القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّامن 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الثّامن

 

 8-1 في مسألة الدّين الطّبيعيّ الّتي نحتاج إلى مناقشتها مع الفلاسفة الّذين لهم علم أفضل

   نحن الآن بحاجة إلى تركيز أذهاننا أكثر ممّا فعلنا في تحليل وشرح المسائل المعالجة في الكتب السّابقة. فليس علينا بصدد اللاّهوت الّذي يدعونه طبيعيّا أن نتناقش مع أشخاص من عامّة النّاس- إذ لا يتعلّق الأمر بالدّين الأسطوريّ أو المدنيّ، أي المسرحيّ أو الرّسميّ، اللّذين يعرض أحدهما جرائم الآلهة ويكشف ثانيهما رغائبها الّتي تفوقها إجراما وتثبت أنّها شياطين ماكرة لا آلهة-، بل مع فلاسفة يتّخذ اسمهم بالذّات، إن ترجمناه إلى اللاّتينيّة، حبّ الحكمة شعارا. فإن كانت الحكمة الّتي بها خُلقت كلّ الأشياء هي الله كما تبيّن لنا السّلطة الرّبّانيّة والحقّ*، فالفيلسوف الحقيقيّ هو محبّ الله. لكن بما أنّ المسمّى نفسه الّذي يُطلق عليه هذا الاسم لا يتوفّر في كلّ من يفخرون بها، فما من أحبّاء الحكمة الحقيقيّة قطعا من يُدعون فلاسفة، وجب لا شكّ أن نختار، من بين كلّ من أتيح لنا من الكتب معرفة آراءهم، نخبة لا يعيبنا بحث تلك المسألة معهم. فأنا لم أتجشّم في هذا العمل تفنيد كلّ أباطيل كلّ الفلاسفة، بل فقط ما يتعلّق منها بالأثولوجيا ( اللاّهوت)، ويقصدون بهذه الكلمة اليونانيّة حسب ما نفهم البحث أو القول في الرّبوبيّة، ولا كذلك أفكار كلّ الفلاسفة بل فقط من يسلّمون بوجود ألوهة وعنايتها بشؤون البشر، ومع ذلك لا يرون أنّ عبادة الإله الواحد المنزّه عن التّغيير تكفي لنيل السّعادة كذلك بعد الموت، بل يرون من الواجب أن نعبد لذلك الغرض آلهة متعدّدة أنشأها ونصّبها لا محالة ذاك الإله. يتجاوز هؤلاء حتّى فكرة وارّون في مقاربة الحقيقة: فبينما استطاع هو توسيع دائرة لاهوته الطّبيعيّ ليشمل العالم ونفسه، أقرّوا من جهتهم بإله فوق كلّ جوهر نفسيّ، لم يخلق فقط هذا العالم المرئيّ الّذي يسمّى السّماء والأرض غالبا، بل كذلك كلّ نفس بدون استثناء، والّذي يمنح النّفوس العاقلة المفكّرة- الّتي تنتمي إليها النّفس الإنسانيّة- من خلال المشاركة في نوره الثّابت وااللاّجسمانيّ النّعيمَ. لا أحد له أدنى معرفة بهذا الشّأن يجهل الفلاسفة الأفلاطونيّين الّذين اشتُقّ اسمهم من معلّمهم أفلاطون. عن أفلاطون إذن سأقدّم بسطة وجيزة عمّا أراه لازما للمسألة الرّاهنة، وأذكر قبل ذلك من سبقوه زمنيّا في هذه الأدبيّات.

 

8-2 في جماعتي الفلاسفة الإيطاليّة واليونانيّة ومؤسّسيهما

   إن ركّزنا على الكتابات اليونانيّة، إذ تُعَدّ هذه اللّغة أسطع تألّقا من لغات الأمم الأخرى، يذكرون مجموعتين من الفلاسفة: إحداهما الإيطاليّة من تلك المنطقة بإيطالية الّتي كانت تدعى في ما مضى اليونان الكبرى، والأخرى الإيونيّة من البلاد الّتي تدعى إلى يومنا هذا اليونان. أسّس المدرسة الأولى فيثاغور السّاموسيّ الّذي يقال إنّ كلمة "فلسفة" تعود إليه. فبينما كان النّاس يدعون سابقا حكماء من يبدون بنهج حياتهم الجدير بالثّناء أفضل من سواهم، لمّا سئل هو عمّا ينادي به أجاب أنّه فيلسوف أي طالب أو محبّ للحكمة، إذ كان يبدو له من التّطاول القول إنّه حكيم. أمّا المدرسة الإيونيّة، فرأسها طاليس الميليتيّ أحد السّبعة المدعوّين بالحكماء. لكنّ السّتّة الآخرين كانوا يتميّزون بنهج حياتهم وببعض التّعاليم الرّامية إلى العيش بصلاح، أمّا طاليس فبرز بسبر أسرار الطّبيعة وتدوين بحوثه في كتب أمكن بها أن يخلّف أتباعا، واستحقّ فائق التّقدير خاصّة بتمكّنه، بفضل إتقانه للحسابات الفلكيّة، من التّكهّن بالخسوف والكسوف*. وقد ذهب إلى أنّ الماء أصل الأشياء، ومنه وُجدت عناصر العالم كلّها والعالم نفسه وكلّ ما ينشأ فيه. لكنّه، في هذا العمل الّذي ينتزع إعجابنا إن تأمّلنا هذا الكون ( بكلّ تنوّعه)، لم يقدّم شيئا عن الرّوح الإلهيّ. وقد خلفه تلميذه أنكسيمندر، وحوّر فكرته عن طبيعة الأشياء: إذ أكّد أنّ الأشياء لا تنشأ من عنصر واحد بل من العناصر الأصليّة الخاصّة بكلّ منها، واعتقد أنّ العناصر الأصليّة لشتّى الأشياء لامتناهية العدد، وتنشأ عنها عوالم لا تحصى وكلّ ما يولد فيها، وذهب إلى أنّ تلك العوالم لا تنقطع عن التّحلّل والتّولّد دواليك، وأنّ كلاّ منها يبقى العمر المتاح له، ولم ينسب هو الآخر شيئا إلى نشاط الرّوح الإلهيّ في هذه الكائنات. وقد ترك خلفا له تلميذه أنكسيمنس الّذي نسب أسباب كلّ الأشياء إلى الهواء اللاّمتناهي، ولم ينكر أو يغفل الآلهة؛ لكنّه بدلا من القول بأنّ الهواء نشأ منها اعتقد أنّها هي نفسها نشأت من الهواء. لكنّ تلميذه أنكساغوراس رأى أنّ الرّوح الإلهيّ صانعُ كلّ هذه الأشياء الّتي نرى، وأكّد أنّ شتّى الأشياء تتكوّن من المادّة اللاّمتناهية الّتي تتألّف من الجزيئات المختلفة لشتّى الأشياء، لكن بصنع الرّوح الإلهيّ. أكّد كذلك ديوجينس تلميذ أنكسيمنس الآخر أنّ الهواء مادّة الأشياء الّتي صُنعت كلّها منها، لكنّه مِلك العقل الإلهيّ الّذي بدونه لا يُصنع منه شيء. خلف أنكساغوراسَ تلميذُه أرخيلاسُ، فذهب هو أيضا إلى أنّ كلّ الأشياء تتكوّن من جزيئات متشابهة منها أوجدت شتّى الكائنات، وبُثّ فيها عقل يسيّر بالتّجميع والتّفريق كلّ الأجسام- أي تلك الجزيئات- الّتي لا ينتهي وجودها. ويقال إنّ تلميذه سقراط معلّم أفلاطون الّذي بسببه أعطيت هذه اللّمحة الوجيزة.

 

8-3 في المنهج السّقراطيّ

   يُذكر سقراط إذن كأوّل من وجّه الفلسفة بكاملها نحو تهذيب وتكوين الأخلاق بينما بذل كلّ المفكّرين السّابقين قصارى جهودهم بالأخصّ في البحوث الفيزيقيّة، أي الطّبيعيّات. لكن لا يبدو لي ممكنا أن نحكم بيقين في ما إن كان سقراط فعل ذلك ليحوّل اهتمامه من البحث المضني في أمور غامضة وغير يقينيّة إلى اكتشاف حقيقة واضحة ويقينيّة ضروريّة للحياة السّعيدة الّتي إليها وحدها وجّهت صناعة الفلاسفة جهدها وعنايتها كما يبدو، أو، كما تصوّر البعض الّذين هم به أحسن ظنّا، لأنّه لم يكن يريد أن تحاول النّفوس المثقلة بأدران الشّهوات الجسديّة التّطاول إلى الإلهيّات، لأنّه كان يراها تبحث عن علل الأشياء الّتي يعتقد أنّها كلّها، أولاها وعلياها، تكمن في إرادة الإله الواحد العليّ ولا شيء سواها، لذا كان يعتقد أنّ إدراكها لا يتيسّر لغير فكر منقّى، ومن ثمّة يرى لزاما تنقية الحياة بالأخلاق الحميدة لتتمكّن النّفس وقد تخلّصت من الأهواء الّتي ترزح تحت وطأتها الارتقاءَ بقوّتها الجبلّيّة إلى عالم الأشياء الّتي لا يدركها الفساد، وتشاهد بصفاء الفكر المجرّد جوهر النّور اللاّمادّيّ المنزّه عن التّغيير حيث تعيش وتستقرّ علل كلّ الأشياء المحدثة. ومن البيّن أنّه في الواقع استهدف وناوش بأسلوب عذب رائع وبكياسة ذكيّة حذّاء، مقرّا بجهله أو مخفيا علمه، حماقة الجهلة الّذين يحسبون أنفسهم على شيء حتّى في الأخلاقيّات حيث ركّز كما رأينا كلّ اهتمامه. لذا أُدين بتهمة افتراها أعداؤه المتألّبون عليه وحُكم عليه بالإعدام. لكنّ أثينة الّتي أدانته أمام الجميع أسفت عليه فيما بعد، بل بلغ من نقمة الشّعب الموجّهة نحو اثنين من متّهميه أنّ أحدهما هلك محزوقا بين الجماهير المتدافعة لتعنيفه، بينما نجا الآخر من عقاب مماثل بالنّفي الاختياريّ مدى الحياة*.

   بفضل الصّيت الّذي حظي به سقراط بحياته وموته، خلّف كثيرا من أتباع فلسفته وجّهوا عنايتهم بالتّنافس نحو مناقشة المسائل الأخلاقيّة الّتي غايتها الخير الأعظم الّذي به يمكن للإنسان أن ينعم بالسّعادة. وبما أنّ سقراط في حواراته لا ينفكّ يطرح ويثبت ويفنّد* شتّى الأفكار فلم يظهر موقفه بجلاء، أخذ أتباعه من مساجلاته كلّ واحد ما راق له، ووضع كلّ واحد غاية الخير* حيثما بدا له، بينما يُدعى في الحقيقة غايةَ الخير ما يصير الإنسان عند بلوغه سعيدا؛ لكنّ أتباع سقراط طرحوا حولها آراء بلغت من التّباين درجة يصعب معها التّصديق بأنّ أتباع معلّم واحد طرحوها. فزعم البعض، مثل أرستبّوس، أنّ الخير الأعظم هو اللّذّة، والبعض، مثل أنتستينس، أنّه الفضيلة، كذلك ذهب آخرون وآخرون مذاهب شتّى يطول ذكرها.

 

8-4 في أهمّ تلاميذ سقراط، أفلاطون الّذي ميّز في الفلسفة ثلاثة أقسام

   لكن بين تلاميذ سقراط، برز بجدارة وبمجد ساطع بزّ الآخرين وكسفهم تماما أفلاطونُ الّذي كان أثينيّا فاق بشأو بقيّة التّلاميذ بكرم محتده وعبقريّته العجيبة. مع ذلك فكّر أنّه لا هو ولا تعليم سقراط بكافيين لإعطاء الفلسفة صيغة مكتملة؛ فسافر في طول البلاد وعرضها حيثما أمكنه وحيثما كان يجتذبه صيت علم معتبر يتوق إلى تحصيله. هكذا تعلّم في مصر ما كانوا يَعدّون ويعلّمون كفنون شريفة، وقدم كذلك إلى تلك المناطق من إيطالية حيث كان الفيثاغوريّون يتمتّعون بالشّهرة والإشادة، فتعلّم بسهولة ما كان يزدهر هناك من فلسفة درسها على العلماء المبرّزين فيها. ولأنّه كان يُكنّ لسقراط حبّا خاصّا، وضع على لسانه أفكاره في كلّ حواراته، حتّى ما تعلّم من غيره أو ما اكتشف هو نفسه قدر ما أتاح له فكره العبقريّ، فأضفى عليه رونق وفنّ مساجلات معلّمه الأخلاقيّة. هكذا لمّا كانت دراسة الحكمة تدور حول العمل والنّظر، بحيث يمكن تسمية أحد قسميها عمليّا والآخر نظريّا، العمليّ يتعلّق بنهج الحياة أي بالأخلاق الّتي ينبغي إرساؤها، والنّظريّ برصد العلل الطّبيعيّة وتبيّن الحقيقة المحضة، يذكرون أنّ سقراط نبغ في الفلسفة العمليّة بينما برز فيثاغور أكثر في الفلسفة النّظريّة الّتي ركّز عليها طاقات فكره. أمّا أفلاطون فيُنسب إليه فضل الجمع بين الجانبين وبذلك إعطاء صيغة متكاملة للفلسفة الّتي وزّعها بين ثلاثة أقسام: قسم أخلاقيّ يهتمّ أساسا بالعمل، وآخر طبيعيّ مخصّص للتّأمّل، وثالث عقليّ يميَّز به الصّحيح من الخطإ، ومع أنّه ضروريّ لكلا القسمين الآخرين، أعني العمليّ والنّظريّ، مع ذلك تعتبر الفلسفة النّظريّة تحرّي الحقيقة مهمّتها. لا يتعارض بالتّالي هذا التّقسيم الثّلاثيّ مع التّمييز الأوّل القاضي بأنّ دراسة الحكمة أيّا كان مجالها تتكوّن من جانب عمليّ وآخر نظريّ.

   أمّا ما رأى أفلاطون في- أو عن- كلّ واحد من هذه الأقسام الثّلاثة، أي أين أقرّ أو تصوّر غاية كلّ الأعمال وعلّة كلّ الكائنات ونور كلّ العقول، فأعتقد أنّه أمر يطول شرحه ولا يجب التّسرّع بالحكم فيه جزافا. فلحبّه أسلوبَ إخفاء الحقيقة والاحتفاظ بالرّأي المعروفَ عن معلّمه سقراط الّذي جعله شخصيّة كلّ حواراته المحوريّةَ، لإعجابه بهذا المنهج، لا يمكن في الواقع تبيّن مواقف أفلاطون نفسه حول أمّهات القضايا بسهولة. لكن ممّا نقرأ في مؤلّفاته، سواء ما قال هو نفسه أو ما روى  ودوّن عن غيره وبدا كأنّه يميل إليه، سنذكر ونضمّن هذا العمل بعض آرائه، سواء منها ما يدعم الدّين الصّحيح الّذي تنادي به وتدافع عنه عقيدتنا، أو ما يبدو مخالفا له قدر ما يتعلّق الأمر بقضيّة الوحدانيّة أو تعدّد الآلهة لأهمّيّتها بالنّسبة للحياة السّعيدة الحقيقيّة الّتي تأتي بعد الموت. فربّما ذهب من يشاد بهم باعتبار أنّهم فهموا بنفاذ أكبر وبوجه أصحّ وتبعوا بوفاء أكثر من غيرهم أفلاطون المفضّل بشأو حقّا وعدلا على غيره من فلاسفة الوثنيّين، إلى آراء حول الله تجد فيه علّة الوجود ومنبع الإدراك ونبراس الحياة، يُفهم من هذا التّوصيف الثّلاثيّ أنّ جانبا يخصّ القسم الطّبيعيّ والآخر العقليّ والثّالث الأخلاقيّ. فإن خُلق الإنسان على صفة تجعله بما هو فيه الأفضل يبلغ الأفضل من كلّ الكائنات، أي الإله الواحد الحقّ والخير المحض، الّذي لا توجد طبيعة ولا تعلّم معرفة ولا تجدي حكمة بدونه، فلنبحث عنه هو الّذي فيه كلّ ما هو مهمّ بالنّسبة إلينا، ولنتأمّله هو الّذي فيه كلّ ما هو يقينيّ بالنّسبة إلينا، ولنحبّه هو الّذي فيه كلّ ما هو سويّ بالنّسبة إلينا.

 

8-5 في ما يتعلّق باللاّهوت علينا النّقاش خاصّة مع الأفلاطونيّين الّذين لا ترقى إلى مذهبهم آراء غيرهم

   إن قال أفلاطون إذن إنّ الحكيم محاكي وعارف ومحبّ هذا الإله الّذي بالمشاركة في نوره ينال السّعادة، فما الحاجة إلى محاجّة الآخرين؟ إذ لم يدْنُ من موقفنا أحد أكثر من هؤلاء الفلاسفة. فأمامهم لا يُفسِح فقط ذاك اللاّهوت الأسطوريّ ممتع أذهان الأنجاس بجرائم الآلهة، ولا كذلك فقط ذاك اللاّهوت المدنيّ حيث تنتحل الشّياطين صفة الآلهة فتغوي الشّعوب المنغمسة في المسرّات الأرضيّة لتنال في ضلالات البشر ما تعدّه أشرافا إلهيّة، حاضّة عبدتها على مشاهدة تمثيليّات جرائمها متّخذة مشاهديها أنفسهم فرجة، وحيث ينقلب كلّ عمل شريف يؤدّى في المعابد باقترانه بفحش المسارح خزيا، بينما يستحقّ ما يؤتى في المسارح من قبائح بالمقارنة بمخازي المعابد الثّناء. وكذلك تلك التّأويلات الّتي قدّمها وارّون انطلاقا من تلك الطّقوس بردّها إلى السّماء والأرض وبذور وأعمال الكائنات الفانية، إذ لا تحمل تلك الشّعائر المعاني الّتي يحاول إعطاءها اعتباطا فلا يتبعه الحقّ في مساعيه، وحتّى لو كانت كما زعم لما كان على النّفس العاقلة أن تعبد كإلهها تلك الكائنات الّتي تحتلّ في نظام الطّبيعة منزلة أدنى منها، ولا أن تفضّل على ذاتها كآلهة تلك الأشياء الّتي فضّلها عليها الله الحقّ. وكذلك تلك الكتابات المتعلّقة بنفس تلك الطّقوس الّتي حرص نوما على إخفائها بدفنها معه وانتبشها المحراث فأمر مجلس الشّيوخ بإحراقها، فمن قبيلها- إن أحسنّا بنوما الظّنون- ما كتب الإسكندر المقدونيّ لأمّه عمّا كشف له ليون أحد كبار كهنة الطّقوس المصريّة من أنّ لا بيكوس وفَونوس وأيناس ورومولوس فقط أو كذلك هرقل وأسكولابيوس وليبر ابن سيميلة وتوأمي تنداروس* أو أيّ أشخاص آخرين أُلّهوا، بل حتّى كبار الآلهة الّذين يتحدّث عنهم شيشرون في مساجلاته التّسكلانيّة* باقتضاب دون ذكر أسمائهم- يوبتر ويونون وساترنوس وولكانوس ووستة وآخرين كثيرين- ويحاول وارّون ردّهم إلى أجزاء أو عناصر العالم، كانوا بشرا كما يروى عنهم، ولمخاوفه هو الآخر لإذاعته أسرارا طلب مع شديد التّوكيد من الإسكندر إذ رآه دوّنها في رسالته لأمّه أن يأمرها بإحراقها. لا يفسح إذن ذانك النّوعان من اللاّهوت، الأسطوريّ والمدنيّ، فقط أمام الفلاسفة الأفلاطونيّين الّذين أكّدوا وجود الله الحقّ مبدع الكائنات ومنير الحقيقة وواهب السّعادة. بل يفسح كذلك أمام هؤلاء الفلاسفة أصحاب هذه الفكرة الجليلة عن الله جلّ جلاله الفلاسفة الآخرون الّذين ردّوا الأرواح إلى المادّة وتصوّروا للطّبيعة مبادئ جسمانيّة، رأوها كطاليس في الماء وأنكسيمنس في الهواء والرّواقيّين في النّار وأبيقور في الذّرّات أي الجواهر الفردة المتناهية الصّغر الّتي لا يمكن تجزئتها ولا رؤيتها، وآخرين سواهم من شتّى المذاهب لا حاجة بنا إلى التّوقّف لتعدادهم، زعموا أنّ أجساما، بسيطة أو مركّبة، جامدة أو حيّة، لكن أجساما على أيّة حال هي علّة ومبدأ الأشياء. ظنّ بعضهم، كالأبيقوريّين، ممكنا تولّد أحياء عن جوامد، بينما اعتقد آخرون في إمكانيّة نشوء أحياء وجوامد من الحيّ، لكن أنّ الأجسام تنشأ من الجسم. فقد ذهب الرّواقيّون إلى أنّ النّار الّتي هي أحد الأسطقسات الأربعة الّتي يتألّف منها هذا العالم ذات حياة وفكر وهي صانع العالم وكلّ ما يوجد فيه، وأنّ تلك النّار هي الله يقينا.

   هؤلاء وآخرون أمثالهم استطاعوا أن يتصوّروا فقط ما اختلقت لهم أفئدتهم أسيرة حواسّ الجسد. فلهم في أنفسهم ما لا يرون، وفي أنفسهم يتمثّلون ما رأوا بالخارج حتّى وهم لا يرونه بعد وإنّما يتفكّرونه فقط. فإنّ الواقع الّذي يتمثّله الفكر عندئذ ليس بعد جسما بل صورة ذلك الجسم، وأمّا ما تُرى به في الفكر صورة الجسم فليس جسما ولا صورة جسم؛ وما يُرى به ويُحكم هل واقع ما جميل أو قبيح أفضل بالتّحقيق من الموضوع المحكوم فيه. هذا الفكر المميّز للإنسان والخاصّ بالنّفس العاقلة هو من طبيعة لاجسمانيّة بلا شكّ ما دامت صورة الجسم الّتي تُرى وتقيَّم في النّفس أثناء التّفكير أوّلا وبالذّات لاجسمانيّة. ما هو أرضا ولا ماء ولا هواء ولا نارا- ليس أيّا من هذه الأجسام الأربعة، الّتي يدعونها الأسطقسات الأربعة، الّتي نرى العالم الجسمانيّ مكوّنا منها. فإن كانت نفسنا لاجسمانيّة فكيف يكون الله خالق النّفس جسما؟ يفسح هؤلاء أيضا كما قلت أمام الأفلاطونيّين. ويفسح كذلك أولئك الّذين يستحون من تأكيد أنّ الله جسم لكنّهم يرون أنّ نفوسنا من نفس طبيعته: هكذا لا يحرّكه قابليّة التّحوّل* الكبيرة الّتي من الكفر نسبة مثلها إلى طبيعة الله؟ لكنّهم يقولون: "من الجسم يتمّ التّغيّر في طبيعة النّفس فهي في حدّ ذاتها ممتنعة الفساد." كان يمكنهم أن يقولوا: "من الجسم يُجرح اللحم فينا، فإنّه في حدّ ذاته ممتنع الجرح." باختصار، ما هو يمتنع تحوّله لا شيء يحوّله، ومن ثمّة فما يطرأ عليه التّغيّر من الجسم يمكن لشيء ما أن يغيّره ولا يمكن بالتّالي القول بأنّه ممتنع الفساد.

 

8-6 في موقف الأفلاطونيّين في قسم الفلسفة المسمّى الطّبيعيّات

   رأى إذن أولئك الفلاسفة الّذين نراهم مقدّمين عن جدارة على غيرهم بالشّهرة والمجد أنّ الله ليس بجسم، لذا تخطّوا كلّ في بحثهم عن الله كلّ الأجسام. رأوا أنّ كلّ ما يقبل التّحوّل ليس الإله العليّ، ومن ثمّة تخطّوا في بحثهم عن الله العليّ كلّ نفس وكلّ الأرواح الّتي فيها قابليّة التّحوّل. ثمّ رأوا أنّ الصّورة في أيّ شيء قابل للتّحوّل، الّتي بها يكون شيئا محدّدا، أيّا كان نمط وجوده وأيّا كانت طبيعته، لا يمكن أن توجد إلاّ منه الّذي يوجد وجودا مطلقا منزّها عن الفساد. ومن ثمّة فلا كتلة العالم أجمع وصوره وصفاته وحركته المحكمة وعناصره المرتّبة من السّماء إلى الأرض وكلّ ما فيها من أجسام، ولا كلّ أشكال الحياة سواء منها ما يتغذّى ويحيا كالنّباتات، أو ما يملك ذلك ويحسّ كالحيوانات، أو يملك كلّ ذلك ويعقل كالبشر، أو ما لا يحتاج إلى سند الغذاء لكنّه يحيا ويحسّ ويعقل كالملائكة يمكن أن تكون إلاّ منه هو الّذي يوجد ببساطة، إذ لا فرق فيه بين الوجود والحياة، كما يمكن أن يوجد غير الحيّ، ولا بين الحياة والعقل، كما يمكن أن يحيا غير العاقل، ولا بين العقل والسّعادة، كما يمكن أن يعقل غير السّعيد، فلديه الحياة والعقل والسّعادة هي الوجود. بسبب البساطة وامتناع الفساد اللّذين ذكرنا، أدركوا أنّه صنع كلّ شيء بينما يستحيل أن يكون قد صنعه أيّ شيء. فقد اعتبروا أنّ كلّ ما يوجد جسم أو حياة، وأنّ الحياة أفضل من الجسم، وأنّ خاصّيّة الجسم المحسوسيّة بينما خاصّيّة الحياة المعقوليّة، فلذلك فضّلوا المعقول على المحسوس، ونحن ندعو محسوسا ما يمكن إدراكه حسّيّا بالبصر واللّمس مثلا، ومعقولا ما يمكن إدراكه بالنّظر العقليّ؛ إذ ليس من جمال جسمانيّ، سواء في هيئة الجسم كما هي الصّورة، أو الحركة كما هو النّغم، لا يرجع الحكم فيه إلى العقل، وما كان ليمكن ذلك لو لم تكن فيه هذه الصّورة الأرقى، بلا ثخانة الكتلة وبلا رَجْس الصّوت وبلا حيّز المكان أو الزّمان. لكنّ هذا أيضا لو لم يكن معرّضا للتّحوّل لما حكم في ما يتعلّق بالصّورة الحسّيّة بأنّ هذا أفضل من ذاك؛ أفضل الأنبه من الأبطإ فهما، والأعمق من الأضحل علما، والأثرى من الأقلّ تجربة، والشّخص نفسه كلّما تقدّم أفضل لاحقا ممّا كان سابقا. والحال أنّ ما يقبل الأكثر والأقلّ قابل بلا شكّ للتّغيّر. لذا حكم ذوو الفهم والعلم والتّجربة في هذه الأمور بأنّ الحسن الأسنى والصّورة الأولى* لا يوجد في تلك الأشياء إذ ثبت أنّ صورتها عرضة للتّحوّل. وبما أنّ للجسم والنّفس في نظرهم صورة أكثر أو أقلّ بروزا وبهاء، إن انعدمت فيهما تلك الصّورة تماما صارا عدما صرفا، استنتجوا أنّ هنالك كائنا فيه البهاء الأسنى الّذي لا يدركه الفساد ولا يقبل القياس والمقارنة، وفيه تصوّروا وبسداد مبدأ الأشياء الّذي لم يكوَّن وبه كُوّن كلّ شيء. وهكذا فإنّ ما عُلم من الإلهيّات واضح فيهم أوضحه الله لهم لأنّ غير منظوراته قد أُدركت بالمبروءات؛ وكذلك قدرته الأزليّة وألوهته*، وهو كذلك من خلق كلّ المنظورات وما يوجد في الزّمان. ذاك ما أمكن قوله في ذلك القسم الّذي يدعونه فيزيقا أي طبيعيّات.

 

8-7 كم يجدر اعتبار الأفلاطونيّين أفضل من غيرهم في المنطق، أي الفلسفة العقليّة

   كذلك في ما يتعلّق بالعلم الّذي يبحث في القسم الثّالث العقليّ الّذي يدعونه المنطق logica، حاشا أن نقبل مقارنتهم بمن جعلوا ملكة الحكم في حواسّ الجسم وظنّوا أنّ كلّ المقولات يجب أن تقاس بمعاييرهم غير الموثوق بها والغالطة، أضراب الأبيقوريّين ومن لفّ لفّهم، بل وحتّى الرّواقيّين الّذين ولعوا بفنّ الحجاج الّذي يسمّونه الجدل dialectica وزعموا أنّا نتعلّمه بحواسّ الجسم، مؤكّدين أنّ الفكر يتلقّى منها مفاهيم الأشياء الّتي يدعونها ennoia وبطبيعة الحال يشرحونها بالتّعريف، ومنها يطوَّر ويُحبَك منهاج التّعليم والتّعلّم بتمامه وكماله. وإنّي لكثيرا ما أعجب أيّما عجب إذ يزعمون أنّ لا جملاء إلاّ الحكماء: بأيّة حواسّ من الجسم رأوا ذلك الجمال، بأيّة عيون جسديّة شاهدوا رونق وبهاء الحكمة. أمّا الأفلاطونيّون الّذين نفضّلهم حقّا وعدلا على غيرهم فقد ميّزوا بين ما يُرى بالفكر وما يُدرك بالحواسّ، فلم يبخسوا الحواسّ ما في طاقتها ولا أعطوها أكثر ممّا في طاقتها؛ وأكّدوا كذلك أنّ نور العقول الّذي به نتعلّم كلّ شيء هو الله الّذي به كُوّن كلّ شيء.

 

8-8 في أنّ الأفلاطونيّين يتبوّؤون في الأخلاقيّات أيضا مركز الصّدارة

   بقي القسم الأخلاقيّ الّذي يدعونه بالمصطلح اليونانيّ أثيقا ethica، حيث يُبحث في الخير الأعظم الّذي إليه تتّجه كلّ أعمالنا، وإيّاه ولا شيء سواه ننشد وننال*، فلا نلتمس فيما وراءه شيئا نكون به سعداء. لذا سُمّي كذلك الغاية، فمن أجله نريد بقيّة الأشياء أمّا هو فلا نريده إلاّ لذاته. هذا الخير مصدر السّعادة زعم البعض الجسم وآخرون النّفس وآخرون كليهما مأتاه. كانوا فعلا يرون أنّ الإنسان مؤلّف من نفس وجسم، ولذا يعتقدون أنّه من أحد المبدأين أو من كليهما يمكن أن يشعر بالغبطة؛ فهو خير آخِر به تتحقّق لهم السّعادة، وإليه تتّجه كلّ أعمالهم، ولا ينشدون فيما وراءه شيئا يوجّهون إليه أعمالهم. لذلك فإنّ من أضافوا، حسب ما نُقل عنهم، نوعا ثالثا من الخير يدعى خارجيّا كالشّرف أو المجد أو المال وما شابه ذلك لم يضيفوه ليكون الغاية الأخيرة، أي ما يُطلب لذاته، فإنّه لغيره يُبتغى، وهذا النّوع خير للأخيار وشرّ للأشرار. وهكذا فإنّ الّذين التمسوا خير الإنسان إمّا من النّفس وإمّا من الجسم وإمّا من كليهما لم يذهبوا إلى غير أنّه الغاية الّتي ينشدها الإنسان؛ فأمّا من التمسوه من الجسم فمن معدنه الأخسّ التمسوه، وأمّا من من النّفس فمن الأشرف، وأمّا من من كليهما فمن الإنسان كلّه. سواء إذن من أيّما الجزءين أو من الكلّ، في كلّ الأحوال من الإنسان حصرا. أنشأ لدى الفلاسفة اختلاف هذه المصادر الثّلاثة لا ثلاثة بل عديدا من الخلافات والفِرق، فحول خير الجسم وخير النّفس وخير الاثنين رأى مختلف الفلاسفة مختلف الآراء. كلّهم يفسحون إذن لأولئك الفلاسفة الّذين لم يؤكّدوا أنّ سعادة الإنسان في التّنعّم بالجسم ولا في التّنعّم بالنّفس بل في التّنعّم بالله، لا كالنّفس بالجسم أو بذاتها، ولا كالصّديق بالصّديق بل كالعين بالنّور، وإن جاز تقديم شيء من هذه الأشياء على شبهه، سنبيّن كيف يكون ذلك بعون الله وقدر طاقتنا في موضع آخر. أمّا الآن فيكفي أن نذكر أنّ أفلاطون حدّد غاية الخير بالعيش وفق الفضيلة وأنّها تحصل فقط لمن تتحقّق له معرفة الله ومحاكاة الله وأنّها السّعادة بذلك السّبب حصرا وقصرا. لذلك لا يشكّ في أنّ التّفلسف هو حبّ الله الّذي هو ذو طبيعة لاجسمانيّة. من هنا نتبيّن بلا شكّ أنّ دارس الحكمة، أي الفيلسوف، ينال السّعادة لمّا يبدأ في التّنعّم بالله. ولئن لم يكن سعيدا بالضّرورة من ينعم بما يحبّ، فكثيرون يشقون بحبّ ما لا يجب أن يحبّوا وأكثرَ بالتّمتّع به، إلاّ أنّ لا أحد يسعد وهو لا ينعم بما يحبّ. فحتّى من يحبّون ما لا يجب أن يحبّوا لا يتصوّرون أنفسهم سعداء بحبّه بل بالتّمتّع به. من ينعم إذن بما يحبّ ويحبّ الخير الحقّ والأعظم، من سوى أشقى شقيّ ينكر أنّه سعيد؟ والحال أنّ هذا الخير الحقّ والأعظم هو الله كما يقول أفلاطون، لذا يريد أن يكون فيلسوفا من يحبّ الله، فبحكم أنّ الفلسفة تهدف إلى السّعادة، يكون سعيدا إذ ينعم بالله من يحبّ الله.

 

8-9 في تلك الفلسفة الّتي اقتربت أكثر من سواها من حقيقة العقيدة المسيحيّة

   إذن كلّ من أدركوا من الفلاسفة بخصوص الإله العليّ الحقّ أنّه مبدع المبروءات ونور المعلومات وغاية المرغوبات، وأنّ منه بالنّسبة لنا مبدأ الطّبيعة وحقيقة المعرفة وسعادة الحياة*، سواء دعوناهم كما هو أنسب أفلاطونيّين أو أطلقوا أيّ اسم آخر على فرقتهم، وسواء اعتبرنا هذا النّحو من التّفكير مقصورا على أساطين المدرسة الإيونيّة كأفلاطون ومن فهموه جيّدا، أو شاملا للتّيّار الإيطاليّ باعتبار فيثاغور والفيثاغوريّين ومن ذهبوا إلى آراء مماثلة، أو وجدنا كذلك بين من يعدّون حكماء وفلاسفة الأمم الأخرى، من أحباش ولوبيّين ومصريّين وهنود وكلدانيّين واسكيثيّين وغالّ وإسبان وغيرهم* من رأوا ذلك وعلّموه: كلّهم أفضل لدينا، ونقرّ بأنّهم أقرب إلينا من الآخرين. 

 

8-10 في تفوّق الدّين المسيحيّ على كلّ العلوم الفلسفيّة

   مع أنّ المسيحيّ المطّلع على علوم الدّين فقط قد يجهل اسم الأفلاطونيّين، ولا يسمع بوجود مدرستين فلسفيّتين في آداب اليونانيّة، إيونيّة وإيطاليّة، ما هو مع ذلك بالغفل في الأمور الإنسانيّة إلى درجة الجهل بأنّ الفلاسفة يعلنون احتراف حبّ الحكمة أو الحكمة نفسها. لكنّه يحذر أولئك الّذين يتفلسفون على مقتضى أركان هذا العالم لا على مقتضى الله صانع العالم؛ فإنّ التّعليم الرّسوليّ ينبّهه وهو يستمع بقلب ملؤه الإيمان إلى ما جاء في الكتاب: "احذروا أن يسلبكم أحد بالفلسفة والغرور الباطل حسب سنّة النّاس على مقتضى أركان العالم."* ثمّ كيلا يحكم بأنّهم جميعا كذلك، يستمع إلى قول نفس الرّسول عنهم: "لأنّ ما يُعلم من الإلهيّات هو واضح فيهم قد أوضحه لهم الله. لأنّ غير منظوراته قد أُبصِرت منذ خلق العالم إذ أُدركت بالبمبروءات وكذلك قدرته الأزليّة وألوهته."* وفي خطاب إلى الأثينيّين بعدما قال في الله كلاما رائعا لا يتيسّر لغير قلّة فهمه، "إنّا به نحيا ونتحرّك ونوجد"، أضاف: "كما قال بعض شعرائكم."* وهو يعلم جيّدا كيف يحذر ما فيه يضلّون، فحيث قيل إنّ الله يوضح لإدراكهم غير منظوراته بالمبروءات، قيل أيضا إنّهم لم يعبدوا الله ذاته بالوجه الصّحيح، بل ألقوا كذلك على أشياء أخرى أمجادا ربّانيّة لا تحقّ لسواه: "فإنّهم لمّا عرفوا الله لم يمجّدوه ولم يشكروه كإله بل سفهوا في أفكارهم وأظلمت قلوبهم الغبيّة. وقد زعموا أنّهم حكماء فصاروا حمقى. واستبدلوا مجد الله الّذي لا يدركه الفساد بشبه صورة إنسان ذي فساد وطيور وذوات أربع وزحّافات."* وقد قصد هنا الرّومان واليونان والمصريّين، الّذين فاخروا باسم الحكمة. بيد أنّا سنتناقش معهم في ذلك لاحقا.

   لكن من حيث يتّفقون معنا حول الإله الواحد خالق هذا الكون، الّذي لا يعلو فقط على كلّ الأجسام لأنّه لاجسمانيّ، بل كذلك على كلّ النّفوس لأنّه منزّه عن الفساد، هو مبدأنا ونورنا وخيرنا، في ذلك نفضّلهم على سواهم. ولئن كان المسيحيّ الجاهل بأدبيّاتهم لا يستخدم في النّقاش مصطلحات لم يتعلّمها، داعيا طبيعيّا باللاّتينيّة أو فيزيقيّا باليونانيّة ذلك القسم الّذي يعنى بالبحث عن أسرار الطّبيعة، وعقليّا أو منطقيّا ذاك الّذي يُبحث فيه عن طريقة إدراك الحقيقة، وأخلاقيّا أو أثيقيّا ذاك الّذي يهتمّ بالأخلاق والغايات وما يجب التماسه من خيرات واجتنابه من شرور، فهو لا يجهل أنّا من الله الحقّ الواحد نستمدّ طبيعتنا الّتي خُلقنا بها على صورته، والعلم الّذي به نعرفه وأنفسَنا، والنّعمة الّتي بها ننال إذ نتعلّق به السّعادة. هذا بالتّالي سبب تفضيلنا لهم على غيرهم: أنّه بينما استنفد فلاسفة آخرون جهودهم وأذهانهم في البحث عن علل الأشياء وعن وجود نهج قويم للتّعلّم والعيش، عرفوا هم الله فاكتشفوا أين يوجد سبب الكون المحكم ترتيبه، ونور الحقيقة المطلوبة معرفتها، وينبوع السّعادة المنشود نهلها. سواء أدرك هذه الحقائق إذن هؤلاء الأفلاطونيّون أو أيّ فلاسفة آخرين من شتّى الأمم، فهم يتّفقون حولها معنا. لكنّا اخترنا أن ننافح في هذه القضيّة مع الأفلاطونيّين لأنّ كتاباتهم معروفة أكثر من غيرهم. فإنّ اليونان الّذين تبرز لغتهم بين الأمم أشادوا بهم أيّما إشادة، واللاّتين الّذين بهرهم تميّزهم أو صيتهم تعلّموا بحماس ما كتبوا وبترجمته إلى لغتنا جعلوه أشهر وأوسع انتشارا.

 

8-11 من أين أمكن لأفلاطون الحصول على ما قرّبه من الحقيقة المسيحيّة

   يعجب بعض من يشتركون معنا في نعمة المسيح لمّا يسمعون أو يقرؤون أنّ أفلاطون ذهب في ما يتعلّق بالله إلى هذه الأفكار الّتي يرون أنّها تتّفق إلى حدّ بعيد مع حقيقة ديننا. لذا فكّر بعضهم أنّه لمّا سافر إلى مصر سمع من النّبيّ إرميا أو قرأ أثناء تلك السّفرة أسفار الأنبياء، وقد طرحتُ شخصيّا رأيهم هذا في بعض كتبي*. لكنّ الحساب الدّقيق للأزمان الّتي تتضمّنها كتب التّاريخ الوقائعيّ يشير إلى أنّ أفلاطون وُلد بعد العصر الّذي عاش فيه إرميا بحوالي مائة سنة. وبما أنّه عاش واحدا وثمانين عاما، نجد أنّ حوالي ستّين سنة مرّت منذ وفاته حتّى الزّمن الّذي طلب فيه بطليموس ملك مصر من حبر يهوذا كتب أنبياء العبرانيّين وعهد إلى سبعين عبرانيّا كانوا يعرفون كذلك اليونانيّة بترجمتها والاحتفاظ بها. لذا ما أمكن لأفلاطون أن يرى إرميا الّذي مات قبله بأمد طويل، ولا أن يقرأ الكتاب المقدّس الّذي لم يكن قد تُرجم بعد إلى اليونانيّة الّتي كان متمكّنا منها، اللّهمّ إلاّ إن افترضنا أنّه لحرصه الشّديد على تحصيل المعرفة تعلّم، كما بالنّسبة لكتب المصريّين، بواسطة ترجمان، لا بغية نقلها كتابيّا إلى اليونانيّة- وهو إنجاز يُذكر لبطليموس أتاحه عظيم فضله وربّما كذلك الخوف من سلطته الملكيّة- بل ليتعلّم من محتوياتها بالمحادثة قدر ما يتيسّر له. يدعم ما نذهب إليه بادي الرّأي أنّ سفر التّكوين يبدأ بهاتين الآيتين: "في البدء خلق الله السّماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله يرفّ على وجه المياه."* بينما يذكر أفلاطون في "طيماوس"- وهو كتاب تحدّث فيه عن نشأة العالم- أنّ الله في أوّل أعماله جمع الأرض والنّار، وبيّن أنّه ينسب محلاّ للنّار السّماء*. فلمقولته هذه شبه بما جاء في الكتاب المقدّس: "في البدء خلق الله السّماوات والأرض." ثمّ يذكر العنصرين اللّذين بوساطتهما قُرن العنصران الطّرفيّان: الماء والهواء*. من هنا يُعتقد أنّه فهم بهذا المعنى ما قيل في الكتاب: "وروح الله يرفّ على وجه المياه." فلأنّه بالتّحقيق لم ينتبه جيّدا لما يدعوه الكتاب المقدّس روح الله، ولأنّ الهواء يدعى أيضا روحا*، تصوّر أنّ المقصود هناك العناصر الأربعة*. ثمّ هناك تعريف أفلاطون للفيلسوف بأنّه محبّ الله الّذي لا شيء يسطع مثله في الكتاب المقدّس*. وهناك بالأخصّ- وهو ما يقودني حقّا أنا الآخر إلى الموافقة تقريبا على أنّ أفلاطون لم يكن يجهل تلك الأسفار- أنّه، لمّا نقل الملاك إلى النّبيّ موسى كلام الله فسأل عن اسم ذاك الّذي كان يأمره بالذّهاب إلى الشّعب العبرانيّ* لتحريره من مصر، أجيب: "أنا الكائن، وكذا قل لبني إسرائيل الكائن أرسلني إليكم"*، فمقارنة به هو الكائن حقّا لأنّه ممتنع الفساد تُعدّ الخلائق المتغيّرة في حكم المعدوم؛ وذاك ما نادى به أفلاطون بقوّة وأكّده بحرص شديد؛ ولست أدري إن كان يوجد ذلك في كتب من سبقوا أفلاطون سوى حيث قيل: "أنا الكائن، وكذا قل لهم إنّ الكائن أرسلني إليكم."

 

8-12 في أنّ الأفلاطونيّين أيضا مع اعتقادهم في الإله الواحد الحقّ رأوا لزوم أداء طقوس لآلهة متعدّدة

   لكن أيّا كان المصدر الّذي تعلّم فيه تلك الحقائق، سواء استمدّها من كتب القدماء الّذين سبقوه أو بالأحرى كما يقول الرّسول: "لأنّ ما عُلم من الإلهيّات واضح فيهم أوضحه الله لهم لأنّ غير منظوراته قد أُدركت بالمبروءات، وكذلك قدرته الأزليّة وألوهته"، إخالني عرضت بنحو كاف أنّي اخترت الأفلاطونيّين لا بدون مبرّر وجيه للنّقاش معهم لأنّ الأمر يتعلّق في قضيّة الحال بالدّين الطّبيعيّ: هل ينبغي لنيل السّعادة الّتي تأتي بعد الموت أداء طقوس لإله واحد أم لكثرة. فقد اخترتهم تفضيلا على غيرهم لأنّهم بقدر ما ذهبوا إلى رأي أفضل في الإله الواحد الّذي خلق السّماء والأرض* يعدّون كذلك أشهر وأسطع مجدا، وهم مفضّلون عند المتأخّرين على غيرهم إلى درجة أنّه، رغم تأسيس أرسطوطاليس تلميذ أفلاطون- وهو مفكّر ألمعيّ دون أفلاطون فصاحة لا محالة لكن أفضل بلا جدال من الكثيرين- لفرقة المشّائين، الّتي يعود اسمها إلى أنّه اعتاد المشي أثناء إلقاء دروسه والّتي جمع فيها بفضل بروزه وذيوع صيته عدّة أتباع منذ حياة أستاذه، وإن خلف أفلاطونَ بعد موته ابنُ أخته سبيوسبّوس وتلميذه المحبّب إليه إكسينقراط على رأس مدرسته الّتي كانت تدعى الأكاديميّة* ولذا أطلق عليهما وعلى خلائفهما اسم الأكاديميّين، مع ذلك لم يشأ الفلاسفة المحدثون الّذين مالوا إلى اتّباع أفلاطون تسمية أنفسهم مشّائين ولا أكاديميّين، بل أفلاطونيّين. ومنهم اليونان المشاهير أفلوطين يمبليخوس وفرفوريوس، لكن برز في كلتا اللّغتين- اليونانيّة واللاّتينيّة- الإفريقيّ أبوليوس، الأفلاطونيّ الشّهير. لكنّ هؤلاء كلّهم وآخرين على نفس مذهبهم وأفلاطون نفسه ارتأوا إقامة طقوس لآلهة متعدّدة.

 

8-13 في رأي أفلاطون الّذي عرّف فيه الآلهة ككائنات خيّرة محبّة للفضائل

   إذن رغم اختلافهم معنا في قضايا أخرى كثيرة وهامّة، سأسألهم بدءا حول هذه الّتي طرحت لتوّي وما هي بالأمر الهيّن وهي موضوع حديثنا الآن، لأيّة آلهة ينبغي أداء طقوس، أللخيّرة أم للسّيّئة أم للخيّرة والسّيّئة معا؟ لكن لدينا رأي أفلاطون القائل بأنّ كلّ الآلهة خيّرة وليس بينها إله سيّء قطّ. يُفهم بالتّالي أنّها تؤدّى للخيّرة، ما دامت تؤدّى للآلهة الّتي لا تكون آلهة إن لم تكن خيّرة. إن يكن الأمر كذلك- وهل يجوز فعلا تصوّر خلاف ذلك؟- يلتغِ بالتّحقيق ما يرى البعض من لزوم ترضّي السّيّئة لدفع شرّها، أمّا الخيّرة فيكفي لجلب عونها دعاؤها. إذ لا وجود لآلهة سيّئة، لذا يجب خلع شرف الطّقوس على الخيّرة فقط كما يقولون.

   ماذا تكون إذن تلك الّتي تحبّ الألعاب التّمثيليّة وتطلب بإلحاح أن تُدرج ضمن طقوسها وتُعرَض تعظيما لها؟ قدرتها تدلّ على أنّها ليست عدما، لكنّ هذا الهوى يدلّ على أنّها سيّئة جدّا. فمعروف رأي أفلاطون في الألعاب التّمثيليّة، هو الّذي دعا إلى طرد الشّعراء من المدينة لنظمهم أشعارا لا تليق بجلال وطيبة الآلهة. ماذا تكون إذن تلك الآلهة الّتي تعارض أفلاطون نفسه حول الألعاب التّمثيليّة؟ فعلا هو لا يطيق أن تُرذل الآلهة بجرائم مفتراة، أمّا هذه فإنّها تأمر بالإشادة بمجدها بتلك الجرائم ذاتها. أخيرا لمّا أوعزت بإقامة تلك الألعاب، أضافت إلى مطالبتها بمخاز ارتكاب شرور، إذ اخترمت من طيتس لاتينيوس ابنه وأصابته بمرض لأنّه عصي أمرها، وأزالت عنه المرض لمّا نفّذ أوامرها. مع ذلك هو يرى أنّه لا ينبغي الخوف منها باعتبارها شرّيرة، بل تمسّك بثبات وقوّة برأيه دون أن يساوره شكّ في وجوب تخليص شعب منظّم بإحكام من كلّ ترّهات الشّعراء المستهترة بجلال الآلهة. أفلاطون هذا، كما ذكرت في الكتاب الثّاني، وضعه لابيون ضمن أنصاف الآلهة؛ ولابيون يرى أنّ الآلهة السّيّئة تُترضّى بذبائح دامية وطقوس مشابهة، بينما تُترضّى الخيّرة بالألعاب وما شابهها من الأفعال المبهجة. كيف يجرؤ إذن نصف الإله أفلاطون على انتزاع تلك المتع الّتي يعتبرها شائنة بإصرار لا من أنصاف آلهة، بل من آلهة هي بذلك خيّرة؟ تلك الآلهة تدحض بلا شكّ رأي لابيون، فلقد أبدت نفسها مع لاتينيوس لا ماجنة وعابثة فقط، بل كذلك وحشيّة ورهيبة. ليشرح إذن لنا ذلك الأفلاطونيّون الّذين يعتقدون، وفق رأي معلّمهم، أنّ كلّ الآلهة خيّرة ونزيهة وصديقة لفضائل الحكماء، ويعدّون منكرا  اعتقاد خلاف ذلك بشأن أيّ من الآلهة. يقولون سنشرح. لنصخ السّمع إذن بانتباه.

 

8-14 في رأي القائلين بوجود ثلاثة أنواع من النّفوس العاقلة: في آلهة السّماء وأرواح الهواء وبشر الأرض

   يقولون: هناك ثلاثة أنواع من الأحياء لها نفس عاقلة: الآلهة والبشر والشّياطين*. تسكن الآلهة المحلّ الأرفع والبشر الأسفل والأرواح الأوسط، إذ تقيم الآلهة في السّماء والبشر في الأرض والأرواح في الهواء. وكما تختلف في شرف محالّها، كذلك هو الشّأن في طبائعها؛ فالآلهة تفوق البشر والأرواح قدرة، بينما البشر بُوّئوا منزلة دون الآلهة والأرواح، فبمثل تراتب العناصر الفرق في الأشراف. الأرواح إذن في منزلة بين المنزلتين: فكما هي أدنى فضلا من الآلهة الّتي تقطن تحتها، كذلك هي مفضّلة على البشر الّذين تقيم فوقهم. هي تشترك مع الآلهة في خلود الأجسام، لكنّها تشترك مع البشر في أهواء النّفوس. لا عجب والحال تلك، حسب ما يقولون، أن تجد متعة في فواحش واختلاقات الشّعراء، ما دامت تخضع للأهواء البشريّة بينما الآلهة بمنأى عنها وغريبة عنها كلّيّا. يُستنتج من ذلك أنّ أفلاطون ببغضه ورفضه اختلاقات الشّعراء لم يحرم من متعة الألعاب التّمثيليّة الآلهة الّتي هي خيّرة ورفيعة الشّأن جميعا بل الأرواح.

   ما دام الأمر كذلك- ومع أنّا نجده كذلك عند كتّاب آخرين، أفرد الأفلاطونيّ أبوليوس المادوريّ لهذا الموضوع كتابا كاملا اختار له عنوانا "في إله سقراط"، حلّل وبيّن فيه أيّ نوع من الآلهة اتّخذ سقراط له قرينا واستمال، وقد اعتاد على ما يروى نهيه عن الفعل كلّما اعتزم فعل شيء لا يُتوقّع نفع منه*، فيقرّر بدون مواربة ويثبت بإسهاب أنّه لم يكن إلها بل شيطانا*، متفحّصا وممحّصا بتأنّ رأي أفلاطون عن رفعة الآلهة وضعة البشر ووسطيّة الشّياطين- ما دام الأمر كذلك إذن، كيف أقدم أفلاطون، بطرد الشّعراء من مدينته، على سلب متع المسرح إن لم نقل من الآلهة الّتي نزّهها عن الانفعالات البشريّة، فعلى الأقلّ من الشّياطين، إلاّ إن يكن بهذه الكيفيّة قد حضّ النّفس الإنسانيّة- حتّى وهي لا تزال مقترنة بهذه الأعضاء الآيلة إلى الموت- على ازدراء أوامر الشّياطين الخبيثة وبغض نجاستها من أجل سنا الفضيلة الوضّاح؟ فعلا إن كان أفلاطون بنعيه ومنعه تلك الفعال قد أثبت فضيلته، فإنّ الشّياطين بالمطالبة والأمر بها قد أظهرت بالتّحقيق رذالتها. إذن إمّا أخطأ أبوليوس وما اتّخذ سقراط صاحبا من هذه الطّائفة من الكائنات الخارقة، وإمّا أخذ أفلاطون بآراء متناقضة مجلاّ الشّياطين تارة ومستبعدا ملاذّها من المدينة الفاضلة تارة، وإمّا لا يجدر أن نهنّئ سقراط على صداقة الشّياطين الّتي بلغ الخجل بها بأبوليوس حدّ اتّخاذه "إله سقراط" عنوانا لكتابه الّذي كان الأوْلى، طبق تحليله الّذي ميّز فيه الآلهة عن الشّياطين بعناية وإسهاب أن يعنونه بشيطان، لا إله، سقراط. لكنّه آثر وضع ذلك في صلب تحليله على إبرازه في عنوان الكتاب؛ فبالحسّ السّليم الّذي يشعّ على عالم البشر، يبغض كلّهم أو جلّهم اسم الشّياطين، حتّى أنّ أيّ شخص، لو قرأ قبل الاطّلاع على تحليل أبوليوس حيث يقرّ فضل الشّياطين عنوانا لكتابه "شيطان سقراط" لبدا له أنّ الرّجل قطعا لم يكن يملك رشده. لكن أيّ شيء جدير بالثّناء وجد أبوليوس في الشّياطين، سوى رهافة وديمومة أجسامها وعلوّ محلّ سكناها؟ ففيما يتعلّق بخُلقها، لم يكف أنّه في حديثه العامّ عنها لم يقل فيها حُسنا، بل فوق ذلك قال فيها سوءا كثيرا. والحقّ أنّ لا أحد يعجب بعد قراءة كتابه من رغبتها في الفوز بخزى التّمثيل ضمن طقوسها، وأن أمكن، في حرصها على أن يعدّها النّاس آلهة، أن تجد متعة في جرائم الآلهة، وأن يوافق هواها ما في طقوسها من فخامة فاحشة ووحشيّة شائنة.

 

 <<