القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب العاشر 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب العاشر

 

10-1 في أنّ الأفلاطونيّين أيضا رأوا أنّ الله وحده يهب السّعادة الحقيقيّة للملائكة والبشر لكن يجب البحث في ما إن كانت الملائكة الّتي يدعون لذلك إلى عبادتها تحبّ أن تقدَّم طقوس لله وحده أم لها هي أيضا

   القول الثّابت لجميع من يعرفون كيف يستخدمون عقولهم هو أنّ بودّ كلّ النّاس أن يكونوا سعداء. لكن من هم فعلا كذلك أو كيف يصيرون كذلك، تلك مسألة أثار بحث الفكر البشريّ الضّعيف فيها منذ القديم نزاعات كثيرة وكبيرة أنفق فيها الفلاسفة جهودهم وأوقاتهم، لا متّسع هنا ولا ضرورة لعرضها ومناقشتها. إن يتذكّر من قرأ نقاشنا في الكتاب الثّامن حول الفلاسفة الّذين رأينا التّباحث معهم لمعرفة هل بإمكاننا بلوغ سعادة ما بعد الموت بالتّعبّد بشتّى الطّاعات والطّقوس الدّينيّة إلى الإله الواحد الحقّ الّذي هو كذلك خالق الآلهة، أم إلى آلهة متعدّدة، فلا ينتظرْ منّا تكرار نفس المناقشة هنا، سيما أنّ بوسعه، إن نسيها، إسعاف ذاكرته بإعادة قراءتها. وقد اخترنا الأفلاطونيّين الأعظم صيتا بين الفلاسفة قاطبة عن جدارة، لأنّهم توصّلوا إلى معرفة أنّ النّفس الإنسانيّة الخالدة والعاقلة، أو المدركة، لا تستطيع، بدون المشاركة في نور ذاك الإله الّذي أنشأها وخلق العالم كلّه، أن تكون سعيدة. هكذا ينفون أن يكون على درب ما ينشد النّاس جميعا، الحياة السّعيدة، من لا يرتبط بوشيجة حبّ نقيّ قدسيّ بالواحد الأحسن من كلّ حسن، الله الّذي لا يدركه الفساد. لكن لأنّهم انجرّوا مجاراة للشّعب وراء أباطيله وأضاليله، أو لأنّهم كما يقول الرّسول "سفهوا في أفكارهم"، رأوا هم أيضا أو أرادوا أن يُرى لزاما عبادة آلهة متعدّدة، بل قدّر بعضهم أنّ علينا أن نولي الشّياطين مظاهر التّكريم الواجبة للآلهة من طقوس عباديّة وقرابين، وقد رددنا عليهم في ما تقدّم ردّا كافيا، فعلينا الآن أن ننظر ونبحث، قدر ما يمنحنا الله الطّاقة على ذلك، في جواز الظّنّ بأنّ الملأ الخالدين السّعداء، المنسلكين في عروش وسيادات ورئاسات وسلاطين سماويّة* والّذين يدعوهم أولئك الفلاسفة آلهة ويسمّون بعضا منهم شياطين خيّرة أو معنا ملائكة، يحبّون أن نتعبّد لهم بمظاهر التّعظيم والخشوع، أو بعبارة أوضح: ألهُم مع إلههم الّذي هو إلهنا أم له وحده يودّون أن نؤدّي طقوسا وذبائح، ونكرّس في الخدمة الدّينيّة ممتلكاتنا وأنفسَنا.

   هذه فعلا هي العبادة الواجبة للألوهة أو الألوهيّة، وللإشارة إليها بمفردة، نظرا إلى أنّي لا أجد في اللاّتينيّة لفظة مناسبة وافية بمقصودي، سأستخدم اليونانيّة حيثما دعت الضّرورة لبيانه. فقد ترجم إخواننا كلمة latreia حيثما وُجدت في الكتاب المقدّس بالعبوديّة seruitus*. لكنّ الخدمة المستوجبة للبشر والّتي بمقتضاها يأمر الرّسول العبيد بطاعة أسيادهم* تدعى في اليونانيّة عادة بلفظة أخرى؛ أمّا كلمة latreia فالمقصود بها، حسب ما جرت به عادة من كتبوا لنا كلام الله، دوما أو غالبا أو تقريبا على الدّوام العبوديّة الخاصّة بتعظيم الله. لذلك إن استُخدِمت كلمة cultus ( خدمة، عبادة) فلا يبدو أنّها تعني حصرا الخدمة المستوجبة لله وحده. إذ نستخدم نفس المفردة للحديث عن إجلال الأفراد الّذين اعتدنا تكريم ذكراهم أو أشخاصهم بمحضرهم. بل نستخدم هذه الكلمة لا فقط بخصوص من نخضع لهم خضوع العابدين بل كذلك لبعض الأشياء الّتي تخضع لنا. فمن هذه الكلمة اشتُقّت ألفاظ agricola ( الفلاّح) و colonus ( الأكّار) و incola ( السّاكن)، والوثنيّون يدعون آلهتهم coelicolae لا لأنّها تعبُد بل لأنّها تعمر السّماء: بالسّكنى لا بالتّعظيم تُعَدّ coloni ( نزيلة) السّماء. لا بالمعنى الّذي نقصد لمّا نطلق هذا الاسم على من هم ملزمون بالإقامة على أرض مَنشَئهم لممارسة الزّراعة coloni تحت سلطة مالكها سيّدهم، لكن بالمعنى الّذي يقصده أحد فرسان البيان في لغتنا بقوله: "كانت مدينة عتيقة مأهولة بمستوطنين coloni من صور"*، فقد قصد بالكلمة هنا السّكّان اشتقاقا من incolo لا من colo ( فلح). من هنا كذلك تدعى المدن الّتي أسّستها وأمدّتها بسكّانها مدن أكبر coloniae ( مستعمرات). ومن ثمّة، من المحقّق أنّ كلمة cultus ( عبادة) بحصر المعنى لا تجب لغير الله، لكن نظرا لإطلاق هذه الكلمة بخصوص أشياء أخرى لا يمكن أن ندلّ في اللاّتينيّة بمفردة عن عبادة الله.

   ولئن بدا معنى كلمة religio منحصرا بنحو أدقّ في عبادة الله وحده، ولذلك استعملها مترجمونا لنقل كلمة theoskeia اليونانيّة، مع ذلك جرت عادة النّاطقين باللاّتينيّة- لا الجهلة فقط بل وحتّى أقحاح العلماء- على إطلاقها أيضا على المودّة الواجب إظهارها إزاء ذوي القربى والإخوان ومن يمتّون إلينا بصلة ما، لذلك لا تسمح هي الأخرى بتجنّب اللُّبس لمّا يكون المراد عبادة الله بحيث يمكننا التّأكيد بثقة أنّ هذه الكلمة تعني عبادة الله حصرا وقصرا، وإلاّ سنبدو كأنّا حذفنا من معناها الشّائع اعتباطا رعاية العلاقات مع الأقربين*.

   كذلك تعني عادة كلمة pietas ( البِرّ، التّقوى) المرادفة لليونانيّة eusebeia في معناها الأصليّ عبادة الله. لكنّها تطلَق كذلك على البرّ بالوالدين، ويستخدمها كذلك العامّة بكثرة للإشارة إلى أعمال البرّ والإحسان، وهو معنى تولّد في اعتقادي من أنّ الله يوصينا بها بشكل خاصّ، ويعلن أنّها ترضيه تماما كالذّبائح بل وأكثر من الذّبائح*، ولذلك ينعت الله نفسه بالبرّ* pius. ولا يدعو اليونان ذلك في لغتهم المتداولة eusebeia وإن استعارت اللّهجة العامّيّة عندهم أيضا هذه الكلمة للدّلالة على الرّحمة. لذلك فضّلوا لمزيد الوضوح في بعض المواضع من الكتاب المقدّس على eusebeia كلمة theosebbeia  الّتي تفيد كما يُرى من تركيبها عبادة الله.

   أمّا نحن فلا نستطيع التّعبير بمفردة على ما يدعى باليونانيّة latreia ويترجَم إلى اللاّتينيّة ب seruitus مع حصر المعنى على عبوديّة الله، ولا على ما يدعى باليونانيّة theoskeia بينما يدعى باللاّتينيّة religio مع حصر المعنى في العلاقة بالله، ولا على eusebeia الّتي لا نستطيع ترجمتها بمفردة وإنّما يمكننا نقلها "بعبادة الله" ونقول إنّها تجب فقط لإله واحد هو الله الحقّ الّذي جعل عبدته آلهة. أيّا تكن إذن تلك الكائنات المقيمة في محالّها السّماويّة خالدة سعيدة، إن لم تكن تحبّنا وتريدنا سعداء فلا موجب لعبادتها، أمّا إن كانت تحبّنا وتريد لنا السّعادة فإنّها تريدها لنا يقينا من حيث تنهلها هي نفسها. وإلاّ فهل تنهل من مَعين ونحن من سواه؟

 

10-2 في رأي أفلوطين الأفلاطونيّ حول الكشف

   لكن لا خلاف لنا مع هؤلاء الفلاسفة الأفاضل حول هذه المسألة. فقد رأوا وأكّدوا في كتاباتهم بإسهاب وبطرق متعدّدة أنّها تستمدّ سعادتها مثلنا من نور عقليّ هو إلهها وجوهر مغاير لها يضيئها فتتلألأ بسناه، ولالاشتراك فيه تحيا كاملة مبتهجة. في شرحه لأفلاطون، يؤكّد أفلوطين بقوّة مرارا أنّ نفس العالم، حسب تصوّرهم، لا تستمدّ قطعا من مصدر غير الّذي تستمدّ منه نفسنا سعادتها: النّور الّذي هو جوهر مميّز عنها وهو خالقها ويشرق عليها بنور عقليّ فتشرق بنور عقليّ. ويضرب مثلا لتلك اللاّجسميّات بالأجرام السّماويّة الضّخمة الظّاهرة للعيان: فالله بمثابة الشّمس وهي بمثابة القمر؛ إذ يُعتقد أنّ القمر يضيء بتلقّيه نور الشّمس. يؤكّد إذن ذلك الأفلاطونيّ الكبير أنّ النّفس العاقلة، أو المدركة كما يجب أن نسمّيها بالأحرى، وهي في تصوّره الأقنوم الأصليّ لنفوس الملإ الخالدين والسّعداء الّذين لا يشكّ في سكناهم مُقامات سماويّة، في درجة عليّة ولا يعلو على طبيعتها سوى جوهر الله الّذي صنع العالم وخلقها هي ذاتها*، ولا يستمدّ الملأ الأعلى السّعادة ونور الحقيقة من غير المنبع الّذي ننهل منه. وهو بذلك يوافق الإنجيل حيث نقرأ: "كان رجل مرسل من الله اسمه يوحنّا. هذا جاء للشّهادة لكي يشهد للنّور حتّى يؤمن الجميع على يده. لم يكن هو النّور بل كان ليشهد النّور."* في هذا التّمييز يتبيّن أنّ النّفس العاقلة أو المدركة، كتلك الّتي أوتي يوحنّا، لا يمكن أن تكون النّور لذاتها، بل هي تضيء باقتباسها من نور آخر*. ذاك ما يُقِرّ به يوحنّا ذاته لمّا يقول مدليا بشهادته: "من امتلائه نحن كلّنا أخذنا ونعمةً مكان نعمة"*.

 

10-3 في أنّ الأفلاطونيّين مع إدراكهم لله خالق الكون حادوا عن عبادته الحقّانيّة بإيلاء الأملاك الأخيار والأشرار شتّى الأشراف الرّبّانيّة

   ما دام الأمر كذلك، لو أنّ الأفلاطونيّين وغيرهم ممّن نحا نحوهم لمّا عرفوا الله مجّدوه وشكروه كإله ولم يسفهوا في أفكارهم ويمالئوا، أو تعوزْهم الجرأة ليقاوموا، ضلالات الشّعوب، لاعترفوا بالتّحقيق بأنّ أولئك الملائكة الخالدين والسّعداء وإيّانا نحن الفناة والتّعساء، ليمكننا أن نصير خالدين وسعداء، بحاجة إلى عبادة إله الآلهة الواحد، إلهنا وإلههم. له هو وحده ندين بالعبادة الرّبّانيّة، تلك الّتي يدعوها اليونان "لاترية"، سواء في شكل شعائر ظاهرة أو في ذاتنا الباطنة. فنحن في مجموعنا هيكل له، وكلّنا كأفراد هياكل له، إذ يرتضي له مسكناً ذاتنا الجماعيّة ونفوسنا الفرديّة، وما هو في المجموعة بأكبر ممّا هو في الأفراد لأنّه لا يتمدّد بتكتيل ولا يتقلّص بتجزيء. لمّا يرقى إليه قلب البشر يغدو له محرابا، وإليه نتّخذ ابنه الوحيد إماما ملتمسين رضوانه، ونقدّم ذبائح تنزف دما لمّا نبذل في الجهاد من أجل حقيقته حتّى دماءنا، ونضوّع أذكى البخور لمّا نتّقد بعشق تقيّ نقيّ قدّامه، ونفيء إذ ننذر له هباته وأنفسنا، ونكرّس ونقدّس ذكرى آلائه بأعياد وأيّام مخصّصة لتمجيده كيلا يتسلّل إلينا بمرّ الأيّام جحود النّسيان، ونُهدي في مذبح قلوبنا قربان إسلام وشكر يتوهّج بحرّ المحبّة. لرؤيته، كما يمكن أن يُرى، والتّعلّق به، ننقّي نفوسنا من كلّ أدران الخطايا والشّهوات السّيّئة، ونتقدّس باسمه، فهو ينبوع سعادتنا وغاية كلّ رغائبنا. باختياره أو بالأحرى بإعادة صلتنا به- فقد فقدناه بإهماله*-، بإعادة الاتّصال به- ومن هنا أتت كلمة religio ( دين)* على ما يذكر فقهاء اللّغة- إليه نتوجّه بحبّنا، لنستريح عند الوصول إليه، سعداء لأنّا فيه هو غايتنا حقّقنا كمالنا. فما الخير، غايتُنا الّتي طالما اختصم حولها الفلاسفة، سوى الاتّحاد بذاك الّذي بعناقه والاندماج به، إن جاز التّعبير، تمسي النّفس المدركة مليئة وخصبة بالفضائل والكمالات الحقيقيّة. بحبّ ذلك الخير يجب أن يقودنا من يحبّوننا ونقود من نحبّ من جهتنا: بذلك تتحقّق الوصيّتان اللّتان بهما يتعلّق النّاموس والأنبياء: "أحبب الرّبّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك" و"أحبب قريبك كنفسك"*. فليتعلّمَ الإنسان كيف يحبّ نفسه حُدِّدت له غاية يوجّه إليها كلّ أعماله ليحظى بالسّعادة، إذ لا غاية سوى السّعادة ينشُد من يحبّ نفسه، وهذه الغاية هي بالتّحديد الاتّحاد بالله. إذن لمّا يؤمر من يعلم أنّه يحبّ نفسه بحبّ قريبه كما يحبّ نفسه، هل يوصى* بسوى حبّ الله قدر مستطاعه؟ تلك هي عبادة الله السّويّة، ذاك هو الدّين الحقّ، تلك هي التّقوى الصّحيحة، تلك هي العبوديّة الواجبة لله وحده دون سواه. أيّا ما كانت إذن تلك القوّة الخالدة، ومهما أوتيت من قدرة، إن كانت تحبّنا كما تحبّ نفسها، لا شكّ أنّها تريد أن نخضع لننال السّعادة لمن تُحبر بالخضوع له في بالسّعادة. إذن إن لم تكن تعبد الله فهي تعيسة لحرمانها منه؛ أمّا إن كانت تعبد الله فهي حتما لا تحبّ أن تُعبد مكانه، بل تحبّ وبكلّ طاقاتها تنصر قول الله: "من ذبح لآلهة إلاّ للرّبّ فليُبسل"*.

 

10-4 لله وحده تجب الذّبيحة

   أغضي حاضرا عن بقيّة الشّعائر الدّينيّة المتّبعة في إطار عبادة الإله، مكتفيا بالذّبيحة الّتي لا يجرؤ أحد قطعا على القول بوجوبها لغير الإله. هناك فعلا عدّة طقوس تندرج في إطار عبادة الإله استُخدمت تجاوزا لتكريم بشر، مبالغة مشطّة في التّذلّل أو غلواء فاحشة في التّملّق*، مع ذلك يُنظر إلى من يولوْن تلك الأشراف لإجلالهم وتبجيلهم أو حتّى- إن بولغ في التّعظيم- لتقديسهم، كبشر. لكن من فكّر أبدا في تقديم ذِبح لغير من يعلم أو يتصوّر أو يختلق أنّه إله؟ ويدلّ بالتّأكيد بنحو كاف على قدم تقديم القرابين ضمن شعائر عبادة الله مثَل ابني آدم قابيل وهابيل اللّذين رفض تقدمة أكبرهما وتقبّل من أصغرهما*.

 

10-5 في القرابين الّتي لا يشتهيها الله وإنّما أراد أن تقدَّم دلالة على أشياء يطلبها

   من فقد الرّشد إلى حدّ تصوّر أنّ القرابين الّتي تقدَّم لله تصلح لبعض الاستعمالات الّتي يحتاج إليها؟ لا حاجة إلى الإطناب في عرض ما يشهد به الكتاب المقدّس بهذا الصّدد في مواضع متعدّدة، يكفي أن أذكر هذا المقطع الوجيز: "قلتُ للرّبّ أنت سيّدي وما عداك لا خير لي."* لا يجب الظّنّ إذن أنّ الله بحاجة إلى ذبائح من النَّعَم أو تقربات أخرى من متاع الدّنيا الزّائل، بل ولا حتّى إلى برّ الإنسان، فإنّما ينفع الإنسانَ لا اللهَ ما يُعبد به اللهُ حقّا وعدلا، وما لأحد أن يزعم أنّه أسدى جميلا إلى النّبع إن شرب ولا إلى النّور إن أبصر. ولا ينبغي أن نفهم تقديم الآباء الأوّلين لله ذبائح حيوانيّة- يقرأ عنها شعب الله دون تقليدها- إلاّ كرموز لأشياء أخرى باطنة تتمثّل في اقترابنا من الله ومساعدة القريب على بلوغ نفس الغاية. القربان شعيرة ظاهرة لتضحية خفيّة، أي رمز مقدّس. لذا يقول ذلك العبد التّائب عند النّبيّ كاتب المزامير أو النّبيّ ذاته طالبا من الله مغفرة ذنوبه: "فإنّك لا تبتغي ذبيحة فأبذلَ ولا ترتضي بمُحرَقة. إنّما ذبائح الله روح منكسر. القلب المنكسر المنسحق لا ترذله يا الله."* لنلاحظ كيف أنّه في نفس الموضع حيث يقول إنّ الله لا يبتغي منّا ذبيحة، يبيّن أنّ الله يبتغي ذبيحة: هو فعلا لا يبتغي ذبيحة حيوانيّة، إنّما يبتغي قربانا قلبا منسحقا. إذن ما قال إنّ الله لا يبتغيه، أردف أنّه يرمز إلى ما يبتغي منّا؛ هكذا قال إنّ الله لا يحبّ تلك القرابين للسّبب الّذي يظنّ الحمقى أنّه يبتغيها لأجله: إشباع شهوته. فلو لم يكن يريد التّورية عن تلك الذّبائح المعنويّة- كقلب منكسر ومنسحق من حسرة التّوبة- بتلك الأخرى المادّيّة الّتي ظُنّ أنّه يبتغيها لمتعته، لما أمر بها في شريعته القديمة؛ فكان لا بدّ إذن من تغييرها في الوقت المناسب والمقرّر بسابق تدبير كيلا يُظنّ أنّها هي ذاتها، لا الرّموز الّتي تقصدها، مبتغاة من الله ومرتضاة منّا. من هنا جاء في مزمور آخر: "إن جعتُ فلا أخبرك فإنّ لي المسكونة ومِلأها. أم لعلّي آكل لحم الثّيران أو أشرب دم التّيوس؟"* كأنّه يقول: لو كنت أحتاج حقّا إلى تلك الذّبائح لما طلبتها منك وهي مِلك يدي. ثمّ استأنف مفسّرا المراد بها: "اذبح لله الاعترافَ وأوفِ العليَّ نذورَك. وادعني يوم الضّيق وأنا أنجّيك فتمجّدني."* وفي سفر نبيّ آخر نجد: "بماذا أتقدّم إلى الرّبّ وأنحني لله العليّ؟ أبمحرقات أتقدّم إليه وبعجول حوليّة؟ أيرتضي الرّبّ بألوف الكباش ورِبْوات أنهار الزّيت؟ أأبذل بكري عن معصيتي وثمرة بطني عن خطيئة نفسي؟ قد بيّن لك أيّها الإنسان ما هو صالح وما يطلب منك الرّبّ: إنّما هو أن تُجزي الحكم وتحبّ الرّحمة وتسير بتواضع مع إلهك."* في أقوال هذا النّبيّ تمييز بين النّوعين وتقرير صريح أنّ الله لا يبتغي تلك الذّبائح لذاتها وإنّما يرمز بها إلى القرابين الّتي يريد فعلا. في الرّسالة الّتي كتبها إلى العبرانيّين يقول الرّسول: "لا تنسوا الإحسان والمؤاساة فإنّ الله يرتضي مثل هذه الذّبائح."* ومن قول النّبيّ حيث كُتب: "فإنّي أردت رحمة لا ذبيحة ومعرفةَ الله أكثر من المحرَقات"*، لا ينبغي أن نفهم سوى تحبيذ ذبيحة على ذبيحة، فما يدعوه الجميع ذبيحة يكني عن الذّبيحة الحقيقيّة: فالرّحمة هي التّقدمة الحقيقيّة، لذلك قيل ما ذكرت قبل قليل: "إنّ الله يرتضي مثل هذه الذّبائح." يؤول إذن كلّ ما نقرأ من وصايا ربّانيّة عن الذّبائح الخاصّة بخدمة الخباء أو الهيكل، إلى حبّ الله والقريب، ففي هاتين الوصيّتين يتعلّق النّاموس والأنبياء كما جاء في الكتاب المقدّس.

 

10-6 في الذّبيحة الحقيقيّة الكاملة

   الذّبيحة إذن كلّ عمل صالح نعمله بغاية الارتباط بالله بوشيجة قدسيّة، يرمي بوضوح إلى الخير المحض الّذي فيه يمكننا أن نكون سعداء. لذا حتّى الرّحمة الّتي تدفع إلى مساعدة الغير لا تعدّ قربانا إن لم يُبتغ بها وجه الله، فالقربان، وإن صدر أو قُدّم من إنسان، عمل مقدّس مقدّم للإله، كما يبدو من اشتقاق القدماء لهذه الكلمة sacrifcium ( عمل مقدّس). لذلك أيضا، يمثّل الإنسان النّاذر نفسه لاسم الله، والمكرَّس لله* من حيث كونه يموت في العالم ليحيا في الله ذبيحة. فمن الرّحمة أيضا ما يفعل الإنسان حبّا لنفسه. لذلك كُتب: "أحبب نفسك وفرّج عن قلبك ( تكن مرضيّا عند الله)"* كذلك كمُّ جسدنا بالتّعفّف، إن فعلنا ذلك كما هو من واجبنا حبّا لله، فلا نجعل أعضاءنا سلاح إثم للخطيئة بل نسخّرها لبرّ الله، ذاك ما يدعونا إليه الرّسول إذ يقول: "فأسألكم أيّها الإخوة بمراحم الله أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله عبادةً منكم عقليّة."* فإن عُدّ الجسد الّذي تستعمله النّفس كخادم أدنى منها شرفا وأداة عند استخدامه باستقامة وصلاح حبّا لله قربانا، فأعظمْ بالنّفس ذاتها قربانا لمّا تتوجّه إلى الله متّقدة بلهيب الحبّ المقدّس فتتخلّص من فتنة الحسن الدّنيويّ، وتنيب إليه هو الحسن غير المتغيّر فتتحوّل* وتحسن عنده إذ اقتبصت قبضة من بهائه، وذاك ما يقول الرّسول متابعا: "ولا تتشبّهوا بهذا الدّهر بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد عقولكم لتختبروا ما مشيئةُ الله الصّالحة المرضيّة الكاملة."* إذن ما دامت الذّبائح الحقيقيّة أعمال الرّحمة سواء لأنفسنا أو للقريب إن ابتغينا بها الله، وأعمال الرّحمة تهدف من جهة أخرى إلى تخليصنا من البؤس وجعلنا سعداء، وهو ما لا يتمّ بدون امتلاك ذلك الخير الّذي قيل عنه: "وأنا فحسنٌ لي القرب من الله"*، يتبع حتما أنّ المدينة المفتداة بكاملها، أي مجموعة الصّدّيقين، هي بالذّات ذبيحة للنّاس كافّة تقدَّم إلى الله بيدي الحبر الأعظم الّذي قدّم أيضا نفسه، في آلامه، لافتدائنا، لنكون لتلك الرّأس الجليلة جسما حسب هيئة العبد، فهي الّتي قدّم، وفيها قدّم نفسه لأنّه من خلالها وسيط وفيها هو حبرُنا وفيها هو الفداء. لذا لمّا دعانا الرّسول إلى أن نقرّب أجسادنا ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة وعبادة منّا عقليّة، وألاّ نتشبّه بهذا الدّهر، بل أن نتحوّل إلى صورة أخرى بتجديد عقولنا لنختبر ما مشيئة الله،  أفهمنا أنّا في مجموعنا ذبيحة صالحة مرضيّة كاملة، إذ يقول: "فإنّي بالنّعمة المعطاة لي أوصي كلّ من فيكم أن لا يسمو بعقله فوق ما ينبغي بل أن أن يتعقّل تعقّل الحكمة على مقدار ما قسم الله لكلّ واحد من الإيمان. فإنّه كما أنّ لنا في جسد واحد أعضاءً كثيرةً وليس لجميع الأعضاء عمل واحد، كذلك نحن الكثيرون جسد واحد في المسيح وكلّ واحد منّا عضو للآخرين. فلذلك إذ لنا مواهب مختلفة باختلاف النّعمة المعطاة لنا."* ذاك هو قربان المسيحيّين: جسد واحد في المسيح، وهو ما تحتفل به الكنيسة في سرّ القربان المقدّس المعروف للمؤمنين*، ففي الحقيقة نفسَها تقدّم في ذلك القربان الرّمزيّ.

 

10-7 في أنّ الملائكة الأطهار لحبّهم لنا يحبّون أن نعبد الله الواحد الحقّ من دونهم

   أولئك الملائكة الّذين يقيمون في مقرّاتهم السّماويّة خالدين سعداء، مشاركين خالقهم غبطته بقربهم منه، مستمدّين من أبديّته ثباتا ومن حقيقته يقينا ومن نعمته قداسة، بحقٍّ وبرحمةٍ يحبّوننا نحن الفناة التّعساء، ويحبّون أن نكون خالدين سعداء، وأن نقدّم ذبائحنا لا لهم بل لمن يعلمون أنّهم وإيّانا له ذبيحة. فإنّا وإيّاهم مدينة الله الواحدة الّتي يقول عنها المزمور: "يحدَّث عنكِ بالمفاخر يا مدينة الله"* والّتي يرتحل فينا جزء منها، والآخر فيهم يقدّم العون. من تلك المدينة العلويّة حيث مشيئة الله هي النّاموس الثّابت هو هو، من ذلك المجمع المعتني بنا* نزل إلينا على أيدي سفضرة بررة الكتاب المقدّس حيث نقرأ: "من ذبح لآلهة إلاّ للرّبّ فليُبسل".

 

10-8 في المعجزات الّتي أيّد الله وعوده بها بواسطة ملائكته لتثبيت إيمان الأتقياء

   سيبدو أنّي أوغل في الماضي إلى أبعد ممّا يلزم لو ذكرت المعجزات القديمة الّتي صنع الله تأييدا لوعده إبراهيم قبل آلاف السّنين بمباركة كلّ الأمم المنحدرة منه. من لا يعجب فعلا كيف أنجبت لإبراهيم غلاما زوجته  العاقر في سنّ الشّيخوخة حيث ما كانت حتّى خصبةً لتستطيع الولادة؟ وأنّ نارا نزلت من السّماء على قربان إبراهيم فسارت بين قطع الذّبائح؟* وأنّه أنبئ بأنّ حريقا من السّماء سيدمّر سدوم* وأنّ الملائكة الّذين ضيّفهم وهم في هيئة بشر بشّروه بغلام، وعدا من الله حقّا. وأنّ أولئك الملائكة أنفسهم* أنقذوا من الحريق الدّاهم بنحو عجيب لوطا ابن أخيه، وإذ نظرت زوجته خلفها استحالت حالا إلى عمود من الملح، فبقيت آية تذكّرنا بأنّه لا ينبغي لمن هو على طريق الخلاص أن يلتفت إلى الوراء؟* وأعجب من ذلك المعجزات الكبيرة الكثيرة الّتي صنعها موسى لتحرير شعب الله من العبوديّة في مصر، حيث سمح الله لسحرة فرعون ملك مصر الّذي كان يُعنت قومه بطغيانه بصنع بعض الأعاجيب ليغلبهم نبيّه بآياته الكبرى: كانوا يصنعونها بالنّفثات والتّعاويذ السّحريّة، بينما كان موسى أقوى بقدر ما كان الحقّ في جانبه، فاستطاع التّغلّب عليهم بسهولة باسم الله خالق السّماء والأرض وعون ملائكته، وبعدما اندحر السّحرة في الضّربة الثّالثة، أُرسلت على يد موسى وبتدبير مدبّر خفيّ قدير ضربات أخرى بلغت جملتها عشرا* أذابت قسوة قلوب فرعون والمصريّين فخلّوا سبيل شعب الله. وما لبثوا أن ندموا، فلمّا أتبعوا قوم موسى الخارجين من مصر شُقّ البحر فعبر العبرانيّون في اليبس بين الفِرق والفِرق ثمّ انطبق فغشي وأغرق الآخرين. وماذا أقول في تلك المعجزات الّتي تتابعت بقوّة إلهيّة مدهشة أثناء رحلة الشّعب في البرّيّة بقيادة نبيّه: عن المياه الّتي لم تكن تصلح للشّرب وبعد وضع فرع شجرة فيها فقدت بأمر الله ملوحتها وروت العطاش؛ والمنّ الّّذي أُنزل من السّماء فأشبع الجياع، فكانوا يجمعون منه ما يكفي لحاجة كلّ يوم وكلّ ما زاد عنها يتلفه دود يخرج منه، إلاّ قبل يوم السّبت الّذي حُرّم الجمع فيه فكانوا يجمعون ضعف المقدار العاديّ دون أن يفسد*؛ وعن اشتهائهم اللّحم الّذي لم يكن يبدو ممكنا توفيره لمثل ذلك العدد من النّاس، فإذا بأسراب من السّلوى تملأ المخيّم فتشبع شاهيّتهم حتّى التّخمة؛ وعن الأعداء الّذين اعترضوا سبيلهم وقاتلوهم لمنعهم من المرور فدعا موسى ربّه ومدّ ذراعيه في شكل صليب* فهُزموا دون أن يُقتل أحد من العبرانيّين؛ وعن مثيري الفتنة في شعب الله المنفصلين عن الجماعة المنظّمة بتدبير إلهيّ فانشقّت الأرض وابتلعتهم ليكونوا مثلا مرئيّا لعقاب لامرئيّ؛ وعن الحجر الّذي ضربه موسى بعصاه فانبجست منه عيون كفت حاجة ذلك الجمع؛ وعن لدغات الثّعابين القاتلة، عقاب الخطأة العادل، الّتي كان يشفي منها مرأى حيّة نحاسيّة منصوبة على خشبة لإسعاف الشّعب المبتلى وتدمير الموت بالموت مرموزا إليه بشبه الموت على صليب*؟ تلك الحيّة الشّافية الّتي احتُفظ بها تذكارا عن تلك الحادثة ثمّ ضلّ الشّعب فبدأ يعبدها كوثن، دمّرها الملك حزقّيا المتّقي لله فاستحقّ بتقواه حمدا عظيما.

 

10-9 في الفنون المحظورة المتّصلة بعبادة الشّياطين والّتي اضطرب رأي فرفوريوس الأفلاطونيّ حولها فبعضا قبل وبعضا رفض 

   كانت هذه المعجزات وأخرى كثيرة مثلها يطول ذكرها كلّها تحصل لتعزيز عبادة الإله الواحد الحقّ ومنع عبادة آلهة متعدّدة زائفة. وكانت تحصل بفضل إيمان بسيط وثقة تنبع من تقوى القلوب، لا بالتّعاويذ والعزائم الّتي ابتدعها لإرضاء فضول أثيم ذلك الفنُّ الّذي يدعونه سحرا، أو باسم goethia ( استحضار الأموات) المرذول أو باسم theurgia ( الطّقوس الإشراقيّة) الأدعى إلى الاحترام، كما لو أنّهم يحاولون فرز ممارسي الفنون الممنوعة باعتبارهم سحرة يستحقّون العقاب ويدعوهم العامّة مشعوذين ( malefici أي فاعلي الشّرّ)، بينما يودّون إظهار الآخرين الّذين يعدّونهم أقطابا إشراقيّين كذوقيّين جديرين بالتّقدير. والحال أنّ الجميع مشبوكون في حبائل الشّياطين الغويّة المستترة تحت اسم الملائكة زورا. ففرفوريوس هو أيضا يعد، في وجل وخجل لا محالة، بتطهير النّفس بالطّقوس الإشراقيّة، لكنّه ينفي أن تهيّئ هذه الرّياضات أحدا للعودة إلى الله؛ فتراه يتأرجح لا يقرّ على رأي بين ذلك الفضول الأثيم المرذول والممارسة الفلسفيّة: ينبّه تارة إلى لزوم الحذر من ذلك الفنّ باعتباره غالطا نظريّا ومضرّا عمليّا ومحظورا قانونيّا، وتارة يجاري أنصاره فيزعم أنّه مجدٍ في تطهير قسم من النّفس، لا العقليّ الّذي تُدرك به حقائق المعقولات الغريبة تماما عن عالم المحسوسات، بل الرّوحيّ الّذي تلتقط به صور المحسوسات. يزعم أنّ هذا القسم يصير برياضات إشراقيّة يدعوها telatae مهيّأة ومعدّة للاتّصال بالأرواح والملائكة ولرؤية الآلهة. يسلّم مع ذلك بأنّ النّفس العاقلة لا تصل من خلال تلك الرّياضات الإشراقيّة إلى تطهّر يهيّئها لرؤية إلهها وإبصار الحقائق المحضة. يمكن أن نفهم من ذلك إلى أيّة آلهة وأيّة رؤية توصل رياضاته الإشراقيّة الّتي لا تُرى فيها الحقائق المحضة. فضلا عن ذلك يقول إنّ النّفس العاقلة أو الفكريّة كما يفضّل تسميتها تستطيع الخلاص حتّى إن لم يتطهّر الجانب الرّوحيّ بأيّة رياضة إشراقيّة، فهذا الفنّ يطهّر الجزء الرّوحيّ دون الوصول إلى منزلة الخلود والأبديّة. ومع أنّه يميّز الملائكة عن الشّياطين مؤكّدا أنّ هذه تسكن الهواء بينما تلك تسكن الأثير أو الجَلَد الأزرق empyrea ويدعونا إلى الاستفادة من مودّة أحد الشّياطين لنستطيع بعد الموت الارتفاع بمساعدته عن الأرض ولو شيئا يسيرا، لكنّه يقول إنّ  طريقا أخرى توصلنا إلى الملإ الأعلى. ومع ذلك يشهد في اعتراف صريح بأنّ الأوْلى بنا أن نحذر مخالطة الشّياطين، حيث يقول إنّ النّفس عند تعرّضها للعقاب* تلعن عبادة الشّياطين الّتي غوتها. هكذا لم يستطع إنكار استعانة تلك الطّقوس الإشراقيّة الّتي أشار بها كوسيلة للتّقرّب من الملائكة بقوًى تحسد النّفس على تطهّرها أو تمالئ حسّادها. بهذا الصّدد يورد شكوى لأحد الكلدانيّين قائلا: "يشكو رجل صالح من كلدة من أنّ جهوده لتطهير نفسه ذهبت سدى لأنّ رجلا آخر له نفس القدرات في مجال السّحر بدافع الحسد قيّد تلك القوى كيلا تستجيب لمطالبه." حسب ما ذكر إذن قيّدها ذاك ولم يفكّها هذا. من هذا المثال يتّضح، كما يقول، أنّ الممارسة الإشراقيّة تتيح القيام بأعمال الخير وكذلك الشّرّ لدى الآلهة كما لدى البشر*. ويزعم أنّ الآلهة أيضا تتعرّض وتُجرّ إلى تلك الانفعالات والتّأثّرات الّتي نسبها أبوليوس إلى كلّ من الشّياطين والبشر مع عزل الآلهة عن الفئتين برفعة مقامها الأثيريّ، مشاطرا أفلاطون الرّأي في ذلك الفصل.

 

10-10 في الطّقوس الإشراقيّة الّتي تعد كذبا بتطهير النّفس بالابتهال إلى الشّياطين

   لكن هوذا أفلاطونيّ آخر، أوسع علما حسب ما يقولون، فرفوريوس الشّهير، يزعم أنّ الآلهة هي الأخرى تتأثّر بالانفعالات والعواطف، وأنّ السّبيل إلى التّأثير عليها رياضتهم الإشراقيّة الغريبة، إذ أمكن الابتهال إليها وترهيبها بعزائم كيلا تتيح لنفس بشريّة أن تتطهّر: هكذا خوّفها مبتغي الشّرّ وصدّها عن ملتمس الخير، ولم يمكن بنفس أسلوب التّأثير الإشراقيّ فكّها وتخليصها من ذلك الخوف لتمنح نعمتها لمريدها الصّادق العزم! من لا يرى أنّ كلّ هذا من خزعبلات الشّياطين وبهتانها، إلاّ إن يكن أحد عبيدها البائسين المعرضين عن نعمة المخلّص الحقيقيّ؟ فلو كانت تلك العزائم تسمو بالنّفس إلى آلهة صالحة لغلب لديها الرّجل الصّالح السّاعي إلى تزكية نفسه السّاحر الشّرّير مثبّطها. أو إن لم يكن الرّجل المذكور قمينا لدى الآلهة العادلة بتلك التّنقية، فما أرهبها يقينا حاسده كما يقول هو، بل بمحض إرادتها وبعدل رفضت. لكن عجيب أنّ ذلك السّاحر الطّيّب الّذي كان يودّ تطهير نفسه بالطّقوس الإشراقيّة لم يجد إلها أعلى يروّع أكثر الآلهة المروّعة ويجبرها على تنفيذ العمل الصّالح المطلوب، أو طريقة لتخليصها من خوفها فتعمل ذلك الخير بكامل حرّيّتها. لكن إن أعوزته عزيمة ينقّي بها أوّلا من لوثة الخوف الوبيئة تلك الآلهة الّتي كان يدعو لتنقّي نفسه فلماذا يمكن الاستعانة بإله أقوى لترويعها لكن لا لتسكين روعها؟ أيجد الحاسد إلها يستجيب له ويقذف في قلوب الآلهة الرّعب فتحجم عن فعل الخير، ولا يجد مستقيم القلب إلها يستجيب له ويزيل عنها الخوف فتعمل الخير الّذي يطلب منها؟

   فيا لفنّ الإشراق العظيم وتطهير النّفس الرّائع حيث تغلب كلمة الحسد النّجس كلمة الطّيبة الزّكيّة! بل لنحذرْ ونبغضْ خداع الأرواح الماكرة ونُصغ إلى التّعاليم المنقذة. وما يقال عمّن يُجرون هذه التّنقيات النّجسة بتلك الطّقوس الأثيمة* فيرون بعد تزكية أرواحهم المزعومة، حسب ذلك الفيلسوف، صورا رائعة البهاء لملائكة أو آلهة، هل ذلك، إن رأوه فعلا، سوى ما يخبرنا الرّسول عن إبليس: "فإنّ الشّيطان نفسه يغيّر هيئته إلى ملاك نور"*. فتلك التّوهّمات خاصّة به هو الّذي يلذّ له أن يشبك النّفوس البائسة في ضلالات طقوس آلهة متعدّدة وزائفة، ويصدّها عن العبادة الحقّانيّة للإله الحقّ الّذي فيه وحده تنقّى وتُشفى، وهو كما قيل عن بروتيوس "يتحوّل إلى كلّ الصّور"*: ينكّد شناءة وعدوانا، ويساعد زورا وبهتانا، ويضرّ في الحالتين ولا ينفع إنسانا.

 

10-11 في رسالة فرفوريوس إلى أنيبون المصريّ حيث يطلب منه تعليمه بشأن أنواع الشّياطين

   كان فرفوريوس أقرب إلى الصّواب في رسالته إلى أنيبون المصريّ حيث نراه، في مظهر السّائل والمستشير، يفضح ويدمّر تلك الفنون الأثيمة. نراه فعلا يشجب فيها كلّ الشّياطين الّتي تجتذبها بسبب نزقها وحمقها، كما يقول، الأبخرة الرّطبة، لذلك لا تسكن الأثير، بل الهواء تحت القمر وفي هذا الجِرم ذاته. لكنّه لا يجرؤ على نسبة كلّ أنواع الكيد والزّور والحمق، الّتي يستنكرها بحقّ، إلى الشّياطين، فبعضًا يدعو على عادة غيره شياطين خيّرة مع اعترافه بنزقها وحمقها جميعا. كذلك يستغرب كيف تستطيع الذّبائح، لا استمالة الآلهة فقط، بل كذلك حملها وإجبارها على فعل ما يريد البشر؟ وما دامت الآلهة تختلف عن الشّياطين بلاجسميّتها، كيف تكون في عداد الآلهة الشّمس والقمر والكواكب الأخرى المرئيّة في السّماء الّتي لا يشكّ في أنّها أجسام؟ وإن كانت آلهة، كيف يُعَدّ بعضها ميمونا والآخر مشؤوما وكيف تُقرن وهي جسميّات بلاجسميّات*؟ سأله كذلك، بلهجة المشكّك المرتاب، إن كان في العرّافين وذوي الكرامات استعدادات نفسيّة فائقة أم تأتيهم أرواح من الخارج يستمدّون منها قواهم الخارقة؛ ويرجّح أنّها تأتي من الخارج، ذلك أنّهم يسخّرونها بأحجار وأعشاب لخدمتهم فيفتحون بقوّتها الأبواب المغلقة ويصنعون بعض الخوارق الأخرى*. لذلك يقول إنّ البعض يعتقدون في وجود جانّ خاصّيّته التّنصّت، ذي طبيعة مراوغة، قادر على تقمّص كلّ صورة واتّخاذ كلّ نمط وجود والظّهور في هيئة الآلهة والشّياطين وأرواح الموتى، ومن هنا يصنع كلّ تلك الأعمال الّتي تبدو حسنة أو سيّئة. والحقّ أنّه حتّى في تلك الأعمال الحسنة حقّا لا يقدّم أيّ عون بل هو لا يعرف الخير أصلا فإنّه لا ينقطع عن تدبير الشّرّ واضطهاد وعرقلة أتباع الفضيلة المخلصين، تملأ نفسَه القحة والخيلاء، يبتهج بروائح الذّبائح ويلتذّ بطلاوة المدائح. ويذكر أمورا أخرى عن هذا النّوع من الأرواح الخبيثة المخادعة الّتي تلج من الخارج إلى النّفوس وتغرّ حواسّ النّاس في المنام واليقظة؛ وهو في الواقع لا يؤكّدها كقناعاته الشّخصيّة، بل ينسبها إلى آخرين لكن دون إبداء ريب أو شكوك ذات بال. صعبٌ لعمري على فيلسوف بذلك القدر والمقدار أن يعرف أو يهاجم واثق النّفس الفئة الشّيطانيّة كلّها الّتي تعرف طبيعتَها بدون تردّد* وتبغضها بلا وجل أبسط عجوز مسيحيّة. اللّهمّ إلاّ إن كان ربّما يخشى إغاظة أنيبون الّذي يوجّه إليه رسالته باعتباره من أبرز كهنة تلك العبادة، وآخرين من أتباع تلك الممارسات الّتي يدّعون أنّها ربّانيّة وتدخل في إطار عبادة الآلهة.

   بيد أنّه يتابع ويذكر، على سبيل السّؤال، أمورا من المحال نسبتها، إن فُحصت بتأنّ، إلى غير القوى الماكرة الخدّاعة. يسأل فعلا لماذا يُطلب كذلك من الأرواح الطّيّبة كما لو كانت شرّيرة تنفيذ مطالب إنسان يريد إيذاء غيره؛ لماذا لا تستجيب لمن استولت عليه الشّهوة إذا دعاها بينما لا تتردّد في جرّ من تشاء إلى الزّنا بالمحارم؛ لماذا تفرض على كهنتها الامتناع عن اللّحوم كيلا تتلوّث بالتّأكيد بروائح أجسامهم بينما تجتذبها هي ذاتها روائح وأدخنة الذّبائح؛ ولماذا يُمنع زائرها من لمس جثّة بينما يُحتفل بها غالبا بجثث؛ ما السّبب ليتوعّد الشّخص المصاب بمكروه لا أحد الشّياطين أو روح أحد الأموات بل الشّمس والقمر رأساً أو أحد الآلهة، ويخوّفها كذبا لينتزع منها الحقيقة، بل يهدّد بأن ينزل السّماء كسفا وأمور شبيهة خارج قدرة الإنسان لحملها- وقد روّعتها كالصّبيّ الغرّ تلك التّهديدات الكاذبة والسّخيفة- على إنجاز ما يطلب. يخبرنا أنّ رجلا يدعى خيريمون متضلّعا في تلك الطّقوس المقدّسة أو بالأحرى المستهترة بالقداسة كتب أنّ لطقوس أسرار إيزيس أو زوجها إوزيريس المشهودة عند المصريّين قدرة كبرى على حمل الآلهة على فعل ما يُطلب منها، لمّا يهدّد من يسخّرها بتلك العزائم لخدمته بإفشائها أو إلغائها، وكذلك لمّا يتوعّد بلهجة مخيفة بتشتيت أشلاء أوزيريس في كلّ صوب إن لم تبال بتحقيق مطالبه. أن يهدّد إنسان بمثل تلك التّرّهات الآلهة، لا أيّة آلهة بل آلهة السّماء المتلألئة بضياء النّجوم، ولا سدى بل مع التّوصّل بقدرته العتيّة وبهذه التّرهيبات إلى إرغامها على فعل ما أراد، أمرٌ يعجب له فرفوريوس وحقّ له أن يعجب؛ بل هو في هيئة المتعجّب المستفسر عن سرّ تلك الظّواهر الغريبة يُفهمنا أنّها من صنع أرواح وصف طبيعتها قبلُ في عرضه لرأي غيره، أرواح خادعة لا بطبيعها، خلافا لما أكّد، بل زيغا إراديّا، تقلّد الآلهة وأرواح الموتى لكن، خلافا لما زعم، لا تقلّد الشّاطين، فهي الشّياطين عينها. وما يبدو له اكتسابا، بواسطة أعشاب وأحجار وحيوانات وأقوال ونبرات معيّنة وطلسمات وصور نسخها عن حركات النّجوم المشاهدة في السّماء بشرٌ على الأرض، لقدرات مناسبة لتحقيق نتائج شتّى، كلّ ذلك عمل تلك الشّياطين الّتي تحبّ التّلاعب بمن تُخضع نفوسهم لنفوذها وتجد تسلية ممتعة في ضلالات البشر. جائزٌ إذن أنّ فرفوريوس، وإن كان يشكّ ويتساءل حقّا، يذكر تلك الوقائع الّتي تنفي وتفنّد أن تصدر تلك الأعمال عن تلك القوى الّتي تعيننا على نيل السّعادة، وتبيّن أنّها من فعل الشّياطين المخادعة؛ أو أيضا لنكون أحسن ظنّا بفيلسوف بمثل قدره، ربّما توخّى هذا الأسلوب مع ذلك المصريّ الضّالّ في تلك الأباطيل والظّانّ أنّه يعرف حقيقة عظيمة لأنّه لم يشأ جرح كبريائه كعالم يُرجع إليه ولا إزعاجه بنقد صريح من خصم مجادل، واختار التّقدّم بتواضع السّائل الرّاغب في التّعلّم لحمله على مراجعة نفسه حول تلك الممارسات وإظهار كم يجدر بنا ازدراؤها واجتنابها. ثمّ قبيل نهاية الرّسالة، يطلب منه أن يعلّمه ما عسى أن تكون الطّريق إلى السّعادة استنادا إلى الحكمة المصريّة. أمّا عن أولئك الّذين يتّصلون بالآلهة لإزعاجها بطلبات كالعثور على عبد آبق أو اقتناء عقار أو بخصوص زواج أو عقد صفقة أو شيء من هذا القبيل، فيقول إنّهم يحاولون عبثا أن يظهروا بمظهر المكبّين على تحصيل الحكمة. بل حتّى لو أمكن أن تعطي تلك القوى الّتي يتّصلون بها تنبّؤات صادقة في أمور أخرى، مع ذلك، لأنّها لا تشير برأي حكيم ولا مناسب حول السّعادة، ما هي بآلهة ولا شياطين خيّرة، بل ذاك هو الرّوح الغرور وإلاّ فكلّه اختلاق البشر.

<<