القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الأوّل

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

الكتاب الأوّل

 

توطئة

   عن مدينة الله المجيدة، في رحلتها الدّنيويّة حيث تسير وسط الأثمة و"بإيمانها تحيا"*، أو في ثبات مستقرّها الأبديّ الّذي "بالصّبر تنتظره"* "إلى أن يعود القضاء إلى العدل"*، فتناله بفائق برّها في نصر نهائيّ وسلام تامّ، اعتزمت الدّفاع كما وعدتك يا بنيّ مركلّينوس العزيز في هذا الكتاب الّذي بدأت# تأليفه ضدّ من يؤثرون على مؤسّسها آلهتهم؛ وهو عمل عظيم وعسير ولكنّ "الله معتصم لنا"*. إذ أعلم إلى أيّة قوى جبّارة أحتاج لأثبت للمتكبّرين عظمة فضيلة التّواضع، الّّذي به تسمو فوق كلّ المعالي الدّنيويّة المتقلّبة الخاضعة لحركيّة الزّمان الرّفعة الحقيقيّة الّتي لم يختلسها الكبْر البشريّ بل منحتها النّعمة الإلهيّة. فقد كشف ملك ومؤسّس تلك المدينة الّتي اعتزمنا الحديث عنها لشعبه في الكتاب المقدّس حكم النّاموس الإلهيّ: "الله يقاوم المتكبّرين ويعطي النّعمة للمتواضعين"*. هذا الفضل الّذي هو لله، تريد النّفس المنتفخة كبرا انتحاله وتحبّ أن تُحمد به ويقال إنّها "تعفي الخاضعين وتُرضخ المتكبّرين"*. لذا يجب ألاّ نغفل مدينة الأرض الّتي لهوسها بالسّيطرة، تقع هي نفسها، وإن أخضعت الشّعوب، تحت سيطرة حبّ السّيطرة، وأن نقول ما يقتضي موضوع هذا الكتاب الّذي شرعنا# وتسمح به قدرتنا.

 

1-1 في أعداء اسم المسيح الّذين أعفاهم البرابرة عند نهب المدينة مراعاة لاسم المسيح

   من هذه المدينة فعلا يأتي الخصوم الّذين يجب الدّفاع عن مدينة الله ضدّهم. ومع أنّ كثيرين منهم، بعد إصلاح خطإ الكفر، يصيرون فيها مواطنين على درجة كبيرة من الصّلاح، إلاّ أنّ كثيرين يتميّزون حقدا عليها، ويجحدون أنعم فاديها الجليّة، حتّى أنّهم ما كانوا ليحرّكوا ألسنتهم بذمّها لو لم يجدوا عند فرارهم من سيوف الأعداء في حرمة بقاعها المقدّسة السّلامة الّتي يتباهون الآن بها. أوَلم يُعف البرابرة أولئك الرّومان شانئي اسم المسيح مراعاة لاسم المسيح تحديدا؟ تشهد بذلك مزارات الشّهداء ومشاهد الرّسل* الّتي آوت ذويها والأغراب اللاّجئين إليها بلا تمييز أثناء نكبة المدينة*. إلى أعتابها كان العدوّ ينشر الدّمار بوحشيّة، وهنا وجدت حميّا التّقتيل حدّها، إلى هنا كان يقود أعداء انقلبوا رحماء من أعفوهم كذلك خارج تلك الأماكن كيلا يقعوا في قبضة آخرين لا يتحلّون بنفس الرّحمة. كان نفس أولئك الّذين يعيثون فتكا على عادة الحرب خارجها يأتونها فيحرّمون فيها على أنفسهم ما يحلّه قانون الحرب كابحين وحشيّة القتال وكابتين رغبة الأسر. هكذا نجا كثيرون يذمّون الآن عصر المسيحيّة وينسبون للمسيح ما عانت المدينة من ويلات، لكنّهم لا ينسبون الفضل في بقائهم لمسيحنا بل لقدرهم، وأوْلى بهم، لو كانوا يعقلون، أن ينسبوا المحن القاسية والممضّة الّتي عانوا من الأعداء إلى التّدبير الإلهيّ الّذي دأب على إصلاح وعقاب مفاسد البشر بالحروب، وعجم حياة الأبرار الصّالحة والحَريّة بالثّناء بتلك المحن لينقلها إلى مقامٍ أرقى وأبقى أو يستبقيها على هذه الأرض لمهمّات أخَر. كان أحرى بهم أن ينسبوا للعصور المسيحيّة إعفاء برابرة سفّاحين لهم خلافا لأعراف الحرب مراعاة لاسم المسيح في شتّى الأماكن أو في مآو آمنة فسيحة مكرّسة لاسم المسيح اختيرت لإيواء حشود من اللاّجئين لمعاملتهم برحمة متناهية، ومن ثمّ يحمدوا الله ويهبّوا صادقي العزم فينضووا ليقوا أنفسهم عذاب النّار الأبديّة تحت اسمه- ذاك الاسم الّذي انتحله كثيرون منهم زورا ليقوا أنفسهم عذاب البليّة الحاضرة. فما كان كثيرون ممّن نراهم اليوم يسبّون بسفاهة وصفاقة خدّام المسيح لينجوا من ذلك الهلاك والرّدى المحتوم لو لم ينتحلوا صفة خدّام المسيح. واليوم ها هم في كبْر كنود وسُعر كفور يصدّون عن اسمه زائغة أفئدتهم عن الهدى لينالوا الظّلمات الأبديّة عقابا، بعدما فزعوا إليه قولا بأفواههم ورياء لينعموا بالنّور الدّنيويّ الزّائل.

 

1-2 في أنّ النّاس لم يخوضوا الحروب قطّ ليعفي الغالبون المغلوبين مراعاة لآلهتهم

   أخبار الحروب العديدة الّتي اندلعت قبل تأسيس رومية أو بعد نشأتها وبسط نفوذها مدوّنة، فليقرؤوها وليُظهروا أيّة مدينة غزاها أعداء أجانب، فأعفى الغزاة* من وقع في قبضتهم من الأهالي اللاّجئين إلى معابد آلهتهم، أو قائدا بربريّا أوعز بألاّ يُمسّ أحد بعد اقتحام المدينة إن وُجد في هذا المعبد أو ذاك. ألم ير أيناس برياموس في الهيكل "ودمه يلطّخ الموقد الّذي أشعل بيده ناره المقدّسة"*؟ أولم يمسك ديوميدس وأوديسّيوس "بعدما ذبحا حرس الحصن السّامق التّمثال المقدّس، ولم يتورّعا عن وضع أيديهما الملطّخة بالدّماء على شرائط الإلهة العذراء"*؟ لكن غير صحيح ما يلي: "منذ تلك اللّحظة انهارت واضمحلّت آمال اليونان"*، فلاحقا غلبوا، لاحقا محقوا طروادة بالحديد والنّار، لاحقا ضربوا عنق برياموس بعدما لجأ إلى المعبد، وما هلكت طروادة إذن لفقدان مينرفة. فماذا فقدت مينرفة لتهلك هي الأخرى؟ أحرسَها تُرى؟ ذاك لعمري صحيح إذ أمكن بعد قتلهم أخذها من معبدها: فما كان صنمها يحفظ البشر بل كان البشر يحفظون الصّنم. كيف كانت تُعبد إذن لتحرس الوطن والمواطنين وهي لم تستطع أن تحرس حتّى حرسها؟

 

1-3 مدى تهوّر الرّومان في ظنّهم بأنّ آلهة المدينة الّتي لم تستطع حماية طروادة ستنفعهم

   لمثل هذه الآلهة وكل الرّومان فرحين حماية مدينتهم! فأيّ خطإ يثير الرّثاء! ثمّ هم يستشنعون أن نقول عن آلهتهم هذه الحقائق، ولا يستشنعون أقوال كتّابهم الّذين بالعكس يدفعون أجرا لتعلّم ما كتبوا، ويعتبرون معلّميهم جديرين أيضا براتب حكوميّ وتشريفات رسميّة. فعند فرجيليوس الّذي يقرأه صبيانهم- بالتّحقيق كيلا يمحو النّسيان ذكراه من نفوسهم الغضّة المتشبّعة بهذا الشّاعر العظيم الأشهر والأفضل من كلّ الآخرين، وفق بيت هوراتيوس: "الزّجاجة الجديدة تحفظ العطر المسكوب فيها طويلا"*- نرى يونون في غضبها على الطّرواديّين تحرّض ضدّهم أيليوس ملك الرّياح قائلة: "أمّة عدوّة لي تمخر سفينتها البحر الترّينيّ حاملة معها إلى إيطالية إليوم وآلهتها الهزيمة"*. أفلتلك الآلهة الهزيمة كان يحرو بعقلاء أن يكلوا رومية كيلا تذوق طعم الهزيمة؟

   لكن قد يقال إنّ يونون كانت تتكلّم كامرأة غضبى لا تعي ما تقول، أفلا يقول أيناس نفسه الّذي ينعته الشّاعر مرارا بالتّقيّ: "بنثوس الأُثريسيّ نفسه، كاهن الحصن وفويبوس، يحمل في يده المقدّسات والآلهة الهزيمة ويجرّ حفيده الصّغير ويجري في هلع نحو باب المعبد"*؟ ألا يخبرنا أنّ تلك الآلهة الّتي لا يتردّد في نعتها بالهزيمة في عهدته لا العكس، لمّا يقول مخاطبا نفسه: "لك تكِل طروادة مقدّساتها وآلهتها"*؟ إذن إن كان فرجيليوس يدعو تلك الأصنام آلهة وهزيمة ويخبرنا أنّها وُكلت لبشر لتنجو بنحو ما بصفتها مغلوبة، فأيّ خبل تصوّر أنّ رومية وُكلت بحكمة إلى مثل أولئك الوكلاء، وأنّها لا يمكن أن تدمَّر ما لم تفقدهم؟ بل هل إجلال آلهة مغلوبة كنصراء وحماة سوى الاعتماد على صكوك سيّئة لا آلهة جيّدة*؟ فبدلا من تصوّر أنّ رومية ما كانت لتُمنى بهذا الدّمار لو لم تهلك قبلُ تلك الآلهة، كم أحكمُ الاعتقاد بالأحرى بأنّ تلك الآلهة كانت ستهلك حتما منذ أمد لو لم تحفظها رومية قدر إمكانها! من لا يرى إذن عند الاعتبار مدى سخف ظنّها أنّها لن تُغلب وهي في عهدة حماة مغلوبين، وأنّها هلكت لأنّها فقدت آلهتها الحارسة، بينما يكفي سببا لهلاكها إرادتها اتّخاذ أشياء آيلة إلى الهلاك حماة؟ إذن فقد كان الشّعراء وهم يكتبون عن الآلهة الهزيمة تلك الأبيات، لا شعراء يستهويهم زخرف الكذب بل أناسا صادقين تفرض عليهم الحقيقة الاعتراف بها. لكن سيتمّ البحث في هذه المسائل بعناية وإسهاب في موضع آخر أنسب، أمّا الآن فسأنهي بعجل قدر المستطاع ما كنت أعتزم قوله عن أولئك الجاحدين الّذين في كفرهم يعزون للمسيح ما يقاسون من ويلات جزاء وفاقا على فساد أخلاقهم. أمّا أنّهم نُجّوا رغم ذلك من تلك الشّدائد بفضل المسيح، فلا يتنزّلون حتّى لملاحظته، ولا ينفكّون في غيّهم المسعور، يسلقون اسمه بألسنتهم الّتي انتحلوا بها نفس ذلك الاسم لحفظ حياتهم وكفّوها خوفا في تلك البقاع المكرّسة له، لحفظ سلامتهم وكيلا ينالهم هناك من العدا مكروه، حتّى إذا خرجوا منها قذفوه بالشّتائم العدائيّة.

 

1-4       معبد يونون في طروادة لم يحْم أحدا من اليونان وكنائس الرّسل حمت من البرابرة كلّ من لجؤوا إليها

   طروادة نفسها، أمّ الشّعب الرّومانيّ، لم تستطع كما قلت بمعابد آلهتها حماية أهاليها من نار وحديد اليونان وهم يعبدون نفس الآلهة. بل إنّ "فونكس وأوديسّيوس الرّهيب كانا يحتفظان، حارسيْن مختارين، بالغنائم في معبد يونون. هناك كُدّست كنوز طروادة المنهوبة من المعابد المحترقة وهياكل الآلهة، وأقداح الذّهب المصمت والملابس المسلوبة. وحولها يقف الأطفال والأمّهات الجازعات طابورا طويلا."* هكذا اختير المكان المخصّص لتلك الإلهة العظيمة كما نرى لا لمنع اقتياد الأسرى منه بل للاستمتاع* بحشد الأسرى داخله. والآن قارن حرم أيّ واحد من جمع الأرباب أو من رعاع الآلهة، بل أخت وعقيلة يوبتر نفسه وملكة الآلهة كلّها بمزارات رسلنا. هناك كان الغزاة يحملون الأسلاب المنتزعة من الآلهة والمعابد المحترقة لا لردّها للمغلوبين بل لقسمتها بين الغالبين، أمّا هنا فحتّى ما عُثر عليه في مكان آخر وهو خاصّ بهذه المشاهد المقدّسة يُردّ إليها بإجلال وتوقير ملؤه التّقوى. هناك تُفقد وهنا تُحفظ الحرّيّة، هناك يُحبس الأسرى وهنا يُمنع الإسار، هناك يحشر المواطنين أعداءٌ غلاظ لاسترقاقهم وهنا يقتادهم أعداء رؤفاء لتحريرهم، أخيرا بينما اختار هناك معبدَ يونون جشع وكبْر اليونان المتحضّرين اختار هنا تلك الكنائس المقامة للمسيح حلم وتواضع البرابرة الّذين ما زالوا على همجيّتهم البدائيّة. قد يقال إنّ اليونان في غمار انتصارهم عفّوا عن معابد الآلهة الّتي هم أيضا من عبدتها ولم يجترئوا على قتل أو أسر الطّرواديّين البائسين اللاّجئين إليها، إنّما اختلق تلك القصص فرجيليوس على عادة الشّعراء؛ كلاّ بل لم يزد عن تصوير أساليب الأعداء العاديّة عند تدمير المدن.

 

1-5 رأي كاتون في عادة الأعداء الشّائعة تدمير المدن

   وهي أساليب لم يفت كاتون أيضا، حسب ما ذكر سالّستيوس المؤرّخ المشهور بحبّه للحقيقة، التّذكير بها في خطبته أمام مجلس الشّيوخ حول المتآمرين: خطف الصّبايا والصّبيان، انتزاع الأطفال من أحضان آبائهم، معاملة أمّهات العائلات كما يطيب للمنتصرين، نهب المعابد والبيوت، قتل الأهالي وإحراق المباني، أخيرا نشر الأسلحة وجثث القتلى والدّماء والهول في كلّ مكان. لو لم يذكر المعابد لجال ببالنا أنّ من عادة الأعداء إعفاء معابد الآلهة. بل لم تكن المعابد الرّومانيّة تخشى تلك الانتهاكات من أعداء أجانب، وإنّما من كاتلينا وشركائه، من أعضاء بارزين بمجلس الشّيوخ ومواطنين رومان. لكنّهم لا جرم فجرة وقتلة وخونة.

 

1-6 في أنّ الرّومان لم يتورّعوا في المدن الّتي غزوها عن قتل المغلوبين في معابدها

   فيم يتيه بنا الحديث إذن بعيدا بين شتّى الأمم المتحاربة الّتي لم تُعف قطّ المغلوبين في معابد آلهتهم، لننظر إلى الرّومان أنفسهم، أجل لنذكر ونعتبر الرّومان أنفسهم الّذين قيل فيهم، كأبرز مناقبهم، إنّهم "يعفون الخاضعين ويرضخون المتمرّدين"، ويؤثرون التّجاوز عن الإساءة على ردّها، لمّا غزوا مدنا كبيرة كثيرة لبسط نفوذهم واحتلّوها ودمّروها، ليقلْ لنا قرّاء أخبارهم أيّة معابد استثنوا من التّخريب لتأمين وتحرير كلّ من يلجؤون إليها. أم لعلّهم كانوا يفعلون ذلك وإنّما أغفله مؤرّخو مآثرهم؟ مهلا، كيف أمكن ترى لأولئك الّذين دأبوا على البحث بقصارى جهدهم عن مناقبهم أن يهملوا تلك الشّواهد السّاطعة على تقواهم في نظرهم. يقال إنّ مرقس مركلّوس، الّذي هو من ألمع حملة الاسم الرّومانيّ والّذي استولى على سرقوسة جوهرة المدائن، بكاها قبل تدميرها*، وأهرق دموعه قبل دمائها حسرة عليها، واعتنى كذلك بحفظ الأعراض الواجب حفظها حتّى لدى الأعداء. فقبل الإيعاز في غمار انتصاره باكتساح المدينة، حظر بمرسوم أن يُمسّ أيّ شخص حرّ. مع ذلك تعرّضت المدينة للتّدمير وفق عرف الحروب، ولا نقرأ في أيّ مصدر أنّ الحلم والسّماحة بلغا بهذا القائد حدّ النّهي عن إيذاء كلّ من يلجأ إلى هذا المعبد أو ذاك؛ وما كان ذلك ليُغفل له قطعا بينما لم يغفل له بكاؤه ولا نهيه عن هتك الأعراض. بالمثل يُمدح فابيوس، مدمّر تارنتوم، باستنكافه عن نهب تماثيل الآلهة، إذ يُروى أنّه لمّا طلب منه كاتبه أوامره بشأن تماثيل الآلهة الّتي أُخذ عدد كبير منها، تبّل بملحة حلمه السّمح: سأل كيف كانت، ولمّا أُخبر بأنّ تماثيل كثيرة كانت فضلا عن ضخامتها مسلّحة قال: "لنتركْ للتّارنتيّين آلهتهم الغضبى!"* إذن ما دام كتبة مآثر الرّومان لم يغفلوا بكاء ذاك ولا دعابة هذا، لا سماحة ذاك المتعفّفة ولا حلم هذا المتفكّه، لو أعفي بعض الأهالي احتراما لأحد آلهتهم بمنع القتل والأسر في أحد المعابد كيف لا يذكرونه؟

 

1-7 في نكبة المدينة، ما تمّ من أعمال العنف وقع وفق عادة الحرب، أمّا ما تمّ من مظاهر الرّحمة فأتى من بركة اسم المسيح

   إذن كلّ ما ارتُكب من أعمال التّخريب والتّقتيل والنّهب والإحراق والتّرويع خلال نكبة رومية الأخيرة تمّ طبقا لما جرت عليه العادة في الحروب. أمّا ما تمّ وفق أسلوب مستجدّ- حيث بدت وحشيّة البرابرة في ظاهرة غير مسبوقة على قدر عال من الرّفق بلغ حدّ تعيين كنائس فسيحة جُمع فيها الأهالي لتجنيبهم أعمال العنف، فلم يؤذَ فيها أو يُسب منها أحد، بل اقتاد إليها عديدَ المواطنين أعداء رؤفاء لإطلاق سراحهم، ولم يُحشدوا فيها ليحملهم أسرى أعداء جفاة عتاة-، فمن لا يرى أنّه يجب أن يعزى لاسم المسيح وعصر المسيحيّة أعمى، ومن يراه ولا ينوّه به جاحد، ومن يخالف من ينوّه به أرعن. حاشا أن ينسب عاقل ذلك السّلوك إلى وحشيّة البرابرة، فإنّما أرهب أولئك السّفّاحين العتاة وكبحهم وليّنهم بنحو عجيب مَن قال قديما على لسان نبيّه: "أفتقد بالعصا معصيتهم وبالضّربات إثمهم، لكنّي لا أقطع عنهم رحمتي."*

 

1-8 في أنّ السّرّاء والضّرّاء يشترك غالبا فيهما الأبرار والأشرار

   هنا لقائل أن يقول: "لماذا إذن أصابت تلك الرّحمة الرّبّانيّة كذلك الكفرة والجاحدين؟" لأيّ سبب، في اعتقادنا، سوى أنّ مانحها هو "من يُطلع شمسه على الأشرار والصّالحين ويُمطر على الأبرار والظّالمين"*. لا شكّ أنّ البعض منهم، لمّا يتفكّرون في أنعمه، يثوبون عن الكفر ويتوبون، لكنّ آخرين كما يقول الرّسول* "يحتقرون غنى لطفه واحتماله وأناته وبقساوة قلوبهم غير التّائبة يدّخرون لأنفسهم غضبا ليوم الغضب واعتلان دينونة الله العادلة، الّذي سيكافئ كلّ واحد بحسب أعماله"*. لكنّ أناة اللّه تدعو الأشرار إلى التّوبة، كما يعلّم سوطه الأخيار الصّبر، كذلك تنال رحمته الأخيار لإكرامهم، كما يصيب بأسه الأشرار لعقابهم. فقد شاءت العناية الإلهيّة أن تُعدّ ليوم آت خيرات للأبرار لن ينعم بها الأثمة، وللفجّار أنكالا سيُجنَّبها الأخيار. لكنّها شاءت أن يشترك في الخيرات والويلات الدّنيويّة كلا الفريقين، كيلا نفرط في حبّ تلك الخيرات الّتي نرى الأشرار أيضا يملكونها، ولا في تحاشي تلك الأسواء الّتي غالبا ما يتعرّض لها كذلك الأخيار. فضلا عن ذلك يهمّ كثيرا كيف نتعامل مع ما ندعوه سرّاء أو ضرّاء، فالصّالح لا تستخفّه طربا مسرّات الدّنيا، ولا تحطّمه جزعا بلاياها، بينما المسيء يتلقّى البلايا عقابا لأنّ السّرّاء تفسده. مع ذلك كثيرا ما يبدي لنا الله أيضا بجلاء في هذا التّوزيع إحكام تدبيره: فلو أنزل في هذه الحياة بكلّ خطيئة عقابا بيّنا لحسبناه لم يستبْقِ ليوم الدّينونة أيّ عقاب، وبالمقابل لو لم يعاقب بنحو صريح أيّة خطيئة في الحاضر لظننّا أن لا وجود للعناية الإلهيّة. والشّأن مماثل في نعم الدّنيا: لو لم يمنحها الله بسخاء ظاهر لبعض من يطلبونها لقلنا إنّها ليست من شأنه، وبالمقابل لو منحها لكلّ من يطلبونها لظننّا من واجبنا أن نخدمه لأجل تلك المكافآت فقط ولما جعلتنا تلك الخدمة أتقياء بل طمّاعين وجشعين بالأحرى. بل قُسمت هذه الأمور بحيث يبتلى الأخيار والأشرار على حدّ سواء، لا لأنّ  لا فرق بينهم ما دام لا يوجد فرق في ما يبتلى به كلا الفريقين. إذ يبقى هناك فرق بين المبتلين حتّى مع تشابه بلواهم، ورغم التّعرّض لنفس البأساء لا تستوي الفضيلة والرّذيلة. فكما أنّ نفس النّار تجعل الذّهب يتوهّج والتّبن يدخّن، ونفس ضربة المدقّة تسحق القشّ وتنقّي القمح، وكما لا يمتزج الثّفل بالزّيت وإن عُصر بنفس المكبس، كذلك تقع نفس البليّة على الصّالحين فتزكّيهم وتنقّيهم وتستصفيهم وعلى الأشرار فتدينهم وتدمّرهم وتمحقهم. لذلك نرى في نفس المحنة الأشرار يلعنون الله ويجدّفون عليه والأخيار يدعونه ويسبّحونه. ما يفرّق بين الفريقين بشأو ليس نوع البلايا بل كيفيّة تحمّلها: كما تخضخض نفس الحركة الحمأة فتنشر نتنا كريها، والبخور فيتضوّع طيبا ذكيّا*.

 

1-9 في أسباب المفاسد الّتي ينزل الله جرّاءها على الأخيار والأشرار نفس النّقمات

   هل تعرّض المسيحيّون إذن في هذا الدّمار إلى سوء لم يسمح لهم- إن اعتبروا تلك الوقائع بإيمان صادق- بالتّقدّم على طريق الخلاص؟ أوّلا بتفكيرهم بدخور في تلك الآثام الّتي استوجبت نقمة الله فملأ العالم بتلك الكُرب العظام، فمهما بعدوا عن الأثمة الكفرة الفجرة لا يبلغ بعدهم عنهم قدرا يخوّلهم التّفكير بأنّهم برءاء من الآثام فيخطر ببالهم أنّهم لا يستحقّون معاناة آلام في هذا العالم بسببها. فبغضّ النّظر عن كون أيّ بشر مهما بدت حياته جديرة بفائق الثّناء معرّضا للوقوع أحيانا في شراك شهوات الجسد، وحتّى إن لم يصل الأمر حدّ السّقوط في هاوية الكبائر وبؤرة المخازي وشناعة الكفر، قد يقع، نادرا لا محالة، في الخطايا، أو أكثر كلّما كانت أصغر، بغضّ النّظر عن ذلك مَن سنجد في نهاية الأمر أنّه يتعامل ويتعايش مع أولئك الخطأة الّذين بسبب كبرهم المقيت وفجورهم وجشعهم وآثامهم المنكرة يمحق الله الأرض حسبما أنذر العباد كما يجب التّعامل والعيش مع أمثالهم؟ الحقّ أنّا غالبا ما نتقاعس مخطئين عن وعظهم وإرشادهم بل وحتّى تقريعهم وتقويمهم أحيانا، إمّا نفورا من ذلك العمل وإمّا اتّقاء إغاظتهم وإمّا اجتناب عداوتهم مخافة أن يعرقلونا أو يؤذونا في شؤون دنيانا سواء ما يبتغي جشعنا نيله فوق كلّ ما لدينا أو ما يخشى جزعنا فقدانه. هكذا حتّى إن سيء الصّالحون بنهج عيش الأشرار وتحاشوا استحقاق ما أُعدّ لهم في الآخرة من عذاب الهون، يستحقّون مع ذلك، لتغاضيهم عن خطايا الآخرين الجديرة بالإدانة مخافة أذايا بسيطة وهيّنة قد تنالهم منهم، أن يمسّهم معهم عذاب الحياة الدّنيا وإن أُعفوا من عذاب الحياة الأبديّة. أجل يستحقّون فعلا أن ينزل الله عليهم عذابه معهم فيذوقوا مرارة تلك الحياة الّتي كرهوا حبّاً لحلاوتها أن يُمرّوا للخطأة في الخطاب*. أمّا من يمتنع عن تقريع وتقويم المسيئين لأنّه يتحيّن فرصة أنسب، أو يخشى أن يصيروا بسبب وعظه أسوأ أو يمنعوا آخرين ضعفاء من رياضة أنفسهم على حياة البرّ والتّقوى ويضغطوا عليهم ويصدّوهم عن الإيمان، فلا يبدو موقفه من إملاء حبّ الشّهوات بل من وحي المحبّة في الله. فإنّما يخطَأ من يعيشون بأسلوب مختلف ويستنكفون عن سيّء الأعمال إذ يتغاضون عن خطايا الآخرين الّتي واجبهم إصلاحها أو إدانتها، متجنّبين إغاظتهم مخافة أن يؤذيهم الخطأة في متاع الدّنيا الّذي يستمتع به الصّالحون بوجه طيّب وحلال، لكن بشغف يتجاوز الحدّ الّذي يناسب مسافرين متغرّبين في هذا العالم يحملون عاليَهم رجاء الالتحاق بالوطن العلويّ. وليس أولئك الضّعاف الّذين يعيشون في ظلّ الزّوجيّة ولهم أو يحبّون أن يكون لهم أبناء ويملكون بيوتا وعبيدا- أولئك الّذين يخاطبهم الرّسول في الكنائس لتنبيههم وإرشادهم إلى الأسلوب الّذي ينبغي أن تعيش به الزّوجات مع أزواجهنّ والأزواج مع زوجاتهم، والأبناء مع آبائهم والآباء مع أبنائهم، والعبيد مع أسيادهم والأسياد مع عبيدهم- هم وحدهم يحبّون اقتناء الكثير من متاع الدّنيا ويأسفون لفقدانه ويوجلون بسببه من إغاظة من تسوؤهم حياتهم الملأى بالقبائح والآثام. بل حتّى أولئك الّذين بلغوا في الحياة درجة عليا من الصّلاح ولا تكبّلهم قيود الزّوجيّة ويكتفون بالكفاف من القوت والكساء، إذ كثيرا ما يمنعهم الخوف على سمعتهم وسلامتهم من مكائد وهجمات الأشرار- حتّى إن لم يبلغ بهم درجة إتيان أفعال مماثلة رضوخا لتهديداتهم وأساليبهم الذّميمة- من تقريعهم على تلك الفعال الّتي لا يرتكبونها هم أنفسهم بينما يمكنهم أن يصلحوا بالتّقريع* بعضا منها، وذلك كيلا يعرّضوا سلامتهم وسمعتهم، إن لم يتمكّنوا من إصلاحهم، للمخاطر والمهالك، لا باعتبار أنّ مصلحة تعليم النّاس تقتضي سلامتهم وحسن سمعتهم، بل انقيادا وراء ضعفهم الّذي يهمّه إطراء الألسن وحكم النّاس ويخشى إدانة الشّعب وتعذيب أو إماتة أجسادهم أي إذعانا لقيود حبّ الدّنيا لا استجابة لواجب المحبّة.

   لذلك يبدو لي هذا مبرّرا كافيا ليعذَّب الصّالحون أيضا مع المسيئين لمّا يشاء الله أن يسلّط عذاب الدّنيا أيضا عقابا لفساد الأخلاق. هكذا إذن يعذََّبون معا لا لأنّهم يعيشون معا بسوء بل لأنّهم يحبّون معا، لا بنفس الدّرجة لا محالة لكن بنفس نوع الحبّ، هذه الحياة الدّنيا الّتي يحرو بالأخيار ازدراؤها لحمل الآخرين بالتّقريع والتّقويم على أن يسعوا للآخرة سعيها. فإن رفضوا الانضمام إليهم في السّعي لها فليحتملوهم أعداء وليحبّوهم، فما داموا على قيد الحياة يظلّ احتمال تغيّر إرادتهم باتّجاه الصّلاح واردا. في هذا المضمار يتحمّل وزرا لا أقول مساويا بل أشدّ بكثير أولئك الّذين قيل عنهم على لسان النّبيّ: "تلك النّفس تكون قد أُخذت في إثمها لكنّي من يد الرّقيب أطلب دمها"* فقد أقيم الرّقباء، أي الوكلاء على الشّعب، في الكنائس لشجب الخطايا دون تساهل مع أحد. كذلك يأتي غيرهم الّذي لم يوكَّل بتلك المهمّة ذنبا، وإن لم يكن بنفس الحجم، لمّا يرى في من جمعته بهم ضرورات هذه الحياة كثيرا من المذامّ يجب اللَّفت إليها وانتقادها، فيغضّ الطّرف متحاشيا إغاظتهم مراعاة لخيرات هذه الحياة الّتي لا جناح عليه في التّمتّع بها، لكنّه يبدي كلفا مفرطا بها. ويوجد سبب آخر لتصيب الصّالحين في هذه الدّنيا أدواء كالّتي مسّت أيّوب: هو اختبار الإنسان لنفسه ومعرفة مقدار حبّه لله بتقوى مجرّدة من الأغراض.

 

1-10 في أنّ الصّدّيقين لا يخسرون شيئا عند فقدان متاع الدّنيا

   بعد اعتبار هذه الأمور على الوجه الصّحيح والتّمعّن فيها، انظر إن كان يمسّ المؤمنين الأتقياء شرّ لا ينقلب خيرا لهم، إلاّ إن حسبنا لغوا باطلا قول الرّسول: "ونحن نعلم أنّ الّذين يحبّون الله كلّ شيء يعاونهم للخير."* يقال: لكنّهم فقدوا كلّ ما يملكون. والإيمان؟ والتّقوى؟ وخيرات الإنسان الدّاخليّ الّذي هو غنيّ عند الله؟ تلك هي ثروات المسيحيّين الّذين كان الرّسول العظيم الثّراء عند الله يقول: "وفي الحقيقة التّقوى المقترنة بالقناعة هي تجارة عظيمة. لأنّا لم ندخل العالم بشيء ومن الواضح أنّا لا نستطيع أن نخرج منه بشيء. فإذا كان لنا القوت والكسوة فإنّا نقتنع بهما. أمّا الّذين يرومون الغنى فيسقطون في التّجربة والفخّ وفي شهوات كثيرة سفيهة مضرّة تغرق النّاس في العطب والهلاك. لأنّ حبّ المال أصل كلّ شرّ وهو الّذي رغب فيه قوم فضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة."* إن كان إذن مَن تلفتْ في ذلك الدّمار كلّ ثرواتهم الدّنيويّة يملكونها بالنّحو الّذي سمعوا من ذلك المعلّم الفقير ظاهرا والغنيّ باطنا، أعني إن كانوا "يستعملون هذا العالم كأنّهم لا يستعملونه"* يمكنهم القول مع ذاك الّذي ابتلي بلاء عظيما فلم يُغلب: "عريانا خرجت من جوف أمّي وعريانا أعود إلى هناك. الرّبّ أعطى والرّبّ أخذ فليكن اسم الرّبّ مباركا."* كعبد صالح كان يعتبر ثروة عظيمة مشيئة ربّه، فيثري روحيّا باتّباعها بدقّة، ولا يأسف لتجريده حيّا من ذلك المتاع الّذي لن يلبث أن يتخلّى عنه بالموت. أمّا المؤمنون الأضعف الّذين وإن لم يفضّلوا تلك الخيرات الدّنيويّة على المسيح ما انفكّوا متعلّقين بها بقدر ما من الحرص، فقد أدركوا بفقدانها مدى خطيئتهم بحبّها. إذ تألّموا بالقدر الّذي عرّضوا به أنفسهم للآلام وفق ما ذكرتُ من كلام الرّسول أعلاه. كان لا بدّ من تلقينهم درس التّجربة لأنّهم تلهّوا منذ أمد طويل عن درس أقواله. فلمّا قال الرّسول: "الّذين يرومون الغنى يسقطون في التّجربة00.إلخ"، كان يؤاخذ بدون شكّ حبّ الثّروات لا امتلاكها، فلقد أوصانا في موضع آخر قائلا: "وصّ أغنياء الدّهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يتّكلوا على الغنى الغير الثّابت بل على الله الحيّ الّذي يؤتينا كلّ شيء بكثرة لنتمتّع به. وأن يصنعوا خيرا ويتموّلوا من الأعمال الصّالحة ويكونوا أسخياء في التّوزيع مرتاحين إلى المؤاساة. مدّخرين لأنفسهم أساسا حسنا للمستقبل حتّى يفوزوا بالحياة الحقيقيّة."* من كانوا يتصرّفون بهذه الطّريقة في ثرواتهم تعزّوا بأرباح وفيرة عن خسائرهم الطّفيفة، وفرحوا بخيرات حفظوها بنحو آمن بإعطائها بسهولة، أكثر ممّا أسفوا على الّتي فقدوها بسهولة أكبر بالتّشبّث بها بإشفاق. فإنّما أمكن أن يتلف في الأرض ما تراخى صاحبه عن نقله منها. أمّا من عملوا بوصيّة ربّهم إذ يقول: "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يُفسد السّوس والآكلة وبنقُب السّارقون ويسرقون؛ لكن اكنزوا لكم كنوزا في السّماء حيث لا يُفسد سوس ولا آكلة ولا ينقُب السّارقون ولا يسرقون؛ لأنّه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك"*، فقد اختبروا في أيّام المحنة كم كانوا أعقل وأصوب بعدم الاستخفاف بوصايا أصدق معلّم وآمن وأضمن حارس لثرواتهم. فلئن فرح الكثيرون بأنّ ثرواتهم كانت في موضع اتّفق أن لم يصل إليه العدوّ، فكم أمكن لمن نقلوا كنزهم عملا بوصيّة ربّهم إلى حيث لا يمكن الوصول أبدا أن يبتهجوا بثقة وطمأنينة أكبر. من هؤلاء صديقنا بولينوس أسقفّ نولا* الّذي تخلّى اختياريّا عن ثرواته الواسعة ليصير فقيرا معدما وصدّيقا واسع الثّراء عند الله، فلمّا عاث البرابرة فسادا في نولا ووقع بين أيديهم جأر إلى الله في قلبه- كما علمنا منه لاحقا- بهذا الدّعاء: "اللّهمّ لا تدعْني أعذَّب من أجل الذّهب والفضّة، فإنّك تعلم أين توجد كلّ أملاكي." فعلا كان يحتفظ بها حيث دعاه إلى إخفائها وكنزها من أنبأ منذ أمد طويل عن حلول هذه المصائب بالعالم. بذلك أمكن لمن عملوا بوصيّة ربّهم أين وكيف يجب أن يكنزوا ألاّ يفقدوا في غزوات البرابرة ثرواتهم الدّنيويّة، أمّا من لم يمتثلوا لها مع الأسف فإن لم يتعلّموا من الحكمة السّابقة قد تعلّموا من التّجربة اللاّحقة ماذا يجب أن يفعلوا بها.

   صحيح أنّ بعض الأخيار، ومن بينهم مسيحيّون، عُذّبوا ليسلّموا للأعداء خيراتهم؛ لكن ما أمكنهم تسليم ولا خسران* خير هم به أخيار. أمّا إن اختاروا التّعذيب على تسليم معبود الإثم* فما هم بالأخيار. والحال أنّهم أُنذروا، هم الّذين قاسوا مرّ العذاب بسبب الذّهب، كم كان يجدر بهم أن يتحمّلوا لأجل المسيح فيتعلّموا أن يحبّوه هو الّذي يهب من يتعذّبون لأجله ثروة النّعيم الأبديّ بدلا من الذّهب والفضّة اللّذين كان غبنا حقيقا بالرّثاء تحمّل العذاب لأجلهما، سواء لإخفائهما بالكذب أو تسليمهما بالإقرار. فلا أحد في تلك الشّدائد أضاع المسيح بالإقرار به ولا حفظ ذهبه إلاّ بإنكاره. لذلك ربّما كانت تلك الأنكال، بتعليمها حبّ الخير الّذي لا يدركه الفساد، أنفع من تلك الخيرات الّتي ما فتئت تعذّب أصحابها بحبّها دون كسب أيّة منفعة. صحيح أنّ بعض المواطنين الّذين لا يملكون شيئا يسلّمونه تعرّضوا هم أيضا للتّعذيب، لأنّ الغزاة لم يصدّقوهم. هم أيضا ربّما كانوا يحبّون امتلاك أموال ولم يكونوا فقراء بزهد اختياريّ وقلب نقيّ، فلزم أن يبيَّن لهم أنّهم بحبّها لا بامتلاكها استحقّوا ذلك العذاب. أمّا من كانوا لاختيارهم حياة أفضل لا يملكون ذهبا ولا فضّة، فلا أدري إن حصل أن عذّب الغزاة أحدهم ظنّا أنّه يملك أموالا، لكن حتّى إن حصل فلا شكّ أنّ من كان يُقرّ في غمرات التّعذيب بفقره النّقيّ من حبّ عرض الدّنيا كان يقرّ بالمسيح، لذا ما أمكن، حتّى إن لم ينجح في إقناع الأعداء، أن يعذَّب وهو يقرّ بفقره النّقيّ دون أن يستحقّ مكافأة في السّماء.

   يقال أيضا إنّ مجاعة طويلة فتكت كذلك بالمسيحيّين. ذلك أيضا يحوّله المؤمنون الصّالحون إلى صالحهم إذ يتحمّلونه بقلب تقيّ نقيّ. فالّذين أفنتهم تلك المجاعة انتزعتهم من أدواء هذه الحياة كما يخلّصنا الموت من أسقام البدن. أمّا من لم تذهب بهم فعلّمتهم العيش على الكفاف من الرّزق والمواظبة أكثر على الصّوم.

 

1-11 في حتميّة انتهاء الحياة الدّنيا طالت أم قصرت

   صحيح كذلك أنّ كثيرا من المسيحيّين قُتّلوا وأبيدوا بميتات فظيعة شتّى. ذلك وإن شقّ تحمّله مآل مشترك بلا شكّ بين كلّ من خُلقوا لهذه الحياة: فمعلوم أنّ ما من أحد مات لم يكن مقضيّا بأن يموت يوما ما، وأنّ نهاية الحياة تساوي بين الطّويلة والقصيرة، فلا أفضل أو أسوأ، ولا أطول أو أقصر في أشياء استحالت عدما على حدّ سواء. ثمّ فيم يهمّ نوع الموت الّذي ينهي هذه الحياة ما دام من تنتهي حياته غير مجبر على الموت ثانية؟ كذلك ما دامت ميتات لا تحصى تهدّد كلّ الفناة في غمار الحوادث اليوميّة لهذه الحياة، وما دمت لا أعلم يقينا أيّا منها ستكون نصيبي، أتساءل إن لم يكن تحمّل إحداها بالموت خيرا من الخوف باستمرار منها كلّها بالاستمرار في الحياة. لا أجهل كم نؤثر الاستمرار في العيش طويلا تحت وطأة الخوف من كلّ تلك الميتات على الموت بالفعل مرّة هي الأولى والآخرة فلا نخشى بعد أيّا منها. لكنّ فرار حسّ الجسد الضّعيف الفزع من المصير المحتوم شيء، وشيء سواه ما يقنعنا به التّفكير العقلانيّ الصّافي. لا يجب فعلا أن نعُدّ شرّا موتا سبقته حياة صالحة، إذ لا يجعل الموتَ شرّا غيرُ ما يتبع الموتَ. لذا لا يجب أن ينشغل كثيرا من هم آيلون حتما إلى الموت بالحادث الّذي سيموتون به، بل فقط بالمحلّ الّذي سيُجبرون على الانتقال إليه بالموت. وبما أنّ المسيحيّين يعلمون أنّ موت المسكين التّقيّ بين ألسنة الكلاب وهي تلحس قروحه أفضل بكثير من موت الغنيّ الكافر في الأرجوان والبزّ، فيم تضير تلك الميتات الفظيعة الموتى الّذين عاشوا حياة تقوى وصلاح؟*

 

1-12 في أنّ منع دفن جثث المسيحيّين لا يُفقدهم شيئا

   في هذه الكومة الكبيرة من الجثث لم يتيسّر لا محالة دفن الكثيرين. ذاك أيضا لا يخشاه الإيمان الصّادق الواثق من وعد الحقّ بأنّ افتراس السّباع للأجساد لا يمنع بعثها و"لا تهلك من رؤوسها شعرة"*. ما كان الحقّ قطعا ليقول: "لا تخافوا ممّن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النّفس"* لو كان يمنع الحياةَ الأخرى ما شاء الأعداء أن يفعلوا بأجساد القتلى. اللّهمّ إلاّ إن بلغ الخرق بأحدٍ حدّ الزّعم بأنّه لا ينبغي الخوف قبل الموت ممّن يقتلون الجسد وينبغي الخوف من عدم السّماح بعد الموت بدفن الجسد الّذي غدا بلا حياة! خطأٌ إذن قول المسيح: "من يقتل الجسد ليس له بعد أن يفعل أكثر"* إن كانوا يملكون حقّا هذه القدرة على فعل ما يشاؤون بجثث الأموات. بل حاشا أن يكون خطأً ما يقول الحقّ، فهو يقول إنّ القاتلين يفعلون شيئا ساعة القتل لأنّ الحسّ في الجسد يتأثّر بالقتل، أمّا بعده فما لهم ما يفعلون لأنّ الجسد الّذي قتلوا غدا خلوا من الحسّ تماما. كثرة من أجساد المسيحيّين لم توارها الأرض، لكن لا أحد فصل أيّا منها عن السّماء والأرض الّتي يملأها كلّها بحضوره من يعلم من أين سيبعث كلَّ ما خلق. يقول صاحب المزامير لا محالة: "جعلوا جثث عبيدك طعاما لطيور السّماء، لحومَ أصفيائك لوحوش الأرض؛ سفكوا دماءهم حول أورشليم مثل الماء ولم يكن من دافن"* لكن لإظهار وحشيّة مرتكبي تلك الفظائع لا لإبراز بؤس من تعرّضوا لها. فحتّى إن بدت تلك المحن قاسية وشاقّة* في نظر البشر، "كريم في عيني الرّبّ موتُ أصفيائه"*. وبالتّالي كلّ تلك الشّؤون أعني العناية بشعائر المأتم والقيام بالدّفن ومراسيم الجنازة هي لعزاء الأحياء أكثر ممّا هي لإسعاف الأموات. وإن يكن ثمّة نفع للكافر في إقامة مأتم مفتخر، فثمّة مضرّة للتّقيّ في إقامة مأتم متواضع أو لا مأتم إطلاقا. أعدّ طاقم الخدم لسيّدهم المسجّى بالأرجوان مأتما ساطعا في أعين النّاس، لكنّ المسكين المقرّح أعدّتْ له مأتما أسطع في عيني الله الملائكةُ القائمة على خدمته، الّتي لم تضعه في جدث من المرمر بل نقلته إلى حضن إبراهيم.

   يضحك من هذا الكلام من اعتزمتُ ردّ تخرّصاتهم عن مدينة الله. مع ذلك أبدى فلاسفتهم استخفافهم بمسألة دفنهم. بل كثيرا ما رأينا جيوشا جرّارة قبيل الموت من أجل الوطن الأرضيّ لا تعير بالا بمثوى أجسادها أو لأيّة سباع ستكون طعاما. عن هذا الموضوع أمكن أن يقول بعض الشّعراء ويحظوا بالاستحسان: "يجد في السّماء غطاء من لم يجد مرمدة لرماد جثمانه"*. وهم غير محقّين في تعيير المسيحيّين بعدم دفن أجسادهم الّتي وعد الله بإعادة تكوين لحمها وكلّ أعضائها لا من الأرض فقط بل كذلك من جوف بقيّة العناصر الخفيّ حيث تبدّدت جثثهم هباء منثورا في السّاعة المقدّرة لبعثها بكامل هيئتها.

 

1-13 ما مبرّر دفن أجساد الصّدّيقين

   مع ذلك لا ينبغي إهمال أجساد الموتى وتركها في العراء، وبالأخصّ أجساد الأبرار والمؤمنين الأتقياء الّتي استخدمها الرّوح كآنية للكرامة لإنجاز شتّى أعمال البرّ. فإن كان لرداء وخاتم الأب وما شابههما ممّا كان يحمل في حياته عند بنيه من المعزّة# بقدر ما يكنّون له من فائق المحبّة، فلا ينبغي بحال من الأحوال الاستخفاف بالأجساد الّتي هي بالتّحقيق أوثق صلة وارتباطا بنا من أيّة حلية حملنا، فما هي وسائل زينة أو وقاية تقدَّم لنا من الخارج بل تقترن بطبيعتنا كبشر. لذلك اعتُني ببرّ وتقوى بإقامة مآتم للصّدّيقين الأوّلين وتشييع جنائزهم وترتيب دفنهم، وأوصوا هم أنفسهم في حياتهم بنيهم بدفن، وأحيانا نقل جثمانهم. وارتضى الله طوبيّا* لدفنه الموتى بشهادة ملاك الرّبّ. وربّنا المسيح نفسه الّذي قام في اليوم الثّالث من بين الأموات نوّه- موصيا من خلال ذلك التّنويه- بمبرّة المرأة الدّيّنة الّتي أفاضت على جسده طيبا كثير الثّمن إعدادا لدفنه، كما ذُكر وشُكر في الإنجيل من تلقّوا جسده من على الصّليب واهتمّوا بتكفينه ودفنه بعناية وإجلال. حقّا لا تفيد هذه المصادر المقدّسة بوجود أيّ حسّ في جثث هامدة، وإنّما تعني أنّ العناية الإلهيّة الّتي ترتضي تلك التّطوّعات الملأى بالبرّ والتّقوى تهتمّ بأجساد الموتى لإنماء إيماننا بالبعث. فيها نتعلّم كذلك لمصلحة خلاصنا أيّ ثواب عظيم يمكن أن يجازي إحساننا إلى الأحياء النّابضين بالإحساس، ما دام الله لا يضيع أجر برّنا واعتنائنا بأجساد بشريّة بارحتها الحياة. هناك طبعا أقوال أخرى للآباء الصّدّيقين تتعلّق بدفن أو نقل أجسادهم أرادوا إفهامنا أنّهم قالوها بوحي الرّوح، لكن ليس هذا محلّ الحديث عنها ويكفي ما قلنا بهذا الشّأن.

   لكن إن كان فقدان المتطلّبات الضّروريّة لحفظ بقاء الأحياء كالقوت والكسوة، مهما سبّب من الألم، لا يكسر طاقة الصّالحين على التّحمّل والصّبر ولا يستأصل التّقوى من قلوبهم بل يجعلها بالمراس أكثر عطاء، فما أعجز غياب تلك الّتي تستلزمها عادةُ إقامة الشّعائر المأتميّة ودفن أجساد الموتى عن جعلهم يبتئسون بعدما نعموا بالرّاحة الأبديّة في مقامات الأبرار المخفاة بحجب الغيب! لذا لمّا حُرمت من تلك الشّعائر جثث المسيحيّين أثناء ذلك الدّمار الّذي تعرّضت له رومية أو المدن الأخرى، لا جناح على الأحياء الّذين لم يستطيعوا إقامتها، ولا ضير على الأموات الّذين لا يمكن أن يحسّوا بها.

 

1-14 في أسر الصّدّيقين الّذين لم تغب عنهم أبدا تعزيات الله

    قد يقال: لكنّ عديدا من المسيحيّين اقتيدوا أسرى كذلك. ذاك أمر مؤسف حقّا إن أمكن أن يُقتادوا إلى مكان لم يجدوا فيه إلههم. ثمّ إنّ في الكتاب المقدّس أعظم عزاء على هذا القرح: فلقد وقع في الأسر الأبناء الثّلاثة ودانيال* وأنبياء آخرون، ولم يتخلّ عنهم الله واهب العزاء. لا شكّ إذن أنّه لم يتخلّ عن عباده المؤمنين لمّا وقعوا تحت سيطرة شعب همجيّ لا محالة لكن إنسانيّ، هو الّذي لم يتخلّ عن نبيّه في جوف الحوت. يؤثر من نناضل ضدّهم السّخرية من هذه الوقائع على تصديقها، مع أنّهم يصدّقون ما جاء في كتبهم عن أريوس المثيمنيّ عازف القيثارة الشّهير، أنّه عند سقوطه من على متن السّفينة وقع على ظهر دلفين حمله إلى اليابسة. لكنّ قصّة سيّدنا يونس أصعب على التّصديق: هي بالتّحقيق أصعب على التّصديق لأنّها أعجب، وهي أعجب لأنّ قدرة أعظم تتجلّى فيها.

 

1-15 في ريقولوس الّذي يجسّد مثلا أعلى على تحمّل الأسر اختياريّا بدافع الدّين ولم تسعفه مع ذلك الآلهة الّتي كان يعبد

   عندهم مع ذلك مثال شهير، لأحد رجالهم البارزين، على تحمّل الأسر اختياريّا وبدافع الدّين كذلك. فقد وقع القائد الرّومانيّ مرقس ريقولوس أسيرا في أيدي القرطاجنّيّين، ولإيثارهم استرداد أسراهم من الرّومان على الاحتفاظ بأسرى الرّومان، أرسلوا إلى رومية لالتماس ذلك مع وفد من مفوّضيهم ريقولوس بعدما حصلوا منه على تعهّد تحت القسم بالعودة إلى قرطاج إن لم يحقّق مبتغاهم. فذهب وأقنع مجلس الشّيوخ بعكس ما طُلب منه إذ لم يكن يرى مبادلة الأسرى في صالح الجمهوريّة الرّومانيّة. بعد إقناع الرّومان بوجهة نظره لم يردّوه قسر إرادته إلى الأعداء، بل فعل من تلقاء نفسه وفاء بعهده. فقتلوه مسلّطين عليه أفظع فنون التّعذيب، حبسوه في صندوق خشبيّ ضيّق مرشّق بأسنّة حادّة أُجبر على البقاء واقفا داخله دون أن يستطيع التّحرّك بأيّ اتّجاه دون التّأذّي بوخزها المبرّح؛ بهذا وبإرغامه على البقاء ساهدا باستمرار قضوا على حياته. يحقّ لا شكّ الثّناء على شجاعته الأعظم من بلائه العظيم. كان قد أقسم بآلهة يرى خصومنا أنّ حظر عبادتها سبّب هذه الكوارث للجنس البشريّ: فإن أرادت أو قبلت، هي الّتي كانت تُعبد لتجعل هذه الحياة مرفّهة، أن يتعرّض ذلك الرّجل الموفي بعهده إلى تلك الأنكال، ماذا كانت ستصنع أسوأ منها لو أغضبها بالحنث بيمينه؟

   لكن لم لا أختم استدلالي بالأحرى بهذين الاستنتاجين: أوّلا من البيّن أنّ ذلك الرّجل عبد الآلهة بتفان بلغ حدّ الرّضى بمبارحة وطنه وفاء بيمينه، لا للذّهاب إلى أيّ مكان يعجبه، بل للعودة إلى أعدائه اللّدّ دون أدنى تردّد. فإن كان يرى في ذلك نفعا لحياته الحاضرة، وقد مُني بذلك المصير الفظيع، لا شكّ أنّه كان مخطئا في ظنّه، ولقد علّمنا بمثاله أنّ لا نفع للآلهة الوثنيّة في جلب سعادة الدّنيا مادام ذلك الرّجل المتفاني في عبادتها قد غُلب واقتيد أسيرا، ولرفضه فعل غير ما أقسم عليه بعزّتها مات ضحيّة تعذيب وحشيّ مستجدّ لم يُسمع قبلُ بمثله. ثانيا، إن كانت عبادة تلك الآلهة تُجزى بالنّعيم بعد هذه الحياة فلِم يثلبون عصر المسيحيّة زاعمين أنّ رومية دُهيت بتلك الكارثة لانقطاعها عن عبادة آلهتها، بينما كان ممكنا أن تتعرّض حتّى وهي مثابرة على عبادتها إلى مصير تعيس كالّذي آل إليه ريقولوس؟ اللّهمّ إلاّ إن عارض مكابر الحقيقة السّاطعة بعمى أرعن عجاب، مدّعيا سفها استحالة أن تشقى مدينة بأكملها تعبد تلك الآلهة، وإن أمكن ذلك بالنّسبة لفرد واحد لأنّ قوّة الآلهة أقدر على حفظ الجماعة من حفظ الفرد، والحال أنّ الجماعة قوامها الأفراد.

   أمّا إن قالوا إنّه أمكن لريقولوس، وهو في الأسر وتحت التّعذيب الجسديّ، أن ينعم بالسّعادة لفضيلة نفسه، فليلتمسوا بالأحرى الفضيلة الحقيقيّة الّتي يمكن للمدينة أيضا أن تجد بها السّعادة. فهي لا تستمدّ سعادتها من مصدر غير الّذي يستمدّ منه الفرد سعادته، فما المدينة سوى مجموعة من المواطنين تعيش في وئام. لا أجادل بعد في حقيقة الفضيلة الّتي يتحلّى بها ريقولوس، يكفي في الوقت الحاضر أنّ هذا المثال الرّائع يفرض عليهم الاعتراف بأنّه لا يجب أن يعبد الإنسان الآلهة طمعا في الخيرات الجسديّة أو الأعراض الّتي تأتيه من الخارج، فإنّ ذلك الرّجل آثر أن يُحرم منها كلّها على إهانة الآلهة الّتي أقسم بها. لكن ما العمل مع أناس يفخرون أن كان لهم مواطن مثله ويخشون أن تكون لهم مدينة بمثل شيمه؟ إن لم يكونوا يخشون ذلك فليُقرّوا إذن بإمكان تعرّض مدينة مواظبة على عبادة آلهتها لمثل ما حصل لريقولوس، وليكفّوا افتراءاتهم عن عصر المسيحيّة. لكن بما أنّهم أثاروا المسألة حول المسيحيّين الّذين أُسروا هم أيضا، فليتأمّل في هذا ويخرس من يسخرون بسفاهة وسخافة* من الدّين المنقذ حقّا وصدقا. إن لم يكن عارا على آلهتهم أنّ ذلك الرّجل المتفاني في عبادتها اضطرّ لحرصه على الوفاء بقسمه إلى مفارقة وطنه الّذي ليس له سواه، ثمّ تعرّض عند أعدائه إلى عذاب لم يسبق له في القسوة مثيل، ومات بعد احتضار مرير، فما أقلّ حقّهم في تعيير الدّين المسيحيّ بأسر صدّيقيه الّذين يعلمون أنّهم غرباء حتّى في منازلهم وينتظرون الوطن العلويّ بإيمان صادق.

 

1-16 هل أمكن للفواحش الّتي ربّما تعرّضت لها في الأسر العذارى النّاذرات العفّة أن تلوّث عفاف أنفسهنّ دون رضا إرادتهنّ

   يتصوّرون أنّهم يعيّرون المسيحيّات بمثلبة كبرى لمّا يضيفون عارضين هوان أسرهنّ الفواحش الّتي مورست لا على المحصنات والأبكار البالغات فقط بل كذلك على بعض من نذرن لله عذرتهنّ. في الحقيقة لا يقع في إشكال هنا الإيمان ولا التّقوى ولا الفضيلة الّتي ندعوها العفّة، بل الخيار بين صيانة العرض والامتثال للعقل. لا يعنينا هنا الرّدّ على أقوال الغير قدر ما تهمّنا تعزية أخواتنا. لنُقرّ إذن ونؤكّد أوّلا أنّ الفضيلة الّتي بها نعيش باستقامة تمليها النّفس مقرُّها على أعضاء الجسد، وأنّ زكاء الجسد مستمدّ من زكاء الإرادة الّتي تسيّره فطالما بقيت ثابتة وصامدة ليس في كلّ ما يفعل الغير بجسد أو في جسد أحد لا يستطيع تحاشيه دون أن يرتكب هو ذاته إثما من إثم على المفعول به. لكن بما أنّ من الممكن ممارسة فعل على جسم الغير لا لإحداث الألم فقط بل كذلك لإحداث اللّذّة، كلّ فعل من هذا القبيل، حتّى إن لم يُزل العفاف إن تمسّكت به النّفس بصمود قد يخدش* مع ذلك الحياء، جرّاء الخوف من أن يُظنّ أن قد تمّ برضا الإرادة ما لم يمكن ربّما وقوعه بدون التذاذ الجسد. 

<<