القدّيس أغسطينوس
مدينة الله
الكتاب الخامس
عشر
|
||||||||||||||||||||||||||
الجزء
الرّابع الكتاب
الخامس عشر 15-1 في فئتي
نسل الإنسان السّائرتين
منذ البدء إلى
غايتين مختلفتين
عن سعادة
الجنّة، عن الجنّة
ذاتها وعن حياة
الإنسانين الأوّلين
فيها وخطيئتهما
وعقابهما، ذهب
كثيرون إلى آراء
كثيرة وقالوا
الكثير وكتبوا
الكثير. ونحن بدورنا
قلنا في الكتب
السّابقة استنادا
إلى الكتاب المقدّس
ما قرأنا فيه أو
أمكن أن نفهم منه
بخصوص تلك المسائل
وبما يوافق تعاليمه.
لكنّ البحث المدقّق
فيها يولّد نقاشات
متعدّدة ومتنوّعة
يتعيّن إدراجها
في كتب أكثر ممّا
يقتضي هذا المؤلَّف
والوقت الّذي
ليس لدينا منه
متّسع يسمح لنا
بالتّعطّل للإجابة
على كلّ الأسئلة
الممكنة الّتي
يطرحها المماحكون
الفارغون من العمل
والّذين هم أسرع
إلى السّؤال بقدر
ما هم أبطأ فهما.
مع ذلك يبدو لي
أنّا توسّعنا
سابقا في المسائل
الهامّة والمستعصية
المتعلّقة بأصل
العالم أو النّفس
أو الجنس الإنسانيّ
الّذي قسّمناه
إلى فئتين: من يعيشون
بحسب البشريّة
ومن يعيشون بحسب
رضى الله؛ وندعوهما
كذلك مجازا مدينتين،
أي جماعتين بشريّتين،
وُسمت إحداهما
للمُلك الأبديّ
مع الله والأخرى
لتلقّي العذاب
الأبديّ مع الشّيطان.
لكن ذاك مآلهما
الّذي سنتحدّث
عنه لاحقا، أمّا
الآن فبما أنّا
تحدّثنا بما فيه
الكفاية عن بداياتهما-
سواء بالنّسبة
للملائكة الّذين
نجهل عددهم أو
للإنسانين الأوّلين-
يبدو لي من اللاّزم
التّعرّض مسارهما
منذ بدأ الإنسانان
الأوّلان في الإنجاب
إلى أن يكفّ النّاس
عن التّناسل. هذا
المدى الزّمنيّ
للعالم أو الدّهرُ
الّذي تتالى خلاله
الأجيال واحد
يموت وآخر يولد
هو مسار تينك المدينتين
موضوع بحثنا. وُلد إذن
أوّلا قابيل من
أبوي الجنس البشريّ،
وهو ينتمي إلى
مدينة البشر،
وتلا هابيل الّذي
ينتمي إلى مدينة
الله. فمثلما نرى
في الإنسان الفرد
أنّه كما قال الرّسول:
"لم يكن الرّوحانيّ
أوّلا بل الحيوانيّ
وبعد ذلك الرّوحانيّ"،
فكلٌّ يولد من
أصل محكوم عليه،
فلا بدّ أن ينشأ
أوّلا من آدم رديئا
وجسديّا فإن سار
في طريق الحقّ
صار بعدئذ حسنا
وروحيّا، كذلك
في الجنس البشريّ
ككلّ، لمّا بدأت
تانك المدينتان
في مساريهما بالتّوالد
والموت، وُلد
أوّلا مواطن من
هذه المدينة الدّنيويّة،
ومن بعده غريب
عنها ينتمي إلى
مدينة الله موسوم
بالنّعمة مصطفى
بالنّعمة غريب
عن العالم الأدنى
بالنّعمة مواطن
من العالم العلويّ
بالنّعمة*. فهو
في ذاته نشأ من
نفس الطّينة المدانة
في مجموعها منذ
الأصل، لكنّ الله،
على غرار الخزّاف-
وتلك صورة استعارها
الرّسول لا بسفاهة
بل بحصافة*- صنع
من نفس الطّينة
إناء للكرامة
وإناء للهوان*.
وقد صُنع أوّلا
إناء الهوان وبعده
إناء الكرامة.
فحتّى في إنسان
واحد، كما ذكرت،
يكون السّابق
المرذول الّذي
لا بدّ أن نبدأ
منه وليس حتّما
أن نبقى فيه، واللاّحق
المحمود الّذي
نسعى إليه في سيرنا
على السّراط المستقيم
وحيث نبقى عند
بلوغه. لذلك ما
كلّ إنسان سيّء
سيكون حسنا، وبالمقابل
لا أحد سيكون حسنا
لم يكن من قبل سيّئا.
لكن بقدر ما يكون
تحوّل الإنسان
نحو الصّلاح أسرع،
يُعرف كذلك بصفته
المكتسبة وتحلّ
تسميته اللاّحقة
محلّ السّابقة
بنحو أسرع. كُتب
إذن أنّ قابيل
أسّس مدينة، أمّا
هابيل فبوصفه
غريبا لم يؤسّس
، لأنّ مدينة الصّدّيقين
في العلاء، حتّى
إن أنجبت مواطنين
في الدّار الدّنيا
حيث يرتحلون إلى
مجيء ميعاد ملكوتها،
لمّا تلتئم بانبعاث
الجميع في أجسادهم،
فتُعطى لهم المملكة
الموعودة حيث
يملكون إلى الأبد
مع رئيسهم ملك
الدّهور. 15-2 في أبناء
الجسد وأبناء
الموعد ظهرت صورة
نبويّة كالظّلّ
لهذه المدينة،
معدّة للتّورية
عنها لا تقديمها
هي بالذّات، لتخدم
في الأرض في الوقت
الّذي كان مناسبا
لظهورها، وسُمّيتْ
هي أيضا مدينة
مقدّسة بصفتها
تورية لا إفصاحا
عن الحقيقة كما
ستتجلّى لاحقا*.
عن هذه الصّورة
الخادمة وعن المدينة
الحرّة الّتي
ترمز إليها يقول
الرّسول في رسالته
إلى أهل غلاطية:
"قولوا لي أنتم
الّذين يحبّون
أن يكونوا تحت
النّاموس أما
تسمعون النّاموس.
فإنّه مكتوب أنّه
كان لإبراهيم
ابنان أحدهما
من الأمة والآخر
من الحرّة. غير
أنّ الّذي من الأمة
وُلد بقوّة الجسد
أمّا الّذي من
الحرّة فبقوّة
الموعد. وذلك إنّما
هو رمز لأنّ هاتين
هما الوصيّتان
إحداهما من طور
سيناء تلد للعبوديّة
فهي هاجر. فإنّ
سيناء هو جبل في
ديار العرب ويناسب
أورشليم الحاليّة
لأنّ هذه حاصلة
في العبوديّة
مع بنيها. أمّ أورشليم
العليا فهي حرّة
وهي أمّنا. لأنّه
كُتب افرحي أيّتها
العاقر الّتي
لم تلد اهتفي واصرخي
أيّتها الّتي
لم تتمخّض لأنّ
أبناء المهجورة
أكثر من أبناء
ذات البعل. فنحن
أيّها الإخوة
أبناء الموعد
مثل إسحاق. غير
أنّه كما كان حينئذ
المولود بحسب
الجسد يضطهد المولود
بحسب الرّوح فكذلك
الآن. ولكن ماذا
يقول الكتاب؟
اطرد الأمة وابنها
فإنّ ابن الأمة
لا يرث مع ابن الحرّة.
إذن أيّها الإخوة
لسنا بني الأمة
بل بني الحرّة
وهذه هي الحرّيّة
الّتي حرّرنا
بها المسيح."* هذا
النّوع من التّأويل
الّذي ينحدر من
السّلطة الرّسوليّة
يفتح لنا الباب
لمعرفة كيف يجب
أن نفهم عهدي الكتاب
المقدّس العتيق
والجديد. فقد صار
جزء من المدينة
الأرضيّة صورة
للمدينة السّماويّة،
لا تفصح وإنّما
تكني عنها، وهي
من ثمّة خادمة
لها. فما من أجلها
وإنّما للكناية
عن الأخرى أنشئت،
وهي ذاتها مسبوقة
ترمز إليها، ومع
أنّها صورة وإرهاص
أوري عنها هي ذاتها
بصورة وإرهاص.
لأنّ هاجر أمة
سارة وابنها بمثابة
صورة لهذه الصّورة.
ولمّا كان لا بدّ
أن تتولّى الظّلال
بمقدم الضّياء،
قالت سارة الحرّة،
الّتي كانت تورية
عن المدينة الحرّة،
بينما كانت هاجر
بمثابة ظلّ وتورية
عنها: "اطرد الأمة
وابنها فإنّ ابن
الأمة لا يرث مع
ابني إسحاق"- أو
كما يقول الرّسول:
"مع ابن الحرّة".
نجد إذن في المدينة
الأرضيّة شكلين،
أحدهما يُظهر
وجوده، والآخر
يوري عن المدينة
السّماويّة الّتي
هو خادم لها. لكنّ
الطّبيعة الفاسدة
تلد بالخطيئة
مواطني المدينة
الأرضيّة، أمّا
مواطنو المدينة
السّماويّة فتلدهم
النّعمة الّتي
تطهّر الطّبيعة
من الخطيئة. لذلك
سمّيت تلك آنية
الغضب وهذه آنية
الرّحمة*. وذاك
ما يرمز إليه كذلك
ابنا إبراهيم:
فأحدهما، إسماعيل،
وُلد له من الأمة
هاجر بحسب الجسد،
أمّا الآخر، إسحاق،
فوُلد له من الحرّة
سارة بحسب الموعد.
كلاهما لا جرم
من صلب إبراهيم،
لكنّ أحدهما نتاج
نظام الطّبيعة
المألوف بينما
الآخر عطيّة الموعد
أثر النّعمة. هناك
أُبين عن العمل
الإنسانيّ العاديّ،
وهنا تجلّى الإنعام
الإلهيّ. 15-3 في عقم
سارة الّتي خصّبتها
نعمة الله فعلا كانت
سارة عقيما، وليأسها
من الولادة أرادت
أن يكون لها من
أمتها ما كانت
ترى نفسها لا تستطيع
الحصول عليه بنفسها،
فأعطتها لزوجها
الّذي كانت تريد
ولا تستطيع الإنجاب
منه. وهكذا طلبت
من زوجها أداء
واجبه مستخدمة
حقّها عن طريق
رحم أخرى. وُلد
إسماعيل إذن كما
يولد النّاس من
اتّحاد الجنسين
بحسب قانون الطّبيعة
المعهود. لذلك
قيل: "بحسب الجسد"،
لا لأنّ ذلك ليس
من آلاء الله،
هو الّذي تبلغ
حكمته، كما هو
مكتوب، "من غاية
إلى غاية بالقوّة،
وتدبّر كلّ شيء
بالرّفق"*. لكن
لإظهار هبة الله
الّتي تمنحها
نعمته مجّانا*
للبشر لا وفاء
لدين لهم عليه،
اقتضى لطفه أن
تُعطى ابنا لا
تكون مدينة به
لمجرى الطّبيعة.
فالطّبيعة ترفض
بنين لرجل وامرأة
في مثل سنّ إبراهيم
وسارة، سيما مع
عقم سارة الّتي
لم تستطع الإنجاب
لمّا كانت سنّها
لا تعوق الخصوبة،
وإنّما الخصوبة
تعوز سنّها. وفي
قصور الطّبيعة
عن منحها ثمرة
الخلفة إشارة
إلى أنّ طبيعة
الجنس البشريّ
الّتي أفسدتها
الخطيئة وأدينت
لذلك عدلا لم تعد
جديرة بأيّة سعادة
حقيقيّة. وبحقّ
إذن يرمز إسحاق
الّذي وُلد بالموعد
إلى أبناء النّعمة،
مواطني المدينة
الحرّةأ المشتركين
في السّلام الأبديّ
حيث يسود الحبّ-
لا الّذي ينبع
من الإرادة الذّاتيّة
والخاصّة، بل
الّذي يجد البهجة
في الخير المشترك
الّذي لا يدركه
الفساد، ويصهر
قلوبا عدّة في
قلب واحد، أي الوفاق
التّامّ والامتثال
للمحبّة. 15-4 في الصّراع
والسّلام في المدينة
الأرضيّة أمّا المدينة
الأرضيّة الّتي
لن تدوم إلى الأبد-
فبعدما يُحكم
عليها بالعذاب
النّهائيّ لن
تبقى مدينة- فتجد
هنا خيرها الّذي
يجلب لها التّمتّع
المشترك به البهجة
قدر ما يمكن لمثل
تلك الخيرات أن
تجلب البهجة. ولأنّه
ليس من النّوع
الّذي لا يسبّب
لمحبّيه أيّة
متاعب، كثيرا
ما تنقسم تلك المدينة
على نفسها بالنّزاعات
والحروب والصّراعات
والسّعي إلى انتصارات
تحمل الموت أو
لا تلبث أن تموت.
فكلّما شنّت فئة
فيها الحرب على
أخرى، تراها تسعى
إلى أن تصير قاهرة
الأمم والحال
أنّها أسيرة الرّذائل.
وإن انتصرت زادها
النّصر عتوّا
واستكبارا واستمرّت
تنشر الموت. أمّا
إن بعث فيها التّفكير
في الوضع والمصير
المشتركين القلق
من صروف الأيّام
الّتي قد تأتيها
بالشّدائد أكثر
من التّشامخ بما
حملت لها الظّروف
المواتية، فيكون
نصرها إذّاك آيلا
للموت فقط: إذ لا
يمكنها الحفاظ
إلى الأبد على
هيمنتها على من
استطاعت إخضاعهم
بانتصارها. لكن
ليس من الصّواب
القول بأنّ ما
تصبو إليه هذه
المدينة ليس خيرا
لأنّها هي ذاتها
في نوعها الإنسانيّ
أفضل. فهي تشتهي
من أجل خيرات زهيدة
سلما أرضيّة وترغب
في بلوغها بالحرب.
لأنّها إن غلبت
ولم يوجد من يقاومها،
توفّر السّلام
الّذي لم يكن موجودا
لمّا كانت الفئات
تتنازع وتتصارع
للفوز بتلك الأشياء
الّتي لم يكن ممكنا
في عوزها وبؤسها
أن تمتلكها كلّها
معا. إلى هذه السّلم
تهدف الحروب المنهكة،
وبها يظفر النّصر
الّذي يعدّونه
مجدا وفخارا. لكن
لمّا يغلب من يحاربون
من أجل القضيّة
الأعدل، من يشكّ
في أنّ النّصر
جاء باليمن والبركة
وحلّ بفضله السّلام
المنشود. تلك خيرات
وهي بلا شكّ هبات
من الله. لكن إن
أهمل البشر خيرات
أعظم تمتاز بها
المدينة العلويّة
حيث سيكون النّصر
المؤمّن في كنف
السّلام الأبديّ
الأرقى، متعلّقين
بتلك الخيرات
لظنّهم أنّها
الخيرات الوحيدة،
أو لأنّهم يحبّونها
أكثر من الأخرى
الّتي يعتقدون
مع ذلك أنّها أفضل
منها، فلا بدّ
أن يترتّب عن ذلك
بؤس ويتفاقم الّذي
كان موجودا من
قبل. 15-5 في أوّل
مؤسّس لمدينة
أرضيّة، قاتل
أخيه الّذي يقابل
جريمته النّكراء
قتل مؤسّس رومية
لأخيه هكذا إذن
كان أوّل مؤسّس
لمدينة أرضيّة
قاتل أخيه: فقد
غلبه الحسد فقتل
أخاه مواطن المدينة
الأبديّة المغترب
على هذه الأرض.
لا عجب أن نجد بعد
ذلك بزمان طويل،
إبّان تأسيس تلك
المدينة الّتي
كانت معدّة لتصبح
يوما رأس هذه المدينة
الأرضيّة موضوع
حديثنا، وتبسط
نفوذها على عديد
الأمم، نسخة من
ذلك النّموذج
الأوّل أو كما
يدعوه اليونان
"المثال النّمطيّ"
archetypos. فهناك
أيضا، كما ذكر
أحد شعرائهم،
حدثت نفس الجريمة
و"تلطّخت الجدران
الأولى بدم أخويّ"*.
هكذا يشهد التّاريخ
الرّومانيّ أنّ
تأسيس رومية واكب
قتل رومولوس لأخيه
ريموس. لكن في تلك
الحالة، كان كلاهما
مواطنا في المدينة
الأرضيّة، وكلاهما
ينشد المجد من
تأسيس الجمهوريّة
الرّومانيّة،
لكن ما كان يمكن
لكليهما أن ينال
منه الحظّ الّذي
يؤول إليه لو كان
بمفرده. فمن مراده
اكتساب المجد
بالسّلطان يكون
سلطانه أقلّ إن
قاسمه النّفوذ
شريك حيّ. ليستأثر
إذن بالسّلطة
أزال أحدهما رفيقه.
وبالجريمة ازداد،
وفسد في نفس الوقت،
ما كان بالبراءة
سينقص ويكون في
نفس الوقت أفضل.
أمّا الأخوان
قابيل وهابيل
فما كان لكليهما
نفس الحبّ لمتاع
الحياة الدّنيا،
ولا أبغض القاتل
منهما أخاه لأنّه
كان سيقلّص سلطته
بمشاركته فيها-
إذ لم يكن هابيل
يلتمس المُلك
في المدينة الّتي
أسّسها أخوه- وإنّما
جرّاء ذلك الحسد
الشّيطانيّ الّذي
يثير حقد الأشرار
على الصّالحين
لا لسبب سوى أنّهم
صالحون بينما
أولئك أشرار. ذلك
أنّ امتلاك الصّلاح
لا ينقصه أن يهدُف
من يشاركنا أو
يستمرّ في مشاركتنا
فيه، بل لا يملكه
من لا يحبّ امتلاكه
باشتراك مع غيره
ويجده أوسع بقدر
ما يزداد حبّا
لشريكه فيه. يبيّن إذن
ما نشب بين ريموس
ورومولوس كيف
تنقسم المدينة
الأرضيّة على
ذاتها. أمّا ما
نشأ بين قابيل
وهابيل فيُظهر
العداوات بين
المدينتين: مدينة
الله ومدينة البشر.
ينشب الصّراع
إذن فيما بين الأشرار،
وكذلك بين الأشرار
والصّالحين،
بينما لا يمكن
أن يتصارع الصّالحون
فيما بينهم إن
بلغوا كمال الصّلاح.
أمّا من يسيرون
على درب الصّلاح
ولمّا يبلغوا
فيه الكمال، فقد
يقع بينهم ذلك،
فينازع الصّالح
الصّالح مثلما
ينازع ذاته بجزء
من ذاته. ففي الإنسان
الواحد "يشتهي
الجسد ما هو ضدّ
الرّوح والرّوح
ما هو ضدّ الجسد"*.
هكذا تنازع رغبته
الرّوحيّة رغبة
الآخر الجسديّة،
أو رغبته الجسديّة
رغبة الآخر الرّوحيّة،
كما يتنازع الأبرار
والأشرار. أو على
الأقلّ تتصارع
الشّهوات الجسديّة
لكلا الشّخصين
الصّالحين غير
البالغين غاية
الصّلاح كما يتصارع
الأشرار مع الأشرار،
إلى أن تقود من
شُفوا صحّتُهم
إلى النّصر النّهائيّ.
15-6 في الأسقام
الّتي يتعرّض
لها جرّاء عقاب
الخطيئة حتّى
مواطنو مدينة
الله في رحلة هذه
الحياة ومنها
يداويهم ويشفيهم
الله ذاك السّقم،
أعني ذاك التّمرّد
الّذي تحدّثنا
عنه في الكتاب
الرّابع عشر،
هو عقاب التّمرّد
الأوّل، وليس
إذن من الطّبيعة
بل من الفساد الطّارئ
عليها. لذلك يقال
للمتقدّمين على
طريق الصّلاح
الّذين يعيشون
في رحلة هذه الحياة
بالإيمان: "احملوا
بعضُكم أثقالَ
بعض وهكذا أتمّوا
ناموس المسيح"*؛
وكذلك في موضع
آخر: "عظوا أصحاب
البلبلة وعزّوا
صغار النّفوس
وأسندوا الضّعفاء
وتأنّوا على الجميع.
احذروا أن يكافئ
أحد آخرَ على شرّ
بشرّ بل اقتفوا
الإحسان بعضكم
إلى بعض وإلى الجميع"*؛
وكذلك في موضع
آخر: "إذا سقط أحد
في زلّة فأصلحوا
أنتم الرّوحيّين
مثل هذا بروح الوداعة،
وتبصّر أنت لنفسك
لئلاّ تجرَّب
أنت أيضا"*؛ وفي
موضع آخر: "لا تغربِ
الشّمس على غضبكم"*؛
وفي الإنجيل:
"إذا خطئ إليك
أخوك فاذهب إليه
وعاتبه بينك وبينه
على انفراد"*؛
وكذلك عن الخطايا
الّتي يخاف من
شرّها على الكثيرين
يقول الرّسول:
"والّذين يخطَأون
وبّخهم أمام الجميع
حتّى يخاف غيرهم"*.
لذلك أيضا أُعطيت
تعاليم كثيرة
عن العفو المتبادل
ووُجّهت عناية
كبرى لحفظ السّلام
الّذي لا يمكن
بدونه أن يعاين
الرّبَّ أحدٌ.
من هنا الخوف الّذي
انتاب العبد لمّا
أُمر بإرجاع العشرة
آلاف وزنة المستحقّة
عليه والّتي كان
قد أُمهل على إيفائها
لأنّه لم يُمهل
عبدا من رفقائه
على ديْن بمائة
دينار. بعدما ضرب
الرّبّ يسوع هذا
المثلَ أضاف:
"هكذا أبي السّماويّ
يصنع بكم إن لم
تغفروا من قلوبكم
كلّ واحد لأخيه"*.
بهذا النّحو يعالَج
مواطنو مدينة
الله المغتربون
على هذه الأرض
والمتطلّعون
إلى سلام الوطن
العلويّ؛ لكنّ
الرّوح* القدس
يعمل بالدّاخل
ليكون للدّواء
المستخدم بالخارج
مفعول؛ وإلاّ
فحتّى إن استعمل
الله خليقة خاضعة
له في صورة بشريّة
مخاطبا حواسّ
الإنسان، سواء
منها الجسديّة
أو الشّبيهة بها
والّتي تكون لنا
أثناء النّوم،
بدون نعمة الهداية
الباطنة الّتي
يوجّه ويستنهض
بها النّفس، لا
تفيد الإنسانَ
كلّ الدّعوات
إلى الحقّ قطميرا.
يحقّق الله ذلك
أيضا بتمييز أواني
الغضب عن أواني
الرّحمة، من خلال
توزيع خفيّ يعلم
وحده سرّه لكنّه
عادل. لمّا يتاح
بعونه الممنوح
بطرق خفيّة وعجيبة
ألاّ تسود الخطيئة
السّاكنة في أعضائنا-
أو بتعبير أصحّ
عقاب الخطيئة-
في جسدنا كما يقول
الرّسول لتسخيره
لشهواته ولاستخدام
أعضائنا كأسلحة
إثم*، يتوجّه الإنسان
إلى روحه الّذي
يكفّ بهداية الله
عن الانقياد لذاته
نحو الشّرور،
ويصير له إذّاك
روح يتحكّم في
أهوائه في دعة.
ثمّ يكون باكتمال
صحّته وحصوله
على الخلود الدّخول
في الملكوت حيث
السّلام الأبديّ.
15-7 في سبب
جريمة قابيل وإصراره
فلم يردّه حتّى
كلام الله عمّا
أضمر من سوء لكن فيم
نفعَ ما فسّرنا
قدر المستطاع
قابيلَ، حيث أنّ
الله كلّمه بالنّحو
الّذي نهج عليه
في مخاطبة البشر
الأوائل بواسطة
خليقة خاضعة له
في هيئة مناسبة
كواحد منهم؟ ألم
ينفّذ جريمة قتل
أخيه الّتي كان
قد بيّتها حتّى
بعدما خاطبه الله؟
ذلك أنّه لمّا
فرّق الله بين
تقدمتيهما فتقبّل
من الأوّل ولم
يتقبّل من الثّاني-
وهو ما أمكن بالتّحقيق
معرفته من علامة
مرئيّة تشهد به-
وإنّما فعل ذلك
لأنّ أعمال قابيل
كانت شرّيرة وأعمال
هابيل بارّة،
شقّ على قابيل
وسقط وجهه. فقد
جاء في الكتاب
المقدّس: "فقال
الرّبّ لقايين:
لِم شقّ عليك ولِم
سقط وجهك؟ ( إن تكن
تقدمتك حسنة لكنّ
قسمتك غير حسنة،
ألم تخطأ؟ اهدأ
فإليك ينقاد وأنت
تسود عليه)"*. في
هذا الإنذار أو
التّنبيه الّذي
قدّمه الله لقابيل،
لأنّ قوله: " إن
تكن تقدمتك حسنة
لكنّ قسمتك غير
حسنة، ألم تخطأ؟"
غير واضح لأيّ
سبب وفي أيّة ملابسات
قيل، ولّد هذا
الغموض تأويلات
عديدة لمّا حاول
شرّاح الكتاب
المقدّس تفسيره
كلّ حسب اجتهاده
وفق منهج الإيمان.*
التّقدمة
حسنة إن قُدّمت
للإله الحقّ الّذي له
وحده تحقّ التّقدمة.
لكن لا تنال التّقدمة
قسمة حسنة إن لم
يوفَّق إلى اختيار
الأماكن والأوقات
أو الأشياء المقدّمة
أو المقدِّم أو
المقدَّم إليه
أو من توزَّع عليهم
التّقدمة الغذائيّة*،
فنفهم هنا من القسمة
التّوزيع. وذلك
سواء لمّا يقدَّم
حيث لا ينبغي أو
ما لا ينبغي هنا
وإن جاز في مكان
آخر؛ أو لمّا يقدَّم
حين لا ينبغي أو
ما لا ينبغي الآن
وإن جاز في وقت
آخر؛ أو لمّا يقدَّم
ما لا يجوز في أيّ
زمان وأيّ مكان
على الإطلاق؛
أو لمّا يحتفظ
الإنسان من الأملاك
الّتي يقدّم منها
بأفضل ممّا يقدّم
لله؛ أو لمّا يُشرك
في تقدمته من لا
يرضاه الله أو
لا يجوز إشراكه.
لكن ليس من السّهل
أن نجد في أيّ من
هذه الجوانب ساء
قابيل في عيني
الله. مع ذلك بما
أنّ يوحنّا الرّسول
في حديثه عن هذين
الأخوين يقول:
"لا مثل قايين
الّذي كان من الشّرّير
فقتل أخاه. ولأيّ
سبب قتله؟ لأنّ
أعماله كانت شرّيرة
وأعمال أخيه كانت
بارّة"*، من ذلك
نفهم أنّ الله
لم ينظر إلى تقدمته
لأنّه أساء القسمة
معطيا لله شيئا
من ذات يده ومحتفظا
بذاته لذاته. وذاك
ما يفعل كلّ من
يتّبعون مشيئتهم
لا مشيئة الله،
أي من يعيشون بقلب
سقيم غير مستقيم
ويقدّمون مع ذلك
لله عطايا يتصوّرون
أنّها ستشتري
إنعامه لا بشفاء
شهواتهم المنحرفة
بل بإشباعها*. وتلك
خاصّيّة المدينة
الأرضيّة: عبادة
الله أو الآلهة
حتّى تسود بعونهم
مظفّرة وتنعم
بسلام أرضيّ،
لا تحدوها محبّة
المرشد إلى الهدى
بل رغبة الحاكم
في السّيطرة. وبينما
يستخدم الصّالحون
هذا العالم لينعموا
بالله، يريد الأشرار
استخدام الله
لينعموا بهذا
العالم، أقصد
منهم طبعا من يؤمنون
بوجوده وعنايته
بشؤون البشر،
إذ هناك من هم شرّ
من هؤلاء: من لا
يؤمنون بذلك أصلا.
بعدما لاحظ
قابيل إذن أنّ
الله نظر إلى تقدمة
أخيه ولم ينظر
إلى تقدمته، كان
عليه أن يغيّر
ما بنفسه ويقلّد
صلاحه بدلا من
تحدّيه استكبارا.
لكن شقّ عليه وسقط
وجهه. تلك بالأخصّ
هي الخطيئة الّتي
وبّخه الله عليها:
اغتمامه من صلاح
غيره، وهنا أخيه.
تلك فحوى سؤاله
إذ قال له: "لماذا
شقّ عليك وسقط
وجهك؟" فقد كان
الله يرى غيرته
من أخيه ويوبّخه
عليها. فربّما
بدا للبشر الّذين
لا يعلمون ما بالسّرائر
غير واضح ولا ثابت
حقّا إن كان ابتئاسه
علامة على إثمه
الّذي علم أنّه
ساء في عيني الله،
أم إن آلمه صلاح
أخيه الّذي ارتضاه
الله بالنّظر
إلى تقدمته. لكنّ
الله بيّن، وهو
يفسّر له لماذا
لم يتقبّل قربانه،
أنّه كان يحرو
به الاستياء من
نفسه عدلا لا من
أخيه بغيا، فقد
ظلم إذ أساء القسمة
باتّباعه نهجا
منحرفا في الحياة
فلم يستحقّ أن
يُتقبّل منه،
بدلا من بغض أخيه
البارّ بلا مبرّر.
ومع ذلك لم يشأ
أن يتركه بدون
موعظة حسنة سمحاء
وفق عدله ولطفه،
فقال له: "اهدأ
فإليك ينقاد وأنت
تسود عليه". هل
يقصد أخاه؟ كلاّ،
وهل غيرَ الخطء
قصد؟ فقد قال:
"خطئت. اهدأ فإليك
ينقاد وأنت تسود
عليه". يمكننا
من ثمّة أن نفهم
أنّ الخطء هو الّذي
يجب أن ينقاد إلى
الإنسان، ليعلم
أنّه لا يجب أن
ينسب الخطء إلى
أيّ أحد سوى نفسه.
ذاك فعلا هو دواء
التّوبة الشّافي،
والاستغفار غير
النّابي. لم يقل:
"إليك سوف ينقاد"،
بل "إليك ينقاد":
بصيغة التّوصية
لا الإنباء عمّا
سيكون. لأنّ الإنسان
يسيطر على الخطيئة
لا بالبحث لها
عن معاذير رافعا
بذلك شأنها فوق
شأنه، بل بتذليلها
بالتّوبة، وإلاّ،
إن سايرها عند
إطلالها عليه،
فإنّه يخضع لسلطانها.
لكن ليُفهم
من الخطء الشّهوة
الجسديّة الّتي
يقول عنها الرّسول:
"الجسد يشتهي
ما هو ضدّ الرّوح"،
ويذكر بين ثمارها
الغيرة* الّتي
كانت تنخس وتُلهب
قابيل إلى قتل
أخيه، لا بأس من
إضمار "سوف" في
قوله فيأتي بهذه
الصّيغة: "سوف
ينقاد لك وتسود
عليه". فعلا لمّا
يتحرّك ذلك الجزء
الجسديّ الّذي
يدعوه الرّسول
الخطيئة حيث يقول:
"لست أنا أعمل
ذلك بل الخطيئة
السّاكنة فيّ"*-
وذاك الجزء من
النّفس يعتبره
الفلاسفة أيضا
فاسدا إذ يجب ألاّ
يجرّ العقل بل
أن يأتمر بأوامره
ويمتثل لنواهيه
فيمتنع عن المحرّمات-
لمّا يتحرّك إذن
حافزا صاحبه إلى
فعل السّيّئات،
إن هو هدّأ ثائرته
وألزمه الطّاعة
لقول الرّسول:
"لا تجعلوا أعضاءكم
سلاح إثم للخطيئة"*،
فإنّه يفيء إلى
العقل مدجّنا
مغلوبا ليخضع
لسلطانه. ذاك ما
نصح الله به ذاك
الرّجل المستعر
بنار الغيرة من
أخيه والرّاغب
في القضاء على
من كان يجب الاقتداء
به. قال له: "اهدأ"،
أمسك يدك عن الجريمة،
لئلاّ تسود الخطيئة
في جسدك المائت
وتسخّرك لخدمة
شهواته، ولئلاّ
تجعل أعضاءك سلاح
إثم للخطء. "فإليك
ينقاد" إن لم تدعمه
بإطلاق العنان
له، بل كبحته وهدّأت
ثورته. "وأنت تسود
عليه"، لأنّه
لمّا لا يُسمح
له بالعمل بالخارج
يتعوّد تحت سلطان
العقل الّذي يسوسه
وينحو به إلى الخير
على عدم التّحرّك
بالدّاخل. قيل ما يشبه
ذلك في كتاب الله
عن المرأة لمّا
سأل الله بعد الخطيئة
وأصدر أحكام الإدانة
على الشّيطان
متمثّلا في الحيّة،
وعليهما هي وبعلها.
إذ قال لها: "لأكثرنّ
مشقّات حملك بالألم
تلدين البنين"
ثمّ أضاف: "وإلى
بعلك تنقاد أشواقك
وهو يسود عليك"*.
ما قيل لقابيل
عن الخطيئة أو
شهوة الجسد الفاسدة،
هو عين ما قيل في
هذه الفقرة عن
المرأة الخاطئة.
من هنا يجب أن نفهم
أنّه يجب أن يسوس
الرّجل المرأة
كما يسوس الرّوح
الجسد. لذلك يقول
الرّسول: "من أحبّ
امرأته أحبّ نفسه.
فإنّه لم يبغض
أحد جسده قطّ"*.
يجب إذن أن نعالج
هذه الأدواء باعتبارها
من صميمنا لا أن
ندينها باعتبارها
غريبة عنّا. لكنّ
قابيل تلقّى تلك
الوصيّة الإلهيّة
بروح العصيان،
واستشرى فيه داء
الحسد فقتل أخاه
غدرا. كذلك كان
مؤسّس المدينة
الأرضيّة. أمّا
كيف يرمز أيضا
إلى اليهود الّذين
قتلوا المسيح
راعي الأغنام
البشريّة الّذي
مثّله مقدَّما
هابيل راعي الأغنام
الحيوانيّة،
لأنّ في القصّة
تورية نبويّة،
فلن أتوسّع فيه
هنا، وأذكر أنّي
تحدّثت عنه في
مؤلّفي "ضدّ فاوستوس
المانويّ"*. |