القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الرّابع عشر- تابع 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

14-19 في أنّ جزءي النّفس الغضبيّ والشّهوانيّ اللّذين تغلب على نزوعاتهما الرّذيلة ممّا يحتّم كبحهما بضوابط الحكمة لم يكونا كذلك في حالة الطّبيعة السّليمة قبل الخطيئة

   من هنا نجد من اقتربوا من الحقيقة أكثر من غيرهم بين الفلاسفة أقرّوا بأنّ جزءي النّفس الغضبيّ والشّهوانيّ فاسدان لأنّهما يجنحان بهوج وفوضى إلى ما تمنع الحكمة فعله، ولذلك يحتاجان إلى العقل لكبح تفلّتهما*. يقولون إنّ هذا الجزء الثّالث الّذي جُعل في القمّة ليسيّرهما فيمكن برئاسته وبمطاوعتهما الحفاظ على العدالة في الإنسان بتظافر كلّ قوى النّفس. وإذن فهذان الجزءان اللّذان يقرّون بفسادهما حتّى في الإنسان الحكيم والعدل، ممّا يدعو العقل إلى إخضاعهما وكبحهما لصرفهما ومنعهما عمّا يسعيان إليه بغيا وعتوّا والسّماح لهما بما يبيح شرع الحكمة: توجيه الغضب إلى ممارسة العقاب العادل والشّهوة إلى وظيفة التّناسل، لم يكونا في الجنّة قبل الخطيئة فاسدين. فما كانا إذّاك يسعيان إلى ما يعنّ لهما خلافا للإرادة المستقيمة ليكون من اللاّزم صرفهما عنه بلجام العقل وسلطته. فإنّ سعيهما حاضرا إلى ذلك، ممّا يفرض على من يعيشون بتعفّف واستقامة وتقوى كبحهما تارة بيسر وتارة بعسر لكن في كلّ الأحوال بالجهاد والجلاد، ليس تصرّفا سليما مأتاه الطّبيعة بل هو سقم مأتاه الخطيئة. لكن هل لإحجام الحياء عن ستر تصرّفات الغضب والانفعالات الأخرى أقوالا وأفعالا كما يفعل مع أعراض الشّهوة الّتي تحصل في الأعضاء التّناسليّة من سبب سوى أنّ الانفعالات الأخرى لا تحرّك هي ذاتها أعضاء الجسد وإنّما تحرّكها الإرادة لمّا تقبلها، فهي تتحكّم بصفة مطلقة في استخدامها*؟ إذ ما أمكن لمن يزعق أو يضرب تحت تأثير الغضب أن يفعل ذلك لو لم تحرّك أوامر إرادته بذلك النّحو لسانه ويده اللّذين تحرّكهما حتّى في غياب الغضب نفس الإرادة. أمّا الأعضاء التّناسليّة فتمارس الشّهوة عليها سلطانها إلى درجة أنّها لا تستطيع التّحرّك في غيابها وما لم تنبعث سواء بتلقاء ذاتها أو بمؤثّر خارجيّ. ذاك ما يُخجل فيها، ذاك ما يتجنّب استحياء عيون المشاهدين، ولذلك يقبل الإنسان أكثر أن يكون بمرأى جمع من المشاهدين لمّا يغضب على إنسان وهو على خطإ من أن يراه شخص واحد في جماع مشروع مع حليلته.

 

14-20 في لاأخلاقيّة الكلبيّين التّافهة

   ذاك ما لم ير أولئك الفلاسفة المتشبّهون في عيشهم بالكلاب الّذين يُدعون الكلبيّين* في استخفافهم بالحياء الإنسانيّ. وهل تعاليمهم الشّنيعة والرّقيعة فعلا سوى عواء كلاب؟ فلأنّ جماع الزّوجة أمر مشروع زعموا ألاّ حياء في فعله علانية، ولا مانع لمضاجعة المرء امرأته في الشّارع أو السّاحة العامّة. لكنّ الحياء الفطريّ غلب هذا الرّأي السّقيم. فحتّى إن كان ديوجين، حسب ما يروى عنه، نفّذ ذلك يوما بدافع حبّ البروز، ظنّا أنّ مذهبه سيكتسب مزيدا من الصّيت إن ارتسمت في ذاكرة الأجيال صورة أبرز لقحته، إلاّ أنّ الكلبيّين توقّفوا بعده عن فعل ذلك، وغلب الحياء الّذي يبعث في البشر الخجل من البشر الضّلال الّذي يدفع البشر إلى حبّ الظّهور بمظهر الكلاب. لذلك أرجّح أنّه هو ومن يروى أنّهم فعلوا ذلك مثله مثّلوا مشهد مضاجعة أمام عيون أناس يجهلون ما كان يتمّ خلف الرّداء، وما أمكن أن يمارسوا حقّا تلك الشّهوة تحت أنظار النّاس المحدّقة في ذلك المنكر. هكذا لم يكن أولئك الفلاسفة يستحون من مواقعة أزواجهم على مرأى من النّاس في أماكن تستحي فيها الشّهوة نفسها من الظّهور#.

   وحتّى اليوم نرى أنّه ما زال يوجد فلاسفة كلبيّون، أولئك الّذين لا يلتفعون بالرّداء فقط بل يحملون كذلك الهراوة*، لكنّ لا أحد منهم يجرؤ على فعل ذلك، إذ لو جرؤ بعضهم لوقعوان لا أقول تحت وابل من أحجار الرّاجمين بل على الأقلّ تحت سيل من بصاق المحتقرين. لا شكّ إذن أنّ الطّبيعة الإنسانيّة تستحي بهذه الشّهوة وحقّ لها أن تستحي، ففي تمرّدها الّذي يُخضع لحركاتها فقط أعضاء الجسم التّناسليّة ويسحبها من سلطة الإرادة يظهر بوضوح كاف أيّ جزاء نال الإنسان على معصيته الأولى. فقد كان حسنا أن يظهر ذلك العقاب بصفة خاصّة في ذلك الجزء الّذي تولد به تلك الطّبيعة الّتي أفسدتها الخطيئة الأولى والكبيرة الّتي لا يفكّ قيدها أحد ما لم تعف نعمة الله في كلّ واحد عمّا اجتُرح لمضرّة الجميع لمّا كان الجميع في واحد وتلقّى عقابه من العدالة الإلهيّة*.

 

14-21 في المباركة الّتي مُنحت للإنسان قبل الخطيئة بالنّموّ والتّكاثر والّتي لم تُلغَ بالمعصية وقُرن بها سقم الشّهوة

   حاشا إذن أن نظنّ ذينك الزّوجين اللّذين أقامهما الله في الجنّة كانا سينفّذان بتلك الشّهوة الّتي دفعهما الحياء إلى ستر أعضائها ما قال الله لمّا باركهما: "انموا واكثروا واملأوا الأرض"*، فبعد الخطيئة وُلدت تلك الشّهوة. بعد الخطيئة فقدت الطّبيعة السّلطان الّذي كان يطوّع لها الجسد بكلّ جزء فيه دون أن تفقد الحياء، فأحسّت بها وانتبهت لها فخجلت واستترت*. لكنّ مباركة الزّوجين بأن يثمر زواجهما نسلا ينمو ويكثر ويملأ الأرض، وإن بقيت بعد معصيتهما، مُنحت لهما قبل معصيتهما، ليُعلم أنّ إنجاب البنين نعمة لمجد الزّواج لا صلة لها بعقاب الخطيئة.

   لكنّ من النّاس اليوم من يدفعهم الجهل بأنّهما أوتيا تلك النّعمة في الجنّة إلى الظّنّ أنّه ما كان ممكنا إنجاب البنين بدون ما علموا بالتّجربة، أعني بدون الشّهوة الّتي نرى حتّى الأزواج يستحون بها وتمنعهم الحشمة من إظهارها. فالبعض لا يقبلون كتاب الله حيث نقرأ أنّهما بعد الخطيئة خجلا من عريهما وسترا سوءاتهما، ويسخرون منه في كفرهم*. لكنّ آخرين يقبلونه ويجلّونه، ويزعمون مع ذلك أنّ القول: "انموا واكثروا" لا يعني التّكاثر بحسب الجسد، لأنّهم يقرؤون فيه قولا شبيها يؤوّلونه كذلك بحسب النّفس: "( ستنمّيني في نفسي في القوّة)"*. فيؤوّلون ما يتلو ذلك في سفر التّكوين: "واملأوا الأرض وأخضعوها" على أنّ الأرض هي الجسد الّذي تملأه النّفس بحلولها فيه وتُخضعه بالنّحو الأمثل لمّا تنمو في الفضيلة. أمّا النّسل الجسديّ فما كان يمكن، بدون الشّهوة الّتي وُلدت ولوحظت فخجلت وسُترت*، أن يولد إذّاك، كما لا يمكن اليوم*، وما كان يمكن حدوث ذلك في الجنّة مستقبلا وإنّما فقط خارجها كما حدث فعلا. فبعد طردهما من الجنّة فقط تجامعا لإنجاب البنين وأنجبا.

 

14-22 في اتّحاد الزّوجين الّذي وضعه الله وباركه منذ البدء

   أمّا نحن فلا نشكّ مطلقا في أنّ النّموّ والكثرة ومَلء الأرض كما جاء في مباركة الله عطيّة كرّم الله بها الزّواج الّذي أنشأه منذ البدء قبل خطيئة الإنسان، بخلق الذّكر والأنثى، وجنس كليهما ظاهر جليّ على جسده. فقد تبعت تلك المباركة تحديدا هذا العمل الإلهيّ. إذ لمّا قال الكتاب المقدّس: "ذكرا وأنثى خلقهم"، أضاف فورا: "وباركهم الله وقال لهم انموا اكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها"* إلى آخر الفقرة. ومع أنّه يمكن تأويل ذلك ولا بأس من فهمه بمعنى روحيّ أيضا، إلاّ أنّه لا يمكن بنفس النّحو فهم الذّكر والأنثى في إنسان واحد على أساس أنّ أحدهما الجزء الحاكم والآخر المحكوم، لكن كما يظهر بكلّ وضوح خلقا بجسدين لهما جنسان مختلفان، ذكر وأنثى، لينجبا نسلا ينمو ويكثر ويملأ الأرض، من الخطإ الشّنيع إنكار ذلك. إذ لا يتعلّق الأمر هنا بالرّوح الّذي يأمر والجسد الّذي يطيع، أو بالنّفس العاقلة الّتي تحكم والشّهوة اللاّعقلانيّة الّتي تخضع، أو بالقوّة النّظريّة الّتي تقود والقوّة العمليّة الّتي تمتثل، أو بالإدراك العقليّ والحسّ الجسديّ، بل وبوضوح بالوشيجة الزّوجيّة الّتي تربط بين الجنسين، وبخصوصها سألوا الرّبّ هل يحلّ للإنسان أن يطلّق زوجته لأجل كلّ علّة بما أنّ موسى أوصى، لأجل قساوة قلوب بني إسرائيل، بأن تُعطى كتاب طلاق، فأجابهم قائلا: "أما قرأتم أنّ الّذي خلق الإنسان في البدء ذكرا وأنثى خلقهم وقال: لذلك يترك الرّجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا. فليسا هما اثنين بعد ولكنّهما جسد واحد، وما جمعه الله فلا يفرّقْه الإنسان"*. من المحقّق إذن أنّ الذّكر والأنثى أُنشئا منذ البدء، كما نرى الآن ونعلم أنّ البشر ينقسمون إلى جنسين، لكن نقول أيضا إنّهما واحد بسبب اقترانهما أو بسبب أصل المرأة الّتي خُلقت من جنب الرّجل. فإنّ الرّسول أيضا ينطلق من هذا المثال الأوّل باعتباره سابقة جعلها الله لإرشادنا، ليعظ الجميع، موصيا الرّجال بحبّ نسائهم*.

 

14-23 هل كان سيتمّ الإنجاب في الجنّة لو لم يخطأ الإنسان، وهل كانت العفّة ستتصارع مع لهيب الشّهوة

   أمّا من يزعم أنّهما ما كانا سيعرفان الجماع ولا الولادة لولا الخطيئة، فهل يعني قوله سوى أنّ اكتمال عدد الصّدّيقين هو الّذي حتّم خطيئة الإنسان؟ فلو لم يخطآ لبقيا لوحدهما، إذ ما كان يمكن حسب رأيهم لو لم يخطآ أن ينجبا، ولا شكّ إذن أنّ وجود كثرة من الأبرار، لا اثنين فقط، اقتضى خطيئتهما. ولما في هذا التّصوّر من خطل، يجب الاعتقاد بالأحرى أنّ عدد الصّدّيقين اللاّزم لمَلء المدينة السّعيدة كان سيصل، حتّى لو لم يخطأ أحد، إلى المقدار الّذي تجمعه نعمة الله من بين الخطأة الآن وما ظلّ أبناء هذا الدّهر يلدون ويولدون.

   لذلك كانت تلك الزّيجة الجديرة بسعادة الجنّة ستلد، لو لم تقع الخطيئة، نسلا أهلا للمحبّة وستخلو من الشّهوة المعيبة. أمّا كيف كان سيمّ ذلك، فلا يوجد الآن مثال يبيّنه. مع ذلك لا يجب أن يبدو أمرا يصعب تصديقه أنّ هذا العضو الفرد كان يمكن أن يخضع بدون تلك الشّهوة للإرادة، فإنّ أعضاء عديدة تخضع الآن لها. ألا نحرّك أيدينا وأرجلنا باتّجاه ما نقصد بلوغه بهذه الأعضاء بدون أيّة مقاومة وبسهولة نرى منها عندنا مثل الّذي نرى عند غيرنا، وبالأخصّ عند الصّنّاع في شتّى الحرف حيث تتيح الصّنعة اكتساب مهارة أكبر تساعد الطّبيعة الّتي هي بدونها أقلّ خفّة وفراهة في عملها*؟ ولا نظنّ مع ذلك أنّ أداء وظيفة الإنجاب، لو لم توجد الشّهوة الّتي هي جزاء خطيئة المعصية، كان يمكن أن يتمّ بامتثال تلك الأعضاء للبشر بأمر من الإرادة كما هو الشّأن في بقيّة الأعضاء؟ ألم يقل شيشرون في "جمهوريّته" عند تحليل الفرق بين أنواع الدّول مستعيرا صورة لذلك من طبيعة الإنسان: إنّ الإنسان يوجّه الأوامر لأعضاء جسده كما لأبنائه بسبب مسارعتها إلى الطّاعة*، لكنّ أجزاء النّفس الفاسدةَ تُقسر قسرا بقبضة أشدّ مثل العبيد؟

   في النّظام الطّبيعيّ لا شكّ أنّ النّفس تفضل الجسد، ومع ذلك يسهل على النّفس التّحكّم في الجسد أكثر من التّحكّم في ذاتها. لكنّ هذه الشّهوة الّتي نتحدّث عنها الآن تثير فيها الحياء سيما والنّفس هنا لا تتحكّم في ذاتها بنجاعة تلغي فيها الشّهوة كلّيّا، ولا في الجسد بحيث تخضع حركة أعضائه التّناسليّة للإرادة بدلا من الشّهوة، فلو كان الأمر كذلك لما استُحي بها. لكنّ النّفس الآن تخجل بمقاومة الجسد لها، بينما تُعدّه طبيعته الأدنى للخضوع لها. ففي الانفعالات الأخرى، لمّا تقاوم ذاتها تخجل أقلّ لأنّها لمّا تغلبها ذاتُها تكون في نفس الوقت غالبة ذاتها. وحتّى إن كان اختلالا وانحرافا أن تغلبها أجزاؤها الّتي يُفترض أن تخضع للعقل، مع ذلك غالبها جزء منها ومن ثمّة، كما قيل، غلبتها ذاتها. لأنّ غلبة النّفس لذاتها بالنّحو السّويّ حيث تُخضع للفكر والعقل نزوعاتها اللاّعقلانيّة، على أن تكون هي خاضعة لله، محمدة وفضيلة. مع ذلك يُخجلها عدم امتثالها لذاتها بفعل أجزائها المنحرفة أقلّ من عدم مطاوعة الجسد لإرادتها وأوامرها لأنّه مغاير لها وأدنى منها منزلة ولا يحيا بطبيعته بدونها. لكن لمّا تمسك سلطة الإرادة الأعضاء الأخرى الّتي لا تستطيع بدونها الأعضاء الّتي أثارتها الشّهوة قسر الإرادة إشباع رغبتها، فالعفّة مصونة دون أن تغيب- لكن دون رضى* الإرادة، لذّة الخطيئة. هذا التّجابه، هذا العراك، هذا الصّراع بين الإرادة والشّهوة، أو على الأقلّ احتجاج الإرادة رغم خورها على جموح الشّهوة، ما كان قطعا سيقترن بالزّواج في الجنّة لو لم تُجزَ خطيئة التّمرّد بالتّمرّد عقابا، بل لخضعت تلك الأعضاء كغيرها- وبالتّالي كلّ الجوارح- للإرادة. هكذا كانت ستزرع الحقل التّناسليّ الأداة المخلوقة لهذا الغرض مثلما تزرع اليد الأرض حاليّا*. وبهذا النّحو ما كان سيوجد أيّ داع للحياء الّذي يقاوم رغبتنا في تحليل هذا الموضوع بمزيد من التّوسّع ويدفعنا إلى أن نستميح الآذان الحييّة عذرا مسبقا مراعاة للأدب، بل لتحدّثنا بكامل الحرّيّة ودون خشية الفحش في كلامنا عمّا يتعلّق بهذه الأعضاء في ما يتعلّق بموضوعنا، ولما كانت حتّى الكلمات الّتي تدعى فاحشة ستبدو كذلك، بل سيكون كلّ ما يقال عنها لائقا، تماما مثل الكلام عن أعضاء الجسد الأخرى. فليُلْق إذن من ينظر في ما أكتب هنا بلؤم بلومه على نفسه لا على الطّبيعة، ولينْع أعماله الّتي دعاه إليها انحرافه لا كلماتنا الّتي أملتها علينا الضّرورة. ولا إخال القارئ أو السّامع الحييّ التّقيّ إلاّ سيغفرها لي بسهولة ما دمت أفنّد الكفر مستدلاّ لا بظنّيّات بل بحقائق يقينيّة تؤيّدها التّجربة. سيقرأ ما أكتب دون أن يخدش حياءه من لا يستشنع تقريع الرّسول للمخازي الشّنيعة للإناث اللاّئي "غيّرن الاستعمال الطّبيعيّ بالّذي على خلاف الطّبيعة"*، خاصّة ونحن هنا لا نذكر ونقرّع مثله فاحشة مرذولة، بل نحاول قدر المستطاع تفسير أمور تتعلّق بالتّكاثر البشريّ، متجنّبين مع ذلك مثله فاحش الكلمات.

 

14-24 لو حافظ البشر على البراءة وبقوا في الجنّة جزاء طاعتهم لكانوا سيستخدمون أعضاءهم التّناسليّة للإنجاب استجابة لأوامر الإرادة شأن الأعضاء الأخرى

   كان الرّجل إذن سيبذر، والمرأة ستتلقّى في أعضائها التّناسليّة بذره كلّما دعت الحاجة وقدر ما تدعو*، وبتحريك الإرادة لا بإثارة الشّهوة. فنحن لا نحرّك بإرادتنا الأعضاء المشتملة على عظام كالأيدي والأرجل والأصابع فقط، بل كذلك الرّخوة المركّبة من عضلات وأوتار، فإنّا متى شئنا نحرّكها هزّا ونقدّمها مدّا ونثنيها ليّا ونصلّبها قبضا كما هو الشّأن في عضلات الفم والوجه الّتب تحرّكها إرادتنا قدر المستطاع. أخيرا هناك الرّئتان اللّتان هما أكثر رخاوة من سائر الأحشاء باستثناء النّخاع، وهما لذلك محصّنتان داخل تجويف الصّدر، وهما في أداء وظيفتهما، سحب النّفَس وإرجاعه وإصدار الصّوت أو تغييره كزقّ الحدّاد أو منفاخ الأرغن، تخضعان لإرادة صاحبهما لمّا ينفخ أو يتنفّس أو يتكلّم أو يصيح أو يغنّي. وأُغفل هنا قدرة بعض الحيوانات على تحريك الجلد الّذي يكسو كامل جسمها في الموضع الّذي تحسّ فيه شيئا تريد إبعاده، فتتخلّص بتحريكه لا من الذّباب الحاطّ عليه فقط بل كذلك من السّهام المنغرزة فيه. أفلأنّ الإنسان لم يؤتَ مثل تلك القدرة لم يمنحها الخالق لما شاء من الحيوانات؟ بنفس النّحو إذن أمكن أن يؤتى الإنسان طاعة أعضائه الدّنيا الّتي فقدها بمعصيته. فما كان على الله بعسير أن يخلقه بحيث لا يتحرّك في جسده بغير الإرادة ما لا يتحرّك الآن فيه بغير الشّهوة.

   نعلم فعلا أنّ لبعض النّاس طبائع مختلفة كثيرا عمّا عند غيرهم وتثير لندرتها الإعجاب، فهم يفعلون بأجسامهم حسب مشيئتهم ما لا يستطيع غيرهم ولا يكاد يصدّقه عند سماعه. هناك مثلا من يحرّكون آذانهم، إمّا واحدة دون الأخرى وإمّا كلتيهما معا. وهناك من يُلقون بقُصصهم بكاملها على جباههم ثمّ يردّونها حسب مشيئتهم ودون تحريك رؤوسهم. وهناك من يبتلعون أشياء شتّى بنحو يصعب تصديقه، ثمّ بضغط يسير على البطن يُخرجون منه- كما من كيس- ما يشاؤون منها. والبعض يقلّدون أصوات الطّيور والحيوانات وغيرهم من النّاس بنحو يتعذّر معه التّمييز بين الأصل والحاكي بدون رؤيتهم. والبعض يصدرون من أحشائهم وبدون قذارة أصواتا عديدة حسب مشيئتهم، فيبدون بذلك كأنّهم يغنّون. وقد رأيت شخصيّا رجلا تعوّد على التّعرّق متى شاء، ومن المعروف كذلك أنّ البعض يبكون متى شاؤوا فيسكبون الدّمع مدرارا. وإليكم واقعة يصعب تصديقها أكثر ممّا سبق شاهدها كثير من الإخوة في عهد قريب. فقد كان هناك قسّ يدعى رستيتوتوس* في أبرشيّة من أسقفيّة قلمة* إذا شاء- وكذلك بطلب من يرغبون في مشاهدة تلك الكرامة- كان لدى محاكاة أنين إنسانٍ يغيب عن الوعي ويثوي هامدا كالميّت فلا يحسّ القرص ولا حتّى الوخز، بل تقرَّب منه نار فيُكوى دون الشّعور بألم إلاّ من الحرقة بعدما يستفيق. وممّا يُثبت أنّ عدم تأثّر جسده لم يكن ناتجا عن جهد بل عن انعدام الحسّ فيه أنّه كان في تلك الغيبوبة الشّبيهة بالموت يكفّ عن التّنفّس. لكن كان يذكر بعدما يستفيق أنّه يسمع أصوات النّاس إذا تكلّموا بوضوح كما لو كانت آتية من بعيد.

   إذا كان الجسد إذن حتّى الآن في أناس ما زالوا يقضون في الجسد الفاني هذه الحياة البائسة يطاوع بنحو عجيب، في كثير من الحركات والتّأثّرات، خارج حدود الطّبيعة المألوفة، فماذا يمنعنا من التّصديق بإمكان مطاوعة أعضاء الإنسان المعدّة للتّناسل لإرادة الإنسان قبل خطيئة المعصية وعقوبة فساد الجسد؟ فقد تُرك الإنسان لذاته لأنّه تخلّى عن الله في عُجبه بذاته، وبرفضه طاعة الله لم يعد ممكنا أن يطيع ذاته. من هنا بؤس بيّن: أنّه لا يعيش كما يريد. فلو كان يعيش كما يريد لتصوّر أنّه سعيد، ومع ذلك لا يكون سعيدا إن عاش منغمسا في المخازي.

 

14-25 في السّعادة الحقيقيّة الّتي لا تحصل عليها الحياة الفانية

   إن فكّرنا جيّدا سنرى أنّ وحده سعيد من يعيش كما يريد، وليس سعيدا سوى المستقيم. لكن حتّى المستقيم لا يعيش كما يريد، إلاّ لمّا يبلغ حالة لا يمكن فيها قطّ أن يموت أو يضلّ أو يتأذّى، ويكون فيها على ثقة بأنّها ستستمرّ أبدا. ذاك فعلا ما تتوق إليه الطّبيعة ولن تنال كمال السّعادة وامتلاءها ما لم تنل ما تتوق إليه. لكن من من النّاس يستطيع العيش كما يريد، والحال أنّ حياته بالذّات ليست بمَلْكه؟ فهو يريد الحياة لكنّه مكره على الموت، فكيف يعيش كما يريد من لا يعيش قدر ما يريد؟ وإن كان يريد الموت، فكيف يعيش كما يريد من لا يريد أن يعيش؟ وإن كان يريد الموت لا لأنّه لا يريد الحياة بل لأنّه يرجو حياة أفضل بعد الموت، فهو إذن لا يعيش كما يريد الآن، وإنّما لمّا يبلغ بالموت ما يريد. لكن هبه يعيش الآن كما يريد لأنّه حصل من نفسه عنوة وفرض عليها ألاّ يريد ما لا يستطيع، ويريد فقط ما يستطيع، كما يقول ترنتيوس: "بما أنّ حصول ما تريد غير ممكن فعلّق إرادتك بما هو ممكن"*. أهو سعيد حقّا لأنّه يتحمّل بصبر شقاءه؟ لا ينال الحياة السّعيدة من لا يحبّها. فإن أحبّها ونالها، لا بدّ أن يحبّها باعتبارها أرقى من كلّ الأشياء الأخرى، فمن أجلها يحبّ كلّ ما يحبّ من أشياء. لكن إن أحبّها بالقدر الّذي تستحقّ- فما بسعيد من لا يحبّ الحياة السّعيدة كما تستحقّ- فلا يمكن لمن يحبّها بذلك النّحو ألاّ يريدها سرمديّة. ستكون سعيدة إذن لمّا تكون سرمديّة.

 

14-26 لا بدّ أن نتصوّر أنّ نعيم الجنّة كان يتيح لأهلها أداء وظيفة التّناسل بدون الشّهوة المخجلة

   هكذا كان الإنسان يعيش في الجنّة كما يريد طالما ظلّ يريد ما أمره الله. كان يعيش ملتذّا بالله، الكائن الحسن الّذي خلقه حسنا. كان يعيش دون أن يعوزه شيء، مع القدرة على أن يستمرّ كذلك إلى الأبد. كان يتوفّر له فيها الغذاء فلا يجوع والشّراب فلا يعطش وشجرة الحياة فلا يبلى من الهرم*. ولم يكن أيّ فساد في جسده أو من جسده يجلب أيّة متاعب لأيّة حاسّة من حواسّه. وما كان يخشى أيّ مرض داخل جسده ولا أيّ أذى من خارجه: جسده في أتمّ الصّحّة ونفسه في قمّة الهناء. وكما لم يكن يوجد في الجنّة حرّ ولا قرّ، كذلك لم يكن ينال نزيلَها من الرّغب أو الرّهب أيّ ضرّ تتأذّى منه مشيئته الصّالحة. كذلك لا ترح فيها ولا فرح زائف خاو، بل كان حبور متواصل ينبع من الله الّذي بعشقه كانت تضطرم "المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان لا رئاء فيه"*، ويسود بين الزّوجين الوفاء والألفة النّابعة من حبّ عفيف، وبين الرّوح والجسد الوفاق ورعاية الوصيّة الإلهيّة بلا مجاهدة. لم يكن الملل يولّد لدى المستريح عناء، ولا النّوم يلمّ بالإنسان كرها. في مثل تلك الدّرجة من تيسّر الأشياء وسعادة* البشر، لا نحسبنّ التّناسل غير ممكن بدون سقم الشّهوة: بل كانت الأعضاء الخاصّة به ستخضع كغيرها لأوامر الإرادة، وبدون حافز الإغراء والشّهوة ولا أيّ مساس بسلامة الجسد، وبصفاء تامّ في النّفس كان الرّجل سيودع بذرته في رحم امرأته. فما لتعذّر إثبات ذلك بالتّجربة ينبغي ألاّ نصدّقه. ما كان سيحرّك إذّاك تلك الأعضاء لهيب الشّهوة الكدر، بل ستتوفّر كلّما دعت الحاجة طاقة ذاتيّة: هكذا كان سيودع عضو الذّكورة بذره في رحم الزّوجة مع احتفاظها ببكارتها، كما يمكن اليوم أن يحدث للفتاة العذراء سيلان دم المحيض مع احتفاظها ببكارتها، فمن نفس القناة الّتي يمكن منها إخراج هذا كان يمكن قذف ذلك، وكانت الولادة ستنتج من انفتاح الرّحم ببلوغ الغاية بدون الألم والأنين*. بهذا النّحو يكون اتّحاد الجنسين ناتجا عن فعل إراديّ لا عن حافز الشّبق.

   نتحدّث ‘ن أشياء تثير الآن الحياء، ومع أنّا نتصوّر كما نستطيع ما أمكن أن تكون قبل أن تصير مثيرة للحياء، لا بدّ مع ذلك أن تصرفنا عن الخوض فيها الحشمة الّتي تمسكنا عن الإفاضة أكثر ممّا تشدّنا إليها الخطابة الّتي ما أوتيتنا منها إلاّ قليلا. لكن بما أنّ ما أقول لم يجرّبه من كان ممكنا أن يجرّبوه- بما أنّ أبوينا استحقّا جرّاء الخطيئة طردهما من الجنّة قبل أن يقترنا في عمليّة نشر نسلهما استجابة للإرادةالهادئة الرّصينة- أعجبٌ ألاّ يخطر الآن ببال الإنسان عند ذكر هذه الأمور غير تجربة الشّهوة الكدرة، دون صورة الإرادة الهادئة؟ من هنا نرى الحياء يمنع من الحديث عن ذلك وإن لم تعوز التّفكير فيه مبرّرات.

   لكنّ الله العليّ القدير خالق الأشياء الّذي هو الحسن الأسنى، معين ومكافئ كلّ مشيئة صالحة، وخاذل وراذل كلّ مشيئة سيّئة وضابط الاثنتين، لم يعدم التّدبير ليجتبي من الجنس البشريّ من أعدّ بالعدد الّذي حدّدته حكمته ليكونوا مواطني مدينته، لا لأنّهم استحقّوا ذلك جزاء- فقد حقّ العقاب على البشريّة جمعاء في جذرها الّذي اعتراه الفساد، بل خصّهم بنعمته مُظهرا للمخلَّصين، لا في أنفسهم فقط بل كذلك في من لم يفوزوا بالخلاصعظمَ فضله عليهم. كلٌّ يقرّ فعلا بأنّه انتُزع من الشّرور بإحسان غير مستحقّ بل مجّانيّ، لمّا يخلَّص من صحبة أولئك الّذين كان سيشاركهم عقابهم العادل*. لماذا لا يكون الله إذن قد خلق بشرا علم أنّهم سيخطؤون، وهو القادر على أن يُظهر فيهم وبواسطتهم ما تستحقّ جريرتهم وما تمنحهم نعمته، ولا يمكن أن يخلّ بنظام الكون الّذي هو خالقه ومرتّبه زيغ الخطأة.

 

14-27 في الخطأة من الأملاك والبشر الّذين لا يشوّش انحرافهم التّدبير الإلهيّ

   فالخطأة، أملاكا وبشرا، لا يفعلون أيّ شيء يشوّش "أعمال الرّبّ العظيمة المدبَّرة طبقا لكلّ مراده بها"*.  لأنّ من وزّع بمحكم التّدبير وعظيم الاقتدار على كلّ شيء ما آتاه، يعلم كيف يسخّر لخدمة الخير الأخيار وكذلك الأشرار. فهل ثمّة ما يمنع أن يكون الله استخدم في وجه الخير الملاك الّذي لعنه جزاء مشيئته السّيّئة الأولى وقسّاه حتّى اختفت فيه كلّ مشيئة صالحة، بالسّماح بأن يجرَّب بواسطته الإنسان الأوّل الّذي خلقه قويما، أي ذا مشيئة صالحة؟ والحال أنّه أُنشئ بحيث يغلب خيره شرّ الشّيطان إن توكّل على الله واستعانه. أمّا إن أعرض عن الله خالقه ومعينه كبْرا وعُجبا بذاته، فإذّاك تكون عليه الغلبة. فينال الخير الّذي يستحقّ بثبات إرادته على الاستقامة بعون الله، والشّرّ الّذي يستحقّ بانحراف إرادته عند زيغها عن الله. ومع أنّه ما كان بمقدوره قطعا أن يكل نفسه إلى عون الله بدون عون الله، لا ينفي ذلك قدرته على التّخلّي عن آلاء النّعمة الإلهيّة بالعُجب بذاته. فكما لا يستطيع الإنسان العيش في هذا الجسد بدون مساعدة الأغذية، لكن بوسعه الامتناع عن العيش فيه، وهو ما يفعل من ينتحرون، كذلك لم يكن يستطيع العيش بصلاح في الجنّة بدون عون الله، لكن كان بوسعه أن يعيش حياة سيّئة مستحقّا بذلك زوال النّعيم والتّعرّض للعقاب. وبما أنّ الله لم يكن يجهل سقوط الإنسان الآتي، هل كان ثمّة ما يمنع أن يسمح لمكر الشّيطان الحسود بتجريبه؟ كان يعلم يقينا أنّه سيُغلب، لكنّه يعلم يقينا أيضا أن سيكون من ذرّيّته قدّيسون يغلبون، بتأييد من نعمته، الشّيطان، فيكلَّلون بمجد أسطع. هكذا تمّ كلّ شيء، بحيث لم يعزب عن الله شيء من الأحداث الآتية، ومع علمه بالغيب لم يجبر أحدا على الخطيئة، وبيّنت لاحقا تجربة الخليقة العاقلة الملائكيّة والإنسانيّة الفرق بين الاعتداد بالذّات والاتّكال على عنايته. إذ من يجرؤ على الظّنّ أو القول بأنّه لم يكن بمقدور الله منع سقوط الملاك والإنسان؟ لكنّه فضّل ألاّ ينزع ذلك من قدرتهما ويُظهر بذلك أيّ شرّ عظيم كان بمقدور كبْرهما وأيّ خير أعظم كان بمقدور نعمته.

 

14-28 صفات المدينتين الأرضيّة والسّماويّة

   هكذا أنشأ حُبّان مدينتين: حبُّ الذّات حتّى الاستهانةِ بالله المدينةَ الأرضيّةَ، وحبُّ الله حتّى الاستهانةِ بالذّات المدينةَ السّماويّةَ. تلك بذاتها وهذه بالله تفتخر. تلك من البشر تلتمس المجد، أمّا هذه فالله الشّاهد على سريرتها مجدُها الأعظم. تلك في مجدها ترفع رأسها، وهذه تقول لإلهها: "أنت مجدي ورافع رأسي"*. على تلك، في رؤسائها وفي الأمم الخاضعة لها، يسيطر حبّ السّيطرة، وفي هذه يخدم النّاس بعضهم بعضا بروح المحبّة: أولو الأمر بالرّعاية والرّعيّة بالطّاعة. تلك تحبّ في سلاطينها قوّتها، وهذه تقول لإلهها: "أحبّك يا ربُّ يا قوّتي"*. لذلك ففي تلك التمس حكماؤها الّذين يعيشون بحسب البشريّة خيرات الجسد أو الرّوح أو كليهما، ومن أتيح لهم من بينهم أن يعرفوا الله "لم يمجّدوه ويشكروه كإله بل سفهوا في أفكارهم وأظلمت قلوبهم الغبيّة. وقد زعموا أنّهم حكماء ( أي تشامخوا بحكمتهم تحت تأثير كبريائهم) فصاروا حمقى. واستبدلوا مجد الله الّذي لا يدركه الفساد بشبه صورة إنسان ذي فساد وطيور وذوات أربع وزحّافات ( فقد قادوا أو اتّبعوا الشّعوب إلى عبادة تماثيل من هذا النّوع). واتّقوا المخلوق وعبدوه دون الخالق الّذي هو مبارك مدى الدّهور."* أمّا في هذه فلا حكمة للإنسان سوى التّقوى الّتي تعبد الله الحقّ كما ينبغي لها، وترتجي جزاءً في نديّ الأبرار- لا من البشر فقط بل كذلك من الملائكة- "ليكون الله كلاًّ في الكلّ"*.