القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّادس 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الجزء الثّاني

 

الكتاب السّادس

 

توطئة

   في الكتب الخمسة السّابقة أظنّني ناقشت بما فيه الكفاية من يرون من واجبنا تعظيم وعبادة الآلهة المتعدّدة الزّائفة الّتي أثبتت الحقيقة المسيحيّة أنّها أوثان لا طائل منها أو أرواح نجسة وشياطين ضارّة وعلى أيّة حال مخلوقاتٌ لا خالقٌ لأجل مصالح هذه الحياة الفانية ومنفعة الدّنيا بتلك الشّعائر والعبادات المدعوّة باليونانيّة latreia والّتي تحقّ لله الواحد الحقّ. ومن يجهل أنّ لا تلك الكتب الخمسة ولا أيّ عدد من الكتب الأخرى يمكن أن تكفي حيال ذينك الحمق والغرور المفرطين، بينما يُظنّ باطلا وغرورا من المجد عدم الرّضوخ لقوّة الحقّ الدّامغة، وتلك حقّا مهلكة لمن يتملّكه ذاك الهوى المنحرف. فهو داء يعيي كلّ جهد لعلاجه لا لعدم كفاءة الطّبيب بل لامتناع شفاء المريض. أمّا من يقرؤون ما كتبت ويقيّمونه بعد الفهم والاعتبار بدون أيّ عناد أو إصرار مكابر على ضلالهم القديم، فسيحكمون بسهولة بأنّا في هذه الكتب الخمسة الّتي أنهيناها عرضنا أكثر لا أقلّ ممّا تستوجب مناقشة المسألة المطروحة، ولن يمكنهم الشّكّ على الإطلاق في أنّ كلّ الكراهية الّتي يحملها الجاهلون للدّين المسيحيّ محاولين تحميله مسؤوليّة نوائب هذه الحياة وزوال وتقلّب أمور عالمنا الأرضيّ، بينما لا يكتفي العالمون بإخفاء الحقيقة تحت تأثير كفر أرعن بل يباركون كذلك انحرافهم خلافا لما تملي ضمائرهم، خالية كلّيّا من أيّ تفكير عقلانيّ قويم وملؤها سفاهة خرقاء وروح عدائيّة ضارّة.

 

6-1 في من يؤكّدون أنّهم يعبدون الآلهة لا لأجل الحياة الفانية بل الأبديّة

   والآن بعد الّذي تقدّم ووفق الخطّة الموعودة، علينا أن نفنّد ونعلّم كذلك من يزعمون من واجبنا عبادة الآلهة الوثنيّة الّتي نسفها الدّين المسيحيّ لا لأجل هذه الحياة بل لأجل تلك الآتية بعد الموت. فلأبدأْ نقاشي بقول الحقّ في المزمور المقدّس: "طوبى للرّجل الّذي جعل الرّبّ متوكَّله ولم يملْ إلى المختالين والمنعطفين إلى الكذب."* لكن في كلّ تلك الأباطيل الخرقاء يجب الاستماع بمزيد من الأناة إلى الفلاسفة الّذين نبذوا تلك الأفكار والضّلالات المنتشرة بين الشّعوب، الّتي صنعت أصناما للأرباب وابتدعت أو صدّقت خرافات عديدة باطلة وشائنة عن تلك الأوثان الّتي تدعوها آلهة خالدة، فخلطتها إذ صدّقتها بشعائر وطقوس عبادتها. مع أولئك الأشخاص الّذين أبدوا رفضهم لتلك التّرّهات، وإن لم يفعلوا جهرة وصراحة بل أسرّوا به على الأقلّ في مناظراتهم إسرارا، لا نجد مانعا من مناقشة هذه المسألة: أيجب أن نعبد لأجل الحياة الآخرة بدلا من الله الواحد الّذي خلق كلّ الجواهر الرّوحيّة والجسميّة آلهة متعدّدة عدّها بعض أولئك الفلاسفة أشرف وأفضل من الأخرى ورأوا أنّ ذلك الإله الواحد خلقها ومنحها منزلتها الرّفيعة*؟

   بدءا من يقبل أن يقال ويُدّعى بأنّ تلك الآلهة الّتي ذكرنا بعضها في الكتاب الرّابع والّتي وُزّعتْ عليها مهامّ جزئيّة مفصّلة تمنح أيّا منّا الحياة الأبديّة؟ ليُجبْنا أولئك العلماء الأفذاذ الّذين يفخرون بإسداء فضل عظيم بكتابة تعاليم يعرف من خلالها النّاس أيّا من الآلهة يدعون وما ينبغي أن يطلبوا من كلّ منها حتّى لا يطلبوا بحمق أخرق، كما يحدث عادة في التّمثيليّات التّهريجيّة من باب الهزل، ماء من ليبر وخمرا من جنّيّات المياه، هل يستصوبون شخصا يدعو الآلهة الخالدة فإذا التمس خمرا من جنّيّات المياه وأجبنه: "لا خمر عندنا فاطلب ذلك من ليبر"، قال: "إن لم تكن عندكنّ خمر فأعطينني الحياة الأبديّة"؟ أثمّة أسخف من هذا الخطل؟ أما كانت أولئك الجنّيّات الفكهات- "فهنّ ميّالات إلى الضّحك"*- سيجبنه لو لم يكنّ كشيطانات يهوَيْن التّغرير: "أتحسب أيّها الإنسان بمَلْكنا الدّوام، وليس بملكنا كما أخبرناك حتّى المدام"*؟ سخفٌ وسفهٌ إذن أن نلتمس أو نرتجي الحياة الأبديّة من مثل تلك الآلهة الّتي تتولّى، حسب أقوالهم، مهامّ تخصّصيّة محدّدة تتعلّق بهذه الحياة العاجلة المليئة بفنون الشّقاء وتقدّم فيها الدّعم والعون كلّ حسب صلاحيّاته، بحيث لو طُلب من أحدها ما يوجد في عهدة وسلطة آخر لبدا الأمر شاذّا ولامعقولا تماما كما في تلك التّمثيليّات التّهريجيّة؛ وهو ما يثير حين يأتي في عالم المسرح من مهرّجين يعلمون ما يفعلون ضحك المتفرّجين بحقّ، فما أحقّه بالضّحك حين يأتي في عالم الواقع من حمقى يجهلون ما يفعلون! لقد ابتدع علماء ببراعة وأودعوا في ذاكرة الأجيال أيّ إله أو إلهة يُدعى لشأنٍ ما قدرَ ما هو من مشمولات أنظار تلك الآلهة الّتي أقامتها المدن: ماذا يطلب مثلا من ليبر وماذا من جنّيّات المياه وماذا من ولكانوس ومن غيره من الآلهة الّتي ذكرت في الكتاب الرّابع بعضها ورأيت إغفال البعض الآخر. وإن يكن خطأً أكيدا طلبُ الخمر من كيريس والخبز من ليبر، والماء من ولكانوس والنّار من جنّيّات المياه، فما أحرانا باعتبار طلب الحياة الأبديّة من أيّ من تلك الآلهة هذيانا فاضيا. لذلك وبما أنّا عند بحثنا بخصوص المُلْك الدّنيويّ هل يجب الاعتقاد بأنّ بمقدور تلك الآلهة والإلهات منحه للبشر وبعد مناقشة المسألة من شتّى الوجوه بيّنّا بطلان الظّنّ بأنّ أيّا من تلك الآلهة المتعدّدة والزّائفة يُنشئ حتّى الممالك الأرضيّة، أليس خطلا وكفرا في تلك الحال الظّنّ بأنّ بمقدور أيّ منها منح أيّ منّا الحياة الأبديّة المفضّلة بالتّحقيق وبما لا يقاس على كلّ ممالك الأرض؟ وما دامت تلك الآلهة غير قادرة على أن تمنح حتّى مُلك الأرض، لا لكونها عظيمة وعليّة بينما ذاك شأن صغير وحقير لا ترضى في عليائها بالاهتمام به، بل لأنّها، مهما حقّ لنا لدى اعتبار هشاشة الوضع الإنسانيّ ازدراء معالي المُلك الإنسانيّ الآيلة حتما إلى زوال، أظهرت حقّا عدم جدارتها بأن يوكل إليها حتّى بتلك الممالك لتمنحها وتحفظها. من ثمّة، إن لم يبدُ- كما أقنعتنا التّحاليل المطروحة في الكتابين السّابقين- أيٌّ من جمع الآلهة، سواء من دهمائها أو من سراتها، قمينا بمنح الفناة المُلك الفاني، فما أعجزه عن منح الفناة الخلود!

   فضلا عن ذلك، ما دمنا نجادل الآن من يوجبون عبادة الآلهة لا من أجل هذه الحياة بل من أجل تلك الآتية بعد الموت، لا ينبغي إذّاك قطّ أن نعبد تلك الآلهة من أجل تلك المزايا الخاصّة المتنوّعة الّتي نُسبت لقدرتها لا طبق العقل والحقّ بل بوحي الغرور والباطل، كما يظنّ من يدّعون من واجبنا عبادتها من أجل مصالح هذه الحياة الفانية والّذين حاججتهم قدر مستطاعي في الكتب الخمسة السّابقة. وما دامت الأمور بتلك الصّورة، إن استمرّ من يعبدون ربّة الشّباب في زهرة العمر بينما قضى المعرضون عنها نحبهم في سِني شبابهم أو استولى عليهم- ولمّا يبرحوا الشّباب- صرد الشّيخوخة، إن وشّحت ربّة الحظّ اللّحياء عذاري عبّادها بنحو آنق وأشرق من سواهم، وفي المقابل رأينا المعرضين عنها مُردا أو بلحى دميمة، فحتّى في تلك الحال يحقّ لنا القول إنّ لكلّ من الإلهتين قدرة تقع في حدود وظيفتها، ولا ينبغي بالتّالي أن نلتمس الحياة الأبديّة من إلهة الشّباب العاجزة عن منح اللّحية، ولا أن نرتجي حُسنا بعد هذه الحياة من إلهة الحظّ اللّحياء وهي لا تملك القدرة في هذه الحياة حتّى على حفظ ذاك الشّباب الّذي كسته لحيةً طريرة. والآن ما دامت عبادة تلك الآلهة حتّى من أجل المزايا التّابعة لها في ظنّهم غير مجدية- فكثير من عبّاد إلهة الشّباب لا يمتَّعون بالشّباب وكذلك لم يُتح لكثيرين ممّن يدعون إلهة الحظّ اللّحياء نيل أيّة لحية ولو دميمة، ويتعرّض من يجلّونها طلباً للحىً منها لسخرية مسفّهيها اللُّحي-، ألا يستسخف العقل البشريّ، وهو يعلم أنّ عبادة تلك الآلهة من أجل المزايا الدّنيويّة السّريعة الزّوال الّتي يزعمون لكلّ منها إلها خاصّا عمل سخيف يدعو إلى السّخرية، الظّنَّ بأنّها مجدية في ما يتعلّق بالحياة الأبديّة؟ لم يجرؤ على الزّعم بأنّ تلك الآلهة تمنحها حتّى أولئك الّذين لرغبتهم في أن تعكف الجماهير الغبيّة على عبادتها ولاعتقادهم في تعدّدها قسّموا تلك المهامّ بنحو دقيق كيلا يقعد أيّ منها عاطلا.

 

6-2 ما ينبغي الاعتقاد بأنّ وارّون رأى بخصوص آلهة الوثنيّين الّتي أظهر أنواعها وطقوسها بنحو يوحي بأنّه لو لم يتحدّث عنها لكان أكثر احتراما لها

   من بحث هذه الأمور بأكثر تفصيلا من مرقس وارّون؟ من استكشفها بأكثر تبحّرا؟ من تفحّصها بأكثر تنبّها؟ من ميّزها بأكثر تبصّرا؟ من دوّنها بأكثر تعنّيا وتقصّيا؟ هو الّذي طُبّق مقاله علما وحكمة وإن خلا من الحلاوة والطّلاوة، بحيث يجد لديه دارس الواقع في شتّى العلوم الّتي ندعوها دنيويّة ويدعونها شريفة من المعرفة بقدر ما يجد دارس الكلِم لدى شيشرون من المتعة، حتّى أنّ تولّيوس نفسه يشهد بسعة علمه حيث يذكر في كتبه "أكاديميّات" أنّه أجرى ذلك الحوار المضمّن فيها مع مرقس وارّون الّذي هو كما يقول "بين الجميع الأنبه بلا جدال والأعلم بلا شكّ"*. لا يقول: "الأبلغ" أو "الأفصح"، فهو، والحقّ يقال، محدود الموهبة في هذا الباب، بل يقول "الأنبه بلا جدال". وفي كتبه المذكورة، أعني "الأكاديميات"، حيث يدعو إلى الشّكّ في كلّ شيء يضيف أنّه "الأعلم بلا شكّ". كان بالتّأكيد على يقين من هذه النّقطة ليلغي الشّكّ الّذي دأب على إبدائه في كلّ القضايا، كما لو نسي وهو يستعدّ للجدال دفاعا عن شكّ الأكاديميّين حول هذه النّقطة فقط أنّه أكاديميّ. لكنّه في الكتاب الأوّل حيث يتحدّث عن أعمال وارّون الأدبيّة يقول: "نحن الهائمين المترحّلين في مدينتنا كالأغراب آوتنا كتبك كالبيت، فأمكننا أخيرا أن نعرف من نكون وأين نحن. أنت أطلعتنا على بدايات الوطن وفترات تاريخه، والطّقوس العباديّة والشّرائع الكهنوتيّة ونظام الحياة الخاصّة والعامّة وموضع محالّ العبادة، وأسماء وأنواع ومواضيع وأسباب كلّ الفنون الرّبّانيّة والإنسانيّة."* ذاك الرّجل إذن، ذو العلم الواسع والخبرة الفائقة، والّذي قال عنه ترنتيانوس موجزا في بيت بديع: "وارّون رجل واسع العلم في كلّ مجال"، الّذي قرأ الكثير حتّى لنعجب كيف وجد فراغا للكتابة، وكتب الكثير حتّى لا نكاد نحسب أحدا استطاع قراءة كلّ ما كتب، أقول إذن: هذا الرّجل النّابغة العلاّمة لو كرّس وقته لنقد ودحض الأشياء الّتي كتب عنها بوصفها إلهيّات وقال إنّها من قبيل الخرافات لا الدّين، لا إخاله كان سيكتب عنها ذاك العدد المهول من السّخافات المضحكة المزرية المقيتة. فلمّا كان يعبد تلك الآلهة ويدعو إلى عبادتها بحماس إلى درجة القول في كتابه عن الإلهيّات بأنّه يخشى أن تتلف لا جرّاء هجوم الأعداء بل من إهمال المواطنين، وأنّه ينقذها من التّلاشي ويخلّدها في ذاكرة أهل الصّلاح بتلك الكتب ويحفظها بتفان أجدى، على حدّ قوله، من الّذي أنقذ به ميتلّوس تماثيل وستة من الحريق أو أيناس الآلهة القوميّة من دمار طروادة، ولمّا كان يقدّم للأجيال تلك الكتابات الّتي يحكم العقلاء والحمقى سويّا وبحقّ بوجوب نبذها وبمنافاتها لحقيقة الدّين، بماذا يجب أن نحكم سوى أنّ ذلك الرّجل اللّوذعيّ المتبحّر في كلّ علم، لكن الّذي لم ينقذه من الضّلال الرّوح القدس ظلّ خاضعا لتأثير أعراف وقوانين مدينته، ومع ذلك لم يشأ كتمان حقيقة آرائه فأبداها تحت ستار الدّعوة إلى دين الأجداد.

 

6-3 كيف قسّم وارّون كتبه الّتي ألّفها حول أصول الإنسانيّات والإلهيّات

   كتب واحدا وأربعين كتابا في الأقدميّات قسّمها إلى إنسانيّات وإلهيّات*، فخصّص للإنسانيّات خمسة وعشرين وللإلهيّات ستّة عشر، متّبعا في تقسيمه هذا النّهج: تخصيص ستّة كتب لكلّ واحد من الأجزاء الأربعة الّتي تتفرّع إليها الإنسانيّات باعتبار من يؤدّون تلك الأعمال وأين ومتى وماذا يؤدّون. في السّتّة الأولى كتب عن الأشخاص، وفي السّتّة الثّانية عن الأماكن، وفي السّتّة الثّالثة عن الأوقات، وفي السّتّة الرّابعة والأخيرة عن الأعمال. أربعة في ستّة تساوي أربعة وعشرين طبعا، لكنّه أفرد في البداية كتابا للحديث عن تلك الجوانب مجتمعة. في الإلهيّات حافظ على نفس النّسق فيما يتعلّق بالأعمال المؤدّاة للآلهة: إذ يؤدّي تلك العبادات أناس في أماكن وأوقات معيّنة، فخصّص لكلّ واحد من الجوانب الأربعة المذكورة ثلاثة كتب: كتب الثّلاثة الأولى عن الأشخاص والتّالية عن الأماكن والثّالثة عن الأوقات والرّابعة عن الطّقوس، مبيّنا بتمييز دقيق من يؤدّون تلك العبادات وأين ومتى وماذا يؤدّون. ولمّا كان يُقتضى ويُنتظر بوجه خاصّ أن يُذكر من تؤدّى لهم تلك الطّقوس، كتب ثلاثة كتب أخيرة عن الآلهة نفسها. خمسة في ثلاثة تساوي خمسة عشر، لكنّ المجموع كما ذكرنا ستّة عشر باعتبار الكتاب المفرد في المقدّمة للحديث عن كلّ جوانب البحث. بعد انتهائه منه، بوّب الكتب الثّلاثة الأولى من مؤلّفه البالغ خمسة عشر كتابا والمتعلّقة بالأشخاص بالنّحو التّالي: الأوّل للأحبار والثّاني للعرّافين والثّالث لمجمع الكهّان الخمسة عشر المشرفين على الطّقوس. وبوّب الثّلاثة الثّانية المتعلّقة بالأماكن متناولا في أحدها المحاريب وفي آخر المعابد وفي الثّالث المواضع المقدّسة. وقسّم الثّلاثة التّالية والمتعلّقة بالأوقات، أي بمواسم الاحتفالات، مخصّصا واحدا للأعياد والآخر لألعاب السّرك والثّالث للألعاب التّمثيليّة. ومن الثّلاثة الرّابعة المتعلّقة بالطّقوس، خصّص واحدا لشعائر التّكريس وآخر للمناسك الخاصّة والأخير للعامّة. وفي الثّلاثة المتبقّية تتبع، خاتمةً هذا الموكب المهيب، الآلهة نفسها الّتي كُرّست لها كلّ تلك العبادات: في الأوّل الثّابتة، وفي الثّاني الظّنّيّة، وفي الثّالث والأخير الآلهة الكبرى المتميّزة.

 

6-4 في أنّ عرض وارّون يكشف أنّ الإنسانيّات سابقة عند عبدة الآلهة الوثنيّة عن الإلهيّات

   في كلّ هذه المجموعة من الكتب المتتابعة حسب ترتيب بديع وتمييز دقيق، يتّضح بسهولة لمن لم يجعل منه عناد فؤاده عدوّا لنفسه أنّ من العبث بل والسّفه نشدان وترجّي أو تمنّي الحياة الأبديّة ممّا ذكرنا وما بقي أن نذكر فيما يلي. فهذه المناسك من وضع البشر أو الأرواح، لا تلك الّتي يدعونها أرواحا خيّرة، بل ولمزيد من الوضوح الأرواح النّجسة والشّرّيرة بالتّالي، الّتي تدسّ خفية في أفكار الكافرين وتولج أحيانا في أذهانهم وترسّخ بما تستطيع من الشّهادات الكاذبة أوهاما ضارّة تتلف النّفس البشريّة تدريجيّا وتجعلها عاجزة عن التّعلّق والتّمسّك بالحقيقة الأبديّة الّتي لا يدركها الفساد. وارّون نفسه يشهد بأنّه كتب أوّلا عن الشّؤون الإنسانيّة ثمّ عن الإلهيّة لأنّ المدن وُجدت أوّلا ثمّ وضعت طقوس الآلهة؛ لكنّ الله الحقّ يُلهم ويعلّم الحقائق ويهب عبّاده الحقيقيّين* الحياة الأبديّة. عند اعترافه بأنّه كتب أوّلا عن الإنسانيّات ثمّ عن الإلهيّات لأنّ عبادات الآلهة وضعها البشر، يقدّم وارّون هذا المبرّر: "كما أنّ الرّسّام سابق للّوحة، والبنّاء للبناية، كذلك المدن سابقة للمؤسّسات الّتي أنشأت"، يقول كذلك إنّه كان حتما سيكتب عن الآلهة ثمّ عن البشر لو كان يكتب عن طبيعة الآلهة باستقصاء كلّ جوانبها، كما لو كان يكتب عن بعض لا كلّ تلك الجوانب، أو أيضا كما لو أنّ بعض لا كلّ جوانب طبيعة الآلهة يجب ألاّ تسبق المؤسّسات الإنسانيّة. لماذا يبدو إذن وهو يعرض محلّلا في تلك الكتب الثّلاثة الأخيرة الآلهة الثّابتة وغير الثّابتة والصّفوة المميّزة أنّه لا يغفل شيئا عن طبيعة الآلهة؟ لماذا يقول إذن: "لو كنّا نكتب عن الطّبيعة الإلهيّة والبشريّة بكلّ جوانبها لأنهينا البحث في الإلهيّة قبل تناول البشريّة"؟ هو يكتب فعلا إمّا عن كلّ جوانب طبيعة الآلهة، وإمّا عن بعضها، وإمّا عن لا شيء منها على الإطلاق. إن كان يكتب عن كلّ جوانبها فيجب بالتّحقيق تقديمها على الإنسانيّات، وإن كان يكتب عن بعضها فلِم لا تقدَّم هي أيضا عن الشّؤون الإنسانيّة؟ ألا يليق تفضيل جزء من طبيعة الآلهة على طبيعة البشر في كلّيّتها؟ حتّى إن استكثرنا تفضيل جزء من طبيعة الآلهة على واقع البشر بأكمله فهو يستحقّ التّفضيل على الرّومان على الأقلّ. إذ لم يغطّ وارّون في الحقيقة بلدان الأرض قاطبة بل تناول رومية فقط في كتبه عن الشّؤون الإنسانيّة الّتي ذكر أنّه قدّمها من حيث ترتيب عرضه على الكتب المخصّصة للشّؤون الإلهيّة كما كان يلزم، شأن الرّسّام واللّوحة أو البنّاء والبناية، معترفا علنا بأنّ عالم الآلهة، كالرّسم أو البناء، من وضع البشر. يبقى حينذاك الافتراض الأخير: أنّه لم يكتب شيئا على الإطلاق عن الطّبيعة الإلهيّة ولم يشأ قول ذلك بصريح العبارة بل ترك لذوي الأفهام إدراكه. فحين يقال: "لا كلّ" non omnis يُفهم عادة: "بعض" aliqua، لكن يجوز أيضا أن يُفهم: "لا شيء"nulla ، بما أنّ "لا شيء" يعني: لا كلّ ولا بعض*. فكما يقول هو نفسه، لو كتب عن الطّبيعة الإلهيّة بكلّ جوانبها لكان يجب تقديمها من حيث ترتيب مادّته على الشّؤون الإنسانيّة. لكن كما تهتف الحقيقة وهو في صمته كان يجب على الأقلّ تقديمها على شؤون الرّومان حتّى مع تغطية بعض لا كلّ جوانبها. لكنّه أخّرها وأصاب: فهي إذن لا شيء. هكذا هو في الحقيقة لم يشأ تقديم الإنسانيّات على الإلهيّات، وإنّما أبى تقديم الأباطيل على الحقائق. ففي الأجزاء الّتي كتبها عن الشّؤون الإنسانيّة تبع تاريخ الأحداث الحقيقيّة، أمّا في ما يدعوه بالإلهيّات فماذا تبع سوى الأوهام الباطلة؟ ذاك بالتّأكيد ما أراد تبيينه تلميحا وإلماعا، لا فقط بتأخيره هذه على تلك، بل كذلك بذكر مبرّره لفعل ذلك؛ ولو لم يذكره قد يبرّر البعض فعله على غير ذلك الوجه. لكنّه في المبرّر الّذي قدّم بالذّات لم يدع مجالا للآخرين لتأويل الأمر كيفما شاؤوا، وبيّن بوضوح كاف أنّه قدّم البشر على منشآت البشر لا واقع البشر على واقع الآلهة. هكذا أقرّ بأنّه توخّى في كتبه عن الإلهيّات لا الحقّ الّذي مأتاه الواقع بل الباطل الّذي مأتاه الخطأ. وهو ما ما أقرّه صراحة في موضع آخر كما ذكرت في الكتاب الرّابع مؤكّدا أنّه كان سيكتب حسب ترتيب الطّبيعة لو كان بصدد إنشاء مدينة جديدة*، لكن لأنّه وجد مدينة عتيقة لم يملك سوى أن يتّبع عادتها.

 

6-5 في أنواع الدّين الثّلاثة حسب وارّون: الخرافيّ والطّبيعيّ والمدنيّ

   وماذا الآن عن تأكيده وجود ثلاثة أنواع من اللاّهوت- أي التّحاليل المقدّمة حول الآلهة- يدعو أحدها ميثيقيّا mythicos والآخر فيزيقيّا physicos والثّالث مدنيّا؟ إن سمحت لنا اللّغة اللاّتينيّة المتداولة، سندعو النّوع الّذي طرحه أوّلا خرافيّا  فكلمة mythos* باليونانيّة تعني باللاّتينيّة خرافة fabula، أمّا الثّاني فتسمح اللّغة المتداولة بتسميته طبيعيّا naturale، أمّا الثّالث فقد أطلق عليه اسما لاتينيّا ciuile. ثمّ إنّه قال: "سأدعو أسطوريّا ذلك النّوع الّذي يستخدمه بالأخصّ الشّعراء، وطبيعيّا لاهوت الفلاسفة ومدنيّا لاهوت الشّعب. أمّا الأوّل الّذي ذكرت ففيه كثير من الاختلاقات المخالفة لطبيعة وشرف الآلهة: ففيه أنّ إلها وُلد من رأس آخر وآخر من فخذه وآخر من قطرات دم، وفيه أنّ آلهة سرقت وأخرى زنت وأخرى خدمت إنسانا*، أخيرا تُنسب للآلهة كلّ الصّفات التّي يمكن أن توجد في الإنسان، بل حتّى في أرذل إنسان." لقد عبّر بلا شكّ وبلا لبس ولا إبهام، حيثما استطاع وحيثما جرؤ وحيثما رأى أنّه بمنجى من العقاب، عن فداحة الإساءة الّتي تلحقها الأساطير الكاذبة بطبيعة الآلهة. ولا غرو فقد كان يتحدّث لا عن الدّين الطّبيعيّ أو المدنيّ بل عن الأسطوريّ الّذي ارتأى أن يهاجمه بكامل الحرّيّة. فلنر ماذا يقول عن الآخريْن. يقول: "النّوع الثّاني كما بيّنت هو ذاك الّذي ترك الفلاسفة بخصوصه كتبا عديدة شرحوا فيها طبيعة الآلهة ومحلّها ونوعها وصفتها ومنذ متى وُجدت أم هي كائنة منذ الأزل، وهل هي من طبيعة ناريّة كما يظنّ هيرقليط أم عدديّة كما لدى فيثاغور أم ذرّيّة على رأي أبيقور، وأمورا أخرى من هذا النّوع أيسر على الآذان تحمّلها داخل جدران المدرسة من تحمّلها خارجها في السّاحة العامّة." لم يعب شيئا في هذا النّوع المدعوّ طبيعيّا والخاصّ بالفلاسفة، اللّهمّ إلاّ ذكره الجدالات بين الفلاسفة الّتي نشأت عنها شيع متناوئة عديدة. مع ذلك سحب هذا النّوع من السّاحة العامّة، أي من الجماهير، وأوصد عليه داخل جدران المدارس. أمّا ذلك النّوع الأوّل المليء بالأكاذيب والمخازي فلم يسحبه من المدن. فيا لورع آذان الشّعوب ومنها الشّعب الرّومانيّ: هي لا تستطيع تحمّل ما يختصم حوله الفلاسفة بخصوص الآلهة؛ أمّا ما يُنشد الشّعراء ويمثّل المهرّجون، لأنّه يسيء إلى شرف وطبيعة الألوهة، لأنّه يمكن أن يوجد في أيّ إنسان بل وفي أرذل إنسان، فلا تتحمّله فقط بل تستمع إليه بكلّ سرور. ولم تكتف بذلك، بل قرّرت أنّ الآلهة ترتضي تلك الأراجيف ويمكنها ترضّيها بها.

   قد يقول أحد: "لنفصلْ هذين النّوعين، الأسطوريّ والطّبيعيّ، عن المدنيّ موضوع الحديث الرّاهن، بما أنّ المؤلّف نفسه ميّزهما عنه". فلنر الآن كيف يشرح لنا الدّين المدنيّ. أرى جيّدا لماذا ينبغي فصل الخرافيّ: لأنّه باطل، لأنّه شائن، لأنّه غير لائق. أمّا أن يراد فصل الطّبيعيّ عن المدنيّ فهل ذلك سوى اعتراف بأنّ المدنيّ ذاته نسيج من الأكاذيب؟ فعلا إن كان طبيعيّا فماذا يعاب فيه ليُستبعد؟ وإن كان الّذي يدعونه مدنيّا غير طبيعيّ فبم استحقّ أن يُقَرّ؟ هذا في الحقيقة هو السّبب الّذي جعله يكتب أوّلا عن الإنسانيّات ثمّ الإلهيّات: أنّه اتّبع في الإلهيّات لا الطّبيعة بل أعراف البشر. فلننظر الآن جيّدا إلى لاهوته المدنيّ. يقول: "النّوع الثّالث هو ما يتعيّن في المدينة على المواطنين وبالأخصّ الكهنة معرفته وممارسته. فيه أيّة آلهة يجدر بالمواطن أن يعبد في إطار تظاهرات عموميّة، وأيّة طقوس يقيم لها، وأيّة ذبائح يقدّم لها." لننتبه الآن إلى ما يلي: "النّوع الأوّل من الدّين يناسب بالخصوص المسرح، والثّاني العالَم والثّالث المدينة." من لا يرى لأيّ منها يعطي سعفة الامتياز؟ بالتّحقيق للثّاني الّذي ذكر آنفا أنّه خاصّ بالفلاسفة؛ فقد شهد بأنّه يلائم العالم الّذي يرون أنّ لا شيء يفضله في الوجود. أمّا النّوعان الأوّل والثّالث فهل فصل أم قرن بينهما؟ نرى فعلا أنّ ما يخصّ المدينة لا يمكن بالضّرورة ومن مجرّد ذلك أن يلائم العالم، وإن كانت المدن كما هو بيّن جزءا من العالم. فقد يحصل أن يُعبد ويصدَّق في المدينة انسياقا وراء آراء شائعة باطلة ما لا حقيقة له في العالم ولا حتّى خارجه: وهل يوجد المسرح في غير المدينة؟ وهل شاد المسرحَ سوى المدينة؟ وهل لسوى الألعاب التّمثيليّة شادته؟ وهل تقام تلك الألعاب في إطار سوى طقوس الآلهة الّتي ألّف عنها تلك الكتب بكفاءة واقتدار؟

 

6-6 في الدّين الأسطوريّ أو الخرافيّ وفي المدنيّ ضدّ وارّون

   فيا مرقس وارّون الأنبه والأعلم بين الجميع بلا شكّ لكنّك بشر لا إله، وما رفعك روح الله لترى وتعلن للنّاس بالحقّ وبكامل الحرّيّة الأسرار الرّبّانيّة، لا جرم أنّك ترى ضرورة فصل حقائق الألوهيّة عن السّخافات والأباطيل البشريّة، لكنّك تخشى إغاظة ما تتداول الشّعوب من آراء وأعراف فاسدة ومعتقدات سخيفة مع أنّك تعلم أنت نفسك لدى فحصها باستيفاء، وكلّ كتاباتك تعلن عاليا، شناعتَها ومنافاتَها لطبيعة الآلهة حتّى في الصّورة الّتي يتمثّلها بها في عناصر هذا الكون ضعف الفكر البشريّ. ماذا يستطيع في هذا الباب أنبغ فكر بشريّ؟ أيّ عون يقدّم لك في هذه المضايق العلم البشريّ مهما بلغت سعته وإحاطته؟ تودّ عبادةَ الآلهة الطّبيعيّة وأنت مضطرّ لعبادة المدنيّة. وجدتَ بعض الآلهة ذات طابع أسطوريّ: وفيها تبدي رأيك بكلّ صراحة، مسفّها بذلك، شئتَ أم أبيتَ، الآلهةَ المدنيّة أيضا. تقول لا محالة إنّ الأسطوريّة ملائمة للمسرح والطّبيعيّة للعالم والسّياسيّة للمدينة، والحال أنّ العالم صنعُ الله بينما المدينة والمسرح صنعُ البشر، وما تلك الّتي تُهزَّأ في المسارح سوى تلك الّتي تعظَّم في المعابد، ولا تلك الّتي تعرضون عليها ألعابكم سوى تلك الّتي تقدّمون لها ذبائحكم. كم كان أسلمَ وأصوبَ أن تقسّمها إلى آلهة طبيعيّة وآلهة وضعيّة، لكن بين الّتي وضع البشر أَوْجدَت البعضَ كتاباتُ الشّعراء والبعضَ الآخرَ أقوالُ الكهنة، ومع ذلك بين الفئتين من الصّداقة المؤسّسة على الزّمالة في الباطل ما يجعل كلتيهما مستطابة مرضيّة عند الشّياطين الّتي عدوُّها دين الحقّ الحنيف.

   لندعْ جانبا إذن لبرهة من الزّمن الدّين الّذي يدعونه طبيعيّا والّذي سنتناوله لاحقا ونسلْ: هل نرضى بالتماس أو ارتجاء الحياة الأبديّة من آلهة الشّعراء والمسرح والألعاب التّمثيليّة؟ حاشا وكلاّ، فالإله الحقّ يبغض هذا الخطل الشّنيع المستهتر بحرمة الألوهة. ماذا؟ أمن تلك الآلهة الّتي ترتضي تلك التّرّهات وتُترضّى بتلك التّرّهات حيث يشاد بجرائمها تُلتمس الحياة الأبديّة؟ لا أحد في اعتقادي يصل به الخبل هذه الهاوية من الكفر والهوج. لا أحد ينال إذن من الدّين الأسطوريّ ولا المدنيّ الحياة الأبديّة: ذاك يزرع بافتراءِ دنايا عن الآلهة، وهذا يحصد بتشجيعها؛ ذاك ينثر الأراجيف، وهذا يجمعها؛ ذاك يقذف الألوهة بجرائم مؤتفَكة، وهذا يضمّ إلى طقوس الآلهة تمثيل تلك الجرائم؛ ذاك يتغنّى في أشعار بما حاكت أخيلة البشر من أساطير منكرة عن الآلهة، وهذا يكرّسها في الاحتفالات الّتي يقيمها لنفس تلك الآلهة؛ ذاك يُنشد جرائم ومخازي الآلهة، وهذا يستعذبها؛ ذاك يبتكرها أو يختلقها، وهذا يشهد بصحّتها أو يستمتع حتّى بأكاذيبها. كلاهما مذؤوم وكلاهما مرذول. الفرق أنّ الأوّل ذا الطّابع المسرحيّ يشهد بفساد الأخلاق بينما الأخير ذو الطّابع المدنيّ يزّيّن بذاك الفساد. أفتُرتجى الحياة الأبديّة من هذا الرّجس الّذي تتدنّس به هذه الحياة الفانية السّريعة الزّوال؟ أتدنِّس حياتَنا خلطةُ الأشرار إن اندسّوا بيننا فحازوا ودّنا ورضانا، ولا تدنّسها عِشرة الشّياطين الّتي تُتعبّد على جرائمها؟ إن كانت صحيحة فأيّ منكر، وإن كانت كاذبة فأيّ منكر!

   حين نقول هذا قد يبدو لمن يجهل تماما هذه الأمور أنّ ما يُنشَد في قصائد الشّعراء ويمثَّل في الألعاب المسرحيّة عن تلك الآلهة وحده غير لائق بجلال الألوهة، وأنّ إشهاره فعل مزْر ومقيت؛ بينما الطّقوس الّتي يؤدّيها كهنة لا شعراء مبرّأة من كلّ مذمّة غريبةٌ عن كلّ مقبحة. لو كان الأمر كذلك لما فكّر أحد أبدا بإقامة تلك الألعاب المسرحيّة المعيبة على شرفها ولما أوعزت الآلهة نفسها أبدا بعرضها عليها. لكن لا حرج من تمثيل تلك الأعمال على المسرح تكريما للآلهة ما دامت أفعال شبيهة تؤتى في المعابد. باختصار لمّا يحاول ذلك الكاتب تمييز الدّين المدنيّ عن الأسطوريّ والطّبيعيّ كنوع ثالث أراد أن يُعَدّ صنفا مولّدا عُدّل بعناصر منهما أكثر ممّا هو صنف مستقلّ من نوعه. يقول فعلا إنّ ما يكتب الشّعراء دون ما يليق بالشّعوب اتّباعه، لكنّ ما يكتب الفلاسفة فوق ما يناسب العامّةَ السّعيُ إلى إدراكه. يقول: "هما متنافران إلى أقصى حدّ، ومع ذلك دُمجت عناصر غير قليلة من كليهما في الدّين المدنيّ. لذا سنبيّن ما هو مشترك بينه وبينهما وما هو خاصّ به؛ ومن بين الاثنين ينبغي أن تكون صحبتنا للفلاسفة أوثق من صحبتنا للشّعراء." لا علاقة إذن مع الشّعراء! لكنّه يذكر في موضع آخر بخصوص أنساب الآلهة أنّ الشّعوب أميلُ إلى الشّعراء منها إلى الفلاسفة الطّبيعيّين. هناك يقول ما يجب أن يكون وهنا ما يقع فعلا. يقول إنّ الفلاسفة كتبوا للإفادة والشّعراء للإمتاع، لذا لا ينبغي أن تتّبع الشّعوب ما يكتب الشّعراء عن جرائم الآلهة، وهو مع ذلك يُمتع الشّعوب والآلهة سويّا. فللإمتاع كما يقول لا للإفادة يكتب الشّعراء، والحال أنّهم يكتبون ما تطلب الآلهة وتحبّ عرضه الشّعوب.

 

6-7 في تشابه وتوافق الدّينين الأسطوريّ والمدنيّ

   يُعتمد إذن مصدراً للدّين المدنيّ ذاك الدّينُ الأسطوريّ ذو الطّابع التّمثيليّ الصّالحُ بالمسرح المليءُ بالقبائح والمخازي والّذي يُعَدّ بكامله مشجوبا مرذولا، ويرى أنّ قسما منه جدير بالإجلال والآتّباع، لا بالطّبع القسم غير اللاّئق الّذي اجتهدت لإبرازه والغريب عن الجسم الكلّيّ وإنّما أُلصق وعُلّق به اعتباطا، بل قسما موافقا تماما للكلّ، وملتحما به في انسجام كعضو من ذلك الجسم. ماذا غير ذلك تُظهر فعلا تماثيل وصور وأعمار وأجناس وملابس الآلهة في كليهما؟ أيجعل الشّعراءُ يوبترَ ألحى ومركوريوسَ أمردَ وهما عند الأحبار على صورة مغايرة؟ وعلى غرار بريابوس المهرّجين ألم يصنع الكهنة أيضا منكرات تخدش الحياء؟ أم تُراه ينتصب في الأماكن المقدّسة ليُعبد على هيئة غير الّتي يتقدّم بها في المسرح لإضحاك النّظّارة؟ أساترنوس شيخ وأبولّون فتى في أقنعة الممثّلين وهما على غير تلك الصّورة في تماثيلهما المنتصبة في المعابد؟ لماذا عُدّ فركولوس المشرف على الباب وليمنتيوس الموكّل على العتبة ذكرين وعُدّت أنثى كردية حافظة المفصّلة الواقعة بينهما؟ ألا نجد هذه التّرّهات في كتب الإلهيّات، بينما عدّهاالشّعراء الرّصناء غير جديرة بالذّكر في أشعارهم؟ هل تحمل ديانة المسرحيّةُ أسلحة بينما ديانة المدنيّةُ عذراء عزلاء؟ هل أبولّون المسرح عازف قيثارة بينما لا يمارس ذاك المنتصب في دلفي قطّ هذا الفنّ؟

   بيد أنّ هذه الأمور لائقة نسبيّا، مقارنة بقبائح أشنع. كيف نظر إلى يوبتر من وضعوا له مرضعة في الكابتوليوم؟ ألم يشهد عليهم إفهيمروس الّذي كتب، لا بهراء القصّاص* بل بدقّة الأخباريّ، أنّ كلّ تلك الآلهة كانت في الأصل بشرا فناة؟ ومن جعلوا سدنة الولائم* طفيليّين على مائدة يوبتر، هل أرادوا سوى أداء طقوس تمثيليّة؟ لو قال ممثّل إيماء إنّ طفيليّي يوبتر دُعوا إلى مأدبته لبدا بلا شكّ أنّه يريد الإضحاك. لكن قال ذلك وارّونُ، قاله لا في إطار السّخرية من الآلهة بل في إطار التّوصية بإجلالها. تشهد بأنّه كتب ذلك كتبه لا عن الإنسانيّات بل عن الإلهيّات، لا حيث يعرض ألعاب المسرح بل حيث يبسط نواميس الكابتوليوم. هكذا إذن يثبت عليه ويُقرّ هو نفسه أنّهم كما جعلوا الآلهة على هيئة بشريّة تصوّروا بالمثل أنّها تستمرئ ملاذّ البشر. ولا غرو فأرواح الشّرّ لا تني قطّ عن شغلها الدّائب: ترسيخ تلك الأباطيل الضّارّة عبر لهو العقول البشريّة.

   كذلك ما معنى قصّة سادن هرقل الّذي يروى أنّ الفراغ دفعه إلى اللّعب بالنّرد مع نفسه، مراوحا بين يديه، إحداهما عن نفسه والأخرى نيابة عن هرقل، مراهنا بأنّه إن غلب أعدّ عشاء لنفسه واجتلب مومسا من نقود المعبد، وإن كانت الغلبة لهرقل قدّم للإله نفس المتعة من ماله الخاصّ. فلمّا غلب في دور هرقل نفسه قدّم للإله العشاء المستحقّ والمومس الكريمة لارنتينة. فلمّا نامت في المعبد رأت في المنام هرقل ضاجعها وأخبرها أنّها عند مغادرة المعبد واجدة أجرها متمثّلا في أوّل شابّ يلاقيها ويجب أن تعلم إذّاك أنّ هرقل سدّد ما بذمّته. وكذلك كان: فما أن لقيها وهي تبارح المعبد شابّ غنيّ يدعى طاروتيوس حتّى أحبّها وخادنها مدّة طويلة وأوصى لها عند موته بميراثه. وكيلا تبدو بعدما نالت تلك الثّروة الطّائلة جاحدة للمكافأة الرّبّانيّة أوصت بدورها للشّعب الرّومانيّ بميراثها، مفكّرة أنّ ذلك سيجد عند الآلهة قبولا حسنا. وعند موتها وُجدت وصيّتها. فبتلك الأفعال الحميدة يقولون إنّها استحقّت الأشراف الإلهيّة! لو اختلق ذلك الشّعراء، لو عرضه الممثّلون، لرأوا أنّه يندرج بدون شكّ ضمن الدّين الأسطوريّ ويجب تمييزه عن جلال الدّين المدنيّ. لكن ما دامت تلك القبائح، الّتي أتت لا من الشّعراء بل من الشّعب، لا من التّمثيليّات بل من  الطّقوس الرّسميّة، لا تنتمي إذن إلى الدّين الأسطوريّ بل هي من الدّين المدنيّ، رواها كاتب بمثل ذلك الصّيت والوقار، فما عبثا يختلق الممثّلون عن الآلهة في ألعابهم المسرحيّة مخازي بتلك الشّناعة، بل عبثا يحاول الكهنة، في طقوس يزعمونها مقدّسة، إسناد مكارم للآلهة ما هي منها على شيء.

   هناك طقوس ليونون وهي تقام لها في جزيرتها المحبوبة ساموس حيث تزوّجها يوبتر؛ وهناك طقوس لكيريس في الموضع الّذي مضت تبحث فيه عن بروسربينة بعدما خطفها بلوتون؛ وهناك طقوس لفينوس حيث قُتل خدنها الشّابّ القسيم أدونيس ممزّقا بناب الخنزير فبقيت تندبه؛ وهناك طقوس لأمّ الآلهة حيث تعرّض محبوبها الشّابّ الوسيم أتّيس للخصي جرّاء غيرة امرأة، وحيث يرثى لتعس كهّانها المدعوّين غالّي المتعرّضين للخصي مثله. ما دامت هذه الطّقوس أزرى من كلّ البشاعة الّتي تتضمّنها الألعاب التّمثيليّة، فيم محاولاتهم الكدودة لفصل أساطير الشّعراء الموضوعة عن الآلهة باعتبارها تنتمي بلا شكّ إلى المسرح عن الدّين المدنيّ الّذي ينتمي- بذا قضت مشيئتهم- إلى الدّولة، فصلَ قبائح ومخاز عن محامد ومكارم. لذا فأوْلى أن يُشكر الممثّلون الّذين أعفوا عيون الجمهور فلم يكشفوا في مسرحيّاتهم كلّ ما تخفي جدران المعابد! أيّ خير يُظنّ عن طقوسهم المستترة تحت جنح الظّلام ما دام ما يُجرى في الضّياء بمثل تلك الشّناعة؟ ولا شكّ أنّهم رأوا هم أنفسهم ما يعملون في الخفاء بواسطة خصيان ومخنّثين؛ لكنّهم لم يمكنهم إخفاء أولئك الأشخاص الّذين كُسحت وشُوّهت أجسادهم بنحو مزر يرثى له. ليُقنعوا من استطاعوا بأنّهم يؤدّون عملا مقدّسا بواسطة أولئك الأشخاص الّذين لا يمكنهم إنكار أنّهم يُعَدّون ويعيشون ضمن مقدّساتهم. لا نعلم ما يفعلون لكنّا قطعا نعلم بواسطة من يفعلونه. نعلم ماذا يمثَّل على ركح المسرح حيث لم يدخل أبدا خصيّ أو مخنّث حتّى في فرقةِ مومساتٍ غنائيّةٍ. لكن تلك المشاهد أيضا يمثّلها أوباش أراذل، إذ لا يُعقل أن يمثّلها أشراف أفاضل. فما هي إذن تلك الطّقوس الّتي اختارت القداسةُ لأدائها أشخاصا لا يقبل بهم حتّى فحش المسارح بين ممثّليه؟

 

6-8 في التّاويلات القائمة على تعليلات طبيعيّة والّتي يحاول العلماء الوثنيّون الدّفاع بها عن آلهتهم

   لكنّ لتلك الطّقوس تأويلات فيزيقيّة كما يقولون، أي طبيعيّة، كما لو كنّا في هذا النّقاش نبحث في الفيزيقا لا اللاّهوت، أي في علم الطّبيعة لا الرّبوبيّة. فمع أنّ الله الحقّ إله لا بحكم الظّنّ بل بمقتضى الطّبيعة، ليست كلّ طبيعة هي الله: فثمّة بالتّأكيد طبيعة الإنسان والحيوان والشّجر والحجر، وليست أيّة واحدة منها الله. فإن كان مبدأ التّأويل فيما يتعلّق بطقوس أمّ الآلهة أنّ أمّ الآلهة هي الأرض لا شكّ، عمّ نبحث فوق ذلك وعمّ نفتّش فضلا عنه؟ أيّ دليل يدعم بنحو أسطع من يقولون بأنّ تلك الآلهة كانت بشرا؟ هكذا فعلا هي ذرّيّة الأرض، هكذا أمّها هي الأرض*. لكنّ الأرض في الدّين الصّحيح صنع الله لا أمّه. مع ذلك بنحو ما تؤوَّل طقوسها استنادا إلى الطّبيعة وتُحيل إليها: فالقبول برجال مأبونين أمر لا يوافق الطّبيعة بل يخالف الطّبيعة؛ لهذا السّقم، لهذا الجرم، لهذا الخزي دور بين تلك الطّقوس، لا تكاد تكفي لانتزاع الاعتراف* به من السِّقام المنحرفين من النّاس أشدُّ ألوان التّعذيب. ثمّ إن بُرّرت وبُرّئت تلك الطّقوس الأقبح بالتّحقيق من مخازي الألعاب التّمثيليّة من منطلق أنّ لها تأويلاتها الّتي تبيّن بوضوح أنّ لها معنى طبيعيّا، لِم لا تبرَّر وتبرَّأ أيضا وعلى نفس المنوال منكرات الشّعراء؟ فكثيرون أوّلوها هي أيضا بهذا النّحو، حتّى أنّ البعض يؤوّلون ما يُعَدّ الأفظع والأنكر بينها، أعني التهام ساترنوس لأبنائه، على أنّ الدّهر في انسيابه المستمرّ، والّذي يُرمز إليه باسم ساترنوس، يُهلك كلّ ما يُنشئ، أو على رأي وارّون أنّ ساترنوس يرمز إلى البذور* الّتي في الأرض ومنها تنشأ ثمّ إليها تعود مجدّدا. هكذا يؤوّل كلّ على طريقته، والشّأن مماثل في معتقدات أخرى. مع ذلك يدعى هذا دينا أسطوريّا وهو مع كلّ تأويلاته المشابهة مشجوب منبوذ مرذول*، لا فقط من اللاّهوت الطّبيعيّ الخاصّ بالفلاسفة، بل حتّى من المدنيّ موضوع حديثنا الّذي يؤكّدون أنّه يخصّ الدّول والشّعوب، بسبب اختلاقه أساطير منكرة عن الآلهة، يرون أنّه يجب نبذه كما يستحقّ بالتّأكيد لهذا الاعتبار: هو أنّ فطاحل العلماء أولي النّباهة والنّهى الّذين كتبوا تلك التّحليلات كانوا يدركون أنّ النّوعين، الأسطوريّ وكذلك المدنيّ، مرفوضان، لكن كانت تتوفّر لديهم الجرأة لرفض ذاك وتعوزهم بالنّسبة لهذا، فأقرّوا أنّ ذاك يستحقّ الإدانة وعرضوا هذا المماثلَ له ليقارَن به*، لا ليُنتقى هذا فيُستمسك به دون ذاك، بل ليُفهم أنّه مرفوض كصاحبه؛ وهكذا بدون خطر عليهم- إذ كان يخيفهم نقد الدّين المدنيّ- أبدوا ازدراءهم لكليهما، ليتاح أن يجد ذلك الّذي يسمّونه طبيعيّا قبولا لدى الأذهان الأكثر استنارة. فالمدنيّ والأسطوريّ أسطوريّ كلاهما ومدنيّ كلاهما، وسيجد أسطوريّا كليهما من ينظر بلبابة في أباطيل وفواحش كليهما، ومدنيّا كليهما من يتمعّن في الألعاب التّمثيليّة ذات الطّبيعة الأسطوريّة في احتفالات الآلهة المدنيّة وفي طقوس آلهة شتّى المدن. كيف تُنسب إذّاك القدرة على منح الحياة الأبديّة لأيّ من تلك الآلهة الّتي تثبت عليها تماثيلها وطقوسها أنّها شبيهة تماما بالآلهة الأسطوريّة بالأشكال والأعمار والجنس واللّباس وبالأزواج والأنساب والطّقوس، ومن كلّ تلك المواصفات يستفاد أنّها كانت في الأصل بشرا أقيمت لكلّ منهم تمجيدا لحياته أو موته طقوس واحتفالات، بينما مضت الشّياطين تغرس وترسّخ هذا الضّلال، أو انتهزت الأرواح النّجسة فرصة ما لتتسلّل إلى أذهان البشر لخداعهم*.

<<