شأن كبير عندهما. وماذا عن زوجتيهما وماذا عن ذرّيّتيهما وماذا عن ثروتيهما، أيّ اختلاف! فإن كانت هذه الفروق تعود إلى تلك المدّة الوجيزة الفاصلة بين ميلاد التّوأمين ولا تسجّلها البروج، فكيف يقرؤونها عندما يطالعون بروج الآخرين؟ أمّا إن كانوا يقرؤونها لأنّها لا تتعلّق بتلك المدد الوجيزة الأدقّ من أن يتسنّى تمييزها، بل ترجع إلى الفواصل الزّمنيّة الكبيرة الّتي يمكن رصدها وتدوينها، فهل يفعل هنا دولاب الخزّاف سوى جرّ أناس ذوي قلوب من الطّين في دورانه كيلا يتبيّنوا زيف أقوال المنجّمين؟

 

5-5 كيف يُثبت على المنجّمين أخذهم بعلم باطل

   ماذا، أليس في مثال الأخوين اللّذين ظهر عندهما المرض واشتدّ ثمّ خفّ في نفس الوقت فخامر ظنٌّ أبقراطَ عند معاينتهما طبّيّا بأنّهما توأمان دحض كاف لمن يريدون أن يردّوا إلى تأثير النّجوم ما هو آت في الحقيقة من أمزجة الأبدان؟ فعلاً، لماذا مرضا بنحو متشابه في نفس الوقت لا بسبق واحد وتخلّف الآخر كما ولدا، إذ لم يكن يمكن طبعا أن يولدا معا؟ أو إن لم يكن بأمر ذي بال ليسبّب فرقا زمنيّا بين مرضيهما مولدهما في وقتين مختلفين فلِم يدّعون أنّ اختلاف وقت الولادة يسبّب اختلافا في جوانب حياتهما الأخرى؟ لماذا أمكن أن يسافرا في وقتين مختلفين، ويتزوّجا في وقتين مختلفين، وينجبا أبناء ويفعلا أشياء أخرى في أوقات مختلفة لولادتهما في وقتين مختلفين، ولم يمكن لنفس العلّة أن يعتلاّ كذلك في وقتين مختلفين؟ فإن كان الاختلاف في لحظة الميلاد غيّر الطّالع وسبّب تباينا في الجوانب الأخرى فلماذا بقي في مرضيهما أثر تزامن تكوينيهما؟ أو إن كانت الأقدار الخاصّة بالصّحّة تتبع تكوين النّطفة بينما الجوانب الأخرى في زعمهم تتبع الولادة، فلا يجب عند مطالعة البروج قول أيّ شيء عن الصّحّة، فغير معلوم وقت تكوين النّطفة ليطالَع فيها. لكن إن تنبّؤوا بالأمراض دون مطالعة البرج الخاصّ بوقت تكوين النّطفة لأنّ وقت الولادة يبيّنها، فكيف يتنبّؤون لأيّ من التّوأمين استنادا إلى وقت ميلاده بوقت مرضه، بينما كان لا بدّ للثّاني الّذي ليس له نفس وقت الميلاد أن يعتلّ في نفس الوقت؟ ثمّ إنّي أسأل: إن كان الفارق الزّمنيّ في ميلاد التّوأمين مهمّا إلى درجة تستلزم إسناد برجين مختلفين لهما بسبب اختلاف الطّالع الفلكيّ ومن ثمّة اختلاف الأركان* الّتي تعزى لها أهمّيّة كبرى ممّا يسبّب اختلافا في الأقدار، كيف أمكن أن يحصل ذلك بينما لم يمكن أن تتكوّن نطفتاهما في وقتين مختلفين؟ أو إن أمكن مع تزامن تكوين النّطفتين أن يختلف قدراهما فيما يتعلّق بالولادة، فلم لا يمكن أن تختلف الأقدار لمولودي نفس الوقت فيما يتعلّق بالحياة والموت؟ فإن لم يمنع تزامن تكوينهما ولادة أحدهما قبل الآخر، فلِم يمنع تزامن ولادتهما وفاة أحدهما قبل الآخر؟ إن سمح تزامن تكوين التّوأمين باختلاف مصيريهما في الرّحم، لِم لا يسمح كذلك تزامن ولادة شخصين باختلاف مصيريهما على الأرض، وهكذا تزول كلّ أوهام هذا الفنّ أو الدّجل بالأحرى؟ كيف يحصل أن يكون لمن كُوّنا في وقت واحد، بل في لحظة واحدة وتحت نفس الطّالع الفلكيّ قدران مختلفان يقودانهما إلى اختلاف وقتي ولادتهما، ولا يمكن أن يكون لمن ولدا في نفس اللّحظة وتحت نفس الطّالع من أمّين مختلفتين قدران مختلفان يقودانهما إلى اختلاف ملابسات حياتهما وموتهما المحتومة؟ أم ترى ليس للجنينين بعد مقادير، إذ لا يمكن أن تكون لهما إلاّ بعد ولادتهما؟ إذن ما معنى قولهم إنّه لو عُرفت ساعة التّكوين لأمكن للمنجّمين التّنبّؤ كالعرّافين بأمور كثيرة؟ من هنا أيضا زعم البعض أنّ العاقل يختار ساعة مجامعة زوجته لينجب طفلا رائعا.* من هنا أخيرا كذلك إجابة بوسيدونيوس المنجّم الكبير والفيلسوف أيضا حول تزامن مرض التّوأمين بأنّه عائد إلى تزامن تكوّن نطفتيهما وولادتهما. فإنّما أضاف "تكوّن نطفتيهما" كيلا يقال له: ليس بيّنا إمكان ولادتهما في نفس الوقت، لكن واضح تماما أنّ نطفتيهما كُوّنتا في نفس الوقت، بحيث لا ينسب تشابه وتزامن مرضهما بالنّظر عن كثب لتشابه مزاج بدنيهما بل ينوط التّطابق في حالتهما الصّحّيّة بروابط فلكيّة كذلك. إن كان إذن لتكوين نطفتيهما من الأهمّيّة ما يجرّ إلى تشابه أقدارهما، فما كان لزاما أن يغيّرا بالولادة تلك الأقدار. أو إن تغيّرت أقدار التّوأمين لولادتهما في وقتين مختلفين فلِم لا نفهم بالأحرى أنّها كانت قد تغيّرت من قبل مؤدّية إلى ولادتهما في وقتين مختلفين؟ أهكذا إذن لا تغيّر إرادة الأحياء الأقدار المحدّدة بالميلاد، بينما يغيّر الأقدار المحدّدة بتكوّن النّطفتين التّراتب في الميلاد؟

 

5-6 في اختلاف التّوأمين في الجنس

   لكن حتّى في عمليّتي تكوّن نطفة التّوأمين اللّتين تمّتا بالتّحقيق في نفس اللّحظة من أين أتى، مع تكوّنهما تحت نفس البرج، أنّ أحدهما ذكر والآخر أنثى؟* نعرف من جهتنا توأمين مختلفين في الجنس ما زالا على قيد الحياة وهما في ريعان العمر، ومتشابهان في الجسم قدر ما يسمح به اختلاف الجنس، لكنّهما في نهج ووجهة حياتهما جدّ مختلفين: ففضلا عن الأعمال الّتي تفرّق بالضّرورة بين الرّجال والنّساء- فهو في خدمة موظّف امبراطوريّ سام ويوجد معظم الوقت خارج البيت في الأسفار، بينما هي لا تغادر أرض الآباء وبيتها الرّيفيّ-، فوق ذلك- وهو أمر يصعب تصديقه إن صدّقنا بالأقدار المخطوطة لنا في النّجوم، لكن لا غرابة فيه إن فكّرنا بإرادات البشر ونِعم الله- هو متزوّج وهي نذرت البتوليّة لله، هو قد أنجب ذرّيّة كثيرة وهي لم تتزوّج أصلا. فقويّ حقّا تأثير الطّالع! بهذا بيّنتُ بما فيه الكفاية انتفاءه، لكنّه مهما يكن يؤدّي دوره على ما يقولون عند الولادة، أفلا دور له  عند تكوين النّطفة، حيث من البيّن أنّه يعود إلى جماع واحد، وتبلغ قوّة الطّبيعة أنّ الأنثى حالما تحمل لا تستطيع قطّ أن تحبل بآخر، ولا بدّ بالتّالي أن يحدث الحبَل بتوأمين في نفس الوقت. أفلعلّ أحدهما لولادتهما تحت طالعين مختلفين تغيّر عند الولادة: هو إلى ذكر أو هي إلى أنثى؟ إذن مع أنّ بإمكاننا القول دون خطل بأنّ للنّجوم تأثيرات تجرّ إلى تغييرات تطرأ على الأجسام فقط كما نرى كيف ينتج عن اقتراب الشّمس وابتعادها تغيّر فصول السّنة*، وعن ازدياد ونقصان القمر نموّ وتناقص بعض الكائنات كتوتياء البحر والمحار* وحركة البحار العجيبة*، لكن لا تخضع نزوعات النّفس هي أيضا لمواقع النّجوم. لذا لمّا يحاول أنصار التّنجيم ربط أعمالنا أيضا بها، يدعوننا بذلك إلى البحث عمّا يجعل تفسيرهم لا  ينطبق حتّى على الأجسام. وهل ثمّة ما يتّصل بالجسم أكثر من جنسه؟ مع ذلك أمكن، تحت وضع النّجوم عينه، تكوين توأمين مختلفين في الجنس. فهل يمكن بالتّالي قول أو تصوّر شيء أبعد عن العقل من أنّ وضع النّجوم الّذي كان متماثلا بالنّسبة للاثنين إبّان تكوينهما لم يستطع أن يحول دون أن يختلف توأم عن أخيه الّذي له نفس برجه في الجنس، وأنّ وضع النّجوم عند ميلاد كليهما استطاع جعل الأخت تختلف إلى ذلك الحدّ عن أخيها بتبتّلها الطّهور؟

 

5-7 في اختيار اليوم المناسب للزّواج أو الغراسة أو القطاف

   والآن من يقبل كذلك أنّ المرء باختيار الأيّام لأداء أعمال معيّنة يصنع بأعماله أقدارا جديدة؟ ذاك الرّجل لم يولد لينجب ولدا رائعا بل لينجب بالأحرى ولدا قميئا. لذلك اختار كرجل عارف وقتا مناسبا لمجامعة امرأته؛ هكذا إذن صنع قدرا لم يكن قُدر له، وبهذا الفعل ذاته أتى إلى الوجود قدر لم يكن يوجد عند ميلاده. فيا للحماقة الشّاذّة حقّا! يختار الرّجل يوم الزّواج لتصوّره في ظنّي أنّه قد يقع، إن لم يختره بعناية، على يوم نحس ويعقد زيجة تعيسة. أين إذّاك ما كانت النّجوم قد قرّرت له عند ولادته؟ أيستطيع الإنسان باختيار اليوم تغيير القدر المحدّد له، ولا يمكن لما حدّد باختيار اليوم أن يغيَّر بدوره بقوّة أخرى؟ ثمّ إن كان البشر وحدهم، دون بقيّة الكائنات الموجودة تحت السّماء، يخضعون لتأثير البروج، فلِم يختارون أيّاما معيّنة موافقة لغراسة الكروم أو الأشجار أو زراعة البذور، وأيّاما أخرى لترويض الحيوانات أو تلقية إناثها للفحول لتلقيح قطعان الأفراس والأبقار، وأعمال من هذا القبيل؟ لكن إن كان اختيار الأيّام مهمّا للقيام بتلك الأعمال* لأنّ وضع النّجوم يؤثّر على كلّ الكائنات الأرضيّة، سواء منها ذوات الأنفس أو غيرها، بحسب تنوّع الأوقات، فلينظروا كم من الكائنات الأكثر من أن يدركها الإحصاء تولد أو تطلع أو تنشأ ولها مصائر مختلفة كلّيّا، حتّى لتحدو تلك الأرصاد إلى الضّحك أيّ غلام. إذ من فقد الرّشاد إلى درجة التّجرّؤ على الزّعم أنّ كلّ الأشجار وكلّ النّباتات وكلّ الدّوابّ والزّواحف والطّيور والأسماك والدّيدان تتلقّى لحظة ميلادها أقدارا مختلفة، كلّ على حدة؟ هذا وقد اعتاد النّاس أن يحملوا للمنجّمين، بقصد اختبار براعتهم، بروج حيوانات عجماء رصدوا بعناية ولادتها في بيوتهم بغرض هذه الاستشارة، ويفضّلون بينهم من يقولون لهم بعد مطالعة البروج إنّ المولود حيوان لا إنسان، بل يُقدمون كذلك على إخبارهم بنوعه: هل يصلح للإمداد بوبره أو للنّقل أو لجرّ المحراث أو لحراسة البيت، إذ يُستشارون حتّى حول أقدار الكلاب ويجيبون وسط صيحات إعجاب زبائنهم. ويصل بالنّاس الخرق درجة الاعتقاد أنّ ولادة إنسان تمنع ولادات كائنات أخرى بحيث لا يمكن أن تولد معه حتّى ذبابة تحت نفس كسفة السّماء! إذ لو قبلوا ذلك لتدرّج بهم الاستدلال خطوة خطوة فقادهم من الذّباب إلى الإبل والفيلة. ولا يريدون أن يلاحظوا أنّه بعد انتقاء يوم لزراعة الحقل تودع في الأرض كمّيّة كبرى من الحبوب معا فتُنتش معا وتخرج الشّطء معا وتنمو وتنضج معا، ومع ذلك من هذه السّنابل الأتراب والّتي هي بمثابة التّوائم إن جاز التّعبير يأكل العفن شيئا وتخطف الطّير شيئا ويحصد النّاس شيئا. هل سيقولون بعدما شهدوا مصائرها المختلفة إنّها كانت مختلفة في بروجها؟ أم ترى سيندمون على اختيار أيّام لهذه الأشياء وسينفون صلتها بقرار سماويّ وسيخضعون لتأثير النّجوم البشر وحدهم الّذين أعطاهم الله وحدهم على الأرض حرّيّة الإرادة؟ بعد كلّ هذه الاعتبارات لا نخالنا نخطئ في اعتقادنا أنّ صدق المنجّمين العجيب في حالات كثيرة يحصل بإلهام خفيّ من أرواح خبيثة همّها بثّ وترسيخ ظنون غالطة وضارّة حول الأقدار المخطوطة في النّجوم في أذهان النّاس، لا بفنّ رصد وقراءة الطّالع، الّذي لا وجود له.

 

5-8 في من يطلقون اسم القدر لا على وضع النّجوم بل على ترابط الأسباب التّابع لمشيئة الله

   أمّا من يطلقون اسم القدر لا على هيئة النّجوم كما هي عند تكوين نطفة كائن ما أو ولادته أو نشوئه بل على ترابط وتسلسل كلّ العلل الّذي به يقع كلّ ما يقع، فلا داعي إلى تجشّم عناء مخاصمتهم ومجادلتهم حول الألفاظ ما داموا ينسبون تراتب وتسلسل هذه العلل لإرادة وقدرة إله أعلى يُعتقد حقّا وصدقا أنّه يعلم كلّ الأشياء قبل حدوثها ولا يترك شيئا بلا ترتيب، منه تأتي كلّ قدرة وإن لم تأت منه كلّ إرادة. هكذا يدعون قدرا بالأساس مشيئة الإله العليّ الّذي تمتدّ قدرته المطلقة على كلّ الكائنات، كما في هذه الأبيات الّتي هي، إن لم أخطئ، لإنّيوس سينيكا: "قدني أيّها الأب الأعلى المهيمن على علياء السّماء أينما تشاء ولن أتأخّر في الامتثال فعزمي لا يفلّ، اجعلني لا أحبّ وسأتبع متأوّها وأتحمّل وأنا مسيئ ما كان يمكن أن أفعل وأنا محسن.فالأقدار تقود الطّيّع وتجرّر المتمنّع."* جليّ تماما أنّه في هذا البيت الأخير دعا أقدارا ما سمّاه آنفا مشيئة الأب الأعلى، الّتي أعلن عن استعداده للامتثال لها لتقوده طوعا ولا تجرّه كرها، فواضح أنّ "الأقدار تقود الطّيّع وتجرّر المتمنّع." يدعم هذا الرّأيَ هذان البيتان لهوميروس كما ترجمهما شيشرون إلى اللاّتينيّة: "نفوس النّاس كالأراضي الخصيبة يضيئها يوبتر نفسه بنوره."* لا قيمة في هذه المسألة لرأي شاعر، لكن لأنّه يقول إنّ الرّواقيّين اعتادوا استعارة هذين البيتين من هوميروس لتأكيد قوّة القدر، نحن نناقش هنا فكرة لا لهذا الشّاعر بل لأولئك الفلاسفة، إذ يستشهدون بهذين البيتين في نقاشاتهم حول القدر ليظهروا بوضوح ما يرون حول ماهية القدر، لأنّهم يدعون يوبتر ما يعدّونه الإله الأعلى الّذي تتوقّف عليه حسب أقوالهم سلسلة الأسباب.

 

5-9 في علم الله السّابق وإرادة الإنسان الحرّة ضدّ تعريف شيشرون

   يسعى شيشرون جاهدا إلى دحضهم، ويرى من الصّعب محاجّتهم ما لم ينقض العرافة أوّلا. وهو يحاول تفنيدها بنفي أيّة إمكانيّة للعلم بالمستقبل، رافضا بكلّ قواه أيّ وجود له عند الإنسان أو عند الله، وأيّ تكهّن بالأحداث الآتية. هكذا ينفي كذلك علم الله المسبق، ويحاول هدم كلّ نبوءة وإن تك أسطع من الضّياء بحجج واهية، معترضا على نفسه ببعض الكهانات الّتي يمكن ردّها بسهولة، ومع ذلك لم يستطع تفنيدها. لكنّ بلاغته تنجح بيسر في دحض مصادرات المنجّمين فهي من الضّعف بحيث تنقض وتقوّض ذاتها. إلاّ أنّ من يقولون بالأقدار المختطّة في النّجوم أهون بكثير ممّن يلغي العلم المسبق بالمستقبل، ذلك أنّ الإقرار بالله ونفي علمه بالغيب هو الجنون البُواح. ولأنّه رأى ذلك هو نفسه، حاول أن يصنع كالّذي جاء عنه في الكتاب المقدّس: "قال الجاهل في قلبه ليس إله"* لكن لا كموقفه الشّخصيّ، إذ رأى كم سيثير ذلك الموقف الاستياء والاستهجان فوضع على لسان كوتّا* في حواره "في طبيعة الآلهة" نقدا لأفكار الرّواقيّين في هذا الباب، وآثر الانحياز لرأي لوقليوس بلبوس الّذي أسند إليه دور الدّفاع عن مذهب الرّواقيّين على رأي كوتّا الّذي ينكر وجود أيّة طبيعة إلهيّة. لكنّه في كتبه في الكهانة يهاجم العلم المسبق بالمستقبل مباشرة وصراحة. والظّاهر أنّه يفعل ذلك كيلا يقرّ وجود القدر فيفقد حرّيّة الإرادة، إذ يؤدّي التّسليم بعلم الغيب في اعتقاده إلى استحالة نفي القدر. لكن مهما يكن من أمر تلك الخصومات والجدالات الملتوية بين الفلاسفة، نقرّ فيما يخصّنا بالإله الحقّ الأعلى ونقرّ كذلك بمشيئته وقدرته الكلّيانيّة وعلمه المسبق* ولا نخشى ألاّ نفعل بإرادتنا ما نفعل بإرادتنا لأنّ من لا يمكن أن يخطئ علمه المسبق قد علم مسبقا أنّا سنفعله* وهو ما دفعت خشيته شيشرون إلى محاربة العلم المسبق بالمستقبل والرّواقيّين إلى نفي حدوث كلّ الأشياء بضرورة رغم قولهم بأنّها كلّها تحدث بقدر. ماذا خشي شيشرون إذن في العلم المسبق بالمستقبل ليحاول تقويضه بنقاشه الشّنيع؟ هو بالتّحقيق أنّ العلم بالحوادث مسبقا يحتّم حدوثها بالتّرتيب الّذي عُلم مسبقا أنّها ستحدث به؛ وإن حدثت بهذا التّرتيب فترتيب الأحداث مثبت في علم الله المسبق؛ وإن كان ترتيب الأشياء مثبتا فمثبت أيضا ترتيب العلل، إذ لا يمكن أن يحدث شيء بدون أن تسبقه علّة فاعلة؛ لكن إن كان مثبتا ترتيب العلل الّذي يحدث به كلّ ما يحدث، فبالقدر يحدث حسب قوله كلّ حادث؛ وإن كان الأمر كذلك فلا شيء بمَلكنا وليس لإرادتنا أيّ اختيار. وإن سلّمنا بذلك قلب الحياة البشريّة حسب قوله: فعبثا تُسنّ الشّرائع وعبثا يُستخدم التّقريع والتّقريظ والنّهي والتّحضيض* ولا عدل في إعداد مكافآت للأخيار وعقوبات للأشرار. كيلا تحصل هذه العواقب الذّميمة والخرقاء والوخيمة في الحياة الإنسانيّة يرفض وجود العلم المسبق، ويحصر النّفس الدّيّنة في مأزق حرج بين خيارين: إمّا لإرادتنا حرّيّة وإمّا هناك علم مسبق بالمستقبل، إذ يرى من المستحيل تواجدهما، بحيث يعني تأكيد أحدهما نفي الثّاني بالضّرورة: إن اخترنا العلم المسبق بالمستقبل نفينا حرّيّة الإرادة وإن اخترنا حرّيّة الإرادة نفينا العلم المسبق. لذلك فهو كرجل فاضل عالم سخّر نفسه لخدمة الحياة الإنسانيّة باقتدار منعدم النّظير اختار، من بين البديلين، حرّيّة الإرادة، وليؤكّدها بقوّة نفى العلم المسبق بالمستقبل، وهكذا جرّه حرصه على جعل النّاس أحرارا إلى جعلهم كفّارا. أمّا النّفس الدّيّنة حقّا فتختار كليهما وتُقرّ بكليهما وبالإيمان والتّقوى الصّادقة تؤكّد كليهما. يقول: كيف ذلك؟ فإنّ وجود علم مسبق بالمستقبل يستتبع تسلسل الأحداث لترابطها فلا يكون في النّهاية أيّ شيء مَلْك إرادتنا، وبالمقابل إن كان أيّ شيء ملك إرادتنا فسنصل بنفس خطوات استدلالنا مقلوبة إلى نفي العلم المسبق بالمستقبل. فنتدرّج عبرها إلى النّتيجة بهذا النّحو: إن كانت لإرادتنا حرّيّة الاختيار لا تحدث كلّ الأشياء بالقدر، وإن لم تكن كلّ الأشياء تحدث بالقدر فليس مثبتا ترتيب كلّ العلل، وإن لم يكن مثبتا ترتيب كلّ العلل فليس مثبتا في علم الله المسبق ترتيب كلّ الأشياء الّتي لا يمكن أن تحدث بدون أن تسبقها عللها الفاعلة، وإن لم يكن مثبتا في علم الله المسبق ترتيب الأشياء فلا تجيء كلّها وفق علمه المسبق بمجيئها، وإن لم تجئ كلّها وفق علمه المسبق بمجيئها فلا وجود في الله لعلم مسبق بالمستقبل.

   من جهتنا نؤكّد ضدّ هذا الاجتراء على حرمة الله وهذا الكفر الصّريح أنّ الله يعلم كلّ الحوادث قبل حدوثها وأنّا في نفس الوقت نفعل بإرادتنا كلّ ما نحسّ ونعلم أنّا نفعله إراديّا. قطعا لا نقول إنّ كلّ شيء يأتي بقدر بل لا شيء يأتي بقدر: فلأنّ اسم القدر يطلق عادة على وضع النّجوم لحظة تكوّن أو ميلاد شخص ما ولأنّ هذا المفهوم بلا محتوى بيّنّا بطلانه. لكنّا لا ننفي ترتيب العلل الّذي لمشيئة الله فيه عظيم الحول والقدرة ولا ندعوه بلفظة القدر fatum، اللّهمّ إلاّ إن اعتبرناها مشتقّة من fando "تكلّم"، إذ لا يمكن أن ننكر أنّه جاء في الكتاب المقدّس: "تكلّم الله مرّة وثانية والّذي سمعته أنّ العزّة لله؛ ولك أيّها السّيّد الرّحمة وأنت تجزي الإنسان بحسب عمله."* فقوله: "تكلّم مرّة" يُفهم بمعنى: تكلّم "بنحو لا حركة فيه" أي "لا يدركه التّغيّر"، كما يعلم بنحو لا يدركه التّغيّر كلّ ما سيحدث وكلّ ما سيفعل. لهذا السّبب كان يمكننا اشتقاق كلمة fatum "قدر" من fando "تكلّم" لو لم يكن يُفهم منها عادة معنى آخر لا نودّ إمالة قلب البشر إليه. لكن لا ينجرّ عن كون ترتيب كلّ العلل مثبتا عند الله ألاّ دور لاختيار إرادتنا. فإنّ إراداتنا ذاتها تدخل ضمن ترتيب العلل الّذي هو مثبت عند الله ومحتوى في علمه المسبق، لأنّ الإرادات البشريّة هي أيضا علل الأعمال البشريّة، لذلك ما أمكن قطعا لمن علم مسبقا بعلل كلّ الأشياء أن يجهل أنّ ضمن تلك العلل إراداتنا الّتي علم مسبقا أنّها علل أعمالنا.

   والحقّ أنّ المقولة الّتي يقرّ بها شيشرون نفسه- ألاّ شيء يحدث ما لم تسبقه علّة فاعلة- كافية لتفنيده في هذا الباب. فيم يفيده فعلا قوله إنّ لا شيء قطعا يحدث بدون علّة، لكن ليست كلّ علّة مقدورة فهناك من العلل العرضيّةُ والّطبيعيّةُ والإراديّةُ؟ يكفي أن يقرّ بألاّ حادث يحدث بدون علّة سابقة*. فنحن من جهتنا نؤكّد أنّ العلل الّتي يدعونها عرضيّةً منوطةً بالصّدفة fortuitae- ومن هنا استمدّ الحظّ fortuna اسمه- غير معدومة بل خافية، وننسبها لإرادة الله الحقّ أو أرواح أيّا كانت؛ ولا نفصل قطّ العلل الطّبيعيّة كذلك عن إرادته هو صانع وخالق كلّ الطّبيعة. أمّا العلل الإراديّة المتبقّية فهي من الله أو الأرواح أو البشر أو الحيوانات- هذا إن جاز أن ندعو إرادات نزوعات الحيوانات الخالية من العقل الّتي تأتي بها أفعالا حسب غريزتها إن رغبت في شيء أو نفرت منه. أمّا إرادات الأملاك فنفرّق بين الأملاك الخيّرة الّتي ندعوها ملائكة الله والأملاك الشّرّيرة الّتي ندعوها مردة أو شياطين، وكذلك هو الشّأن في البشر فبطبيعة الحال منهم الأخيار ومنهم الأشرار. يُستنتج من هذا أن ليس من علل فاعلة لكلّ ما يحدث سوى العلل الإراديّة، الخاصّة بتلك الطّبيعة الّتي هي نسمة الحياة. ذلك أنّ الهواء أو الرّيح هو أيضا نسمة، لكن لأنّه جسم ليس بنسمة الحياة. فإنّما نسمة الحياة، الرّوح محيي كلّ شيء وخالق كلّ جسم وكلّ روح مخلوق هو الله ذاته، الرّوح الّذي لم يُخلق. في مشيئته القدرة العليا الّتي تعين الإرادات الخيّرة وتدين السّيّئة في الأرواح المخلوقة، وتسلكها كلّها في النّسق الّذي ارتضت فتمنح بعضها قدرات ولا تمنح أخرى. فكما هو خالق كلّ الطّبائع، كذلك هو مانح كلّ القدرات، لا الإرادات: فما هو قطعا مصدر الإرادات السّيّئة لأنّها مضادّة للطّبيعة الّتي هو مصدرها. الأجسام إذن تخضع أكثر للإرادات: بعضها لإراداتنا نحن- أعني ذوات النّفوس الفانية، والبشر فيها أكثر من الحيوانات البكماء-، وبعضها لإرادات الأملاك، لكنّها كلّها خاضعة تماما لإرادة الله الّذي تخضع له كلّ الإرادات، لأنّ لا قدرة لها إلاّ ما يمنحها. الله إذن علّة الأشياء، الفاعلةُ غير المفعولة، بينما العلل الأخرى فاعلة ومفعولة، مثلما هي كلّ الأرواح المخلوقة وبالأخصّ العاقلة منها. أمّا العلل الجسمانيّة الّتي هي مفعولة أكثر ممّا هي فاعلة فلا ينبغي أن تُعَدّ ضمن العلل الفاعلة، فإرادات الأرواح هي الّتي تستطيع فعل ما تفعل بواسطتها. كيف يمكن إذن أن يكون نسق العلل المثبت في علم الله الأزليّ على صورة لا يكون فيها شيء في نطاق إراداتنا والحال أنّ لإراداتنا مكانا كبيرا في هذا النّسق؟ ليجادلْ شيشرون إذن من يقولون إنّ نسق العلل مقدور أو يسمّونه بالأحرى قدرا، وهو ما نستشنعه خصوصا بسبب تلك اللّفظة الّتي يُفهم منها عادة معنى لا يطابق شيئا في الواقع. لكن لأنّه ينفي أن يكون نسق العلل مثبتا كلّيّا ومعلوما كلّيّا لعلم الله الأزليّ، نعارضه أشدّ من معارضة الرّواقيّين. فهو إمّا ينفي وجود الله- ذاك فعلا ما حاول أن يفعل  في كتابه "في طبيعة الآلهة" بواسطة شخص آخر-، وإمّا إن اعترف بوجود الله مع نفي علمه المسبق لا يقول سوى ما "قال الجاهل في قلبه: ليس إله". فمن لا يعرف مسبقا كلّ ما هو آت ليس الله قطعا. لذلك تملك إراداتنا من القدرة قدر ما شاء الله وعلم مسبقا، وكلّ ما لها عليه سلطان تقدر عليه يقينا، وكلّ ما علم الله أنّها فاعلته ستفعله يقينا وبمحض اختيارها، فلقد علم مسبقا بقدرتها عليه وبفعلها له من لا يمكن قطّ أن يخطئ علمه بالغيب. لذا إن شئت إطلاق اسم القدر على شيء فأنا أمْيل إلى إطلاقه على أضعف الطّرفين وإطلاق الإرادة على أقواهما الّذي يقع الأضعف في نطاق قدرته منّي إلى القول بأنّ نسق العلل الّذي يدعوه الرّواقيّون- خلافا للمعنى المتداول ووفق اصطلاحهم الخاصّ- القدر يلغي حرّيّة اختيار إرادتنا.

 

5-10 هل تخضع الإرادات البشريّة للضّرورة

   لا داعي إذن إلى الخوف من الضّرورة الّتي يزعمون، والّتي دفع الخوف منها الرّواقيّين إلى بذل جهود كأداء للتّمييز بين العلل، فسحبوا بعضها من مجال الضّرورة وأخضعوا لها بعضها، وأدرجوا ضمن تلك الّتي رفضوا وجودها في نطاق الضّرورة إراداتنا، بلا شكّ كيلا تلغى حرّيّتها إن أُخضعت للضّرورة. بالفعل إن كان لا بدّ أن ندعو ضرورة بالنّسبة لنا ما ليس في مقدورنا ويفعل فعله حتّى ونحن كارهون شأن ضرورة الموت، فمن البيّن أنّ إراداتنا الّتي بها نختار حياة مستقيمة أو منحرفة لا تخضع لهذه الضّرورة. فإنّا نفعل كثيرا من الأفعال ما كنّا سنفعلها قطعا لو لم نردها. ذاك ما يميّز الفعل الإراديّ أصلا: إن أردناه كان وإن لم نرده لم يكن، ولا نريده إن كنّا لا نودّ فعله. لكن إن عرّفنا الضّرورة بهذا الّذي بموجبه نقول: "من الضّروريّ أن يكون أو يحدث شيء ما بذلك النّحو"، فلا أدري لماذا نخشى أن تلغي حرّيّة إرادتنا، إذ لا نضع قطعا حياة الله وعلمه بالغيب تحت سلطان الضّرورة إن قلنا: من الضّروريّ أن يكون الله ذا حياة أبديّة وعلم أزليّ محيط بكلّ شيء. كذلك لا نُنقص شيئا من قدرته يقولنا: لا يمكن أن يخطئ أو أن يموت. فذلك فعلا ليس ممكنا بالنّسبة له، ولو أمكن أن ينطبق عليه لأنقص بالأحرى قدرته ما في ذلك من شكّ. ونحن محقّون بالتّأكيد في اعتباره قديرا مع أنّه لا يمكن أن يخطئ أو يموت، فإنّما ندعو قديرا من هو فعّال لما يريد، لا من يقع عليه ما لا يريد، فلو وقع عليه لما كان قديرا على الإطلاق، بل عدم إمكان أشياء بالنّسبة له هو بالتّحديد ما يجعله كلّيّانيّ القدرة. كذلك لمّا نقول: من الضّروريّ أن نريد، لمّا نريد، بإرادة حرّة، فنحن بلا شكّ نقول حقيقة ولا نخضع حرّيّة اختيارنا لضرورة تلغيها. إراداتنا إذن تابعة لنا، وهي الّتي تفعل ما نفعل باختيارنا، لا ما يحدث كرها عنّا. أمّا ما يتعرّض له أيّ منّا غصبا عنه بفعل إرادة الغير فهنا أيضا تحكم إرادة، لا إرادته هو طبعا لكن إرادة إنسان على أيّة حال، أمّا القدرة فللّه، ولو كانت توجد فقط إرادة دون أن تكون لها القدرة على فعل ما تريد لعاقتها عنه إرادة أقوى. مع ذلك سوف لا تكون الإرادة إذّاك إلاّ إرادة، لا إرادة آخر بل إرادة من أراد حتّى إن لم يستطع تحقيق ما يريد. لذا فكلّ ما يتعرّض له الإنسان قسر إرادته، لا يجب أن ينسبه لإرادات بشر ولا أملاك ولا أيّة أرواح مخلوقة، بل بالأحرى لمن منح الإرادات القدرة. ليس صحيحا إذن أنّ لا شيء في نطاق إرادتنا لأنّ الله علم مسبقا ما سيقع في إرادتنا. إذ لم يقدّر من علم بذلك مسبقا أنّ لا شيء سيكون فيها، وإن قدّر، إذ علم مسبقا بما سيكون فيها، لا بأنّ لا شيء بل بأنّ شيئا ما سيكون فيها، فإنّ شيئا يقع في إرادتنا بالتّحقيق مع علمه المسبق به. ليس علينا أن نحتفظ بعلم الله المسبق ونلغي حرّيّة الإرادة، أو أن نحتفظ بحرّيّة الإرادة وننفي علم الله المسبق، وهو منكر من القول، بل كليهما نُقرّ وبكليهما نُقرّ بإيمان وأمانة. ذاك لتحسن به عقيدتنا، وهذا لتحسن به حياتنا. فحياةً سيّئة يحيا من لا يأخذ بمعتقد حسن حول الله. حاشا إذن أن يدفعنا تأكيد حرّيّة إرادتنا إلى نفي علم الله المسبق الّذي بعونه نكون أو سنكون أحرارا*. لذلك ما عبثا جُعلت الشّرائع والتّقريع والتّقريظ والنّهي والتّحضيض لأنّ الله قدّرها هي أيضا، وهي على جانب عظيم من الفعاليّة بالقدر الّذي قدّر لها، وللأدعية أيضا نجاعتها لنيل ما قدّر أن يمنح من يدعونه، وعدلا جعل الثّواب على الصّالحات والعقاب على السّيّئات. إذ لا يخطَأ الإنسان لأنّ الله علم مسبقا بخطْئه، بل لا شكّ لديه حين يخطأ أنّه يخطأ لأنّ من لا يمكن أن يخطِئ علمه المسبق علم في الأزل أنّه هو، لا القدر ولا الحظّ ولا أيّ شيء آخر، سيخطأ. وإن لم يشأ فلن يخطأ قطعا، لكن لو لم يشأ أن يخطأ لكان الله أيضا قد علم ذلك مسبقا.

 

5-11 في عناية الله الشّاملة الّتي تحيط نواميسها بكلّ شيء

   لذا فالله العليّ الحقّ، مع كلمته وروحه القدس، وهؤلاء الثّلاثة هم واحد، هذا الإله الأحد القدير، خالق وصانع كلّ النّفوس والأجسام، الّذي بإنعامه يُحبر في السّعادة من بالحقّ لا بالباطل* يسعدون، الّذي خلق الإنسان حيوانا عاقلا من نفس وجسم، وسمح بأن يخطَأ لا بدون عقاب وما تركه بدون رحمته، الّذي منح الصّالحين والأشرار الوجود مع الأحجار والحياة النّباتيّة مع الأشجار والحياة الحسّيّة مع الحيوانات والحياة العقليّة مع الملائكة وحدهم، والّذي منه كلّ نمط ونوع ونسق، ومنه كلّ قيس ووزن ومقدار، ومنه كلّ ما له طبيعة وكيف وكم، ومنه موادّ الصّور وصور الموادّ وحركات الصّور والموادّ، الّذي منح الجسم أصله وحسنه وصحّته، وقدرته على التّكاثر وتنسيق أعضائه ووفاقها بما يكفل حفظ كيانه، ومنح النّفس غير العاقلة الذّاكرة والحسّ والشّهوة، والنّفس العاقلة زيادة على ذلك الفكر والإدراك والإرادة، الّذي لم يذرْ، لا السّماء والأرض فقط، ولا الملاك والإنسان فقط، بل وجوف أدقّ وأقمئ حيوان وخافية الطّير ونوَر النّبتة وورقة الشّجرة بدون تناسق في الأجزاء ونوع من الوفاق، لا يجوز بحال تصوّر أنّه شاء أن يذر خارج نواميس تدبيره ممالك البشر ونفوذها وخضوعها*.

<<