القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّابع 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب السّابع

 

توطئة

   سيكون على الأفهام الأسرع والأنفذ الّتي تفي في حالتها الكتب السّابقة بالمقصود وزيادة أن تتحمّل بصبر وأناة ومن باب المراعاة لغيرها وألاّ ترى نافلا ما باتت ترى بالنّسبة لها غير غير لازم، وأنا أواصل محاولتي بجهد لانتزاع واستئصال التّصوّرات البالية والفاسدة المضادّة للحقّ والتّقوى، الّتي ثبّتها ورسّخها عميقا في الأذهان الملفوفة في ظلمات الجهالة ضلال الجنس البشريّ المزمن، مستعينا، لقصور قواي المحدودة، نعمة من هو، بوصفه الإله الحقّ، على ما أستعينه قدير. يهمّ كثيرا أن يُتعرَّف الإله الحقّ القدّوس حقّا ليُعبد ويُدعى، لا من أجل سراب الحياة الفانية العابر، وإن كنّا منه هو أيضا نتلقّى المساعدات الضّروريّة لهذا الضّعف الّذي نحمل في حياتنا الحاضرة، بل من أجل الحياة السّعيدة الّتي هي أبديّة أو لا تكون.

 

7-1 ما دام قد ثبت ألاّ وجود للألوهة في الدّين المدنيّ هل يجوز الاعتقاد في وجودها في آلهة منتقاة

   من لم يُقنعه بعد الكتاب السّادس الّذي فرغنا السّاعة منه بأنّ تلك الألوهة diuinitas، أو كما أفضّل القول الألوهيّة deitas- إذ لا يجد كتّابنا ضيرا في استخدام هذه اللّفظة لنقل العبارة اليونانيّة  theoteia- لا توجد في ذلك الدّين الّذي يدعونه مدنيّا والّذي عرضه مرقس وارّون في ستّة عشر كتابا، أي أنّه لا يوصل إلى سعادة الحياة الأبديّة بعبادة الآلهة بالصّورة الّتي أُنشئت بها وبالطّريقة الّتي وُضعت ليعبد المواطنون تلك الآلهة، فقد لا يكون لديه، بعد قراءة هذا الكتاب، ما يرغب في مزيد من التّوضيح حوله بخصوص هذه المسألة. إذ لا يجوز أن يفكّر أحد بأنّ علينا أن نعبد من أجل الحياة السّعيدة، الّتي هي أبديّة أو لا تكون، على الأقلّ الآلهة الرّئيسيّة المصطفاة الّتي عرضها وارّون في الكتاب الأخير من من مؤلّفه وتحدّثنا عنها قليلا. لا أقول بهذا الصّدد ما يقول ترتلّيانوس في عبارة أقرب ربّما إلى السّخرية الظّريفة منها إلى الحقّ: "إن اختيرت آلهة كالبصل فذاك يعني بالضّرورة استبعاد البقيّة."* أرى فعلا أنّه حتّى بين النّخبة يُنتقى البعض لمهمّة أجلّ وأسمى، كما يُصطفى في الجيش المجنّدون ثمّ تُصطفى من بينهم نخبة لمهامّ عسكريّة أكبر، ويصطفى في الكنيسة جماعة للإشراف على شؤونها دون أن يعني ذلك بتاتا نبذ الآخرين فكلّ المؤمنين الصّالحين يُدعون حقّا وعدلا أصفياء، وتنتقى في البناء أحجار الزّاوية دون استبعاد الأخرى الّتي يُرى أن تُستخدم لجدران البناية، وتنتقى أعناب للأكل دون رمي الأخرى المستبقاة للشّراب. لا حاجة بنا هنا إلى استعراض عدّة أمثلة بينما الأمر في تمام الوضوح. لا يعني إذن اصطفاء البعض بين جمع الآلهة تثريبا على من كتب عن البقيّة ولا عبدتها ولا الآلهة ذاتها، بل يجب بالأحرى فحص أيّة آلهة اختيرت ولأيّ غرض رأى النّاس اختيارها.

 

7-2 أيّة آلهة فُرزت وهل تُعَدّ مستثناة من أعمال الآلهة الأخرى

   يوصي وارّون في سياق كتاب أفرده لهذا الغرض بيانوس ويوبتر وساترنوس وجنيوس ومركوريوس وأبولّون ومارس وولكانوس نبتونوس وصول وأركوس والأب ليبر وتلّوس وكيريس ويونون ولونة وديانة ومينرفة وفينوس ووستة. بين هذه الآلهة العشرين اثنا عشر ذكرا وثماني إناث. فهل تدعى هذه الآلهة صفوة نظرا إلى مجالات إشرافها الأهمّ في هذا العالم، أم لأنّها أشهر لدى الجماهير وتُخصّ بعبادة أهمّ؟ إن كان ذلك لإشرافها على شؤون أهمّ في العالم، وجب ألاّ نجدها بين تلك الكثرة من الآلهة الّتي هي بمثابة سواد الشّعب والموكّلة في تصوّراتهم بأعمال صغرى دقيقة. فبدءا نجد يانوس نفسه، عند تكوّن النّطفة الّذي تبدأ انطلاقا منه كلّ الأعمال الموزّعة بالتّفصيل بين الآلهة الصّغرى يفتح منفذا لتلقّي البذور المنويّة. هناك يتواجد أيضا ساترنوس بسبب البذور، وليبر الّذي يحرّر الذّكر بقذف مائه، وليبرة الّتي هي في زعمهم فينوس نفسها وتؤتي الأنثى نفس الفضل فتتحرّر هي أيضا بإفراز مائها. وكلّ هذه الآلهة في عداد المدعوّة بالصّفوة. لكن تتواجد هناك أيضا الإلهة مِنى الّتي تشرف على الدّورة الشّهريّة وهي مع أنّها بنت يوبتر من الدّهماء. وإمارة الدّورة الشّهريّة هذه يسندها نفس المؤلّف في كتابه المخصّص لصفوة الآلهة إلى يونون نفسها وهي من صفوة الآلهة بل هي فيها الملكة، وهي في دور يونون- لوقينة تشرف مع ربيبتها مِنى على المحيض. يتواجد كذلك هناك إلهان مغموران لا أعرف لهما أصلا ولا فصلا هما فيتُمنوس وسنتينوس مانحا الجنين الحياة والحسّ بالتّوالي. لا شكّ أنّهما يتولّيان على ضعة منزلتهما دورا أهمّ بكثير من أولئك المصطفَين الأخيار. فبدون الحياة والحسّ هل يحمل رحم المرأة سوى كتلة مَهينة شبيهة بطين وتراب؟

 

7-3 في أنّه لا يمكن تقديم أيّ سبب لاصطفاء بعض الآلهة بينما تُسند إلى عدّة آلهة صغرى وظائف أهمّ

   أيّ سبب دفع إذن ذلك العدد من صفوة الآلهة إلى هذه الأعمال الصّغرى حيث يتفوّق عليها في توزيع الهبات فيتمنوس وسنتينوس النّكرتان؟ إذ يقدّم يانوس المصطفى منفذا وكالباب لبذرة الذّكر، ويقدّم ساترنوس المصطفى البذرة نفسها، وييسّر ليبر المصطفى للرّجال قذف تلك البذرة، وتمدّ ليبرة الّتي هي كيريس أو فينوس الإناث بنفس النّعمة، وتُمدّ يونون المصطفاة لا بمفردها بل مع مِنى بنت يوبتر بالطّمث لنموّ الجنين*: بينما يُمدّ فيتمنوس النّكرة المغمور بالحياة ويمدّ سنتينوس النّكرة المغمور بالحسّ، وهما يفوقان لعمري بقيّة الهبات كما يفوقهما بدورهما الإدراك والعقل. فكما أنّ الكائنات المدركة العاقلة أقدر بالتّحقيق من تلك الّتي تتمتّع كبهائم بالحياة والحسّ دون الإدراك ولا العقل، كذلك تفضَّل بحقّ تلك الّتي زوّدت بالحياة والحسّ على الّتي لا حياة لها ولا حسّ. هكذا كان أوْلى أن يُعدّ من صفوة الآلهة فيتمنوس واهب الحياة وسنتينوس واهب الحسّ، من أن يستصفى يانوس متلقّي البذار وساترنوس مانحه وباذره وليبر وليبرة محرّكا أو مفرزا بذور الرّجل والمرأة الّتي لا تستحقّ أن نعيرها بالا ما لم ترتق إلى الحياة والحسّ اللّذين هما هبتان متميّزتان لا تهبهما الآلهة المتميّزة بل يمنحهما إلهان مغموران ومهملان مقارنة بشرفها الرّفيع. فإن ردّوا بأنّ يانوس له السّلطان على كلّ فاتحة لذلك أُسند إليه أيضا- ولا بدون مبرّر وجيه- فتح السّبيل لتكوّن الجنين، وأنّه لا يجوز كذلك إقصاء ساترنوس متولّي كلّ البذور وبالتّالي بذار البشر أيضا عن هذه العمليّة، وأنّ يونون تحكم كلّ تطهير وكلّ ولادة ومن ثمّة لا تغيب أيضا عن تطهير النّساء وولادة البشر، فليبحثوا عمّا يجيبون به بخصوص فيتمنوس وسنتينوس: أيرون أنّ لهما سلطانا على كلّ ما يحيا ويحسّ. إن سلّموا بذلك فليروا في أيّة مرتبة رفيعة سيضعونهما إذّاك، فإنّ النّشوء من بذور عمليّة تتمّ في الأرض ومن الأرض بينما الحياة والإحساس من صفات الآلهة النّجميّة في زعمهم. لكن إن زعموا أنّ فيتمنوس وسنتينوس ينفردان بالإشراف على كلّ ما يحيا بجسد وحواسّ فلِم لا يهب ذلك الإلهُ صانعُ كلّ ما يحيا ويحسّ الجسدَ كذلك الحياةَ والحسَّ، مانحا في عمله الكونيّ هذه النّعمة للأجنّة أيضا؟ وما الحاجة إلى فيتمنوس وسنتينوس؟ فإن كان- هو مانح كلّ حياة وكلّ حسّ- قد فوّض إليهما كخادمين هذه الشّؤون الجسديّة باعتبارها وضيعة وخسيسة، أعدِمتْ الخدمَ صفوة الآلهة المذكورة فلم تجد هي أيضا من تفوّض إليهم مهامّها، لذا هي مع كلّ هيبتها الّتي استوجبت اصطفاءها كما يبدو مضطرّة إلى مباشرة عملها مع أخرى دونها شرفا؟

   ويونون المصطفاة "الملكة أخت وزوجة يوبتر معا"* هي في الوقت نفسه إيتردوكة الّتي تقود على الطّريق الغلمان وتقوم بهذا العمل مع الإلهتين الخسيستين أبيونة وأديونة. هناك وضعوا كذلك الإلهة مِنس الّتي تعطي الأطفال فكرا صالحا وهي لم تصنَّف في الصّفوة كما لو كان بالإمكان منح الإنسان شيئا أهمّ، بينما تُصنّف فيها يونون الّتي هي إيتردوكة ودوميدوكة* كما لو كان يجدي السّير على الطّريق والرّجوع إلى البيت إن لم يكن الفكر صالحا، والحال أنّ أولئك المصطفِين لم يصنِّفوا مع صفوة الأرباب الإلهة الخاصّة بهذه الهبة. وكان ينبغي بالتّحقيق تفضيلها كذلك على مينرفة الّتي أسندوا إليها في هذا توزيع الأعمال الدّقيق هذا ذاكرةَ الأطفال. فعلا من يشكّ في أنّ امتلاك فكر صالح أنفع بكثير من ذاكرة مهما بلغت سعتها وقوّتها؟ فلا أحد يكون امرء سوْء إن كان له فكر صالح بينما بعض الأشرار ذوو ذاكرة عجيبة، ويزداد شرّهم بقدر ما هم أعجز عن نسيان الشّرّ الّذي يشغل فكرهم. مع ذلك توجد مينرفة بين الصّفوة بينما يخفي إلهة الفكر عن الأنظار طغام الآلهة الصّغرى. ماذا أقول عن إلهة الفضيلة وإلهة السّعد اللّتين سبق لنا الحديث عنهما بإسهاب في الكتابي الرّابع؟ فمع أنّهم عدّوهما إلهتين، لم يشاؤوا منحهما أيّ مكان بين صفوة الآلهة، بينما منحوا ذلك لمارس وأركوس اللّذين يحدث أحدهما أمواتا والآخر يتلقّاهم.

   ما دمنا إذن نرى كذلك، في هذه الأعمال الدّقيقة الموزّعة على عديد من الآلهة، صفوةَ الآلهة الّتي هي بمثابة مجلس الشّيوخ تعمل مع سواد الشّعب سويّا، ونجد بعض الآلهة الّتي لم تُعَدّ جديرة بالاستصفاء تتولّى أعمالا أهمّ وأفضل ممّا تتولّى تلك الّتي يسمّونها صفوة، يبقى أن نفترض أنّها دعيت صفوة وآلهة رئيسيّة لا بسبب وظائفها الأهمّ في تسيير هذا العالم بل لأنّها عرضاً صارت معروفة أكثر لدى الجماهير. فوارّون نفسه يقول إنّ خمول الذّكر يحصل لبعض الآلهة الآباء والإلهات الأمّهات مثلما يحصل للبشر. إن لم يلزم إذن أن تكون إلهة السّعد من صفوة الأرباب ربّما لأنّ بلوغ الشّهرة يحصل بحكم الصّدفة لا الجدارة، فعلى الأقلّ كانت ستوضع ضمنها بل فوقها فرتونة الّتي هي حسب أقوالهم إلهة توزّع عطاياها لا وفق نسق عقلانيّ بل كما اتّفق جزافا. كان يجب أن تحتلّ القمّة في صفوة الآلهة الّتي تُظهر فيها أكثر ممّا في سواها مدى قدرتها، إذ نراها اصطُفيت لا لعظم فضلها ولا لسعود ذي أساس عقليّ، بل بقدرة فرتونة الّتي تحمل، كما يحسّ منها عبدتها، طابع الاعتباط. ولعلّ سالّستيوس، ذاك الرّجل الّذي لا يُشقّ له في البلاغة غبار، كان يقصد الآلهة أيضا بقوله: "لكنّ فرتونة تسيطر لا شكّ على كلّ شيء فتجعل شتّى الأشياء وفق هواها لا بمقتضى الحقّ مشهورة أو مغمورة."* إذ لا يمكنهم أن يجدوا مبرّرا لكون فينوس محلّ الإشادة ووِرتوس خاملة الذّكر، بينما كُرّست ألوهة كلتيهما ولا مجال للمقارنة بين فضليهما. أو إن حصلت هذه الشّهرة لأنّها تستهوي أناسا كثيرين- فهواة فينوس أكثر من هواة ورتوس- لِم كانت إذن مينرفة مشهورة وبيكونية مغمورة، بينما محبّو المال أكثر من محبّي المهارات، وبين ذوي المهارات الحرفيّة أنفسهم قلّما نجد شخصا لا يمارس فنّه سعيا وراء مقابل ماليّ، ولِما يُصنع لأجله قيمة أكبر ممّا يُصنع لأجل غاية سواه. إن كان إذن حكم الكثرة الخرقاء هو الّذي أجرى انتقاء الآلهة المذكور، لِم لَم تفضَّل بيكونية على مينرفة، والحال أنّ المال همّ الكثيرين بين الصّنّاع؟ لكن إن كان هذا التّمييز من فعل أقلّية من العقلاء فلم لم تفضَّل ورتوس على فينوس، بينما العقل يفضّلها عليها بشأو بعيد؟ على الأقلّ كان ينبغي كما قلت أن تتبوّأ درجةً عليّةً بين الصّفوة فرتونةُ الّتي حسب تصوّر من ينسبون إليها الكثير "تسيطر على كلّ شيء فتجعل شتّى الأشياء وفق هواها لا بمقتضى الحقّ مشهورة أو مغمورة"، إن امتدّت قوّتها حتّى على الآلهة إلى درجة أنّها حسب حكمها الاعتباطيّ تشهر من تشاء وتغمر من تشاء، هي الّتي يبلغ نفوذها حتّى على الآلهة ذاك المدى. وهل من تفسير لعدم تمكّن فرتونة من الالتحاق بذلك المقام سوى افتراض أنّ ربّة الحظّ نفسها عاكسها الحظّ. لقد عاكست إذن نفسها، هي الّتي تشهر وترفع سواها دون نفسها!*

 

7-4 في أنّ الآلهة الدّنيا الّتي لم تشتهر بأيّة مخاز عوملت بنحو أفضل من الصّفوة الّتي رُوّج لقبائحها المنكرة

   في المقابل يحرو بمن يحبّ الرّفعة والشّهرة أن يهنّئ تلك الآلهة المصطفاة ويعدّها محظوظة لو لم ير أنّ اصطفاءها عار لا شرف لها. فلقد ستر دهماءَ الآلهة الصّغرى خمولُ ذكرها فلم تُكشف أعوارها. نضحك لا محالة إذ نراها موزّعة- بفعل تصوّرات الأذهان البشريّة، على أعمال قُسّمت بينها صغار الجباة أو شأن الصّنّاع في سوق الفضّة حيث ينتقل الإناء الواحد قبل خروجه مكتمل الصّنع بين عدّة حرفيّين بينما يمكن لواحد بمفرده إنجازه على الوجه المطلوب، ولم يُر من سبب للّجوء إلى كثير من العمّال سوى سهولة وسرعة تعلّمهم  لشتّى جزئيّات الصّنعة على وجه التّخصّص، مقابل صعوبة وبطء إتقانهم جميعا لكلّ مراحل صنعتهم لو اضطرّوا لذلك*. لكنّا لا نكاد نجد أحدا بين الآلهة غير المصطفاة يحمل جرّاء جريرة ما سمعة سيّئة، بينما لا يكاد يوجد بين الصّفوة أحد لم تصِمْ سمعتَه معرّةٌ كبرى. هذه نزلت إلى أعمال تلك المَهينة، بينما لم تقع تلك في جرائم هذه الرّاقية. عن يانوس لا تخطر لي حقّا بسهولة أيّة حادثة شائنة، وربّما كان حقّا كذلك وعاش مستنكفا عن السّوء وبمنأى عن الجرائم والمخازي؛ ولقد استقبل بحفاوة ساترنوس لمّا نزل عليه أثناء فراره، واقتسم مُلكه مع ضيفه فأسّسا مدينتين منفصلتين: هو يانيكولوم وذاك ساترنية*. لكنّ أولئك المولعين في عبادة الآلهة الوثنيّة بكلّ قبيحة لم يجدوا في حياته دنسا فدنّسوه بتشويه صورته الّتي جعلوها مسخا بشعا، تارة بوجهين وأخرى بأربعة كما لو استنسخوا منه اثنين. أو لعلّهم أرادوا، نظرا لأنّ عدّة آلهة مصطفاة فقدت وجوهها*، أن يظهر هو لنصاعة صفحته بأربعة وجوه.

 

7-5 في عقيدة الوثنيّين المضنون بها والتّأويلات الطّبيعيّة

   لكن لنستمعْ بالأحرى إلى تأويلاتهم الطّبيعيّة الّتي يحاولون بها تزيين دمامة ضلالهم المزري بصورة عقيدة أرقى. يشير بتلك التّأويلات أوّلا وبالذّات وارّون زاعما أنّ القدماء ابتدعوا تماثيل الآلهة وشاراتها وحِلاها الّتي إذا رآها السّالكون إلى أسرار العقيدة بالعيون أمكنهم أن يروا بالرّوح روح هذا العالم وأجزاءه، أي الآلهة الحقيقيّة؛ وأنّ من صنعوا تماثيلها على صورة الإنسان قصدوا على ما يبدو أنّ النّفس الفانية المكنونة في جسد الإنسان مماثلة للنّفس الإلهيّة الخالدة، تماما كما توضع أوعية لترمز إلى الآلهة وكما تُركز قنّينة في معبد ليبر إشارة إلى الخمر، فيُكنى بالحاوي عن المحتوى، كذلك تُقصد بالتّمثال ذي الصّورة البشريّة النّفسُ العاقلةُ، فهو كالإناء مكنون فيه ذلك الجوهر الّذي يريدونه الله أو الآلهة. هذه هي أسرار العقيدة الّتي توصّل إليها ذلك العالم العلاّمة ليحمل منها إلى وضح النّهار تلك الأفكار. فهل فقدتَ أيّها العالم النّحرير في أسرار العقيدة الّتي ذكرتَ تلك الحكمة الّتي أتاحت لك أن ترى بتعقّل أنّ أوّل من أنشؤوا الأصنام للشّعوب نزعوا من مواطنيهم الخشية وزادوهم ضلالا، وأنّ الرّومان الأوّلين عبدوا الآلهة بنحو أتقى بدون صور؟ في حماهم وجدت الجرأة على قول ذلك عن الرّومان الآخِرين. فلو عبد أولئك الأقدمون أصناما ربّما ظللتَ لخوفك تكتم تفكيرك ذاك عن ضرورة نبذ الصّور على حصافته، بل ولعرضتَ بمزيد من الجلالة والجزالة أسرار العقيدة المذكورةَ القائمةَ على مثل تلك الأوهام المضرّة والباطلة. لكنّ نفسك على سعة علمها وحذاذتها لم تستطع قطّ، مع الأسف، بأسرار العقيدة المذكورة الوصول إلى إلهها، مَن منه لا معه صُنعت، من ليست جزءا منه وإنّما هي خليقته، من ليس نفسَ الكون بل هو صانع كلّ نفس، من بنوره تبلغ النّفس سعادتها إن لم تجحد نعمته*. أمّا فحوى وقيمة أسرار العقيدة الّتي ذكرتَ فسيبيّنها ما يلي. في انتظار ذلك نلاحظ أنّ هذا العالم الجليل يخبرنا بأنّ نفس الكون وأجزاءه هي الآلهة الحقيقيّة، ومن هنا ندرك أنّه استطاع أن يمدّد لاهوته الّذي هو عين ذاك الدّين الطّبيعيّ الّذي يوليه كثيرا من التّقدير، ليشمل كذلك جوهر النّفس العاقلة. فهو يقول النّزر القليل عن الدّين الطّبيعيّ في هذا الكتاب الّذي كتبه كآخر أقسام مؤلّفه حول صفوة الآلهة، وسنرى هل استطاع فيه من خلال التّأويلات الطّبيعيّة ردّ الدّين المدنيّ إلى الطّبيعيّ. إن استطاع ذلك فالكلّ طبيعيّ: أكان إذن بحاجة في تلك الحال إلى فرز المدنيّ بتلك العناية الفائقة وذاك التّمييز الدّقيق؟ على العكس إن كان محقّا في فصله عنه، وما دام ذلك الدّين الطّبيعيّ الّذي ينال استحسانه هو أيضا غير صحيح، إذ يوصل إلى النّفس لا إلى الله الحقّ الّذي خلق في ما خلق النّفس، فكم هو أزرى وأضلّ ذاك المدنيّ الّذي ديدنه الطّبيعة الجسديّة كما ستبيّن لنا تأويلاته نفسها الّتي سأذكر البعض الضّروريّ منها، والّتي استنبطوها وشرحوها بعناية قصوى.

 

7-6 في فكرة وارّون القائلة بأنّ الله نفس العالم الحامل مع ذلك في أجزائه عدّة نفوس ذات طبيعة إلهيّة

    يرى وارّون إذن، كما يقول ممهّدا لحديثه عن الدّين الطّبيعيّ، أنّ الله نفس العالم الّذي يدعوه اليونان كُسموس، وأنّ هذا العالم ذاته هو الله، لكن كما نقول عن الإنسان العاقل، وإن كان مؤلّفا من جسم وروح، إنّه بالرّوح يُعَدّ عاقلا، كذلك الكون يمكن القول إنّه الله بالنّفس وإن كان مؤلّفا من جسم ونفس. هنا يبدو كأنّه يُقِرّ بنحو ما وجود إله واحد. لكنّه يضيف كذلك، للإتيان بآلهة متعدّدة، أنّ العالم ينقسم إلى جزءين: السّماء والأرض، وأنّ السّماء تتكوّن من عنصرين: الأثير والهواء بينما تنقسم الأرض إلى ماء ويبس، وأنّ الأرفع بين هذه الاسطقسات الأثير والثّاني الهواء والثّالث الماء والأسفل اليبس، وأنّ هذه الأجزاء الأربعة مليئة بالنّفوس: فالّتي في الأثير والهواء خالدة، والّتي في الماء واليبس فانية. ومن قمّة قبّة السّماء إلى مدار القمر توجد النّفوس الأثيريّة الّتي هي الكواكب والنّجوم، هذه الآلهة السّماويّة لا تُدرَك بالعقل فقط بل تُرى كذلك بالبصر. أمّا ما بين مدار القمر وأعلى منطقة الغيوم والرّياح، فتوجد الأرواح الهوائيّة، لكنّها تُدرَك بالفكر دون العينين وتدعى أبطالا وأشباحا وجنّا. ذاك هو بوضوح، مقدَّما باختصار في ذلك التّمهيد، الدّين الطّبيعيّ الّذي استحبّه لا وارّون فقط بل عدّة فلاسفة. ومن واجبي البحث فيه الآن بعد إنهاء ما بقي حول الدّين المدنيّ بإذن الله، قدر ما يتعلّق الأمر بصفوة الآلهة.

 

7-7 هل كان معقولا فصل يانوس وترمينوس إلى إلهين

   أسال إذن من يكون يانوس الّذي بدأ به عرضه؟ هو العالم. ردّ وجيز وواضح حقّا. لِم يقال إذن إنّ فواتح الأمور تابعة له، بينما تتبع خواتمها آخر يدعونه ترمينوس؟ إذ يذكرون أنّه قد خُصّص لهذين الإلهين، تيمّنا بالبدايات والنّهايات، شهران يتلوان العشرة الممتدّة من مارس إلى ديسمبر*: يناير ليانوس وفبراير لترمينوس. لذلك حسب قولهم يُحتفل بعيد ترمينوس في شهر فبراير، عند أداء منسك التّطهير المدعوّ فبروم ومنه اشتقّ اسم هذا الشّهر*. أتتبع العالَم الّذي هو يانوس إذن بداياتُ الأشياء دون نهاياتها الموكولة إلى إله آخر؟ ألا يقرّون بأنّ كلّ الأشياء الّتي يلاحظون نشوءها في العالم تجد في العالم أيضا منتهاها؟ أيّ خطل هذا: إعطاؤه في العمل نصف الصّلاحيّة وفي الصّورة وجهين؟ أما كانوا سيؤوّلون الوجهين بطريقة أليق وآنق لو قالوا إنّ يانوس وترمينوس نفس الإله وإنّما يستقبلان الفواتح بوجه والخواتم بآخر؟ إذ لا بدّ لمن يعمل بالاهتمام بالجانبين: ففي إجراء كلّ نشاط من لا ينظر إلى المبتدإ رجعيّا لا يرى المنتهى قبليّا*. لا بدّ إذن من ارتباط القصْد الاستشرافيّ بالذّاكرة الاسترجاعيّة، ومن غاب عن ذهنه العمل الّذي شرع فيه لن يجد طريقة لإنهائه. فإن رأوا أنّ حياة النّعيم تبدأ في هذا العالم وتكتمل فيما وراءه، ونسبوا بالتّالي ليانوس، أي العالم، سلطانا على البدايات فقط، فقد كان المفروض حتما أن يفضّلوا عليه ترمينوس ولا يستبعدوه من صفوة الأرباب. بل حتّى لو نيطت بهذين الإلهين بدايات ونهايات الأمور الدّنيويّة فقط لكان يجب إعطاء ترمينوس شرفا أرفع. فالفرح أكبر عند إنجاز أيّ عمل، بينما تملأ المخاوف البدايات حتّى بلوغ الغاية الّتي هي ما يبتغي ويلتمس ويترجّى ويتمنّى من بدأ عملا ما، ولا يبتهج بما بدأ إلاّ عند إتمامه.

 

7-8 لأيّ سبب أعطى عبدة يانوس صورته وجهين ويريدون كذلك رؤيتها بأربعة وجوه

   والآن ذرنا نقدّم تأويل صورته ذات الوجهين. يقولون إنّ له وجهين: أماميّا وخلفيّا لأنّ فرجة فمنا حين نفتحه تبدو شبيهة بالعالم. لذا يدعو اليونان الحنك ouranos ( السّماء) وكذلك دعا بعض الشّعراء اللاّتين الحنك سماء، كما يقول. ومن فتحة الفم تلك يوجد منفذ إلى الخارج باتّجاه الثّنايا، وآخر إلى الدّاخل باتّجاه الحلق. إلى مثل هذه السّفاسف يصلون بالعالم من مجرّد لفظة يونانيّة أو شعريّة للإشارة إلى حنكنا! لكن ما علاقة ذلك بالنّفس وبالحياة الأبديّة؟ ذرهم يعبدوا هذا الإله لعبا من منطلق لعابنا وحده المفتوح أمامه تحت سماء الحنك باب في كلا الاتّجاهين: فينفذ من أحدهما بالتّلمّظ ومن الآخر بالبصق. فهل ثمّة أفسل حقّا من عدم وجود بابين متقابلين في العالم يتلقّى بداخله أو يقذف إلى خارجه شيئا ما من خلالهما، ومن اتّخاذ فمنا وحلقنا اللّذين لا شبه للعالم بهما لإنشاء صورة للعالم في يانوس بسبب الحنك وحده الّذي لا شبه ليانوس به بتاتا؟ لكن بما أنّهم يصوّرونه أيضا بأربعة وجوه ويدعونه يانوس المزدوج، يؤوّلون ذلك بأنّه كناية عن أقسام العالم الأربعة، كما لو كان العالم ينظر إلى شيء ما بالخارج كما يفعل يانوس بوجوهه الأربعة! ثمّ إن كان يانوس هو العالم والعالم يتألّف من أربعة أقسام، فإذّاك يلتغي تمثال يانوس ذو الوجهين. أو إن كان صحيحا لأنّ اسم المشرق والمغرب يعني عادة كلّ العالم أيضا، هل يمكن لأحد لمّا نذكر كذلك القسمين الباقيين الشّمال والجنوب، وعلى غرار تسميتهم صورة ذاك الإله ذات الوجوه الأربعة يانوس المزدوج، أن يدعوه بالعالم المزدوج؟ لا طريقة لديهم على الإطلاق لتأويل الأبواب الأربعة المفتوحة للدّاخلين والخارجين على أنّها صورة للعالم، مثلما وجدوا للوجهين على الأقلّ في فم الإنسان ما يقولون، اللّهمّ إلاّ إن ساعدهم نبتونوس وسلّمهم سمكة*: ففيها فضلا عن فتحة الفم والبلعوم نخاشيش ذات اليمين وذات الشّمال. مع ذلك لا تفرّ النّفس من هذا الباطل من كلّ الأبواب ما لم تسمع الحقّ يقول: "أنا الباب."*

 

7-9 في قدرة يوبتر ومقارنته بيانوس

   كذلك يعرضون المعنى الّذي يريدون أن يؤوَّل به يوفس المدعوّ كذلك يوبتر. هو حسب أقوالهم "الإله مصرّف الأسباب الّتي يحدث بفعلها أيّ شيء في العالم." على مدى عظمة هذا العمل يشهد هذا البيت الرّائع لفرجيليوس: "سعيد من استطاع معرفة الأسباب"* فلِم يقدَّم عليه يانوس؟ ذر ذاك الرّجل الثّاقب الفكر الواسع العلم يجبنا: "لأنّ ليانوس أوائل الأشياء وليوبتر عللها العليا*. لذا يعدّ يوبتر بحقّ ملك الكون: فإنّ العوامل العليا تتفوّق على الأولى. الأولى سابقة لا محالة في الزّمان لكنّ العليا تتفوّق بالشّرف." لكن كان يجوز قول ذلك بصواب لو تمّ التّمييز بين العوامل الأولى والعليا. فكما يتمثّل أوّل الفعل في الشّروع وعلّته العليا في الوصول، وأوّل الفعل الشّروع في التّعلّم وغايته العليا اكتساب المعرفة، كذلك في كلّ الأشياء تتمثّل العوامل الأولى في المبتدآت والعلل العليا في الغايات. لكن سبق أن ناقشنا هذا الأمر بين يانوس وترمينوس. ثمّ إنّ العلل المنسوبة ليوبتر فاعلة لا منفعلة، ولا يمكن قطّ تعطيلها في الزّمان بتأثير الأفعال أو بدايات الأفعال. فالفاعل سابق  دوما للمفعول. لذا إن كانت بدايات الأفعال تتبع يانوس فما هي بمتقدّمة على العلل الفاعلة المنسوبة إلى يوبتر. وكما أنّ لا شيء يحدث كذلك لا شيء يبدا في الحدوث ما لم تسبقه علّة فاعلة. هذا الإله الّذي بيده علل كلّ الطّبائع والكائنات الطّبيعيّة المحدثة، إن كانت تدعوه يوفس وتعبده بتلك الشّتائم والاتّهامات المنكرة، فإنّها ترتكب إدّا أشنع ممّا لو أنكرت وجود أيّ إله. حتّى لأفضلُ حقّا لو دعوا باسم يوبتر أحدا غيره أهلا لتلك الأشراف المخزية الذّميمة*، مستبدلين به آخر مزيّفا للتّجديف عليه عوضا عنه، كما دُسّ لساترنوس حجر ليلتهمه بدلا من ابنه على ما يقولون*، من نعت هذا الإله بالمرعد والزّاني، بحاكم العالم أجمع والمتمرّغ في كلّ الأوشال، بمالك الأسباب العليا لكلّ الطّبائع والكائنات الطّبيعيّة دون أن يملك مقاليد نفسه.

   ثمّ إنّي أسأل إن كان يانوس هو العالم فأيّ مكان يسندون بين الآلهة إلى يوبتر حينذاك؟ فعلا عرّف الكاتب الآلهة بأنّها روح العالم وأجزاؤه، وبالتّالي ما ليس كذلك ليس في عرفهم إلها حقيقيّا. أفلعلّهم قائلون عندئذ إنّ يوبتر روح العالم ويانوس جسده، أي أنّ الأخير هو العالم المرئيّ؟ إن يقولوا ذلك فلن يمكنهم التّأكيد أنّ يانوس أيضا إله، فما جسد العالم بإله حتّى حسب رأيهم، بل الآلهة روح العالم وأجزاؤه. لذا يقول نفس الكاتب بكلّ صراحة إنّ الله في رأيه روح العالم، وهذا العالم نفسه هو الله. لكن كما أنّ الإنسان العاقل، مع كونه مؤلّفا من نفس وبدن، يُنعت بالعاقل من جهة النّفس، كذلك يقال عن العالم إنّه الله من جهة النّفس مع كونه مؤلّفا من نفس وجسم، وليس الله جسد العالم وحده، بل نفسه بمفردها أو النّفس والجسد مجتمعين لكن مع كون الألوهيّة مستمدّة في الكيان الكلّيّ من النّفس لا الجسد. إن كان يانوس إذن هو العالم وهو إله، وحتّى يمكن أن يكون يوبتر إلها، لعلّهم سيقولون إنّه جزء من يانوس؟ الحقّ أنّهم ينسبون في الأغلب ليوبتر الكون بتمامه، لذا قالوا: "كلّ الأشياء مليئة بيوبتر."* لا يمكن إذن أن يعتبروا يوبتر، ليكون إلها بل وأكثر من ذلك ملك الآلهة، إلاّ العالم، بحيث يحكم الآلهة الأخرى كما يزعمون بصفتها أجزاءه. يعرض وارّون فعلا بيتين لوالريوس سورانوس يؤيّدان هذا الرّأي، في الكتاب الّذي أفرده في مجموعته لعبادة الآلهة. ها هما البيتان: "يوبتر ذو القدرة المطلقة، والد الملوك والأشياء والأرباب وأمّ الآلهة إله واحد هو الكلّ". لكنّه يشرحهما بهذا النّحو في نفس الكتاب: يقول: بما أنّهم ينعتون بالذّكورة من يلقي البذرة وبالأنوثة من يتلقّاها، ويعتبرون أنّ يوبتر هو العالم ومن ذاته يلقي كلّ البذور وفي ذاته يتلقّاها، كتب سورانوس: يوبتر هو الوالد والأمّ، وهو مع ذلك واحد والكلّ، إذ العالم واحد وفيه كلّ الأشياء.

 

7-10 هل يصحّ التّمييز بين يانوس ويوبتر

   إذن ما دام يانوس هو العالم، ويوبتر هو العالم، وما دام العالم واحدا، لماذا يكون يانوس ويوبتر إلهين اثنين؟ لماذا خُصّصت لهما معابد منفصلة ومذابح مستقلّة وطقوس مختلفة وتماثيل متباينة؟ إن كان ذلك بسبب الفرق بين السّلطان على الفواتح والأسباب، فتلقّيا اسمي يانوس ويوبتر، أنتحدّث لو توفّرت لشخص واحد في مجالين سلطتان أو مهارتان، لمجرّد اختلاف طبيعتي تينك الطّاقتين، عن نقيبيْن أو صانعيْن؟ بالمثل أضروريّ أن يُعَدّ إله واحد بيده فواتح الأشياء وأسبابها معا إلهين* لكون الفواتح والعلل من طبيعتين مختلفتين؟ إن يروا هذا النّمط من التّفكير سليما فليقولوا كذلك إنّ يوبتر آلهة متعدّدة بعدد الألقاب الّتي خلعوا عليه نظرا إلى قدراته الكثيرة، فمتنوّعة ومتعدّدة هي الصّفات الّتي استُمدّت منها تلك الألقاب، وسأذكر بعضها في ما يلي.

 

7-11 في ألقاب يوبتر الّتي لا تشير إلى عدّة آلهة بل إلى واحد بعينه

   لقّبوه بالغالب والقهّار والمعين والدّافع والممسك والمثبّت والمنكّص والعامد والغاذي والثّادي* ونعوت أخرى يطول استعراضها. لكنّهم ألصقوا هذه الألقاب بإله واحد بسبب تعدّد صلاحيّاته وقدراته، ومع ذلك لم يفرضوا عليه بسبب تعدّد تلك الصّفات تعدّدا في ذاته فيكون آلهة بنفس العدد: لغلبته على كلّ الأشياء، ولأنّ لا أحد يغلبه، ولأنّه يقدّم العون للمحتاجين، ويملك القدرة على الدّفع والإمساك والتّثبيت وتنكيص من شاء على أدبارهم، ولأنّه كعماد يعمد ويدعم العالم، ويغذّي كلّ شيء وكالثّدي يُقيت كما يُرضع الضّرع كلّ الحيوانات. كما نرى، بعض هذه المهامّ جليل وبعضها مَهين، ومع ذلك يقوم بكلا الصّنفين نفس الإله حسب ما يذكرون. ويبدو لي أنّ بين أسباب الأشياء وفواتحها الّتي على أساسها شاؤوا أن يكون العالم وهو واحد إلهين منفصلين هما يانوس ويوبتر من القرب أكثر ممّا بين إمساك العالم وإعطاء الضّرع للحيوانات، ومع ذلك لم يفرضوا جرّاء البوْن الشّاسع بين هذين العملين في الأهمّية والشّرف وجود إلهين منفصلين خاصّين بهما. بل لُقّب يوبتر، وهو واحد، بسبب أحدهما العامد وبسبب الآخر الثّادي. لا أريد القول إنّه ربّما كان تقديم الضّرع لرضاعة الحيوان أليقَ بيونون من يوبتر، سيما مع وجود الإلهة الثّادية رومينة الّتي تستطيع مساعدتها على هذا العمل كمعينة أو كخادمة. فقد يُرَدّ كما يلوح لي بأنّ يونون هي الأخرى ما هي سوى يوبتر حسب بيتي والريوس سورانوس المذكورين حيث قال: "يوبتر ذو القدرة المطلقة، والد الملوك والأشياء والأرباب وأمّ الآلهة إله واحد هو الكلّ." لماذا دُعي إذن رومينوس ( الثّادي)، بينما لو تحرّوا بمزيد من التّدقيق ربّما وجدوا أنّه أيضا تلك الإلهة رومينة؟ فعلا إن كان يبدو، وهو عين الصّواب، غير لائق بجلال الآلهة أن يتولّى في النّبتة الواحدة واحد أمر عقدة السّاق وأخرى السّنبلة، فكم أقلّ لياقةً أن تُعنى بشأن مهين كإرضاع الحيوانات قدرة إلهين*، أحدهما يوبتر ملك الآلهة نفسه، وهو لا يفعل ذلك على الأقلّ مع زوجته بل مع إلهة نكرة يقال لها رومينة، اللّهمّ إلاّ إن كان كذلك رومينةَ ذاتَها: ربّما هو رومينوس للذّكور ورومينة للإناث. سأقول بالتّأكيد إنّهم استكرهوا إطلاق اسم مؤنّث على يوبتر لولا أنّع قد نُعت "بالوالد والأمّ" في البيتين المذكورين، وأنّي قرأت في جملة كناه أنّه يُسمى كذلك بيكونية الّتي هي إلهة وجدناها بين حرافيش الآلهة وذكرناها في الكتاب الرّابع. لكن بما أنّ الرّجال والنّساء سويّا يملكون نقودا pecunia، لينظروا هم أنفسهم لماذا لم يُدْع بيكونية وبيكونيوس معا، كرومينة ورومينوس.

 

7-12 في أنّ يوبتر يدعى كذلك بيكونية ( المال)

   لكن بأيّة كياسة قدّموا تعليلا لهذه التّسمية! يقولون: "يدعى كذلك بيكونية لأنّ كلّ شيء ملْكه". تبرير رائع حقّا لاسم إله! ذاك الّذي كلّ شيء ملكه، تبلغ بهم السّماجة حدّ تسميته بنحو مزر ومُهين بيكونية. بإزاء كلّ ما تحوي السّماء والأرض، ما المال مع كلّ الأشياء الّتي يملكها النّاس تحت تلك التّسمية؟ لكن لا شكّ أنّ حبّ المال هو الّذي ألصق هذا الاسم بيوبتر حتّى يبدو الشّخصُ الحريصُ لنفسه بمظهر من يحبّ لا إلها عاديّا، بل ملك جميع الآلهة. والأمر يختلف كثيرا لو سُمّي الغنى. فإنّ الغنى شيء والمال شيء آخر. إذ ندعو أغنياء الحكماء والأبرار والصّالحين، الّذين لا يملكون مالا أو يملكون منه الكفاف، فهم أغنياء أكثر بالفضائل الّتي تجعلهم يقنعون بما أتاهم حتّى من ضروريّات تعهّد الجسد*، وفقراءَ بالعكس الجشعين المتطلّعين والمحتاجين باستمرار إلى المزيد، فمهما أتيح لهم امتلاك أموال طائلة والعيش في بحبوحة يستحيل أن يفارقهم العوز. وبحقّ نَصفُ الله الحقّ بالغنيّ، لا بالمال بل بقدرته الّتي وسعت كلّ شيء. ندعو أغنياء كذلك من يملكون أموالا طائلة، لكنّهم في باطنهم فقراء إن لم يوقَوا شحّ أنفسهم، وبالمثل يدعى فقراء كذلك من تعوزهم النّقود، لكنّهم في باطنهم أغنياء إن أوتوا الحكمة. كيف يجب إذن أن يكون في نظر الحكيم هذا الدّين الّذي تلقّى فيه ملك الآلهة اسم شيء "لم يرغب فيه حكيم أبدا"*؟ لَكَم كان أوفقَ، لو كان في هذا الدّين أيّ شيء سليم يعلّمه للنّاس، أن يسمّوا الله مسيّر الكون بدلا من بيكونية سابينتية الّتي ينقّي حبّها من أدران الشّحّ، أي حبّ المال!

 

7-13 في أنّا نعلم لمّا يُعرض علينا من هو ساترنوس أو جنيوس أنّ كليهما يوبتر نفسه

   لكن لم الإكثار حول يوبتر هذا الّذي ربّما ينبغي إرجاع الآلهة الأخرى إليه، بحيث يبقى الاعتقاد في آلهة متعدّدة خلوا من أيّ معنى، ما دامت كلّها إيّاه، سواء اعتبروها أجزاء أو قوى منه أو ذهبوا إلى أنّ طاقة النّفس الّذتي يتصوّرنها مبثوثة في كلّ الأشياء أخذت من أجزاء هذه الكتلة الّتي يتألّف منها العالم المرئيّ ومن شتّى مظاهر سير الطّبيعة المحكم أسماء كآلهة متعدّدة؟ فماذا يكون ساترنوس من جهته؟ "هو واحد من الآلهة الرّئيسيّة بيده كلّ عمليّات البذر". ألم يُفهم من بيتي والريوس سورانوس المذكورين أنّ يوبتر بالأحرى هو العالم وأنّه من ذاته يلقي وفي ذاته يتلقّى كلّ البذور؟ وماذا يكون جنيوس؟ يقول: "هو الإله الّذي بيده الوَلاية والقدرة على ولادة كلّ الكائنات. وأيّ شيء يظنّون بملكه هذه القدرة سوى العالم الّذي يقولون عنه" "يوبتر والد وأمّ الأشياء"؟ ثمّ لمّا يقول في موضع آخر إنّ جنيوس هو النّفس العاقلة لأيّ شخص، أي النّفوس الفرديّة لمختلف الأفراد، لكنّ نفس العالم هي الله، يعود بالتّحقيق إلى نفس المقولة: أنّ نفس العالم المذكورة هي بمثابة العقل الكونيّ. هذا إذن ما يدعونه يوبتر. وما دام كلّ عقل إلها، وكلّ نفس إنسانيّة عقلا، يترتّب على ذلك أنّ كلّ نفس إنسانيّة إله. وما دام خطل هذا الرّأي في ذاته يُنشزهم وينفّرهم هم أنفسهم عنه، يبقى أن يدعوا بنحو مميّز أفضل الإله العقل ما يدعونه نفس العالم وبالتّالي يوبتر.

 

7-14 في مهامّ مركوريوس ومارس

   لكنّهم لم يجدوا طريقة لإحالة مركوريوس ومارس إلى أجزاء ما من العالم وإلى أعمال الله المتمثّلة في عناصره. لذا ولّوهما، في غياب بديل أفضل، على أعمال البشر، وكيلين على الكلام والحرب. لكن ما دام لمركوريوس السّلطان على الكلام عند الآلهة أيضا، فهو يتفوّق إذّاك حتّى على ملك الآلهة، إن كان يوبتر، حسب رأي وارّون، يتكلّم أو تلقّى ملكة النّطق منه، وذاك قطعا لغو يرفضه العقل. أمّا إن قيل إنّما يتبعه الكلام البشريّ فقط، فعجب لعمرك رائع أن يدّعوا إنزال يوبتر إلى إرضاع الثّدي لا للأطفال فقط بل كذلك للبهائم، ويأبوا جعل تعليم الكلام الّذي نتفوّق به عن البهائم من صلاحيّاته! لذا هو تابع ليوبتر وهو مركوريوس. فإن قيل إنّ مركوريوس هو الكلام نفسه كما تفيد بعض صفاته حسب تأويلاتهم لها- إذ يزعمون أنّه دُعي مركوريوس بصفته وسيطا يجري med currens لأنّ الحديث وسيط يسري بين النّاس، وهرمس باليونانيّة لأنّ الكلام أو التّأويل الّذي يتعلّق لا شكّ بالكلام يسمّى فيها هرمنية hermeneia، وأنّه يشرف على التّجارة لأنّ الكلام يتوسّط بين الباعة والشّراة، وأنّ الأجنحة الّتي يحمل على رأسه وقدميه ترمز إلى انتقال الحديث عبر الهواء كالطّير، وأنّه كني بالمرسال لأنّ كلّ الأفكار تُجلى بالكلام- إن كان مركوريوس إذن هو الكلام نفسه*، فما بإله هو باعترافهم. لكن لمّا يتّخذون لهم آلهة أشياء ليست شياطين هم بدعائهم أرواحا نجسة يسلّمون أنفسهم لسيطرة كائنات ليست آلهة بل هي شياطين. كذلك لأنّهم لم يستطيعوا أن يجدوا لمارس عنصرا ما أو قسما ما من العالم يؤدّي فيه عملا ما من أعمال الطّبيعة، دعوه إله الحرب، لأنّها من عمل البشر وما هي حقّا من أعمالهم المحبوبة. ولعمري، إن كانت فلكيتاس إلهة السّعد تعطي السّلام المستديم فما لمارس ما يعطي البشر. لكن إن كانت الحرب نفسها هي مارس، والكلام هو مركوريوس، فليتهم يرون بنفس الوضوح أنّه ليس بإله ولا كذلك الحرب الّتي يدعونها إلها بغيا وضلالا.

 

7-15 في بعض النّجوم الّتي دعاها الوثنيّون بأسماء آلهتهم

   اللّهمّ إلاّ إن كانت تلك النّجوم المدعوّة بأسماء هذه الآلهة إيّاها. فإنّهم يدعون أحد الكواكب مركوريوس ( المرّيخ)، كما أنّ هناك كوكبا يدعونه يوبتر ( المشتري) مع أنّ يوبتر عندهم هو العالم كلّه. هناك آخر يدعونه ساترنوس ( زحل) ومع ذلك يعطونه أوفر نصيب، ألا وهو بذور كلّ الكائنات. وهناك الكوكب الأسطع من الجميع، الّذي يدعونه فينوس ( الزّهرة)، ومع ذلك يريدون أن تكون فينوس لونةَ ( القمر)، وإن كانت يونون عندهم تنازعها على ذلك الكوكب الدّرّيّ كما على التّفّاحة الذّهبيّة المشهورة. يزعم بعضهم أنّ النّجم الثّاقب* لفينوس، وآخرون أنّه ليونون، وكما جرت العادة تكون هنا أيضا لفينوس الغلبة، فالأغلبيّة ينسبون ذلك الكوكب إلى فينوس حتّى لا نكاد نجد من بينهم أحدا له رأي مختلف. لكن من لا يضحك لمّا يسمّون يوبتر ملك الكلّ بينما يكسف كوكب فينوس كوكبه بمثل ذلك السّنا الشّعشعانيّ؟ فحتما كان ينبغي أن يفوق كوكبه البقيّة بسناه قدر ما يفوق هو بقوّته كلّ ما سواه. يجيبون بأنّ كوكبه الّذي يحسبه النّاس أبهت يبدو كذلك لأنّه أعلى وأبعد كثيرا عن الأرض. إن كانت مكانته الأسمى قد استحقّت مكانا أعلى، لماذا كان ساترنوس إذن أعلى منه مكانا؟ أم تُرى لم يستطع باطل الأساطير الّذي جعل يوبتر الملك الوصول إلى مواقع النّجوم، وما لم يستطع ساترنوس تحقيقه في مُلكه ولا في الكابتوليوم أمكنه نيله على الأقلّ في السّماوات العلى*؟ لكن لماذا لم يحصل يانوس على كوكب ما؟ إن قيل لأنّه العالم وكلّها فيه، فهذا يوبتر هو العالم أيضا وله كوكبه. أم تراه رافع عن نفسه كيفما أتيح له، وعوض كوكب- لم يحصل عليه بين الأنجم- نال على الأرض كلّ هاتيك الوجوه؟ ثمّ إن اعتُبر مركوريوس ومارس بناء على كوكبيهما جزءين من العالم بحيث يجوز لهم اتّخاذهما إلهين، فبيّنٌ أنّ الكلام والحرب ليسا من أجزاء العالم وإنّما هما من أعمال البشر، لِم لمْ يجعلوا للحمل والثّور والسّرطان والعقرب والكوكبات الأخرى الّتي يعدّونها بين بروج السّماء والمكوّنة لا من نجوم مفردة بل كلّ واحدة من مجموعة من النّجوم، والكائنة على ما يقولون في أعلى السّماء حيث تعطي حركة أكثر انتظاما للنّجوم مسارات ثابتة لا زيغ فيها، مذابح ولا طقوسا ولا معابد، ولا اعتبروها آلهة، لا أقول بين الصّفوة المصطفاة، بل حتّى بين تلك الجمهرة الّتي هي بمثابة الدّهماء.

 

7-16 في أبولّون وديانة وآلهة مصطفاة أخرى

   وضعوا أبولّون هو الآخر، وإن أرادوه طبيبا وعرّافا، في جزء من العالم، بل قالوا إنّه الشّمس وديانة أخته التّوأم هي القمر وحارسة الطّرق، ومن ثمّة يريدونها عذراء فالطّريق لا تلد شيئا، وأنّ كليهما يحمل سهاما، لأنّ ذينك الجرمين يرسلان على الأرض أشعّتهما، يريدون أن يكون ولكانوس نار العالم، ونبتونوس مياه العالم، وديس باتر، أي أركوس، الجزء الأرضيّ والسّفليّ من العالم. ويوكّلون ليبر وكيريس على البذور، هو للذّكران وهي للإناث أو هو للبذور السّائلة وهي للجافّة. وكلّ ذلك بطبيعة الحال يُرجع إلى العالم أي إلى يوبتر الّذي سُمّي الوالد والأمّ لأنّه من ذاته يلقي وفي ذاته يتلقّى كلّ البذور. كذلك يجعلون كيريس عينها الأمّ الكبرى Magna Mater الّتي ليست سوى الأرض في زعمهم، ويدعونها كذلك يونون ويعزون إليها العلل الثّانية للأشياء، بينما يؤكّدون عن يوبتر أنّه أب وأمّ الآلهة لأنّ العالم كلّه حسب أقوالهم يوبتر. مينرفة هي الأخرى الّتي ولّوها على الفنون الإنسانيّة لم يجدوا نجما ينصّبونها فيه، فقالوا إنّها الأثير الأعلى أو كذلك القمر. كذلك وستة، لاعتبارهم أنّها الكبرى بين الإلهات إذ هي الأرض ذاتها، وإن ارتأوا توليتها على نار العالم اللّطيفة المناسبة للاستعمالات المنزليّة البسيطة، لا العنيفة الأكّالة كما هي نار ولكانوس. بذلك يريدون جعل كلّ تلك الآلهة الكبرى هذا العالمَ، كلَّه بالنّسبة لبعضها وأجزاءه بالنّسبة لأخرى: الكلّ كيوبتر، والأجزاء كجنيوس والأمّ الكبرى وصول ولونة، أو بعبارة أخرى أبولّون وديانة. ويجعلون أحيانا إلها واحدا أشياء عدّة، وأحيانا شيئا واحدا آلهة عدّة. فالإله الواحد الّذي هو عدّة أشياء كيوبتر بالذّات، إذ يعتبرون ويزعمون العالم بأكمله يوبتر، والسّماء وحدها يوبتر، وكوكب المشتري وحده يوبتر؛ وكذلك يونون هي ربّة الأسباب الثّانية ويونون الهواء ويونون الأرض، ولو غلبت فينوس لكانت يونون كوكب الزّهرة أيضا. وبالمثل مينرفة هي الأثير العلويّ ومينرفة كذلك القمر الّذي يقع في رأيهم على تخوم الأثير القصوى. لكنّهم يجعلون كذلك شيئا واحدا آلهة متفرّقة: فالعالم يانوس ويوبتر معا، وكذلك الأرض هي يونون والأمّ الكبرى وكيريس.

 

7-17 في أنّ وارّون أصدر هو أيضا أحكاما ملتبسة حول الآلهة

   وكما في هذه التّآويل الّتي ذكرت على سبيل المثال، كذلك في الأخرى، لا يوضّحون بل يلبّسون؛ وكما يدفع هوج الضّلّة التّائه المدله تارة هنا وتارة هناك، كذلك يندفعون ثمّ ينكفئون إلى هنا وإلى هناك*. ممّا جعل وارّون نفسه يؤثر الشّكّ في كلّ شيء على إقرار أيّ رأي. فبعدما أنهى أوّل كتبه الثّلاثة الأخيرة حول الآلهة الثّابتة، قال وهو في مدخل الثّاني المخصّص لغير الثّابتة: "مع أنّي أطرح في هذا الكتيّب آراء ظنّيّة حول الآلهة، لا ينبغي مؤاخذتي. فمن ير من اللاّزم والممكن الحكم فليفعل بنفسه بعد الاطّلاع. أمّا أنا فأيسرُ أن يجرّني التّفكير إلى العودة على ما قلتُ في الكتاب الأوّل والتّشكّك فيه، من أن أضع في خلاصة متّسقة كلّ ما أنوي كتابته في هذا." هكذا لم يجعل ما يتعلّق بالآلهة غير الثّابتة فقط بل وحتّى بالثّابتة محلّ شكّ. ثمّ في الكتاب الثّالث المذكور حول صفوة الآلهة، بعد التّمهيد بعرض ما ارتأى عرضه حول الدّين الطّبيعيّ، مرّ إلى أباطيل وأضاليل الدّين المدنيّ حيث لم تكن تقوده الحقيقة، بل وفوق ذلك كان يخضع لتأثير السّلف*. يقول: "في هذا الكتاب، سأتحدّث عن آلهة الشّعب الرّومانيّ الرّسميّة الّتي كرّسوا لها معابد وزانوها بشارات عديدة، لكن كما كتب إكسينوفانس الكولونيّ سأطرح ما أعتقد لا ما أؤكّد بنحو جدليّ ثبوتيّ: فهذه أمور للإنسان فيها آراء وعلمها عند الله." يعِد إذن، وهو يتأهّب لعرض منشآت البشر، وبتردّد وجِل، بمقال في أمور غير جليّة ولا ثابتة، بل غامضة وظنّيّة. فما مثل علمه بوجود العالم ووجود السّماء والأرض- السّماء المضيئة بالنّجوم والأرض الخصيبة بالبذور- وغير ذلك من الوقائع الشّبيهة، ولا مثل اعتقاده الجازم والقارّ في أنّ قوّة لامرئيّة جبّارة تحكم وتسيّر كتلة الكون والطّبيعةَ، ما بنفس الثّقة واليقين كان بإمكانه التّأكيد أنّ يانوس هو العالم، ولا تفسير كيف يكون ساترنوس أب يوبتر ثمّ يُخضع لحكم يوبتر، وألغاز أخرى من نفس القبيل.

 

7-18 سبب أرجح لانغراس خطإ الوثنيّين

   يقدَّم تفسير أدنى إلى التّصديق بالقول إنّ تلك الآلهة كانت بشرا، أقام من أرادوا لفرط الإجلال تأليههم لكلّ منها، حسب نوع نبوغه وخلقه وأعماله وأحداث حياته* طقوسا واحتفالات أخذت تدريجيّا، بفعل النّفوس البشريّة الشّبيهة بالشّياطين والشّغوفة بالعبث، تزحف طولا وعرضا حتّى ذاعت بين الشّعوب، سيما وأكاذيب الشّعراء تزوّقها والأرواح الغويّة تجتذب بخداعها النّاس إليها. فقد أمكن لشابّ فاسق أو خائف على حياته من أب فاسق وطامع في مُلكه أن يخلع أباه من العرش: ذاك أيسر من أن نفترض كما في تأويل وارّون أنّ الأبَ ساترنوسَ غلبه ابنُه يوبتر لأنّ العلّة الّتي تخصّ يوبتر مقدّمة على البذرة الّتي يختصّ بها ساترنوس. فلو كان الأمر حقّا كذلك لما سبق ساترنوس أبدا ولما كان أب يوبتر: فإنّ العلّة تسبق البذرة دائما، ولا تنشأ من البذرة أبدا. لكن لمّا يحاول أناس إضفاء شرف على أساطير باطلة أو أعمال بشر بتأويلاتهم الطّبيعيّة المزعومة، يتردّى حتّى أكثرهم فطنة في مصاعب كبرى تجعلنا نأسف لضلالهم هم أيضا.

<<