القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

حواش

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الجزء الثّالث

 

الكتاب الحادي عشر

 

11-1 تقديم هذا الجزء من مؤلّفنا حيث سنبدأ في تبيين بدايتي وغايتي المدينتين: السّماويّة والأرضيّة

   ندعو مدينة الله تلك الّتي يشهد بها الكتاب المهيمن، لا نتيجة لصُدف تقارع الأهواء بل بتدبير العناية الإلهيّة العليا، بسلطته الرّبّانيّة على كتب كلّ الأمم جميعا مخضعا لها كلّ الأفهام البشريّة بكلّ أصنافها. فيه كُتب فعلا: "يحدَّث عنك بالمفاخر يا مدينة الله"؛ وفي مزمور آخر نقرأ: "الرّبّ عظيم ومسبَّح جدّا في مدينة إلهنا جبل قدسه. الجميلِ الذّروة بهجةِ الأرض كلّها."* وبعد ذلك بقليل في نفس المزمور: "كما سمعنا كذلك رأينا في مدينة ربّ الجنود مدينة إلهنا؛ إنّ الله يثبّتها إلى الأبد."* وكذلك في آخر: "مجاري النّهر تفرّح مدينة الله قدس مساكن العليّ. الله في داخلها فلن تتزعزع."* بهذه الشّهادات وأخرى مشابهة يطول ذكرها كلّها، علمنا بوجود مدينة الله الّتي نتمنّى أن نكون من أهلها بالحبّ الّذي ألهمنا مؤسّسها. على مؤسّس هذه المدينة المقدّسة يفضّل مواطنو المدينة الأرضيّة آلهتهم، وهم يجهلون أنّه إله الآلهة، لا الآلهة الزّائفة، أي الكافرة المتكبّرة الّتي حُرمت نورَه الثّابت المشترك بين الجميع، وتوهّمت أنّها تملك قوّة ليست سوى عدم وخواء، فهي تجتهد لتعزيز تلك القوى الزّائفة، وتطلب ممّن أخضعتهم بخداعها أشرافا إلهيّة، بل الآلهة الأبرار الأطهار الّذين يبهجهم أن يخضعوا هم أنفسهم للواحد الأحد لا أن يخضع لهم أناسيّ كثير، أن يعبدوا  الله لا أن يُعبدوا مكان الله. لكنّا رددنا في الكتب العشرة السّابقة على أعداء هذه المدينة المقدّسة قدر ما استطعنا بعون ربّنا وملكنا. أمّا الآن فلأنّي أعلم ما بات القارئ ينتظر منّي ولم أنس ما وعدته، سأشرع في عرض مصدر ومسار ومصير كلتا المدينتين، الأرضيّة والسّماويّة، اللّتين ذكرنا أنّهما متداخلنان ومتشابكتان بنحو ما في هذا العالم، قدر وسعي، معضودا بعون ربّنا وملكنا. وسأبدأ بتفسير كيف سبق منشَأَ تينك المدينتين اختلاف سلوك الملائكة.

 

11-2 في معرفة الله الّتي لا يبلغها أحد إلاّ بالوسيط بين الله والنّاس الإنسان يسوع المسيح

   عظيم وفي غاية النّدرة أن يتخطّى الإنسان بالنّظر العقليّ الخليقةَ كلّها الجسميّة واللاّجسميّة بعد تأمّلها وملاحظة طبيعتها المتغيّرة إلى الجوهر الإلهيّ اللاّمتغيّر؛ فيتعلّم هناك منه أنّ كلّ أيس سواه لم يؤيّسه سواه. فإذّاك لا يتكلّم الله مع الإنسان من خلال خليقة جسديّة مسمعا أذني جسده صوتا يُحدث اهتزازا في كتلة الهواء الممتدّة بين المتكلّم والمستمع، ولا بوحي روحيّ من خلال أخيلة الأجسام كما في الحلم وما شابهه، فهو بهذا النّحو يتكلّم كما إلى أذني جسده مثلما يفعل بواسطة جسم وعبر امتداد مكانيّ، فإنّ تلك الرّؤى شبيهة جدّا بالأجسام. بل يتكلّم الحقّ ذاته إن كان الإنسان مهيَّئا للاستماع إليه بالعقل لا الجسد. إذّاك يتحدّث فعلا إلى قسم الإنسان الّذي يفضل في الإنسان بقيّة الأقسام الّتي يتألّف منها الإنسان ولا يفوقه جودةً سوى الله. فعلا حين ندرك برشاد أو، إن لم يتيسّر لنا الإدراك، نؤمن أنّ الإنسان خُلق على صورة الله*، نرى أنّه بالتّحقيق أقرب إلى الله بالقسم الّذي يتفوّق به على أقسامه الدّنيا الّتي يشترك فيها مع البهيمة. بيد أنّ الفكر، معقلَ الإدراك والعقل الطّبيعيَّ، قاصر بسبب الرّذائل المتلبّدة المستحكمة منه، لا عن معانقة النّور الثّابت في ذاته والالتذاذ به فقط، بل حتّى عن تحمّله، إلى أن يتمّ يوما فيوما تجديده وشفاؤه، فيغدو قادرا على بلوغ تلك السّعادة الكبرى، بعدما غمره وطهّره الإيمان. وليسير به واثق الخطى نحو الحقّ، أسّس ورسّخ له هذا الإيمان الحقُّ ذاته، الله ابن الله المتّخذ وضع الإنسان دون التّخلّي عن رفعة الألوهة* ليوجد طريق أمام الإنسان إلى إله الإنسان بواسطة الإنسان الإله. ذاك فعلا هو الوسيط بين الله والنّاس، الإنسان يسوع المسيح؛ فهو وسيط بناسوته وهو بذلك الطّريق أيضا؛ فإنّه إن كانت طريق تتوسّط القاصد والقصد هناك أمل في الوصول؛ لكن إن انعدمت أو جُهلت فما جدوى معرفة الغاية المنشودة؟ لكن وحدها مأمونةٌ من كلّ المتائه الطّريقُ الّتي هي الله والإنسان معا، بها يسير الإنسان، وبها المسير إلى الله.

 

11-3 في سلطة الكتاب المقدّس الملهم من الرّوح القدس

   تكلّم أوّلا بواسطة الأنبياء، ثمّ بشخصه وفيما بعد بواسطة الرّسُل قدر ما رأى ذلك كافيا. وكذلك أنشأ# الكتب المدعوّة كنسيّة# ذات السّلطة العليا، والّتي نجد فيها كلّ ما يجب ألاّ نجهله ولسنا مهيّئين لمعرفته بقوانا الذّاتيّة ولذا نؤمن به. فإن أمكن بشهادتنا أن نعرف ما ليس بعيدا عن حواسّنا، سواء منها الباطنة أو حتّى الظّاهرة، ولذلك ندعوه "حاضرا" لأنّه ماثل لحواسّنا كما نقول عمّا هو ماثل أمام عيوننا "بمرآنا"، لا شكّ أنّ ما هو بعيد عن حواسّنا، والّذي لا نستطيع إذن معرفته بشهادتها، يتطلّب منّا اللّجوء إلى شهادة غيرنا، ونصدّق بخصوصه من نظنّ أنّه ليس أو لم يكن بعيدا عن حواسّهم0 إذن كما نصدّق بخصوص المرئيّات الّتي لم نرها من رآها، والشّأن مماثل في بقيّة المحسوسات كلّ صنف حسب الحاسّة الخاصّة به، كذلك بشأن الأشياء الّتي تدرَك بالفكر mens والذّهن- فإنّا ندعوه بمنتهى الصّواب حسّا sensus، ومن هنا اشتُقّت لفظة sententia ( حكم)- أي اللاّمرئيّات الّتي هي بعيدة عن حسّنا الباطن، نحتاج إلى تصديق من تعلّموها إذ تجلّت لهم في النّور اللاّجسمانيّ أو ما انفكّوا يشاهدونها متجلّيّة.

 

11-4 في خلق العالم الّذي ليس قديما ولا مرتّبا بإرادة حادثة لله كما لو شاء ما لم يكن يشاء سابقا

   أعظم جميع المرئيّات العالم، وأعظم جميع اللاّمرئيّات الله. أمّا وجود العالم فنراه وأمّا وجود الله فنؤمن به. أين علمنا به؟ يقينا لم نعلمه بنحو أفضل ممّا في الكتاب المقدّس، حيث قال نبيّه: "في البدء خلق الله السّماء والأرض"*. هل كان ذلك النّبيّ موجودا لمّا خلق الله السّماء والأرض؟ كلاّ. لكن كانت توجد حكمة الله الّتي بها كُوّن كلّ شيء والّتي تحلّ في النّفوس القدّيسة فتنشئ أحبّاء لله وأنبياء، وتخبرها بأعماله في حديث باطن وبدون جِرس. كذلك يحدّثها ملائكة الله الّذين يرون باستمرار وجه الآب ويعلنون مشيئته لمن يُطلَب منهم تبليغهم. وكان واحدا منهم ذاك النّبيّ الّذي قال وكتب: "في البدء خلق الله السّماء والأرض"؛ وهو شاهد جدير بثقتنا حقّا، فإنّه بوحي نفس الرّوح الإلهيّ الّذي تلقّى منه هذا النّبأ أنبأ بديننا قبل زمان طويل.

   لكن لِم شاء الله الأزليّ أن يخلق السّماء والأرض اللّتين لم يخلقهما من قبل؟ إن كان من يقولون هذا يقصدون أنّ العالم قديم بلا بداية ومن ثمّة لم يصنعه الله، فإنّهم يميلون عن الحقّ ميلا عظيما، ويهذون وقلوبهم سقيمة# من داء الكفر المميت. فحتّى لو لم نُعر بالا لدعوات الأنبياء، هذا العالم في حدّ ذاته، بتحوّلاته وحركاته الرّائعة التّنسيق وببهاء كلّ منظوراته يهيب بنا بنحو ما، في صمته، بأنّه مخلوق وأنّه لا يمكن أن يكون قد خُلق إلاّ بفعل إله لا سبيل إلى وصف ولا رؤية عظمته ولا بهائه. أمّا من يُقرّون أنّ الله صنعه لكنّهم ينكرون حدوث ذلك في زمان، ويؤكّدون أبديّة بدئه على نحو يستعصي على الإدراك، فإنّهم يقولون كلاما يبدون به بمظهر منزّهي الله عن النّزوة العارضة حتّى لا يُظنّ أنّه عنّ له في زمان ما أن يخلق العالم الّذي لم يخلقه قبل ذلك، وأنّ إرادة حادثة حصلت فيه والحال أنّه منزّه عن كلّ تغيير. لكن لا أرى كيف يمكنهم الاحتفاظ بهذا الرّأي في مجالات أخرى، لاسيما في ما يتعلّق بالنّفس الّتي إن ادّعوا أنّها مساوية لله في القدم لن يمكنهم إطلاقا أن يفسّروا من أين أتتها شقاوة حادثة. فإن زعموا الشّقاوة والسّعادة تتناوبان عليها منذ الأزل لا بدّ أن يقولوا إنّها ستظلّ كذلك إلى الأبد. ينجرّ عن ذلك خُلف: فما بسعيدة هي إن كانت كذلك حسب زعمهم، إن كانت تعلم مسبقا بتعاستها وخساستها مستقبلا. أمّا إن كانت لا تعلم بأنّها ستكون تعيسة وخسيسة بل تعتقد أنّها ستكون سعيدة أبدا، فستستمدّ إذّاك سعادتها من وهم؛ ولا يمكن قول كلام أحمق من هذا. فإن رأوا أنّ السّعادة والشّقاوة تناوبتا عليها لا محالة خلال أزمنة لامتناهية، لكنّها الآن إذ وجدت الخلاص لن تعود إلى الشّقاء، يثبت إذّاك خلافا لزعمهم أنّها لم تكن أبدا سعيدة حقّا، وإنّما ستبدأ في ما يلي سعادة جديدة غير زائفة، ومن ثمّة يعترفون بأنّ شيئا جديدا يحصل لها، شيئا عظيما ورائعا لم يحصل لها أبدا في الماضي منذ الأزل. إن ينفوا أنّ الله علّة ذلك الحادث بتدبير أزليّ، ينفوا إذّاك في نفس الوقت أنّه مسبّب سعادتها، وذاك كفر شنيع. أمّا إن يقولوا إنّه قرّر بتدبيرجديد أن تصير النّفس منذ تلك اللّحظة وإلى الأبد سعيدة، فكيف ينفون إذّاك عنه التّغيير الّذي لا يقبلونه مثلنا. لكن إن يقرّوا بأنّها خُلقت في زمان ماض لكنّها لن تفنى في أيّ زمان آت، كالعدد الّذي له بداية وما له نهاية*، لذلك بعدما خبرت الشّقاء في الماضي، بعد الخلاص منه لن تكون شقيّة في المستقبل، إذّاك لن يداخلهم شكّ في وقوع ذلك مع المحافظة على تنزّه مشيئة الله عن التّغيير. ليؤمنوا إذن بإمكان حدوث العالم في الزّمان لكن دون أن يكون طرأ على تدبير ومشيئة الله الأبديّة بإحداثه أيّ تغيير.

 

11-5 لا يجب تصوّر زمان لامتناه قبل العالم ولا مكان لامتناه خارجه إذ لا زمان قبله ولا مكان خارجه

   هذا وحريّ بمن يوافقوننا على أنّ الله خالق العالم ومع ذلك يسألون عمّا نجيب بخصوص زمان خلق العالم أن يروا بماذا يجيبون هم أنفسهم بخصوص مكان خلقه. فكما يسألون لماذا صنع العالم في ذلك الزّمان لا قبله، يمكن أن نسألهم لماذا يوجد هنا لا في حيّز مكانيّ آخر*. فعلا إن يروا قبل العالم حيّزات زمانيّة لامتناهية لا يمكن في رأيهم أن يكون الله كفّ عن العمل خلالها، فليتخيّلوا بالمثل خارج العالم حيّزات مكانيّة لامتناهية، إن قال أحد باستحالة تعطّل الله ذي القدرة الكلّيّانيّة فيها أليسوا مضطرّين إلى تخيّل عوالم لامتناهية العدد مع أبيقور، مع الفرق المتمثّل في تأكيده أنّها تنشأ وتتلاشى جرّاء حركات الذّرّات الفوضويّة بينما سيقولون إنّها من صنع الله، إن لم يشاؤوا تعطيله في الحيّزات المكانيّة الممتدّة خارج العالم والمحيطة به ولا أن يمكن لسبب ما ملاشاة تلك العوالم كما يرون أيضا بالنّسبة لعالمنا؟ فنحن نناقش جماعة يرون مثلنا أنّ الله لامادّيّ وأنّه خالق كلّ ما ليس إيّاه، أمّا الآخرون فلا يليق قبولهم في هذا النّقاش حول مسائل دينيّة، خاصّة أنّهم بين من يرون واجبا أداء طقوس عبادة لآلهة متعدّدة فاقوا غيرهم من الفلاسفة سطوعا وحجّيّة لأنّهم على بُعدهم عن الحقّ أقرب مع ذلك إليه من الباقين. أم لعلّهم سيقولون إنّ الذّات الإلهيّة الّتي لا يزجّونها أو يحدّونها أو يمدّونها في مكان، بل يقرّون- كما ينبغي التّفكير بشأن الله- بوجودها كاملة في كلّ الكائن بحضور لاجسميّ، لا تتواجد في تلك الحيّزات المكانيّة الرّحبة المنتشرة خارج العالم، وتحلّ فقط في المكان محلّ هذا العالم والضّيّق مقارنة بذلك الامتداد اللاّمتناهي؟ لا إخالهم سيقولون مثل هذا الهراء. إذن ما داموا يقولون بوجود عالم واحد ذي كتلة جسميّة عظيمة لا محالة لكن محدود ومحدّد في مكان ومن عمل الله باريه، فبإجابتهم على سؤالنا لماذا يتعطّل الله عن العمل في ذلك الحيّز المكانيّ اللاّمتناهي خارج العالم ليردّوا على سؤالهم لماذا تعطّل الله عن العمل في الحيّز الزّمانيّ اللاّمتناهي قبل العالم. وكما لا ينجرّ أنّ الله بفعل الصّدفة لا بتدبير حكمته الرّبّانيّة أنشأ العالم أنشأ العالم في هذا المكان حيث هو لا في سواه، والحال أنّه لم يمكن اختياره في الخلاء اللاّمتناهي لأيّة ميزة تؤهّله لذلك دون سواه، وإن لم يكن بمقدور أيّ عقل إنسانيّ إدراك سرّ ذلك الاختيار الرّبّانيّ، كذلك ليس ثمّة ما يدعونا إلى التّفكير بأنّ عرَضا ما حصل لله أنشأ بسببه العالم في أوانه المحدّد لا قبله، بينما مضى عدد لامتناه من الأزمنة السّابقة المتماثلة الّتي ليس بين واحد منها وآخر فرق ما يُختار بموجبه هذا الآن بالتّفضيل عن سواه. فإن نعتوا بالسّخف أفكار البشر إذ يتصوّرون حيّزا مكانيّا لامتناهيا بينما لا يوجد أيّ مكان خارج العالم، فسنردّ عليهم بأنّ من السّخف كذلك تفكير البشر بزمان مضى كان الله فيه عاطلا والحال أنّ لا زمان قبل العالم.*

 

11-6 في أنّ البدء واحد لخلق العالم والزّمان ولم يسبق أيّ منهما الآخر

   فإن كان من الصّواب التّمييز بين الأبديّة والزّمان لأنّ الزّمان لا يكون إلاّ بقدر من الحركة والتّحوّل بينما لا يوجد في الأبديّة أيّ تحوّل، من لا يرى أنّ الزّمان لم يكن سيوجد لو لم توجد خليقة تتحوّل بحركة ما، عن حلول وأفول* شتّى هيئاتها الّتي لا يمكن تواجدها في مدد أقصر وأطول ينتج الزّمان؟ إذن بما أنّ الله الّذي ليس في أبديّته أيّ تحوّل على الإطلاق خالق ومسيّر الزّمان، لا أرى كيف يقال إنّه خلق العالم بعد مُهل زمانيّة، إلاّ إن قيل إنّه كانت توجد قبل العالم خليقة أدّت حركتها إلى انسياب الزّمان. فما دام الكتاب المقدّس الصّادق الصّدوق يقول: "في البدء خلق الله السّماء والأرض" لنفهم أنّه لم يخلق شيئا قبل ذلك، لو خلق شيئا قبل شتّى الأشياء الأخرى الّتي خلق لقيل إنّه هو بالأحرى ما خلق في البدء؛ وبالتّالي لا شكّ في أنّ العالم خُلق لا في الزّمان وإنّما مع الزّمان. فما يحدث في الزّمان يحدث بعد زمان ما وقبل زمان ما، فيكون بعد الّذي مضى وقبل الّذي يأتي؛ والحال أنّه يستحيل أن يكون أيّ شيء قد مضى إن لم تكن توجد أيّة خليقة تؤدّي تحوّلاتها وحركاتها إلى سيلان الزّمان. فإنّما خُلِق العالم مع الزّمان ما دام يرتبط بخلقه نشوء الحركة والحدثان، كما يبدو ذلك من ترتيب الأيّام السّتّة أو السّبعة الأولى الّتي جرد فيها كلّ ما خلق الله طوالها من الصّباح إلى المساء، حتّى أتمّ في اليوم السّادس كلّ الأشياء، وفي اليوم السّابع تأتي كما يحدّثنا استراحة الله، ذلك السّرّ العظيم. أمّا نوع تلك الأيّام فهو أمر يصعب بل يتعذّر علينا تمثّله، فكم أعسر قوله.

 

11-7 في طبيعة الأيّام الأولى الّتي كان لها قبل خلق الشّمس صباح ومساء حسب ما يخبرنا الكتاب

   نرى فعلا أنّ الأيّام المعلومة لنا لها مساء بسبب غروب الشّمس وصباح بسبب شروقها. لكنّ الثّلاثة الأولى من تلك الأيّام مرّت بدون الشّمس الّتي يخبرنا الكتاب أنّها خُلقت في اليوم الرّابع. يخبرنا لا محالة أنّ النّور كُوّن في البدء بكلمة الله وأنّ الله فصل بين النّور والظّلام، وسمّى النّور نهارا والظّلام سمّاه ليلا. أمّا طبيعة ذلك النّور وبأيّة حركة متناوبة ينشئ الصّباح والمساء ومن أيّة طبيعة كانا فسرّ يتجاوز عقولنا ولا نستطيع إدراكه، ومع ذلك يجب أن نصدّق به دون تردّد. فإمّا هو نور مادّيّ، يوجد في أقسام العالم العليا بعيدا عن أنظارنا أو هو الّذي اتّقدت به الشّمس لاحقا، وإمّا المقصود باسم النّور المدينة المقدّسة المؤلّفة من الملائكة البررة والأرواح السّعيدة الّتي يقول عنها الرّسول: "أمّا أورشليم العليا فهي حرّة وهي أمّنا"*، وفي رسالة أخرى: "لأنّكم جميعا أبناء النّور وأبناء النّهار، لسنا نحن من أبناء اللّيل ولا الظّلام"*، لكن إن أمكننا فهم مساء وصباح ذلك اليوم بنحو مناسب. فإنّ علم الخليقة بمثابة العشيّ من علم الخالق، وهو يضيء ويضحي صباحا لمّا يتّجه نحو حمد وحبّ الخالق، ولا يمسي ليلا حيث لا يتخلّى بحبّ# الخليقة عن الخالق. ثمّ إنّ الكتاب لمّا استعرض الأيّام بالتّرتيب لم يُقحم قطّ بينها كلمة "ليل"؛ إذ لا يقول في موضع منه: وكان ليل، بل: "وكان مساء وكان صباح يوم واحد"* والشّأن مماثل في اليوم الثّاني وبقيّة الأيّام. فإنّ معرفة الخليقة في ذاتها أبهت، إن جاز التّعبير، ممّا حين تُعرف في حكمة الله، كما في الفنّ الّذي صنعها؛ لذلك يمكن أن يكون اسم مساء أفضل من تسميتها ليلا. لكنّها كما ذكرت لمّا تتّجه نحو حبّ الخالق تصير صباحا. وإذ تفعل ذلك يكون بعلمها# ذاتها اليوم الأوّل، وبعلمها# الجلَد الفاصل بين المياه الّتي تحته والمياه الّتي فوقه والمسمّى سماء يكون اليوم الثّاني، وبعلمها# الأرض والبحر وكلّ النّاميات الّتي تمدّ جذورا في الأرض اليوم الثّالث، وبعلمها# النّيّرين الأكبر والأصغر وكلّ الكواكب اليوم الرّابع، وبعلمها كلّ الزّحّافات ذوات الأنفس الحيّة في المياه والطّيور في الهواء اليوم الخامس، وبعلم# كلّ ذوات الأنفس على الأرض اليابسة والإنسان نفسه اليوم السّادس.

 

11-8 ما هي، وكيف يجب أن تُفهم استراحة الله الّتي فرغ بها بعد عمل الأيّام السّتّة في السّابع

   لكن لا يجب أن نفهم استراحة الله في اليوم السّابع من جميع العمل الّذي عمله ومباركته بسذاجة الأطفال على أنّ الله تعب من أعماله، "فإنّه هو أمر فخُلقت"* بكلمته العقليّة والأبديّة لا السّمعيّة والزّمنيّة. فإنّما تعني استراحة الله راحة من يستريحون في الله كما يعني فرح البيت فرح من يفرحون في البيت حتّى إن لم يكن البيت بل شيء سواه هو ما يُفرحهم، فما بالك لمّا يكون البيت ببهائه هو الّذي يُفرح ساكنيه، بحيث لا يُنعت بالفرح فقط من باب استعارة ما يصف المحتوى على المحتوي كقولنا: "صفّق المسرح" و"خارت المراعي" كناية عن عن تصفيق النّظّارة وخوار الأبقار، بل كذلك من باب إطلاق ما يخصّ الفاعل على المفعول كما نتحدّث عن رسالة سعيدة قاصدين سعادة من ستسعدهم قراءتها.* لذا لمّا يخبرنا الوحي النّبويّ أنّ الله استراح، يجب أن نفهم راحة من يستريحون وهو يجعلهم يستريحون فيه؛ وهو كذلك وعد من النّبيّ لمن يخاطبهم ومن من أجلهم نزل الكتاب بأنّهم بعد الأعمال الصّالحة الّتي فيهم وبهم يعملها الله، إن اقتربوا منه بنحو ما في هذه الحياة بالإيمان، سيجدون فيه الرّاحة الأبديّة. وقد رمز إليه في النّاموس المعطى لشعب الله القديم بفريضة استراحة السّبت الّتي أنوي تحليلها بمزيد من العناية في محلّها.

 

11-9 في ما يجب أن نرى حول خلق الملائكة استنادا إلى كلام الله

   والآن بما أنّي شرعت في الحديث عن منشَإ المدينة المقدّسة ورأيت من الواجب أن أذكر أوّلا ما يتعلّق بالملائكة الأبرار الّذين هم جزء كبير من هذه المدينة وأسعد لأنّه لم يغترب قطّ عنها، وسأهتمّ بتفسير ما يقدّم لنا محكم التّنزيل بعون الله وبالقدر الّذي يبدو لنا كافيا.

   حيث يتحدّث الكتاب المقدّس عن تكوين العالم، لا يذكر بوضوح خلق الملائكة ومحلّها التّرتيبيّ؛ لكن إن لم يُغفَلوا فقد أشير إليهم إمّا باسم السّماء حيث قيل: "في البدء خلق الله السّماء والأرض" أو النّور الّذي ذكرت السّاعة. ولا إخالهم في الواقع أُغفلوا فيه، فقد ذكر أنّ الله استراح في اليوم السّابع من جميع العمل الّذي عمله؛ والحال أنّه يبدأ بهذه الكلمات: "في البدء خلق الله السّماء والأرض"، بحيث لا يبدو أنّه صنع قبل السّماء والأرض أيّ شيء آخر. إذن بما أنّه بدأ بالسّماء والأرض، وبما أنّ الأرض الّتي خلقها في البدء كانت كما يقول الكتاب بعدئذ "بلا صورة ومشوّشة"*، وحتّى إنشاء النّور كان على وجه الغمر، أي فوضى الأرض والماء الأصليّة، ظلام؛ فحيث لا نور لا بدّ أن يكون هناك ظلام، ثمّ نُسّقت كلّ الأشياء بعمليّة الخلق في ستّة أيّام. فكيف أمكن إغفال الملائكة كما لو لم يكونوا ضمن أعمال الله الّتي استراح منها في اليوم السّابع؟ فلئن لم تُغفل هناك حقيقةُ أنّ الملائكة خلق الله إلاّ أنّ ( سفر التّكوين) لم يُفصح عنها بوضوح، لكنّ الكتاب المقدّس يقرّ ذلك بصريح العبارة في موضع آخر؛ ففي تسبيح الرّجال الثّلاثة في الأتّون حيث قيل: "باركي الرّبّ ياجميع أعمال الرّبّ، سبّحي وارفعيه إلى الدّهور. باركوا الرّبّ يا ملائكة الرّبّ، سبّحوا وارفعوه إلى الدّهور."* سُمّي بين تلك الأعمال الملائكة. وفي مزمور ننشد: "سبّحوا الرّبّ من السّماوات، سبّحوه في الأعالي. سبّحوه ياجميع ملائكته، سبّحوه يا جميع جنوده. سبّحيه أيّتها الشّمس والقمر، سبّحيه يا جميع كواكب النّور. سبّحيه يا سماء السّماوات ويا أيّتها المياه الّتي فوق السّماوات. لتُسبّح هذه اسم الرّبّ فإنّه هو أمر فخُلقت."* هنا أيضا أخبرنا بمنتهى الوضوح أنّ الملائكة خلائق الله، وبعد ما ذكرهم مع الجواهر السّماويّة الأخرى قال عن الجميع: "هو أمر فخُلقت". من بالتّالي يجرؤ على التّفكير بأنّ الملائكة خُلقوا بعد كلّ المخلوقات الّتي عُدّدت في الأيّام السّتّة؟* لكن حتّى لو هذى بهذا النّحو أحد لفنّد هذا الباطلَ ذلك المقطع من الكتاب المقدّس ذو الحجّيّة المساوية حيث يقول الله: "إذ كانت كواكب الصّبح ترنّم جميعا وكلّ بني الله يهتفون"* كان الملائكة إذن موجودين لمّا خلقت النّجوم. والحال أنّها خُلقت في اليوم الرّابع. فهل نقول إنّهم خُلقوا في اليوم الثّالث؟ كلاّ فلدينا جرد بما صنع في ذلك اليوم: فُصلت الأرض عن المياه وأخذ كلا العنصرين بعد تمايزهما أنواع الأحياء الخاصّة به، وأنبتت الأرض كلّ ما يمدّ فيها جذورا؟ أفي الثّاني إذن؟ ولا هذا قطعا: ففيه صُنع جلَد في وسْط المياه فصل الدّنيا عن العليا وسُمّي سماء، وفي ذلك الجلَد صُنعت الكواكب في اليوم الرّابع. لا شكّ إذن، ما دام الملائكة ممّا عمل الله في هذه الأيّام السّتّة، أنّهم ذلك النّور الّذي سُمّي نهارا، ولتأكيد وحودة ذلك اليوم لم يُدع اليوم الأوّل بل قيل "وكان يوم واحد".* وما بآخر اليوم الثّاني ولا الثّالثُ ولا الأيّام الأخرى، بل كلّها نفس ذلك اليوم الأوّل مكرّرا إلى العدد ستّة أو سبعة بسبب العلم السّباعيّ: سداس لأعمال الله والسّابع لراحته. فلمّا قال الله ليكن نور وكان نور، إن صحّ تأويلنا لهذا النّور بأنّه خلق الملائكة، فلا شكّ أنّهم خُلقوا مشاركين في النّور الأبديّ الّذي هو حكمة الله الثّابتة هي هي الّتي كُوّن بها كلّ شيء والّتي ندعوها ابن الله وحيده unigenitus، بحيث ينيرهم النّور الّذي خلقهم فيصيرون نورا ويسمَّون نهارا لمشاركتهم في النّور الّذي لا يدركه الفساد والنّهار الّذي هو كلمة الله الّذي به كُوّنوا وكُوّن كلّ شيء. فإنّ "النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسان آت إلى العالم"* ينير كذلك كلّ ملاك طاهر ليكون نورا لا في ذاته بل في الله؛ فإن أعرض عنه صار نجسا كجميع تلك الأرواح المنعوتة بالنّجسة، فما هي بعد نورا في الرّبّ بل هي ظلمات في ذاتها محرومة من المشاركة في النّور الأبديّ. فما للشّرّ من جوهر، وإنّما انعدام الخير هو الّذي تلقّى اسم الشّرّ.*

 

11-10 في الثّالوث البسيط الثّابت هو هو: الله الآب والله الابن والله الرّوح القدس الّذين هم إله واحد لا تختلف فيه الذّات والصّفات

   يوجد بالتّالي خير واحد بسيط ولذلك ثابت بلا تغيير، هو الله. هذا الخير هو الّذي خلق كلّ الخيرات، لكنّها غير بسيطة ومن هنا قابلة للفساد. أقول خلقها أي صنعها ولم يلدها*. فما يولد من الخير البسيط بسيط مثله. ندعو هذين الشّخصين الآب والابن، وكلاهما مع روحه إله واحد. روح الآب والابن هذا يسمّى في الكتاب المقدّس وفق التّسمية المناسبة الخاصّة به الرّوح القدس؛ لكنّه شخص غير الآب والابن، فما هو الآب ولا الابن. أقول شخص لا شيء آخر، لأنّه هو أيضا خير بسيط مثلهما وممتنع الفساد مثلهما ومساو لهما في القدم؛ وهذا الثّالوث إله واحد، وما هو لكونه ثالوثا غير بسيط*. إذ لا نقول إنّ جوهر الخير هذا بسيط لأنّ فيه الآب وحده أو الابن وحده أو الرّوح القدس وحده، أو إنّه تثليث أسماء دون كيانات للأشخاص كما رأى أتباع بدعة صابليوس. بل هو بسيط لأنّه هو ذات ما يتضمّن، باستثناء أنّ كلّ شخص إنّما يُعَدّ كذلك بالنّسبة إلى آخر. فالآب بلا شكّ له ابن لكنّه ليس ذات الابن، والابن له أب لكنّه غير الآب. الخير إذن، بالإحالة إلى ذاته لا إلى غيره، هو عين ما يتضمّن، كما يقال عنه "حيّ" باعتباره في ذاته لأنّ له حياة، وتلك الحياة هي ذاته.* لذا تُعَدّ بسيطةً طبيعةٌ لا تحمل ما يمكن أن تفقد أو ليست غير ما تحمل كما هو الشّأن في الإناء يحمل سائلا والجسم لونا والهواء نورا أو حرارة والنّفس علما، إذ لا شيء من هذه الأشياء هو عين ما يحمل، فليس الإناءُ السّائلَ ولا الجسمُ اللّونَ ولا الهواءُ النّورَ أو الحرارةَ ولا النّفسُ العلمَ، من هنا إمكانيّة تجريدها من محمولاتها وتحوّلها أو تبدّلها إلى هيئات أو صفات أخرى، فيُفرَغ الإناء من السّائل المسكوب فيه وينصل لون الجسم ويُظلم أو يبرد الهواء وتصير النّفس لا تعلم بعد علم شيئا. لكن حتّى إن يكن الجسم ممتنع الفساد، كما وُعد الصّدّيقون عند قيامة الأموات، هو يحمل إذّاك لا محالة صفة غير الفساد الّتي لا يمكنه فقدانها، لكن لبقاء الجوهر الجسمانيّ هو غيرُ صفة غير الفساد تلك، حيث أنّها توجد بكاملها في شتّى أجزاء الجسم وليست أكبر في هذا وأصغر في ذاك، إذ ليس جزء أكثر امتناعا عن الفساد من آخر، أمّا الجسم فهو أكبر في كلّيّته ممّا هو في جزء منه، ومع أنّ فيه جزءا أكبر وآخر أصغر ليس الأكبر أكثر امتناعا عن الفساد من الأصغر، فشيء إذن هو الجسم الّذي ليس بكامله في كلّ موضع منه وشيء سواه هو امتناع الفساد الّذي هو في كلّ موضع منه بكامله لأنّ كلّ جزء من الجسم الممتنع الفساد وإن لم يساو الأجزاء الأخرى مساو لها في امتناع الفساد*. فعلى سبيل المثال لا ينتج عن كون الإصبع أصغر من اليد بكاملها أنّ اليد أكثر امتناعا عن الفساد من الإصبع: هكذا مع أنّ اليد والإصبع متفاوتان في الحجم هما متساويان في الحجم، هما متساويان في امتناع الفساد. من ثمّة مع أنّ امتناع الفسادلا ينفصل عن الجسم الممتنع الفساد، شيءٌ هو الجوهر الّذي يدعى به جسما وشيء آخر  الصّفة الّتي يدعى بها ممتنع الفساد، وليس بالتّالي، حتّى وهو بتلك الصّفة، عين محموله. والنّفس ذاتها، حتّى وهي تتّصف بحكمة مستديمة، كما ستكون عند خلاصها الأبديّ، ستكون مع ذلك حكيمة من مشاركتها في الحكمة الثّابتة الممتنعة الفساد الّتي ليست إيّاها. فمع أنّ الهواء لا ينفصل عن النّور الّذي يتخلّله، لا يمكننا إنكار أنّه شيء سوى النّور الّذي ينيره. ولا أقول هذا من باب مماثلة النّفس بهواء لطيف كما اعتقد بعض من لم يستطيعوا تصوّر جوهر لاجسميّ، بل لأنّهما مع تباينهما الكبير متشابهان إلى حدّ ما بحيث يمكن القول إنّ النّفس اللاّجسميّة تنار بالنّور اللاّجسميّ لحكمة الله البسيطة كما ينار جسم الهواء بالنّور الجسمانيّ. وكما يُظلِم الهواء إن يخلُ من ذلك النّور، فما سوى هواء خالٍ من النّور ما ندعوه ظلام بعض الأماكن، كذلك تُظلِم النّفس بخلوّها من نور الحكمة. بهذا الاعتبار تُدعى بسيطةً إذن تلك الأقانيم الإلهيّة حقّا وبالتّمام، إذ ليست الصّفة فيها ششيئا والجوهر شيئا سواه، وما بمشاركتها في شيء سواها هي ألوهة وحكمة وسعادة. والحقّ أنّ روح الحكمة يُنعت في الكتاب المقدّس بالكثرة لأنّه يضمّ أقانيم عديدة، لكنّ ما يحمل هو ذات جوهره، وهو مع كلّ تلك الأقانيم واحد*. فما بمتعدّدة بل واحدة هي الحكمة المكنونة فيها كنوز المعقولات اللاّمتناهيةُ، والمتناهية فيها، الّتي تضمّ كلّ العلل اللاّمرئيّة واللاّمتغيّرة حتّى للأشياء المرئيّة والمتغيّرة والّتي بها كُوّنتْ. لأنّ الله لم يصنع شيئا بدون علم، وذاك ما لا يمكن قوله حقّا عن الإنسان الصّانع، لذا ما دام قد كوّن كلّ شيء بعلم، فقد كوّن ما كان قد علم. من هنا هذه الخاطرة الغريبة والصّحيحة مع ذلك، أنّ هذا العالم ما كان ليُعلَم عندنا لو لم يوجد، أمّا عند الله فما كان ليوجَد لو لم يُعلَم.

 

11-11 هل يجب الاعتقاد بأنّ الأرواح الّتي لم تثبت في الحقّ شاركت في تلك السّعادة الّتي نعِم بها منذ البداية الملائكة الأبرار

   ما دام الأمر كذلك، لم تكن قطعا تلك الأرواحُ الّتي ندعوها ملائكة ظلاما في البداية ولأيّة مدّة من الزّمان، بل خُلقت منذ ساعة خلقها نورا. على أنّها لم تُخلق لتوجد بنمط ما وتحيا بنحو ما فقط، بل كذلك لتكون مضاءة بالنّور فتحيا بالحكمة والسّعادة. وبإعراض بعضهم عن هذا النّور، لم يفوزوا برفعة الحياة الحكيمة السّعيدة الّتي لا تكون حقّا ما لم تكن أبديّة واثقة من أبديّتها مطمئنّة. غير أنّهم يملكون حياة عقليّة وإن خلت من الحكمة، لا يستطيعون فقدانها ولو شاؤوا. تُرى من يستطيع تحديد إلى أيّ مدى كانوا قبل خطيئتهم يشاركون في تلك الحكمة؟ لكن كيف لنا بتأكيد أنّهم كانوا في المشاركة فيها مساوين لأولئك الّذين هم سعداء حقّا وبالوجه الأكمل لأنّهم على ثقة تامّة من استمرار سعادتهم إلى الأبد؟ لو كانوا يساوونهم لبقوا هم أيضا في أبديّتها سعداء مثلهم لأنّ لهم نفس اليقين. فمهما طالت الحياة، لا يمكن أن تدعى حقّا حياة أبديّة إن كانت ستنتهي عند حدّ ما؛ فإنّما تُدعى حياة بكونهم يحيون، وأبديّة بكونها بلا نهاية. لذلك مع أنّ الأبديّ ليس بالضّرورة سعيدا، فنار الآخرة هي الأخرى أبديّة، إن لم تكن الحياة سعيدة حقّا وبالتّمام ما لم تكن أبديّة فما كانت كذلك حياتهم الأصليّة بما أنّها كانت ستنتهي وبالتّالي غير أبديّة سواء علموا ذلك أم ظنّوا في جهلهم به غير ذلك: ما كان الخوف إن علموه ولا الخطأ إن جهلوه يسمح قطعا بأن يكونوا سعداء بأتمّ المعنى. فإن كانوا يجهلونه دون الاعتقاد في أمور خاطئة أو ظنّيّة، إنّما فقط بلا يقين حول أبديّة أو زمنيّة السّعادة الممنوحة لهم، فغياب اليقين حول نعيم بمثل تلك الدّرجة ينفي عنهم السّعادة التّامّة الّتي نظنّها متاحة للملائكة الأبرار، فنحن لا نضيّق معنى كلمة الحياة السّعيدة إلى حدّ حصرها في الله وحده. هو سعيد حقّا ولا سعادة تفوق سعادته، وماذا تكون مقارنة بها السّعادة الكبرى الّتي ينعم بها الملائكة وبالدّرجة المتاحة لطبيعتهم وما مقدارها؟

 

11-12 في المقارنة بين سعادة الأبرار الّذين لم ينالوا بعد الجزاء الّذي وعدهم الله وسعادة الإنسانين الأوّلين في الجنّة قبل الخطيئة

   ولا نظنّهم وحدهم السّعداء بين الخلائق العاقلة أو المدركة. إذ من يستطيع إنكار سعادة الإنسانين الأوّلين في الجنّة قبل الخطيئة، وإن لم يعلما علم اليقين كم ستدوم سعادتهما أو إن كانت ستستمرّ إلى الأبد، فقد كانت فعلا ستستمرّ إلى الأبد لو لم يخطَآ، والحال أنّا حتّى اليوم ندعو سعداء دون مجانبة الصّواب من نراهم يعيشون حياة استقامة وتقوى يملأهم رجاء الحياة الأبديّة بعد الموت وبدون إثم يثقل ضمائرهم، نائلين بسهولة من رحمة الله مغفرة ذنوب ضعفهم، ورغم يقينهم من ثواب مثابرتهم لا يتوفّر لهم يقين مماثل في استمرار مثابرتهم تلك، ومن من النّاس يعلم لعمري أنّه سيثابر على فعل الخيرات والتّقدّم على طريق البرّ حتّى النّهاية، إلاّ إن أوحى إليه من لا يكشف للجميع بهذا الشّأن حكمه العادل الخفيّ لكنّه لا يخدع أحدا؟ هكذا في ما يتعلّق بالتّمتّع بخير الحاضر، كان الإنسان الأوّل في جنّته أسعد من أيّ إنسان بارّ في ضعف حياتنا الفانية*، أمّا في ما يتعلّق برجاء خير الآخرة فأيّ إنسان، حتّى وهو يتعرّض في جسده إلى أفظع الأنكال، إن تبيّن له لا ظنّا بل حقّا ويقينا أنّه سينعم بدون أدنى كدر وإلى الأبد بالمشاركة في غبطة الإله الأعلى مع الملائكة، أسعد من ذلك الإنسان غير الواثق من مصيره في نعيم جنّته العظيم.

 

11-13 هل خلق الملائكة في نفس درجة السّعادة فلم يكن من سقطوا يعلمون مسبقا بسقوطهم وبعد دمار من سقطوا صار من ثبتوا على بيّنة من دوام سعادتهم

   لذلك يتّضح الآن بدون صعوبة لكلّ منّا أنّ السّعادة الّتي تنشدها الطّبيعة العقليّة، وهي بالتّحقيق غاية سويّة، تحصل بتحقّق شرطين: التّمتّع بالخير الثّابت هو هو الّذي هو الله بدون أيّ كدر، واليقين بالبقاء أبدا في ذلك النّعيم دون ظلّ من شكّ ولا الانخداع بوهم زائف. نعتقد بقلوب ملؤها الإيمان والتّقوى أنّ ذاك ما كان ينعم به فعلا ملائكة النّور، ولم يكن الملائكة الخاطئون ينعمون به قبل سقوطهم فقد فقدوا بانحرافهم* النّور كما نستنتج بالاستدلال العقليّ. لا بدّ مع ذلك من تصوّر أنّهم كانوا ينعمون بسعادة ما، لكن دون علم بالمصير، بما أنّهم عاشوا قبل الخطيئة. أو إن بدا صعبا تصوّر أنّ الله عند خلق الملائكة خلق بعضهم دون أن يؤتيهم علما مسبقا باستمرار سعادتهم أو سقوطهم وآخرين بعلم يقينيّ صحيح بأبديّة سعادتهم، وفضّلنا أن نتصوّر الجميع خُلقوا بسعادة متساوية في البداية وظلّوا كذلك حتّى تخلّى من هم اليوم أشرار عن نور الخير بمحض إرادتهم، فأصعب بكثير لا ريب تصوّر الملائكة الأبرار الآن غير واثقين من سعادتهم الأبديّة، ولا يعلمون عن أنفسهم ما أمكننا نحن أن نعلم عنهم بالكتاب المقدّس، إذ أيّ مسيحيّ كاثوليكيّ يجهل أنّه لن يخرج من الملائكة الأبرار أيّ شيطان جديد، كما لن يعود إلى زمرة الملائكة الأبرار شيطان مستقبل*ا؟ فإنّ الحقّ يعد في الإنجيل صدّيقيه أنّهم سيتساوون مع ملائكة الله*، وقد وُعدوا أيضا أنّهم صائرون إلى الحياة الأبديّة*. لكن إن نكن نحن موقنين بأنّا لن نسقط أبدا من ذلك النّعيم المستديم وهم غير موقنين، نكن إذّاك متفوّقين عليهم لا مساوين لهم. لكن لأنّ الحقّ لا يخدع أبدا، وأنّا سنكون مساوين لهم، هم أيضا بالتّحقيق على يقين من سعادتهم الأبديّة. وبما أنّ الآخرين لم يكونوا موقنين بالسّعادة الأبديّة، فما كانت لهم سعادة أبديّة ليوقنوا بها إذ كانت سعادتهم الأصليّة إلى زوال، يبقى حتما أحد احتمالين: إمّا لم يكن الجميع متساوين، وإمّا في حالة التّساوي، بعد سقوط الأواخر، تحقّق للأوائل علم اليقين بسعادتهم الأبديّة.

   قد يقول قائل: لاينبغي فهم ما يخبرنا الرّبّ في الإنجيل عن الشّيطان: "هو من البدء قتّال النّاس ولم يثبت على الحقّ لأنّ لا حقّ فيه"* على أنّه كان قتّالا لا فقط منذ بدء النّوع الإنسانيّ، أي منذ خلق الإنسان الّذي يستطيع قتله بخداعه، بل منذ خلقه هو لم يبق في الحقّ ولذلك لم يكن أبدا سعيدا مع الملائكة الأبرار بل كان يرفض الخضوع لخالقه ويعتدّ بما يزعمه استكباراً قوّتَه الذّاتيّة، ومن ثمّة كان يَضلّ ويُضِلّ لأنّ لا أحد يفلت من قدرة القدير الجبّار، ومن يرفض البقاء بإسلام وتقوى ما هو حقّاً إنّما يحاول الظّهور بتشامخ مختال فخور على غير حقيقته. بحيث يُفهم بهذا المعنى أيضا قول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ: "أنّ إبليس يخطَأ منذ البدء"*، أي أنّه منذ خلقه رفض البرّ الّذي لا يمكن أن يتوفّر لغير الإرادة التّقيّة الخاضعة لله. يوافق على هذا الرّأي من لا يحذو حذو المارقين، أعني المانويّة ومن يرى رأيهم من أهل البدع، في القول بأنّ الشّيطان يستمدّ طبيعة الشّرّ الخاصّة به من مبدإ مضادّ للخير. هم يلغون بالباطل، ومع قبول مرجعيّة الإنجيل معنا لا يلاحظون أنّ الرّبّ لم يقل: "كان غريبا عن الحقّ"، بل قال: "لم يثبت على الحقّ"، حيث أراد إفهامنا أنّه سقط من علاء الحقّ، ولو ثبت عليه لبقي بالمشاركة فيه سعيدا مع الملائكة.

 

11-14 بأيّ نحو من التّعبير يقال عن الشّيطان إنّه لم يثبت على الحقّ لأنّ لا حقّ فيه

   كذلك قدّم لنا إشارة، كما لو سألنا، ليبيّن لنا سبب عدم ثباته على الحقّ، إذ قال: "لأنّ لا حقّ فيه". لكن كان بالتّأكيد سيكون فيه لو ثبت هو عليه. والحقّ أنّه قال ذلك بأسلوب غير عاديّ؛ فبقوله: "لم يثبت على الحقّ لأنّ لا حقّ فيه"، يبدو كأنّه يقصد أنّ سبب عدم ثباته على الحقّ أنّ لا حقّ فيه، والحال أنّه لا حقّ فيه لأنّه لم يثبت على الحقّ. توجد هذا الأسلوب في التّعبير كذلك في المزمور: "اللّهمّ إنّي دعوتك لأنّك (أجبتني)"*، بينما كان ينبغي بادي الرّأي أن يقال: "أجبتني لأنّي دعوتك"، لكن لمّا قال: "دعوتك"، كما لو طُلب منه كيف يثبت أنّه دعا، أظهر صدور دعائه بنتيجته، إجابة الله.*

 

11-15 ماذا يجب أن نفهم من قول يوحنّا "أنّ إبليس يخطأ منذ البدء"

   أمّا ما يقول يوحنّا عن الشّيطان: "أنّه يخطأ منذ البدء"، فلا يفهمون أنّه إن كانت تلك طبيعته، فلا وجود لخطيئة بتاتا*. لكن بماذا يجيبون على شهادات الأنبياء، كقول أشعيا مشيرا إلى الشّيطان في صورة أمير بابليّ: "كيف سقطتِ من السّماء أيّتها الزُّهَرة بنت الصّبح"*، أو قول حزقيال كنتَ في عدْن جنّة الله وكان كلّ حجر كريم كساء لك"* وفُهم من ذلك أنّه كان في زمان مضى بلا خطيئة؟ فعلا يقول النّبيّ بعد ذلك بقليل: "تمشّيتَ ( في أيّامك بلا عيب)"*. إن لم يمكن فهم هذا فهما أفضل بمعنى مختلف، يجب أن نفهم أيضا هذا القول: "لم يثبت على الحقّ" بمعنى أنّه كان في الحقّ لكن لم يثبت عليه. أمّا القول: "أنّ إبليس يخطأ منذ البدء"، فلا يجب تأويله بأنّه خطأ منذ بدء وجوده بل منذ خطيئته*، فقد بدأ يخطأ بفعل كبره، وكذلك ما كُتب في سفر أيّوب في معرض الحديث عن الشّيطان: "هو أوّل طرق الله في الخلق ( خلقه ليجعله أضحوكة لملائكته)"* ويتّفق معه كما نرى المزمور حيث نقرأ: "لوياتان هذا جبلتَه لتلاعبه"* يجب فهمه لا بتصوّر أنّه خُلق منذ البداية ليكون أضحوكة للملائكة بل لأنّه تلقّى هذا العقاب بعد خطيئته. البدء إذن صنع الله له، إذ لا شيء حتّى في أدنى وأدْون الخشاش، لم يسوّه من منه كلّ نمط وكلّ صورة وكلّ نسق، تلك العناصر الّتي لا يمكن بدونها أن نجد أو نتصوّر شيئا في الوجود. فما بالك بالملاك الّذي يفوق بشرف الجوهر كلّ ما خلق الله من الكائنات.

 

11-16 في مراتب وفوارق المخلوقات الّتي تختلف حسب اعتبار منفعتها أو سلّم الوجود العقليّ

   في هذه المخلوقات الّتي لها أنماط وجود خاصّة وليست كالله الّذي خلقها، تقدَّم الكائنات الحيّة على الجامدة، كذات ملكة التّكاثر والشّهوة على الخالية منها، وبين الأحياء تقدَّم ذوات الحسّ على عديمته، كالحيوانات على النّباتات، وبين ذوات الحسّ تقدَّم العاقلة على العجماء، كالبشر على البهائم، وبين العاقلة تفضَّل الخالدة على الفانية، كالملائكة على البشر. هذا التّرتيب هو بحسب الطّبيعة، لكن هناك تقييم آخر أساسه استفادتنا من كلّ فئة، ممّا يجعلنا نقدّم بعض الكائنات العديمة الحسّ على بعض ذوات الحسّ، إلى درجة الرّغبة في إزالتها من الطّبيعة لو توفّرت لنا القدرة على ذلك، سواء لأنّا نجهل محلّها منها أو حتّى مع علمنا به نقدّم عليها مصالحنا. من فعلا لا يفضّل في بيته الخبز على الفئران والنّقود على القمّل؟ لكن ما العجب في ذلك ونحن نرى حتّى في تقييم البشر مع كرامة جوهرهم الحصان أغلى ثمنا من العبد واللّؤلؤة من الأمة؟ هكذا توجِد حرّيّة التّقدير فرقا بين ما يمليه العقل على المتفكّر وما تقضي به حاجة المعوز أو شهوة الرّاغب. فالعقل يقدّر الشّيء حسب مرتبته في سلّم الوجود، بينما الضّرورة تحكم عليه باعتبار ما تبتغي منه. العقل ينظر إلى ما يبدو حقّا في نور الفكر والشّهوة إلى ما يروق لحواسّ الجسد. لكنّ للإرادة والحبّ في بعض الجواهر العقليّة وزنا عظيما، فلئن فاق الملائكة البشر في سلّم الطّبيعة، مع ذلك يتقدّم بمقتضى البرّ البشر الأخيار على الشّياطين الأشرار.

 

11-17 في أنّ الفساد المتمثّل في الشّرّ الأخلاقيّ لا يأتي من الطّبيعة بل هو ضدّ الطّبيعة، وليس ما يدفع الإنسان إلى الخطيئة خالقه بل إرادته

   بنشأة الطّبيعة لا مكر الشّياطين إذن نفهم كما ينبغي قول النّبيّ: "هذا هو أوّل طرق الله في الخلق". فحيث يوجد الفساد متمثّلا في الشّرّ، سبقت لا شكّ طبيعة غير مشوبة بالفساد. لكنّ الفساد مضادّ للطّبيعة، فلا يمكن إلاّ أن يضرّ الطّبيعة. هكذا ما كان الابتعاد عن الله ليشكّل فسادا لو لم يكن الأوْلى بالطّبيعة، الّتي يعيبها ذلك الابتعاد، البقاء مع الله. لذلك تقوم الإرادة السّيّئة نفسها دليلا ساطعا على حسن الطّبيعة. وكما أنّ الله هو الخالق الحسن للطّبائع الحسنة، كذلك هو المسيّر الحسن للإرادات السّيّئة، فلمّا تستخدم هي الطّبائع الخيّرة لنشر الشّرّ، يستخدم هو الإرادات السّيّئة لنشر الخير. لذا جعل الشّيطان الحسن نشأة والسّيّء مشيئة يُرَدّ إلى الدّرك الأسفل ليضحك منه الملائكة الأبرار، أي ليستفيد الصّدّيقون من فتنه الّتي كان يريد إيذاءهم بها. ولأنّ الله لمّا خلقه لم يكن يجهل قطعا مكره الآتي وكان يرى مسبقا أيّ خير سيصنع من شرّه، يقول المزمور: "لوياتان هذا جلبته لتلاعبه"، لندرك أنّه عند خلقه، مع أنّه خلقه من فيض إحسانه حسنا، كان بفضل علمه بالغيب يعدّ العدّة لاستخدام سوئه أيضا*.

 <<