القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّاني عشر 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الثّاني عشر

 

12-1 في أنّ للملائكة الأبرار والأشرار طبيعة واحدة

   قبل الحديث عن إنشاء الإنسان، حيث سنرى أصل المدينتين بالنّسبة للجنس العاقل الفاني كما رأينا في الكتاب السّابق بالنّسبة للملائكة، أرى من اللاّزم قول بعض الأمور عن الملائكة لأبيّن قدر مستطاعي أنّ من غير المخالف الصّواب والمنطق القول بوجود مجتمع من البشر والملائكة بحيث لا توجد أربع مدن، اثنتان للأملاك وأخريان للبشر، بل يحقّ لنا أن نتحدّث عن اثنتين، أي جماعتين إحداهما مؤلّفة من الأخيار والأخرى من الأشرار، لا من الأملاك فقط بل وكذلك من البشر.

   لا يجوز الشّكّ لحظة في أنّ النّزعات المتضادّة للأملاك الأخيار والأشرار وُجدت لا جرّاء وجود مبدأين مختلفين، بما أنّ الله الذّارئ الباري الخيّر لكلّ الكائنات خلق كلتل الفئتين، بل جرّاء إرادات وميول كلتيهما: فبينما هؤلاء ثابتون باستمرار على الخير المشترك بين الجميع الّذي هو الله بالنّسبة إليهم وفي أبديّته وحقيقته ومحبّته*، هبط الآخرون الفرحون بقدرتهم كما لو كانوا لأنفسهم الخير الخاصّ بطبيعتهم من الخير الأعلى المسعد والمشتَرك بين جميع الكائنات إلى ما هو لهم* وإذ اعتدّوا فخامة علائهم امتيازا أبديّا ومكر باطلهم حقّا يقينيّا وروح عصبيّتهم محبّة صمّاء استحالوا متكبّرين مضلّين حاسدين*. سبب سعادة هؤلاء إذن تعلّقهم بالله، ويجب بالتّالي تفسير شقاء الآخرين بعكس ذلك، أي عدم تعلّقهم بالله. لذلك إن أُجيبَ بالنّحو الصّحيح على السّؤال لماذا هؤلاء سعداء: لأنّهم متعلّقون بالله، ولماذا أولئك أشقياء: لأنّهم غير متعلّقين بالله، فمعنى ذلك أنّ لا خير للخليقة العقليّة أو الفكريّة تستمدّ منه السّعادة سوى الله. هكذا مع أنّ السّعادة غير متاحة لكلّ الخليقة، إذ لا تبلغ أو تنال هذه النّعمة البهائمُ والأخشابُ والحجارةُ وما شابهها، ما بذاتها تستطيع ذلك الّتي تستطيعه، فقد خُلقت من عدم، بل بمن خلقها ففي وجدانه سعادتها وفي فقدانه تعاستها. أمّا هو فمن ذاته لا من خير آخر يستمدّ سعادته، ولذلك لا يمكن أن يشقى أبدا، لأنّه لا يمكن أن يفقد ذاته.

   لذا نقول إنّه ليس من خير لا يدركه التّغيّر إلاّ الله الحقّ الأوحد الأسعد، وخلائقه حسنة بلا شكّ لأنّها من صنعه، لكنّها مع ذلك قابلة للتّغيّر لا لأنّها منه بل لأنّها من العدم خُلقت. إذن مع أنّها ليست الخير الأعظم- فالله هو الخير الأعظم- هي مع ذلك وعلى قابليّة التّغيّر فيها خيرات عظيمة لقدرتها، لبلوغ السّعادة، على التّعلّق بالخير اللاّمتغيّر لأنّه خيرها، وإلى درجة أنّها تكون بائسة حتما بدونه. لكن ليست الكائنات الأخرى في هذا الكون أفضل لأنّها لا يمكن أن تشقى، إذ لا يجوز القول بأنّ أعضاء الجسم الأخرى أفضل من العيون لأنّها لا يمكن أن تعمى. لكن مثلما الطّبيعة ذات الحسّ أفضل وهي تألم من الحجارة الّتي لا يمكن بحال أن تألم، كذلك الطّبيعة العقليّة أسمى منزلة حتّى وهي شقيّة من عديمة العقل أو الإدراك الّتي لذلك لا يدركها الشّقاء. في تلك الحال، بالنّسبة لهذه الطّبيعة الّتي خُلقت في أحسن تقويم على صفة تجعلها رغم قابليّة التّغيّر فيها تجد في التّعلّق بالخير المنزّه عن التّغيير، أي الإله الأعلى، السّعادة ولا تسدّ احتياجها إلاّ باحتياز السّعادة ولا يقدر على سدّه سوى الله، انحراف محقّق ألاّ تتعلّق به. فكلّ انحراف# مضرٌّ بالطّبيعة ومن ثمّة مضادّ للطّبيعة، فتلك الّتي تعرض عن الله لا تختلف عن الّتي تتعلّق به بالجوهر بل بانحرافها#. بل إنّ جوهرها يظهر جرّاء ذلك الاعتلال# كريما بالتّأكيد وجديرا بعظيم الثّناء: فمن يُذمّ انحرافه# عدلا يُمدح جوهره حقّا، إذ من الصّواب ذمّ العلّة# الّتي تصم طبيعة جديرة في ذاتها بالثّناء. إذن لمّا ندعو العمى علّة# العيون نُظهر أنّ الرّؤية من طبيعة العيون، ولمّا ننعت الصّمم بأنّه علّة# الآذان نُظهر أنّ السّمع من طبيعة الآذان، كذلك لمّا نعدّ سقما# في الطّبيعة الملائكيّة الابتعاد عن الله نُقرّ بوضوح أنّ الاقتراب من الله يوافق طبيعته. ومن بمقدوره ترى أن يتصوّر أو يصوّر كما ينبغي أيّ مجد عظيم للخليقة في القرب من الله واستمداد الحياة والحكمة والسّعادة منه والتّمتّع بتلك النّعمة الكبرى دون خوف من الموت والخطإ والحَزَن؟ لذلك فحتّى من خلال سقم# الأملاك الأشرار الّذي أبعدهم عن الله، ولكون كلّ سقم يخلّ بالطّبيعة، يُرى جيّدا أنّه خلقهم بطبيعة خيّرة، إذ تتأذّى بالابتعاد عنه.

 

12-2 لا يوجد جوهر مضادّ لله فإنّما يبدو مخالفا تماما لمن هو كائن كينونة كاملة وأبديّة ما هو عدم

   رأينا أن نقول ما سبق كيلا يظنّ أحد، عند كلامنا عن الملائكة المتمرّدين، ممكنا أن تكون لهم طبيعة مختلفة مستمدّة من جوهر آخر وليس الله منشئها. وسيكون أيسر وأسهل تجنّب هذا الخطإ وما يتضمّن من كفر بفهم أعمق لما قال الله بواسطة ملاكه لمّا أرسل موسى إلى بني إسرائيل: "أنا الكائن". فبما أنّ الله هو الكائن الأعلى، أي الّذي له الوجود الأسمى، وهو من ثمّة منزّه عن التّغيير، هو إذن من أعطى الوجود للأشياء الّتي خلقها من عدم. وقد أعطاها وجودا أكثر أو أقلّ، وبذلك رتّب أنواع الكائنات وفق درجات متفاوتة من الكينونة، فكما يسمّى المصدر من علم sapere علماً sapientia، يسمّى المصدر من كان esse كينونة essentia، وهي كلمة مستحدثة لا محالة لم يستخدمها الكتّاب اللاّتين القدماء، لكنّها صارت مستعملة في عصرنا لإيجاد مصطلح في لغتنا لما يسمّى باليونانيّة ousia*. هكذا ليس لهذا الكائن الّذي له أكمل درجات الوجود والّذي منه استمدّت كلّ الكائنات وجودها من طبيعة مضادّة إلاّ العدم. إذ لا يضادّه ما ليس له له وجود، لذا لا وجود لكينونة مضادّة لله، الكينونة العليا ومكوّن كلّ الكائنات.

 

12-3 في أعداء الله الّذين ليسوا كذلك بالطّبيعة بل بإرادة مضادّة تضرّ بلا شكّ، من خلال إساءتها إليهم، طبيعتهم الحسنة، فإنّ النّقصان لا يوجد لولا مضارّه

   بيد أنّ الكتاب المقدّس يدعو أعداء الله* من يعادون مُلكه لا بطبيعتهم بل بنقائصهم ولا يستطيعون الإساءة إليه بل إلى أنفسهم يسيئون*، فإنّ الله لا يطاله التّغيير ولا يدركه الفساد بأيّ وجه. لذا فإنّ الانحراف الّذي يدفع من يُدعون أعداء الله إلى التّمرّد عليه شرّ لأنفسهم لا لله، لأنّه ببساطة يفسد فيهم الخير المميّز لطبيعتهم. لا توجد إذن طبيعة مضادّة لله وإنّما هناك اعتلال# لأنّ الشّرّ مضادّ للخير. لكن من ترى ينفي أنّ الله هو الخير المحض؟ النّقصان# إذن مضادّ لله مضادّة الشّرّ للخير. وخيرٌ كذلك هي الطّبيعة الّتي يصمها. وهو بالتّالي مضادّ لهذا الخير بالتّحقيق. لكن بينما هو مضادّ لله مضادّة الشّرّ للخير فقط، هو مضادّ للطّبيعة الّتي يصمها لا كشرّ فقط بل كمضرّة أيضا. إذ لا شرور تضرّ الله فإنّها تضرّ الكائنات القابلة للتّغيّر والفساد، والحسنة مع ذلك كما تشهد نقائصها بالذّات. إذ لو لم تكن حسنة لما أمكن أن تصمها، وهل تلحق بها سوءا سوى إلغاء سوائها وبهائها وصحّتها وقوّتها وكلّ ما فيها من حُسن دأْبُ النّقيصة# إلغاؤه أو إنقاصه؟ ولو لم يكن ذلك لما أضرّت بإعدام كلّ حسنة ولما كانت بالتّالي نقيصة#: إذ لا وجه لأن تكون نقيصة# ولا تُحدث مضرّة. يُستنتج من ذلك أنّه وإن لم تستطع النّقيصة# الإساءة إلى الحسن الّذي لا يدركه الفساد، مع ذلك لا يمكن أن تسيء إلاّ إلى الخير لأنّه لا يوجد إلاّ حيث يحدث الأذى. يمكن أن نقول بهذا النّحو كذلك إنّ النّقيصة# لا توجد في الخير الأعظم ولا في غير خير ما. إذن يمكن للخيرات فقط أن توجد في محلّ ما، والشّرّيّات وحدها لا توجد في أيّ محلّ. فحتّى الطّبائع الّتي أفسدتها منذ البدء إرادة سيّئة، هي من حيث تعرّضها لفساد سيّئة لا محالة، أمّا في طبيعتها فإنّها حسنة. ولمّا تعاقَب الطّبيعة المعيبة بنقيصة# فناهيك عن احتفاظها بخيريّتها من حيث كونها طبيعة تحتفظ بخيريّة القسم الّذي لم يعاقَب فيها. ذلك عدل حقّا وما هو عدل حسن، فإنّما يعاقَب كلٌّ بسيّئات إرادته لا طبيعته*. وحتّى ما غرسته النّقيصة ورسّخته بطول العهد عادة مستمكنة حتّى صار كالطّبيعة* أتى في الأصل من الإرادة، فإنّا هنا نتحدّث عن النّقائص الخاصّة بتلك الطّبيعة الّتي أوتيت فكرا حُبي بنور العقل الّذي يميّز بين البرّ والإثم.

 

12-4 في الطّبائع غير العاقلة أو الحيّة الّتي لا تنشز في نوعها ونسقها# عن جمال العالم

   هذا ومن السّخيف إدانة نقائص البهائم والنّباتات وغيرها من الكائنات المتحوّلة الفانية الخالية من العقل أو الحسّ او الحياة كلّيّا، والّتي تفسد طبيعتها وتتفسّخ، في حين أنّ هذه المخلوقات تلقّت بأمر خالقها نمطها ومقدارها بحيث تحقّق على الوجه الأكمل بهاء الدّنيا الدّنيّ الموافق في نوعه لأقسام هذا العالم. إذ لم يكن لزاما جعل الكائنات الأرضيّة مساوية للسّماويّة ولا ألاّ توجد في الكون لأنّ تلك أفضل منها. لمّا نرى إذن، في المحالّ الّتي كان مناسبا أن توجد، بعضها ينشأ بموت بعض والأضعف يسقط أمام الأقوى والمغلوب يتحوّل إلى طبيعة الغالب، فذاك نسق الكائنات الفانية. ونحن لا نستسيغ جمال هذا النّسق لأنّنا أُحللنا، بحكم وضعنا كفناة، جزءا من ذلك الكون الّذي لا نستطيع أن ندرك أنّ شتّى أجزائه الّتي تسوؤنا تناسبه بنحو يضفي عليه رونقا واتّساقا*. لذلك نحن مأمورون حيثما نقصر على تبيّنه بالإيمان بعناية الباري كيلا يجرّئنا غرورنا الإنسانيّ على انتقاد عمل ذلك الصّانع الحكيم في أيّ شيء. بل إنّ نقائص أشياء هذا العالم غير الإراديّة ولا الخليقة بالعقاب تُبرز هي الأخرى، إن تأمّلناها بتدبّر، صلاح طبائعها الّتي ليس من بينها ما ليس صنع الله الفاطر الباري؛ وذلك لنفس السّبب: أنّ ما تسوؤنا إزالته جرّاء النّقيصة هو ما نستحسنه في الطّبيعة. إلاّ أنّ النّاس كثيرا ما يستاؤون حتّى بالطّبائع لمّا تصير ضارّة لهم، فهم لا ينظرون إليها في ذاتها بل ينظرون إلى منفعتها، مثل تلك الحيوانات الّتي عاقبت كثرتها كبَر المصريّين.* لكن بهذا النّحو يمكن كذلك أن نؤاخذ الشّمس إذ يُحكم على بعض من يجرمون أو لا يسدّدون ديونهم بتعريضهم لها. فبطبيعته لا من حيث كونه نافعا أو ضارّا لنا يسبّح كلّ كائن بحمد باريه. وبهذا المنظور تستحقّ طبيعة النّار الأبديّة كذلك الثّناء مع أنّها ستكون يوم الدّينونة للكافرين عقابا؛ وهل أبهى فعلا من النّار المتوقّدة المتوثّبة النّيّرة؟ أم ثمّة أنفع منها للتّدفئة والعلاج والطّبخ؟* وليس مع ذلك آلم من حرقها. نجد إذن نفس الطّبيعة ضارّة في حالة نافعة إن استُعملت بالوجه المناسب. ومن لعمري يستطيع بالكلمات تفسير نفعها في هذا العالم بما يفيها حقّها؟ لا يجب أن نسمع إذن من يمدحون في النّار ضياءها ويعذلون في نفس الوقت حرّها، لا حسب خاصّيّة طبيعتها بل حسب منفعتها ومضرّتها. يحبّون الرّؤية ويكرهون الأوار*، ولا يرون أنّ ذلك النّور الّذي يروق لهم يؤذي العيون العشياء لأنّه لا يناسبها وأنّ تعيش بتلك الحرارة الّتي تنفّرهم بعض الحيوانات في حال جيّدة لأنّها تناسبها.

 

12-5 في نوع ونمط كلّ الطّبائع يجدر الثّناء على الخالق

   كلّ الطّبائع إذن، لأنّها كائنة ولها بالتّالي نمطها وبهاؤها وسلام خاصّ يقترن بها، حسنة بالتّأكيد. ولمّا تكون حيث يجب أن تكون وفق النّظام الطّبيعيّ، تحفظ وجودها قدر ما تلقّت منه، والّتي لم تتلقّ الوجود أبدا تتحوّل إلى الأحسن والأسوإ حسب سنّة وحركة الأشياء الّتي تخضع لها بمقتضى ناموس الخالق، نازعة بحكم العناية الإلهيّة نحو الحدّ الّذي وضعه لها تدبير سير الكون كلّه. هكذا لا يقود هذا الفساد الّذي يبلغ درجة إهلاك الطّبائع المتغيّرة الفانية إلى إعدام ما كان فيحدث تبعا لذلك ما كان لا بدّ أن يكون. وبما أنّ الأمور بتلك الصّورة، يجب ألاّ يحمَّل الله الكائن المطلق وبالتّالي مكوّن كلّ كائن غير مطلق- إذ لا يمكن أن يساويه بصفته مؤيَّسا من ليس ولا يمكن أن يوجَد إن لم يوجده- وزر أيّة نقائص وأن يُحمد لدى تأمّل كلّ الطّبائع.

 

12-6 سبب سعادة الأملاك الأخيار وشقاوة الأملاك الأشرار

   لذلك يكمن السّبب الحقيقيّ لسعادة الأخيار في تعلّقهم بالكائن الأعظم، لذا إن بحثنا عن سبب شقاوة الأملاك الأشرار سنجد أنّها تأتي عدلا من إعراضهم عن الكائن الأعلى وتوجّههم نحو ذواتهم الّتي ليست لها الكينونة العليا. وهل لهذه النّقيصة من اسم سوى الكبرياء؟ "فالكبرياء أوّل الخطآء"*.  لم يشاؤوا إذن حفظ# عزّهم له وكانوا سيزدادون كينونة لو تعلّقوا بمن له كمال الكينونة، لكنّهم بتفضيل أنفسهم عليه فضّلوا ما هو أدنى كينونة. هذا النّقصان الأوّل والعُدْم الأوّل والزّيغ الأوّل لتلك الطّبيعة الّتي خُلقت لا تحظى بأعلى مرتبة للكينونة لا محالة لكن قادرة مع ذلك لنيل السّعادة على التّنعّم بمن جعلها الإعراض عنه تفقد كينونتها جزئيّا لا كلّيّا وتصير بذلك شقيّة.

   إن نسأل الآن ما العلّة الفاعلة لهذه الإرادة السّيّئة سوف لا نجد شيئا. وهل من شيء فعلا يجعل الإرادة سيّئة بينما هي الّتي تجعل الفعل سيّئا؟ وبالتّالي فالإرادة السّيّئة هي فاعل الفعل السّيّء، بينما لا فاعل للإرادة السّيّئة. ذلك أنّ كلّ شيء كائن له إرادة أو لا. فإن كانت له إرادة، هي بالضّرورة إمّا حسنة وإمّا سيّئة. إن كانت حسنة، فمن يبلغ به الخطل حدّ القول بأنّ إرادة حسنة تنتج إرادة سيّئة؟ إذ لو حصل ذلك لكانت إرادة حسنة علّة الخطيئة، وهو ما لا يمكن تصوّر أبعد منه عن العقل. فإن كان الشّيء الّذي يصنع حسب افتراضنا إرادة سيّئة له هو أيضا إرادة سيّئة*، والحال تلك عن العلّة الفاعلة لتلك الإرادة السّيّئة أيضا، ولوضع حدّ لهذا التّسلسل أسأل عن علّة الإرادة السّيّئة الأولى؛ إذ لم تنشئ الإرادةَ السّيّئةَ الأولى إرادةٌ سيّئةٌ، بما أنّها الأولى ولم تُنشئها بالتّالي أخرى، فلو سبقتها إرادة أنشأتها لكانت هي الأولى والّتي صنعت الأخرى*. فإن أُجيبَ بأنّ لا شيء أنشأها وأنّها وُجدت على الدّوام، أسأل إن كانت في طبيعة ما. إن لم توجد في أيّة طبيعة فهي لم توجد بتاتا؛ أمّا إن كانت في طبيعة ما، فقد كانت تُنقصها وتُفسدها وكانت مَضرّة لها وتجرّدها إذن من الخير. وبالتّالي لم يكن ممكنا أن تكون الإرادة السّيّئة في طبيعة سيّئة، بل في حسنة لكن قابلة للفساد، يمكن لتلك النّقيصة إيذاؤها. إذ لو لم تؤذها لما كانت نقيصة قطعا، ولما جاز القول إذن إنّها كانت إرادة سيّئة#. أمّا إن آذتها فلا شكّ أنّها فعلت ذلك بإعدام أو إنقاص الخير منها. إذن لا يمكن أن تكون إرادة سيّئة أزليّة قد وُجدت في ذلك الشّيء الّذي سبق فيه خير طبيعيّ أمكن للإرادة السّيّئة إلغاؤه بأذاها. ما دامت إذن غير أزليّة أسأل من أنشأها ترى. يبقى أن نقول إنّ الإرادة السّيّئة عمل ذلك الكائن الّذي لم تكن فيه أيّة إرادة. أسأل حينئذ هل هو أعلى أم أدنى أم مساو. إن كان أعلى فهو لاجرم أفضل، فكيف يكون إذن بلا إرادة، بل وبالأحرى بغير إرادة صالحة؟ والشّأن مماثل إن افترضناه مساويا: بما أنّ للاثنين بالتّساوي إرادة حسنة، لا يمكن لأحدهما أن يُحدث إرادة سيّئة في الآخر. يبقى أنّ كائنا أدنى ليست له أيّة إرادة أنشأ إرادة سيّئة في الطّبيعة الملائكيّة الّتي خطئت قبل سواها. لكنّ ذلك الكائن حتّى لو بلغ في الدّونيّة الأرض السّفلى هو، من حيث كونه طبيعة وجوهرا، حسنٌ بلا شكّ وله نمطه وحسنه الخاصّ بنوعه ونسقِه، فكيف يُنتج شيء حسن إرادة سيّئةً؟ أجل، كيف يكون خيرٌ علّةً لشرّ؟ فإنّما تصير الإرادة سيّئة بترك الأعلى والاتّجاه إلى الدّنايا، لا لأنّ ما تتحوّل إليه شرّ في ذاته بل لأنّ تحوّلها ذاك انحراف. لذلك ليس شيء أدنى هو الّذي جعل الإرادة سيّئة، بل بتعلّقها بالأدنى بغيا وخلافا لنظام الكون صارت كذلك. فعلا إن رأى شخصان لهما نفس تركيب النّفس والجسم جمال جسم ما، فجنح أحدهما إذ رآه إلى المتعة الحرام، بينما استمرّ الآخر ثابتا على عفّته، ماذا نرى كسبب لحدوث إرادة سيّئة في ذاك وعدم حدوثها في هذا؟ ما هو جمال ذلك الجسم، بما أنّه لم يحدثها في الاثنين مع أنّه عرض لنظر كليهما بالتّساوي. أفلعلّ جسم النّاظر هو السّبب؟ لِم لا جسد الآخر؟ أم هو نفسه؟ لِم لا نفس كليهما؟ فقد قلنا إنّ لهما نفس التّركيب الجسميّ والنّفسيّ. أيجب القول إذن إنّ أحدهما وسوس له الرّوح الخبيث- كما لو لم يقبل بمحض إرادته تلك الوسوسة وما شابهها من الخطرات؟ نسأل إذن أيّ شيء أنشأ فيه هذا القبول وأثار فيه هذه الإرادة السّيّئة باتّباع ذاك الغويّ الغرور. كي نرفع الإشكال في هذه القضيّة نقول: ما دام الاثنان تعرّضا لنفس الإغراء، فسقط واستجاب له أحدهما وظلّ الآخر ثابتا على ما كان عليه، أيظهر من ذلك شيء سوى أنّ أحدهما ارتضى والآخر أبى التّخلّي عن العفاف؟ هل مأتى ذلك سوى الإرادة الذّاتيّة ما دام لهما نفس التّركيب الجسميّ والنّفسيّ؟ نفس الجمال تبدّى لعيني كليهما ونفس الإغراء الخفيّ استثار حسّيهما. إن تمعّنّا إذن لنعرف أيّ شيء أنتج في أحدهما الإرادة السّيّئة الّتي انفرد بها لا نجد شيئا. إن قلنا هو أحدثها، فهل كان قبل تلك الإرادة السّيّئة سوى طبيعة حسنة صانعها الله الّذي هو الخير المنزّه عن التّغيير؟ من يقول حينئذ إنّ ذاك الّذي استجاب لدعوة الغويّ الّتي لم يستجب لها الآخر إلى المتعة الحرام بذلك الحسن الجسديّ الماثل أمام نظر كليهما سويّا، بينما كانا قبل الغواية متماثلين جسما ونفسا، أحدث في نفسه إرادة سيّئة- هو الّذي كان قبل الإرادة السّيّئة حسنا؟ لنبحث لماذا فعل، ألكونه طبيعة أم لأنّ طبيعته خُلقت من العدم، وسنجد أنّ الإرادة السّيّئة لم تنشأ جرّاء كونه طبيعة بل لأنّ طبيعته أُنشئت من عدم. فعلا، إن كانت الطّبيعة علّة الإرادة السّيّئة، ألسنا مضطرّين عندئذ إلى القول بأنّ الشّرّ يحصل من الخير وأنّ الخير علّة الشّرّ، إن حدثت حقّا من طبيعة حسنة إرادة سيّئة؟ كيف يمكن لطبيعة حسنة، ولو قابلة للتّغيّر، وقبل أن تكون لها إرادة سيّئة، أن تصنع، أي هذه الإرادةَ السّيّئة بالذّات؟

 

12-7 في أنّه لا يجب البحث عن علّة فاعلة للإرادة السّيّئة

   لا يبحثن أحد عن علّة فاعلة للإرادة السّيّئة، فالعلّة هنا غير فاعلة بل هي سالبة، وما هي بفعل بل هي سلب. فإنّ التّخلّي عمّن هو في كمال الكينونة إلى ما هو أقلّ يعني البدء في امتلاك إرادة سيّئة. من يريد إذن اكتشاف علل تلك المظاهر السّلبيّة، وهي كما ذكرت سالبة لا فاعلة، هو كمن يريد رؤية الظّلام وسماع الصّمت، والحال أنّا نعلم كليهما- أوّلهما بالعيون والثّاني بالآذان- لا كنوع من الكينونة بل كانعدامها. لا يسلْني أحد ما أعلم أنّي أجهله، إلاّ ليتعلّم ربّما بما يجب العلم باستحالة أن يُعلم. فإنّ ما يُعلم لا بنوع كينونته بل بانعدامها، إن أمكن قول أو فهم إنّيّته، بنحوٍ ما يُعلم بجهله بحيث يُجهل بعلمه. على سبيل المثال لمّا يجول البصر، ملَكة العين الجسميّة، في الصّور الجسميّة، لا يرى قطّ ظلمات إلاّ حيثما يكفّ عن رؤية شيء ما. كذلك لا يأتي من حسّ آخر سوى الآذان إدراك الصّمت الّذي لا يمكن مع ذلك إدراكه إلاّ بعدم السّماع. كذلك يدرك عقلنا المعقولات: لكن حيث تنعدم يعلمها بجهلها. إذ "من الّذي يتبيّن الزّلاّت؟"*

 

12-8 في الحبّ المنحرف الّذي تزيغ به الإرادة عن الخير اللاّمتغيّر إلى خير متغيّر

   أعلم هذا: أنّ طبيعة الله لا يمكن أن تزيغ أبدا ومن أيّ جانب وبأيّ وجه، بينما يمكن أن تزيغ الكائنات المؤيّسة من ليس، ومع ذلك بقدر ما هي أكثر كينونة وفعلا للصّالحات- فهي إذّاك تفعل شيئا حقّا- لها علل فاعلة efficientes، لكن بقدر ما تزيغ فتفعل سيّئات- وهل تفعل إذّاك سوى هباء وزيف- لها إذّاك علل سالبة deficientes. وأعلم كذلك أنّ من تحدث فيه إرادة سيّئة لو لم يشأ حدوثها لما حدثت، لذا يتبع زلاّته غيرَ الضّروريّة بل الإراديّةَ عقابُها العادل. فالزّيغ يكون لا لأنّ الأشياء المبتغاة سيّئة بل بالتّصرّف السّيّء، لا بالاتّجاه نحو طبائع سيّئة بل بالجنوح السّيّء غير السّويّ- لأنّه يخالف نظام الكون- ممّا هو كمال الكينونة نحو ما هو أدنى. فما البخل بنقيصة للذّهب بل للإنسان الحريص بغيا على الذّهب والمفرّط في البرّ الأحقّ بأن يفضّله على الذّهب بما لا يقاس. ولا الشّبق بنقيصة للأجسام الجميلة والعذبة بل للنّفس الصّابئة بغيا إلى اللّذات الجسديّة والمعرضة عن العفّة الّتي بفضلها نعيش في وفاق مع الأشياء ذات الجمال الرّوحيّ الأسمى والعذوبة الباقية الأرقى. ولا الفخر بنقيصة للحمد الإنسانيّ بل للنّفس الميّالة بغيا لحمد النّاس المستخفّة بشهادة الضّمير. ولا الكبر بنقيصة مانح السّلطان ولا حتّى هذا السّلطان بل النّفس المتعلّقة بغيا بسلطانها المستهينة بسلطان أعدل لحاكم أحكم وأقدر. ومن ثمّة فمن يحبّ بغيا خيرا خاصّا بأيّة طبيعة يصير حتّى إن ناله سيّئا في ذلك الخير وبائسا بحرمانه من خير أرقى وأبقى.

 

12-9 هل خالق طبيعة الملائكة الأخيار هو ذاته مصدر إرادتهم الخيّرة بفضل المحبّة الّتي أفيضت عليهم بروح القدس

   ليس للإرادة السّيّئة إذن من علّة فاعلة طبيعيّة، أو إن جاز التّعبير جوهريّة، فمنها هي أصلا يبدأ الشّرّ الّذي يصم الأرواح الواقعة في دائرة الكون والفساد، مصدر نقصان وانحراف الخير الّذي يسم الطّبيعة، ولا يجعل الإرادة كذلك سوى الزّيغ المتمثّل في التّخلّي عن الله، وهو زيغ تنعدم فيه العلّة الفاعلة. إذن إن نفينا كذلك علّة فاعلة للإرادة الخيّرة، فحذار أن نظنّ الإرادة الخيّرة الّتي في الملائكة الأخيار غير حادثة بل تشارك الله في القدم. فما داموا هم أنفسهم محدثين كيف يجوز إنكار كونها حادثة هي الأخرى؟ وما دامت حادثة، لنا أن نسأل هل أُحدثت معهم أم وُجدوا بدونها حينا قبل حدوثها؟ إن حدثت معهم لا شكّ أنّها من صنع صانعهم، فهم منذ خلقهم تعلّقوا بخالقهم بالحبّ الّذي به خُلقوا، وإنّما انفصل الآخرون عنهم لثباتهم على الإرادة الخيّرة الّتي خُلقت معهم وزيغ الآخرين عنها ممّا أحدث فيهم تحوّلا فأتت الإرادة السّيّئة فيهم من زيغهم عن الحسنة، ولو شاؤوا لما زاغوا عنها. أمّا إن وُجد الملائكة الأخيار حينا من الدّهر بدون إرادة خيّرة ثمّ أحدثوها لاحقا في أنفسهم بدون مؤثّريّة الله، فهم إذّاك قد جعلوا أنفسهم أفضل ممّا خلقهم الله. حاشا وكلاّ إذ هل كانوا بدون الإرادة الخيّرة إلاّ أشرارا؟ أو إن لم يكونوا أشرارا- حيث لم تكن إرادة سيّئة قد تسلّلت إليهم إذ لم يكونوا قد تخلّوا عن تلك الّتي لم يبدؤوا في امتلاكها حسب ما افترضنا- فهم إذّاك لا يماثلون بالصّفة ولا يساوون في الخيريّة ذواتهم عند بدئهم في امتلاك إرادة حسنة. لكن إن لم يمكن أن يجعلوا أنفسهم أفضل ممّا جعلهم صانعهم الّذي لا أحد أحسن منه صنعة، فليس ممكنا قطعاً أن يكتسبوا كذلك  بدون عون فعّال من خالقهم إرادة حسنة تجعلهم أحسن. وبما أنّ إرادتهم الحسنة جعلتهم يتوجّهون لا قِبل أنفسهم لأنّهم أدنى كينونة بل إلى الكائن الأعلى بحيث يتيح لهم التّعلّق به وجودا أسمى والاتّحادُ به حياة أحكم وأسعد، هل يبيّن ذلك سوى أنّ إرادتهم مهما كانت حسنة كانت ستظلّ قاصرة ومقصورة على مجرّد الرّغبة لو لم يعمد من جعل من العدم طبيعة حسنة وقادرة على التّعلّق به إلى جعلها أحسن بمَلئها بذاته هو الّذي أثار فيها قبلُ تلك الرّغبة.

   لا بدّ فعلا أن نناقش كذلك إن كان الأملاك الأخيار أحدثوا في أنفسهم الإرادة الخيّرة هل أحدثوها بإرادة أو بغير إرادة. إن بغير إرادة فما هم أحدثوها، وإن بإرادة أخيّرة هي أم سيّئة؟ إن سيّئة فكيف لإرادة سيّئة بإحداث خيّرة؟ وإن خيّرة فقد كانت لهم إذن إرادة خيّرة قبل ذلك. ومن إذن أحدثها سوى من خلقهم بإرادة خيّرة، أي بحبّ نقيّ يصلهم به، من خلق الطّبيعة ووهب النّعمة لهم؟ لذا يجب التّسليم بأنّ الملائكة الأخيار لم يوجدوا أبدا بغير إرادة خيّرة، أي بغير حبّ الله. أمّا الآخرون الّذين رغم خلقهم أخيارا أضحوا أشرارا بفعل إرادتهم السّيّئة الّتي هي من ذات أنفسهم ولم تحدثها طبيعتهم الخيّرة وإنّما هو زيغها التّلقائيّ عن الخير، بحيث لم ينتج الشّرّ من الخير بل من الزّيغ عن الخير، فإمّا أنّهم تلقّوا حظّا من نعمة الحبّ الإلهيّ أقلّ ممّن ثبتوا عليها، وإمّا خُلق الجميع أخيارا سواسية فسقط هؤلاء نتيجة إرادتهم السّيّئة بينما وصل أولئك بعون أكبر إلى أوج السّعادة حيث باتوا على يقين تامّ من أنّهم لن يسقطوا منه أبدا كما شرحنا في الكتاب السّابق*. لا بدّ إذن من الإقرار، مع الحمد الواجب للخالق، بأنّا نستطيع القول، لا بخصوص البشريّين الأبرار فقط بل كذلك بخصوص الملائكة الأبرار، إنّ محبّة الله قد أفيضت فيهم بالرّوح القدس الّذي أعطي لهم. وما عن البشريّين فقط، بل عن الملائكة أوّلا وبالخصوص قيل في الكتاب المقدّس: "وأنا فحسن لي القرب من الله." يملك هذا الحسن المشتركون فيه مع من به يتعلّقون ويؤلّفون مجتمعين نديّا قدسيّا، وهم مدينة الله الوحدى، قربانه المقدّس وهيكله الحيّ. فجزء منها مؤلّف من البشر الفناة ومعدّ للاندماج غدا بالملائكة الخالدين يسير اليوم في رحلة الأرض حيث التّحوّل والحدثان أو يستريح في تلك الدّيار والمحالّ الخفيّة حيث يقيم الأموات البررة، وأرى من واجبي الآن أن أشرح كيف نشأت بإنعام نفس الإله الخالق كما فعلتُ بخصوص الملائكة. من إنسان واحد خلقه الله في الأصل انبثق النّوع الإنسانيّ كما ينبئنا الكتاب المقدّس الّذي يحظى حقّا وعدلا بمصداقيّة لا تضاهى في كلّ الأرض وفي جميع الأمم الّتي كان قد أنبأ، من جملة حقائق أخرى كشفها، أنّها ستؤمن به. 

 

12-10 في رأي من يزعمون أنّ النّوع الإنسانيّ وُجد كالعالم منذ الأزل

   لندع جانبا إذن تصوّرات من يهرفون بما لا يعرفون عن طبيعة أو نشأة النّوع الإنسانيّ. إذ يرى البعض مثل ما اعتقدوا بشأن العالم نفسه أنّ البشر وُجدوا على الدّوام. في هذا المعنى يقول أبوليوس عند وصفه لهذا النّوع من الأحياء: "هم فانون على المستوى الفرديّ وخالدون كنوع على المستوى الكلّيّ". ولمّا يقال لهم: "إن وُجد الجنس البشريّ دوما فكيف يكون تاريخهم صحيحا لمّا يخبرنا بشتّى الاختراعات ومبتكريها وروّاد العلوم الشّريفة ومختلف الفنون وأوّل من عمروا هذه النّاحية من الأرض أو تلك وهذه الجزيرة أو تلك، يجيبون أنّ طوفانات وحرائق تدمّر الأرض دوريّا، لا كلّها طبعا بل جزءا كبيرا منها فيغدو النّاس قلّة يعاد منها بالتّناسل تكوين الكثرة الأصليّة، بحيث يُكتشف ويُنشأ مرّة تلو الأخرى كجديد ما يستعاد بالأحرى بعدما توقّف أو تلاشى بفعل تلك الكوارث المدمّرة العامّة. ثمّ إنّه لا يمكن في رأيهم إطلاقا أن يوجد إنسان إلاّ انطلاقا من إنسان*، لكنّهم في الحقيقة يقولون ما يظنّون ظنّا لا ما يعلمون يقينا.

 

12-11 في خطإ ذلك التّأريخ الّذي يسند إلى الماضي عدّة آلاف من السّنين

   توقعهم في هذا الخطإ كتابات ملأى بالأكاذيب تزعم أنّ التّاريخ يشتمل على عدّة آلاف من السّنين بينما نعدّ استنادا على الكتاب المقدّس منذ خلق الإنسان ستّ آلاف سنة غير كاملة*. لذا وكيلا أطيل النّقاش لردّ أباطيل هذه الكتابات الّتي تذكر آلاف من السّنين أكثر بكثير، وتبيين أنّ لا مصداقيّة لها في هذا الباب، أستشهد رسالة الإسكندر الأكبر إلى أمّه أولمبية حيث دوّن ما روى له كاهن مصريّ استنادا إلى كتابات تُعدّ مقدّسة عندهم وتشتمل كذلك على أخبار دول يعرفها التّاريخ اليونانيّ، وفيها حسب ما جاء في رسالة الإسكندر المذكورة يتجاوز مُلك الأشوريّين خمسة آلاف عام، بينما يمتدّ حسب التّاريخ اليونانيّ حوالي ألف وثلاثمائة سنة منذ عهد بالي الّذي يجعله الكاهن المصريّ أيضا بداية تلك الدّولة. أمّا مُلك الفرس والمقدونيّين حتّى الإسكندر محدّثه فقدّر عمره بأكثر من ثمانية آلاف سنة، بينما يقدّر اليونان مُلك المقدونيّين إلى موت الإسكندر بأربعمائة وخمس وثمانين سنة ومُلك الفرس حتّى نهايته بانتصار الإسكندر بمائتي وثلاثين سنة. هذه الأعداد من السّنين هي بالتّالي أقلّ بكثير من تلك التّقديرات المصريّة، ولا تعادلها حتّى إن ضربت في ثلاثة، حيث يقال إنّ المصريّين كانوا يستخدمون في ما مضى سنين قصيرة تنتهي في أربعة شهور، لذلك تتكوّن السّنة الكاملة وبالمعنى الحقيقيّ المستخدمة اليوم عندنا وعندهم سويّا من ثلاث سنوات عتيقة. لكن حتّى بهذا النّحو لا يتوافق التّأريخ اليونانيّ مع الحسابات المصريّة، وينبغي بالتّالي تصديق التّأريخ اليونانيّ لأنّه لا يتجاوز عدد السّنين الّذي نجد في كتابنا المقدّس حقّا. فإن كانت رسالة الإسكندر الشّهيرة تختلف كثيرا في تقدير عدد السّنين عن الواقع الفعليّ المرجّح، فكم هي أقلّ حقّا بالتّصديق تلك الكتابات المليئة بخرافأت أرادوا بها، كأخبار موثوق بها عن العصور القديمة، مواجهة سلطة كتبنا الرّبّانيّة الذّائعة الصّيت، الّتي أنبأت بأنّ الأرض جمعاء ستؤمن بها، والّتي تؤمن بها الأرض جمعاء كما أنبأت، والّتي تُظهر صدق أنبائها عمّا مضى بتحقّق ما تنبّأت بحدوثه تماما.

 

12-12 في من يرون أنّ هذا العالم غير أزليّ لكنّهم يعتقدون في وجود عوالم لا تحصى أو عالم واحد ينشأ ويندثر في مدد معيّنة باستمرار

   لكنّ آخرين لا يعتبرون أنّ هذا العالم وُجد دوما ويعتقدون أنّه ليس واحدا بل توجد عوالم لا تحصى أو أنّه يوجد بمفرده لكنّه بنحو دوريّ يولد ويموت باستمرار. لا بدّ إذن أن يسلّموا بأنّ النّوع البشريّ وُجد في الأصل دون أن يولد من بشر. فعلا، هم لا يزعمون أنّ فيضانات وحرائق تحصل بين وقت وآخر في الأرض، لا تأتي عليها كلّها بل تذر قلّة من البشر تعاد منها الكثرة الأصليّة باستمرار، بحيث يمكن أن نتصوّر بقاء شيء من البشر عند دماره، بل كما يتكوّن العالم نفسه في زعمهم مجدّدا من مادّته، كذلك يتكوّن فيه النّوع البشريّ مجدّدا من عناصر ثمّ يتكاثر بالتّناسل، كما هي الحال في الأحياء الأخرى.

 

12-13 بماذا يجب أن يجاب على من يسوؤهم أنّ خلق الإنسان جاء متأخّرا

   ما أجبنا به، عند تعرّضنا لمسألة نشأة العالم، على من يرفضون التّسليم بأنّه لم يوجد دوما بل له بداية كما يقرّ أفلاطون نفسه بصريح العبارة وإن ظنّ البعض أنّه يرى رأيا غير الّذي يقول، أجيب به بشأن نشأة الإنسان الأولى على من يتساءلون بنفس النّحو لماذا لم يُخلق الإنسان في أيّ آن من الآونة اللاّمتناهية الّتي سبقت إنشاءه ولماذا خُلق في فترة جدّ متأخّرة حتّى أنّ أقلّ من ستّ آلاف سنة مضت منذ إنشائه حسب ما نجد في الكتاب المقدّس. إن كان قصر مدّة وجوده يزعجهم لأنّهم يستقلّون السّنين المنصرمة منذ إنشاء الإنسان حسب ما تذكر مصادرنا، فليعتبروا أنّ لا شيء طويل الأمد إن كان محدّدا في الزّمان، ويجب أن يُعَدّ امتداد كلّ القرون المحدود، مقارنا بالأبد اللاّمحدود، لا قصيرا بل كلاشيء. وبالتّالي لو قلنا إنّ الله خلق الإنسان لا منذ خمسة أو ستّة آلاف سنة، بل منذ ستّين أو سبعين ألفا أو ستّمائة أو سبعمائة ألف، أو ضربنا هذا المجموع في أيّ عدد حتّى لتتعذّر تسمية الحاصل، لأمكن أن يسأل سائل لماذا لم يخلقه قبل ذلك؛ فإنّ عطالة الله عن خلق الإنسان في الأزل الّذي لا بداية له تمتدّ على مدى إن قورن به أيّ أمد من الزّمان مهما طال وعظمت سنوه كثرة حتّى تعذّرت تسمية عددها لكنّه محدود ببداية ونهاية معيّنتين لما بدا حتّى كقطرة ماء في منتهى الضّآلة في البحر برمّته بل في المحيط الّذي يكتنف اليابسة. ذلك أنّ أحد هذين الطّرفين في غاية الصّغر والآخر في غاية الكبر لا محالة، لكنّ كليهما متناه، بينما لا أدري إن كان يجب عدّ تلك المدّة الّتي تنطلق من بداية وتُحدّ بنهاية مهما بلغت من الطّول، مقارنة بما لا بداية له، في منتهى الضّآلة أو لا شيء يالأحرى. فإنّا لو اقتطعنا من آخرها آونة صغيرة جدّا وواصلنا باتّجاه مبتدئها، كما لو سلخنا أيّام الإنسان متدرّجين منذ يومه الحاضر حتّى يوم ميلاده، فبتناقص عدد آونتها، حتّى إن بلغ من الكبر ما تستحيل معه تسميته، سيصل بنا هذا السّحب أخيرا إلى بدايتها.  بينما لو أن أنقصنا من مدّة لا بداية لها، لا أقول آونة صغيرة واحدا واحدا أو حتّى دفعات من السّاعات أو الأيّام أو الشّهور أو السّنين، بل مددا كبيرة تضمّ عددا من السّنين تتعذّر تسميته على الحاسبين ويمكن مع ذلك استنفادها بحذف آونة منها شيئا فشيئا، ولو حذفنا هذه المدد الكبيرة لا مرّة ومرّتين ومرارا بل باستمرار، ماذا يقع، ماذا يحصل، والحال أنّا لا نصل أبدا إلى المبدإ الّذي لا يوجد؟

   لذلك فسؤالنا الآن بعد خمسة آلاف عام ونيّف يمكن أن يسأله بنفس الفضول خلفنا بعد ألف ألف عام إن استمرّت حتّى ذلك الحدّ بالولادات والوفيّات حياة البشر الفانية الموسومة بالضّعف والجهل؛ وكان بإمكان من عاشوا قبلنا في عهود أقرب من زمان خلق الإنسان طرح هذا السّؤال، بل كان يمكن للإنسان الأوّل أن يسأل غداة خلقه أو في نفس اليوم إثر خلقه لماذا لم يُخلق قبل، ولو خُلق في أيّ زمان قبل ذلك لما طُرحت المسألة موضوع النّزاع حول بداية الكائنات الزّمانيّة بصورة غير ما هي اليوم أو لاحقا.

 

12-14 في دورة القرون الّتي تعيد الكون دوما بعد فترة معيّنة إلى نفس النّسق والصّورة في زعم بعض الفلاسفة

   وقد رأى فلاسفة هذا العالم أنّه لا يمكن أو يجب حلّها بغير افتراض حركة دوريّة للأزمان لا تني تجدّد كائنات الطّبيعة وتعيدها سيرتها الأولى وأكّدوا استمرارها بلا توقّف في المستقبل كما في الماضي سواء وقعت في عالم باق على حاله أو في عالم يولد ويموت على فترات من الزّمان، مُظهرا دوما ككائنات جديدة نفس الكائنات الماضية والآتية. ولا يمكنهم طبعا إعفاء النّفس الخالدة من هذه المهزلة، حتّى إن اكتسبت الحكمة فهي لديهم تعود بلا انقطاع إلى سعادة وهميّة وشقاوة حقيقيّة. وكيف تكون حقيقيّة سعادةٌ لا تعلم النّفس فيها لجهلها وهي في الحقيقة بشقاوتها الآتية أو هي تعلمها فيملأها الخوف منها بؤسا وهي في السّعادة؟ لكن إن خرجت من هذه التّحوّلات الدّوريّة وبلغت سعادة لا رجعة منها إلى الشّقاء أبدا، فإنّ شيئا جديدا يحدث إذّاك في الزّمان ليست له نهاية زمنيّة، فلم لا يحدث مثله للعالم ولم لا يحث أيضا للإنسان الّذي خُلق في العالم؟ أوْلى بنا تجنّب هذه الدّورات الزّائفة الّتي ابتدعها حكماء زائفون ومضلّون، باتّباع المسلك المستقيم المسطور في الدّين القويم.

   إذ يريد البعض تأويل ما جاء في سفر سليمان المدعوّ بالكنسيّ*: "ما كان فهو الّذي سيكون وما صُنع فهو الّذي سيُصنع فليس تحت الشّمس شيء جديد. ربّ أمر يقال عنه: انظر هذا جديد، بل قد كان في الدّهور الّتي سلفت قبلنا." على أنّه إشارة إلى هذه الدّورات الّتي تعود إلى نفس الأحوال وتبتعث نفس الكائنات، سواء لأنّه تحدّث عن نفس الأشياء المذكورة سابقا، أعني الأجيال الّتي يمضي بعضها ويأتي غيره، وسير الشّمس وانحدار السّيول، أو على الأقلّ على شتّى الأشياء الّتي تولد وتموت: فقد وُجد أناس قبلنا، ويوجد أناس معنا، وسيوجد أناس بعدنا، والشّأن مماثل في الحيوانات والنّباتات. وكذلك الوحوش الغريبة الّتي تنشأ بنحو غير اعتياديّ، رغم الاختلاف بينها وأنّ بعضها يُخلق مرّة واحدة على ما يقال، ومع ذلك من حيث كونها على وجه العموم أعاجيب خارجة عن المعتاد وُجدت وستوجد دوما، وما بجديد ولا بقريب عهد أن يولد تحت الشّمس وحش. لكنّ البعض يفهمون من ذلك القول أنّ الحكيم قصد أنّ كلّ شيء قد كُوّن في قضاء الله، وبالتّالي ليس تحت الشّمس شيء جديد.

   لكن حاشا أن نظنّ ونحن مستمسكون بالعقيدة الصّحيحة أنّ أقوال سليمان تشير إلى تلك الحركات الدّوريّة الّتي يزعمون أنّها تعيد الأزمان والأشياء الزّمنيّة باستمرار. فمثلا كما علّم الفيلسوف أفلاطون تلاميذه في عصره وفي مدينة أثينة ومدرسته المسمّاة بالأكاديميّة، كذلك تكرّر في ظنّهم خلال عدد لا يحصى من الأزمنة في الماضي على فترات متباعدة لا محالة لكن محدّدة، نفس الفيلسوف ونفس المدينة ونفس التّلاميذ، وسيتكرّرون لاحقا في اعتقادهم عبر ما لا يحصى من القروةن الآتية. وأنا أقول وأكرّر: حاشا أن نعتقد في مثل هذه السّخافات. بل مرّةً واحدة مات المسيح لافتداء خطايانا، ثمّ إنّه "من بعد أن أُقيم من بين الأموات لا يموت أيضا لا يسود عليه الموت من بعد"*. ونحن بعد قيامة الأموات "نكون مع الرّبّ دائما"* الّذي ندعوه اليوم متمثّلين بقول المزمور: "أنت يا ربُّ تحفظنا وتحمينا من هذا الجيل إلى الأبد"، بينما تصدق الآية التّالية في اعتقادي على متّبعي تلك الضّلالات: "إنّ المنافقين يطوَّفون"*، لا لأنّ حياتهم ستدور وتدور في الحلقات الّتي يتوهّمون، بل ببساطة لأنّ طريقهم درب الخطإ والضّلال البعيد.

 

12-15 في الطّابع الفاني للجنس البشريّ الّذي لم يقرّره الله بقرار حادث ولا إرادة متغيّرة

   لكن ما العجب في ألاّ يجد الهائمون في أوهام هذه الدّورات مولجا ولا مخرجا؟ وهم لا يعرفون من أيّ أصل بدأ ولا إلى أيّة غاية ينتهي النّوع الإنسانيّ ووضعه الفاني، ولا يستطيعون إدراك عظمة# الله جلّ جلاله، هو الأزليّ الّذي لا بداية له وخلق مع ذلك في الزّمان، وعند بداية ما الزّمان والإنسان الّذي لم يُنشئه قبل ذلك، لا بقرار مستجدّ ومفاجئ بل بتدبير قديم وثابت منذ الأزل. من بمقدوره سبر تلك الحكمة الأسمى من أ، تُدرك والأخفى من أن تولج، والّتي بمقتضاها خلق الله الإنسان كائنا زمانيّا في زمان لم يوجد الإنسان قبله أبدا، وبمشيئة غير متغيّرة وأنمى وكاثر انطلاقا من ذلك الفرد النّوع الإنسانيّ؟ فلقد قال صاحب المزمور المذكور أوّلا: "أنت يا ربّ تحفظنا وتحمينا من هذا الجيل وإلى الأبد"، ثمّ على الفور تابع مفنّدا من لا يقرّ مذهبهم المليء سخفا وضلالا أيّ خلاص نهائيّ وأيّة سعادة أبديّة للنّفس: "إنّ المنافقين يطوَّفون"، كأنّما قيل له: "ماذا تعتقد وترى وتفهم إذن؟ أيجب حقّا أن نتصوّر أنّ الله شاء فجأة خلق الإنسان الّذي لم يخلقه في أيّ آن سابق من الأزل اللاّمتناهي، هو الّذي لا يطرأ عليه حادث وليس فيه محلّ للتّحوّل؟" يجيب على الفور متوجّها إلى الله: "( بمقتضى حكمتك عميقة الغور كثّرت بني البشر)"*. يقول: ليظنّ النّاس ما يظنّون وليتصوّروا ما يشاؤون ويختصموا كما يريدون، "بمقتضى حكمتك عميقة الغور" الّتي لا يستطيع أيّ من البشر إدراكها، "كثّرت بني البشر". فإنّه لسرّ جليل أن يكون قد وُجد دوما وشاء أن يتمّ في زمان محدّد خلق الإنسان الّذي لم يخلقه في أيّ آن سابق بدون أيّ تحوّل في عزمه ومشيئته.

 

<<