القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّالث عشر 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الثّالث عشر

 

13-1 في سقوط الإنسانين الأوّلين الّذي نشأ عنه الخضوع للموت

   بعد حلّ معضلات أصل عالمنا وبداية جنسنا البشريّ، يفرض علينا مخطّطنا الآن البحث وفق ما اعتزمنا البحث في سقوط الإنسان الأوّل- أو بالأحرى الإنسانين الأوّلين- واجتياز الموت إلى بني الإنسان. فإنّ الله لم يخلق البشر على غرار الملائكة لا يموتون حتّى عندما يخطؤون، بل هم يكافَؤون إن أدّوا الطّاعة المستوجبة بالحصول، مباشرة لا عبر الموت، على الخلود الممنوح للملائكة والسّعادة الأبديّة، ونالهم إن عصوا عقاب الموت العادل، كما أسلفنا في الكتاب السّابق.

 

13-2 في الموت الّذي يحصل للنّفس المعدّة للخلود في كلّ الأحوال ويخضع له الجسم

   لكن أرى من الضّروريّ التّوسّع قليلا في تحليل طبيعة الموت. فمع أنّ النّفس الإنسانيّة خالدة حقّا كما يقولون، إلاّ أنّ لها هي الأخرى ميتتها. فإنّما يقال عنها خالدة لأنّها لا تنفكّ بنحو ما ولو شيئا يسيرا تحيا وتحسّ، بينما الجسم فان إذ يمكن أن تبارحه الحياة كلّيّا ولا يحيا بذاته بأيّة صفة. وموت النّفس يحصل لمّا يبارحها الله كما يحصل موت الجسم لمّا تبارحه النّفس؛ فمن ثمّة يحصل الموت لكليهما- أي موت الإنسان كلّيّا- لمّا تبارح النّفس وقد بارحها الله الجسم؛ فإذّاك لا هي تحيا بالله ولا الجسم بها. يتبع ذلك الموتَ الّذي هو موت للإنسان كلّه ما يدعوه كلام الله جلّ من قائل "الموت الثّاني".* ذاك ما عناه المخلّص بقوله: "خافوا ممّن يقدر أن يُهلك النّفس والجسد في جهنّم"*. وهو ما لا يحصل قبل أن تكون النّفس قد اقترنت بالجسم بنحو حميم حتّى استحال انفصالهما. لذلك قد نستغرب كيف يقال عن الجسم إنّه أُتلف بذلك الموت حيث لا تكون النّفس مفارقة له بل يعذَّب وهو يحيا ويحسّ. ففي هذا العذاب الآخِر والسّرمديّ الّذي سنتحدّث عنه بمزيد من التّفصيل في محلّه، يصحّ القول إنّ النّفس ميتة لأنّها لا تستمدّ الحياة من الله؛ فكيف يقال ذلك عن الجسم والحال أنّه يحيا بالنّفس؟ إذ لا يمكن بدون ذلك أن يحسّ الأنكال الجسديّة الّتي تنتظره بعد قيامته. أفلأنّ الحياة- في أيّ شكل كانت- خير بينما العذاب شرّ، ينبغي نفي الحياة عن جسم تكون النّفس فيه شرطا لا للحياة بل للعذاب؟ بالله إذن تحيا النّفس إن تحي بصلاح، إذ لا يمكن أن تحيا بصلاح إلاّ إن كان الله يعمل فيها ما هو صالح. وما حياة الأثمة في الأجسام حياة النّفوس، بل هي حياة الأجسام: إذ يمكن حتّى للنّفوس الميتة، أي الّتي بارحها الله، أن تمنحهم، طالما ظلّت مقترنة بالأجسام ولم تفارقها، حياتها الخاصّة الّتي هي خالدة بها ومهما تكن زهيدة. ولئن لم ينعدم لدى الإنسان الإحساس في عذاب الآخرة، مع ذلك ما دام ذلك الإحساس خلوا من عذوبة اللّذّة أو راحة السّلام وملؤه مرارة العقاب يصحّ أن نسمّي موتا تلك الحالة لا حياة. لكنّها تدعى موتا ثانيا لأنّها تأتي بعد الأوّل الّذي يفصل بين طبيعتين متّحدتين، سواء بين الله والنّفس أو بين النّفس والجسم. إذن يمكن القول عن الموت الأوّل الخاصّ بالجسم إنّه خير للأخيار وشرّ للأشرار؛ أمّا الثّاني فلا يخصّ قطعا أيّا من الأخيار.

 

13-3 هل الموت الّذي بخطيئة الإنسانين الأوّلين اجتاز إلى كلّ النّاس هو في الأبرار أيضا عقاب الخطيئة

   هنا يبرز سؤال لا يجب تجنّبه: هل الموت الّذي يفصل بين النّفس والجسم هو خير للأخيار حقّا؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف يحصل والحال أنّه عقاب الخطيئة؟ فبالتّحقيق لو لم يخطأ الإنسانان الأوّلان لما تعرّضا له*.  كيف يمكن إذن أن يكون خيرا للأخيار والحال أنّه ما أمكن أن يحصل إلاّ لأشرار؟ لكن في المقابل إن لم يمكن أن يحصل إلاّ لأشرار لزم ألاّ يكون للأخيار خيرا بل ألاّ يكون على الإطلاق. إذ ما مبرّر العقاب أيّا كان حيث لا خطيئة تستحقّ العقاب؟ لذلك لا بدّ من الإقرار بأنّ الإنسانين الأوّلين أُنشئا على شاكلة ما كانا لولا خطيئتهما ليعرفا فيها تجربة الموت في أيّ شكل، لكنّ ذينك الخاطئين الأوّلين عوقبا بالموت فصار كلّ من ينحدر منهما موسوما لنفس العقوبة. إذ لا يُعقل أن يولد منهما ما يختلف عمّا كانا. فبسبب عظم ذنبهما أحدث العقاب فسادا في صميم طبيعتهما: فما طرأ عليهما عقابا على خطيئتهما لحق كذلك بذرّيّتهما كصفة ملازمة لطبيعتهم. لأنّ الإنسان لا يأتي من الإنسان مثلما يأتي الإنسان من التّراب: التّراب مادّة صُنع منها الإنسان، بينما الإنسان إذ يلد إنسانا هو له أب. وما يمثّل التّراب بالنّسبة للإنسان لا يمثّله الجسد وإن كان الجسد من التّراب، بينما الوالد من حيث كونه إنسانا هو عين المولود الإنسان. في الإنسان الأوّل إذن كان كلّ النّوع الإنسانيّ الّذي انحدر منه بالتّناسل عن طريق المرأة، لمّا تلقّت تلك الخليّة الزّوجيّة الحكم الإلهيّ بعقابها. وما صار إليه الإنسان- لا ما كان عند خلقه بل ما صار عند خِطْئه وعقابه- نقله إلى نسله، في ما يخصّ أصل الخطيئة والموت بالتّحقيق. إذ لم تُحله الخطيئة والعقوبة إلى عجز وضعف النّفس والجسم الّذي نرى في الصّغار والّذي أراده الله كما عند صغار البهائم، مثلما أهبط أبويهم إلى حياة وموت البهائم، كما نجد في الكتاب المقدّس: "كان الإنسان في كرامة فلم يفهم فماثل البهائم وتشبّه بها."* بل نرى الأطفال، في استخدام وتحريك أعضائهم وفي شعورهم بالميل والنّفور، أضعف من صغار الحيوانات الأخرى في ميعة العمر*، كما لو أنّ همّة الإنسان ترقى إلى ارتفاع أعلى فوق بقيّة الحيوانات بقدر ما نزلت إلى درك أدنى، كالسّهم عند توتير القوس. لم يُلق أو يُدفع* الإنسان الأوّل في ضعف البدايات الأولى جزاء وفاقا لمعصيته النّكراء، بل فسدت فيه الطّبيعة الإنسانيّة إلى أقصى الحدود، فتعرّض في أعضائه لتمرّد الشّهوة العاتي وخضع لحتميّة الموت. وهكذا فما صار إليه جرّاء الانحراف والعقاب جعله في عقبه الموسوم بالخطيئة والموت. فإن خُلّص الأبناء بنعمة المسيح الوسيط من قيد الخطيئة، صار إصرهم منحصرا في الموت الّذي يفصل النّفس عن البدن؛ لكن لا يؤولون بعد تحريرهم من غلّ الخطيئة إلى ذلك الموت الثّاني الّذي لا ينتهي.

 

13-4 لماذا لا يُعفى من بُرّئوا من الخطيئة بنعمة العماد المحيي من الموت عقاب الخطيئة

   فإن احتار# أحد في سبب وقوع هذا الموت الّذي هو عقاب الخطيئة حتّى على من مُحي بنعمة الفادي ذنبهم، فقد سبق لنا بحث وحلّ هذه المسألة في كتاب آخر ألّفناه "في تعميد الأطفال"*، قلنا فيه إنّ تجربة انفصال النّفس عن الجسم أُبقيت رغم فكّ قيد الخطيئة لأنّه لو تبع سرَّ المعموديّة المحيي خلودُ الجسم فورا لفتر الإيمان الّذي يكون إيمانا بحقّ لمّا يُرتقب بالرّجاء ما لا يُرى بعد على أرض الواقع. فبقوّة وعزم الإيمان، على الأقلّ في عصور المسيحيّة الأولى، قُهر حتّى الخوف من الموت، وهو ما يتجلّى في أروع صورة في حياة القدّيسين الشّهداء الّذين ما كانوا قطعا سينالون نصرا ولا مجدا- إذ ما كان إذّاك سيحصل جهاد أصلا- لو جعلهم التّعميد المحيي بمنجى من الموت الجسديّ. إذ من لا يسارع حينئذ مع الصّغار إلى نعمة معموديّة المسيح وهمّه بالأحرى منع مفارقة نفسه البدن؟ إذّاك لن يُمتحن إيماننا بمكافأة لا نراها، بل سوف لا يكون إيمانا أصلا أن نسرع إلى المكافأة ونتسلّمها في الحال.

   لكن بنعمة من مخلّصنا أعظم وأعجب، تحوّل عقاب الخطيئة إلى خدمة البرّ. فقد قيل آنذاك للإنسان: "( ستموت يوم تخطأ)"* واليوم يقال للشّهيد: "مت كيلا تخطأ"؛ آنذاك قيل له: "إن تعصوا وصاياي تموتوا موتا" والآن يقال له: "إن ترفضوا الموت تعصوا وصاياي". ما كان يُفزع فيَزَع عن الخطيئة صار الآن مطلوبا حذر الوقوع في الخطيئة. فبما رحمة من الله جلّت عن الوصف استحال عقاب الرّذيلة سلاحا للفضيلة، وانقلب عذاب الخاطئ مبرّة للمستقيم. آنذاك كان الموت جزاء للخطيئة، والآن بالموت يحقَّق البرّ. يصحّ ذلك عن القدّيسين الشّهداء الّذين يخيّرهم جلاّدهم بين التّخلّي عن الإيمان والموت تحت التّعذيب. فالأبرار يؤثرون التّمسّك بالإيمان على التّعرّض لما أصاب الآثمين الأوّلين جزاء المعصية. إذ لو لم يخطآ لما ماتا، أمّا الشّهداء فسيخطؤون إن لم يقبلوا الموت*. جرّاء خطيئة الأوّلين حلّ العذاب، وجرّاء عذاب الآخِرين حيل دون الخطيئة. لا لأنّ الموت الّذي كان شرّا فيما مضى غدا الآن خيرا، وإنّما بلغ إنعام الله على الإيمان أن جعل الموت الّذي هو ضدّ الحياة وسيلة للانتقال إلى الحياة*.

 

13-5 كما يسيء الأثمة استخدام النّاموس الّذي هو حسن يحسن البررة استخدام الموت الّذي هو سيّء

   لمّا أراد الرّسول أن يبيّن مدى قدرة الخطيئة على الإيذاء في غياب عون النّعمة الإلهيّة، لم يتردّد في القول بأنّ النّاموس هو قوّة الخطيئة: "إنّ شوكة الموت هي الخطيئة وقوّةَ الموت هي النّاموس"*. وتلك عين الحقيقة بلا جدال. فإنّ التّحريم يزيد الرّغبة في المحرّم لمّا يغيب حبّ البرّ، فلا تغلب جاذبيّته الميل إلى الإثم. لكن لا سبيل لأن يُحَبّ ويحبَّذ البرّ الحقيقيّ سوى عون النّعمة الإلهيّة. لكن كيلا يُظنّ أنّ النّاموس شرّ لأنّه نُعت بقوّة الخطيئة، يعود الرّسول إلى هذه المسألة في موضع آخر، فيقول: "فالنّاموس إذن مقدّس والوصيّة مقدّسة وعادلة وصالحة. فهل صار لي الصّالح موتا؟ حاشى؛ إلاّ أن الخطيئة لتظهر خطيئة عملت فيّ الموت بما هو صالح، حتّى أنّ الخطيئة صارت خاطئة للغاية بالوصيّة."* وقد قال: "خاطئة للغاية" ( =تجاوزت الحدّ) لأنّ المعصية  تزداد لمّا تبلغ جرأة الجنوح إلى الخطيئة حدّ ازدراء النّاموس. لماذا رأينا من اللاّزم ذكر هذا؟ لأنّه كما ليس النّاموس شرّا لمّا يزيد شهوة الخطأة تحرّقا، كذلك ليس الموت خيرا لكونه يزيد مجد الشّهداء تألّقا؛ والحال أنّ التّخلّي عن النّاموس حبّا للإثم يصنع عصاة كما أنّ قبول الموت من أجل الحقيقة يصنع شهداء. ومن ثمّة فالنّاموس حسن لأنّه ينهى عن الخطيئة بينما الموت شرّ لأنّه أجر الخطيئة. لكن مثلما الإثم يسيء استخدام الحسنات ناهيك عن السّيّئات، كذلك البرّ يحسن استخدام السّيّئات ناهيك عن الحسنات. لذا نرى السّيّئين يسيئون استخدام النّاموس وهو حسن، بينما يموت الصّالحون بصلاح وإن كان الموت في ذاته سيّئا.

 

13-6 في مشقّة الموت الّتي تفكّ في كافّة النّاس اتّحاد النّفس والبدن

   لذلك وفي ما يتعلّق بموت الجسم، أي انفصال النّفس عن الجسم، لمّا يعاني المحتضرون* غمراته، لا خير فيه لأحد. إذ تبعث إحساسا ممضّا مضادّا للطّبيعة تلك القوّةُ الّتي تفصل ما كان متّصلا ومندمجا في الكائن الحيّ طالما استمرّ* فعلها إلى أن يختفي كلّ إحساس مأتاه بالتّحديد اتّحاد النّفس والجسد. تلغي أحيانا كلّ ذلك العناء ضربة قاصمة للجسم أو رحيل النّفس بغتة فتحول سرعة الموت دون الشّعور به. لكن أيّا كان ذلك العناء الّذي تذهب سكرته بالإحساس، فإنّ معاناته بإيمان وتقوى تزيد ثواب الصّبر ولا تزيل حقيقة المشقّة. هكذا رغم أنّ الموت المتوارث في نسل الإنسان الأوّل هو بالتّأكيد حكم معنّ لمن يولد، مع ذلك يستحيل إن تحمّله الإنسان من أجل البرّ والتّقوى مجدا لمن يولد مجدّدا. ولئن كان الموت جزاء الخطيئة، فإنّه أحيانا يؤمّن الإبراء من الخطيئة تماما.

 

13-7 في موت من يستشهدون بسبب إيمانهم بالمسيح وهم لم يعمّدوا بعد

   لموت كلّ من يموتون وهم يعترفون بالمسيح، حتّى إن لم يتلقّوا بعد سرّ العماد المحيي، قدرة على محو خطاياهم مثل ما للغسل بماء المعموديّة المقدّس. فإنّ من قال: "إن لم يولد أحد من الماء والرّوح فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله"*، استثناهم في هذه القولة الأخرى الّتي لا تقلّ عن الأولى عموميّة: "كلّ من يعترف بي أمام النّاس أعترف أنا ( أيضا) به قدّام أبي الّذي في السّماوات"*، وقال في موضع آخر: "من أهلك نفسه من أجلي يجدها"*. من هنا جاء في الكتاب المقدّس: "كريمٌ في عيني الرّبّ موت أصفيائه"*. وهل أكرم من موت يتيح محو كلّ السّيّئات وزيادة الحسنات أضعافا؟ إذ لا يستوي في الكرامة من اعتمدوا وهم لا يملكون تأخير موتهم وغادروا هذه الحياة بعد محو كلّ خطاياهم مع من لم يؤخّروا موتهم وهم قادرون لأنّهم آثروا إنهاء حياتهم باعترافهم بالمسيح على بلوغ العماد بإنكاره*. فلو فعلوا منكرين المسيح حذر الموت لمُحيت خطاياهم في ذلك الحوض الّذي مُحي حتّى ذنب من قتلوا المسيح* ذلك الجرم العظيم. لكن كيف يمكن بدون بركات من نعمة الرّوح الّذي يهبّ حيث يشاء أن يحبّوا المسيح إلى حدّ أنّهم، حتّى وهم يواجهون خطر الموت، يرفضون وهم ملاء برجاء المغفرة إنكاره؟ لقد بيّن ذلك الموت الكريم، موت القدّيسين الّذين كان لهم في موت المسيح أسوة وعبرة وتلقّوا فيض نعمته فلم يتردّدوا لينعموا بقربه في التّضحية بحياتهم، أنّ ما جُعل عقابا من قبل انقلب في حالتهم نعمة تؤتي ثمر برٍّ أوفر. لا يجب بالتّالي أن نرى في الموت خيرا. فبمنّ الله لا بفضله الذّاتيّ تحوّل إلى ذلك الخير الكبير، فإذا الّذي كان يلوَّح به من قبل كفزّاعة تدرأ خشيتها الخطيئة يقدَّم الآن كبلاء يجب قبوله مخافة الوقوع في الخطيئة ولمحو ما تقدّم من الذّنب ومنح البرَّ السّعفة الّتي يستحقّ ذلك النّصر المبين.

 

13-8 في حالة القدّيسين قبول الموت الأوّل من أجل الحقيقة إبطال للموت الثّاني

   بل سنجد، إن تمعّنّا أكثر في الأمر، أنّ من يموت وفيّا للحقّ مكلّلا بالمجد يوقّى الموت حقّا. فهو يقبل بعضه كيلا يقع عليه كلّه ولا يحلّ به فضلا عن ذلك الموت الثّاني الّذي لا ينتهي أبدا. إذ يقبل انفصال نفسه عن جسده كيلا تنفصل عنه وقد فصلها الله عنه، فيلي الموتة الأولى الموت الثّاني الّذي هو للإنسان فناء مطلق سرمديّ. لذلك، وكما قلت، ليس الموت إذ يتجرّع غصصه المحتضرون حتّى يحيلهم أمواتا حسنا لأحد، لكنّ احتمال مشقّته لحفظ أو اكتساب حسنة محمدة. لكن لمّا يكون فيه من ندعوهم أمواتا، لا نخطئ إن قلنا إنّه شرّ للأشرار وخير للأخيار. فبينما تحيا مطمئنّة نفوس البررة بعد انفصالها عن الجسد، تتعذّب نفوس الفجرة إلى يوم تُبعث أجسادها، ففريق إلى الحياة الأبديّة وفريق إلى الموت الأبديّ الّذي يدعى الموت الثّاني.

 

13-9 أيجب إطلاق اسم الممات أي الظّرف الزّمانيّ الّذي يلتغي فيه حسّ الحياة على من يموت أم من مات

   لكن هل الوقت الّذي تفارق فيه النّفوس الأجساد، سواء في الأبرار أو في الأشرار، لاحق للموت أم هو ساعة الموت تحديدا؟ إن كان لاحقا للموت، لم يعد الموت حاضرا فقد مضى وانقضى، والحاضر حينئذ حياة النّفس بعد الموت، حسنة كانت أو سيّئة. لكنّ الموت كان شرّا لمّا كان حاضرا والمحتضرون يعانون شدّته، إذ يقترن لديهم بشعور مغِمّ وشاقّ، وهو شرّ يجعل منه الأخيار خيرا. أمّا إذا انتهى الموت، فكيف يكون خيرا أو شرّا ما لا وجود له بعد؟ إن تمعّنّا جيّدا سيبين لنا أنّ الموت ليس ذلك الشّعور المغمّ الشّاقّ الّذي ذكرنا عند المحتضرين؛ فطالما ظلّوا يحسّون ما زالوا أحياء، وما داموا لا يزالون أحياء يجب أن يُعَدّوا في حالة سابقة للموت لا في الموت، لأنّه إذا جاء يلغي كلّ إحساس في الجسد يستمدّ من حينونته تحديدا مضاضته. لذلك من الصّعب أن نبرّر بأيّ وجه نقول عمّن لم يصيروا بعد أمواتا بل هم في غمرات الموت يسلّمون آخر رمق، إنّهم يموتون، حتّى إن كان صوابا أن ندعوهم محتضرين. فمتى حصل الموت الّذي كان يشدّد عليهم قبضته لم يعودوا محتضرين فهم إذّاك أموات. المحتضر إذن حيّ، فحتّى في أقصى برزخ الحياة حيث يكون في ما ندعوه النّزع الأخير، لا شكّ أنّ من لم تفارق نفسه البدن ما زال يحيا. هو إذن في نفس الوقت يموت ويحيا، لكن مع اقتراب من الموت وابتعاد* عن الحياة، لا يزال على قيد الحياة لأنّ نفسه باقية في بدنه، ولم ينتقل بعد إلى الموت لأنّها لم تفارق بدنه. فإن لم يكن عند مفارقتها لبدنه في الموت آنذاك وإنّما صار في ما بعد الموت بالأحرى، من يقول لنا متى يكون في الموت؟ إذ لا يجوز أن نقول عن أحد إنّه يموت ما دام محالا أن يكون قيد الحياة والموت معا. طالما ظلّت النّفس في البدن لا يمكن أن ننفي أنّه حيّ؛ أو إن كان يجب بالأحرى أن نعدّ قيد الموت من بدأ الموت يعمل في جسمه عمله، ونظرا لاستحالة أن يكون أحد قيد الحياة والموت في نفس الوقت، فلا أدري عندئذ متى يكون حيّا*.

 

13-10 هل يجب أن نسمّي حياة الميّتين موتا بالأحرى لا حياة

   في الواقع مذ يبدأ أيّ منّا في الوجود في جسم آيل للموت، لا شيء يحصل فيه إلاّ ويقرّبه من الموت. إذ تعمل قابليّة التّحوّل الملازمة له على مدى حياته- هذا إن جاز أن تسمّى حياة- على إيصاله إلى الموت: فما من امرئ لا يكون أقرب إليه بعد عام منه قبل عام، وغدا منه اليوم، واليوم منه أمس، وبعد قليل منه الآن، والآن ممّا كان قبل قليل. لأنّ كلّ يوم نعيشه يُقتطع من عمرنا، ويتناقص كلّ يوم ما بقي منه*، فما حياتنا سوى سير حثيث نحو الموت لا يُسمح فيه لأحد بالتّوقّف قليلا ولا التّريّث قليلا؛ بل تسوق الجميع حركة واحدة وتدفعهم مسيرة متساوية السّرعة. فما قضى اليومَ بوتيرة أسرع من عاش عمرا أقصر ممّن عمّر أطول؛ بل كانت تُخصم من كليهما مدد متساوية بالتّساوي، فيندفع كلاهما بسرعة مماثلة إلى غايته الأقرب بالنّسبة لهذا والأبعد بالنّسبة لذاك. فشيء هو قطع شوط أطول، وشيء آخر السّير بمشية أبطأ: فمن يقضي مدّة أطول لبلوغ الموت لا يمشي* مشية أبطأ بل يقطع مسافة أطول. هكذا ما دام كلّ إنسان يبدأ يموت، أي يكون في الموت، مذ يبدأ الموت يعمل فيه عمله، أي اجتذاذ قطع من العمر- إذ يصير بانتهائه في ما بعد الموت لا في الموت- لا شكّ أنّه مذ يبدأ وجوده في الجسم يكون في الموت. وهل يحصل على امتداد الأيّام والسّاعات واللّحظات كلّها حتّى يستنفدها الموت تماما فتبدأ إذّاك فترة ما بعد الموت سوى ما كان طوال عمليّة تجذيذ العمر الموتَ عينه؟ هكذا إذن لا يكون الإنسان أبدا في الحياة منذ يكون في هذا الجسد الّذي يموت أكثر ممّا يحيا ما دام لا يمكن أن يكون في الحياة والموت معا. أم لعلّه بالأحرى في الحياة والموت معا، في الحياة لا محالة بما أنّه فيها يحيا حتّى نفادها، ومع ذلك في الموت لأنّه لا يفتأ يموت مذ يبدأ رصيده في النّقصان؟ فعلا إن لم يكن في الحياة فما الّذي يُقتطع حتّى يُستنفد بالكامل؟ لكن من ناحية أخرى إن لم يكن في الموت، فماذا يكون تجذيذ الحياة الّذي ذكرنا؟ فما عبثا نقول عند نفاد حياة الجسم بالتّمام إنّه صار في ما بعد الموت، فما ذاك إلاّ لأنّه كان في الموت لمّا كان يُقتطع من حياته. فعلا إن لم يكن الإنسان بعد استنفادها في الموت، وإنّما هو بعد الموت، فمتى، سوى أثناء تنقيصها، يكون في الموت؟

 

13-11 في العقاب الأوّل لمعصية الإنسانين الأوّلين

   لكن إن كان مخالفا للعقل القول بأنّ الإنسان قبل بلوغ الموت كائن في الموت- إذ كيف يدنو منه باستهلاك رصيد حياته إن كان من قبل فيه؟- وفي غاية الغرابة بالأخصّ القول بأنّه قيد الحياة والموت معا، بينما يستحيل أن يكون مثلا مستيقظا ونائما في نفس الوقت، يجب التّساؤل إذن متى يكون في الموت. فعلا قبل مجيء الموت لا يكون قيد الموت بل قيد الحياة، حتّى إذا جاء الموت يكون ميّتا لا قيد الموت. إذن يكون حتّى أوان الموت قبل الموت، وبحلوله يصير بعد الموت، فمتى يكون إذن في الموت؟ إذّاك فعلا يكون قيد الموت، بحيث تطابق الظّروف الثّلاثة "قبل الموت، في الموت، بعد الموت" ثلاث أحوال هي بالتّوالي "يحيا، يموت، ميّت". لذلك من الصّعوبة بمكان تحديد متى يكون قيد الموت، أي في الموت، حيث لا هو حيّ أي قبل الموت، ولا ميّت أي بعد الموت، بل قيد الموت، أي في الموت. إذ طالما طالما تكون النّفس في الجسد، خصوصا مع حضور الإحساس، لا شكّ أنّ الإنسان المؤلّف من النّفس والجسم يحيا، ومن ثمّة ينبغي القول بأنّه لا يزال قبل الموت، وليس في الموت. لكن لمّا تغادر نفسه الجسد نازعة منه كلّ إحساس، حينئذ يُعَدّ ميّتا. وبالتّالي تلتغي في ما بين الحالتين الحالة الّتي يكون فيها قيد الموت، أي في الموت، لأنّه إن كان يحيا إلى غاية تلك اللّحظة فهو قبل الموت، وإن توقّف عن الحياة صار بعد الموت، ولا نراه إذن أبدا يموت أي في الموت. كذلك في انسياب الزّمان نبحث عن الحاضر ولا نجده لأنّ الآن الّذي يتمّ به العبور من الآتي إلى الماضي بلا أيّ امتداد*. ألا يتحتّم الإقرار بأنّ القول بعدم وجود أيّ موت للجسم لا يخلو من مبرّر؛ لأنّه إن وُجد فمتى يكون والحال أنّه لا يمكن أن يكون في أحد ولا أن يكون فيه أحد؟ إذ ما دام الإنسان يحيا لا يوجد بعد لأنّ ذلك يكون قبل الموت لا في الموت، أمّا إن توقّف عن الحياة فإنّه إذّاك لم يعد يوجد لأنّ ذلك يكون بعد الموت لا في الموت. لكن في المقابل إن لم يكن ثمّة موت لا قبل ولا بعد، فيم قولنا "قبل الموت" أو "بعد الموت"؟ فهراء أيضا قول ذلك إن لم يكن ثمّة موت. وإنّا لنرجو نيل الجنّة بعد حياة صالحة فيكون الموت لم يوجد حقّا بالنّسبة إلينا، أمّا الآن فليس موجودا فقط بل هو ممضّ حتّى لَيستحيلُ تفسيره بأيّ لفظ أو الإفلات منه بأيّ نحو.

   لنتحدّث إذن حسب الاصطلاح المتداول، إذ لا يجوز لنا استعمال غيره*، ولندْع "قبل الموت" ما يكون قبل مجيء الموت، كما في الكتاب المقدّس: "لا تغبّط أحدا قبل موته"*، ولنقل كذلك إذا جاء "بعد موت فلان حدث كذا أو كذا"، ولنتكلّم عن الزّمان الحاضر كيفما نستطيع، كما حين نقول: "فلان أوصى وهو يموت" أو "ترك وهو يموت لأولائك أو أولئك كذا أو كذا"، وإن استحال في الحقيقة أن يفعل ذلك إلاّ وهو حيّ، فإنّما فعل ذلك قبل الوت لا وهو في الموت. لنتكلّم إذن مثل الكتاب المقدّس الّذي لا يتردّد في وصف الموتى بأنّهم في الموت لا بعد الموت؛ من ذلك قوله: "فإنّه ليس في الموت من يذكرك"*. فإلى أن يعادوا أحياء من الصّواب القول بأنّهم في الوت، كما يقال عن أحدنا: هو في النّوم، إلى أن يستيقظ. لكن مع أنّا ندعو من يضطجعون في النّوم نياما، لا يمكننا بنفس النّحو أن ندعو من ماتوا مائِتين، إذ ليسوا مستمرّين في عمليّة الموت، بل في ما يتعلّق بالموت الجسديّ موضوع حديثنا الرّاهن قد فارقوا الأجساد. لكن هذا ما لا يستطيع تفسيره أيّ كلام كما قلت: كيف يقال عمّن يموتون إنّهم يعيشون، أو عمّن ماتوا إنّهم لا يزالون في الموت. وكيف يكونون بعد الموت إن كانوا لا يزالون في الموت؟ خاصّة أنّا لا ندعوهم "مائتين" مثلما ندعو من هم في النّوم نياما، ومن هم في السّقم سقاما ومن هم في الألم متألّمين ومن هم في الحياة أحياء، لكنّا نقول عمّن هم في الموت قبل القيامة موتى ولا يمكن أن ندعوهم مائتين*.

   لذا يبدو لي أنّ هناك حكمة لم تأت على الأرجح من اجتهاد إنسانيّ بل من تدبير ربّانيّ أنّ فعل moritur ( يموت) لا يتبع في اللّغة اللاّتينيّة القواعد الصّرفيّة الّتي تخضع لها الأفعال الأخرى. فإنّا نشتقّ مثلا من oritur ( يُشرق) في الماضي ortus est ( أشرق)، والأفعال الّتي من جنسه تتبع نفس القاعدة. لكن إن سألنا كيف يتمّ اشتقاق الصّيغة المطابقة من فعل ، فالجواب حسب ما جرت العادة  بتضعيف الواو u. إذ نقول mortuus ( ميّت) كما نقول fatuus ( تافه) وarduus ( صعب) وconspicuus ( بارز) وصفات مشبّهة أخرى ليست من قبيل أسماء المفعول المستخدمة للدّلالة على الماضي، بل هي كالنّعوت لا ترتبط بزمان. فبالنّسبة لذلك الفعل نستخدم لتصريف ما لا يمكن تصريفه صفة مشبّهة بدلا من اسم المفعول*. هكذا أتى هذا الفعل على صورة توافق الواقع الّذي يعنيه ممنوعا من الصّرف، لكنّ بمستطاعنا أن نصرف* عنّا بإعانة عناية مخلّصنا، لا أقول وقوعه، إنّما على الأقلّ الموت الثّاني فهو أفدح وأدهى من كلّ الدّواهي، إذ لا يتمثّل في انفصال النّفس والجسد بل في اقترانهما في العذاب الأبديّ. هناك لا يكون النّاس قبل الموت ولا بعد الموت بل هم في الموت باستمرار، فلا هم أبدا بأحياء ولا أبدا بأموات بل يموتون موتا لا نهاية له. فما من نكال أسوأ للإنسان في الموت من حالة يكون الموت فيها باقيا لا يموت.

 

13-12 بأيّ موت توعّد الله الإنسانين الأوّلين إن عصيا ما أوصاهما

   إن سأل سائل إذن بأيّ موت توعّد الله الإنسانين الأوّلين إن عصيا وصيّته وخرجا عن طاعته: موت النّفس أم الجسد أم الإنسان بكامله أم ما يدعى بالموت الثّاني، يجب أن يُجاب: جميعها. فالأوّل يشمل اثنين منها والثّاني الكلّيّ جميعها. إذ كما تتكوّن الأرض جمعاء من عديد البلدان والكنيسة الجامعة من عديد الكنائس، كذلك يشتمل الموت الكلّيّ على كلّ أنواع الموت. لأنّ الأوّل يشتمل على اثنين منهما: موت النّفس وموت الجسد، فيكون موتا أوّلا للإنسان كلّه لمّا تتعرّض النّفس وقد فُصلت عن الله وعن الجسد لعقاب مؤقّت؛ أمّا في الثّاني فتتعرّض النّفس المفصولة عن الله مع الجسد للعقاب الأبديّ. إذن لمّا قال الله للإنسان الأوّل الّذي أسكنه الجنّة بخصوص الشّجرة المحرّمة: "يوم تأكل منها تموت موتا"، لم يكن وعيده منحصرا في الجزء الأوّل من الموت الأوّلحيث تُحرم النّفس من قرب الله، ولا في الجزء الأخير حيث يُجرّد الجسد من النّفس، ولا في الموت الكلّيّ الأوّل حيث تعاقَب النّفس وقد فُصلت عن الجسد والله، بل يشمل كلّ أنواع الموت حتّى أقصاها الّذي يدعى الموت الثّاني والّذي لا موت بعده.

 

13-13 في العقاب الأوّل الّذي تعرّضت له معصية الإنسانين الأوّلين

   بعد عصيان الوصيّة، بارحتهما النّعمة الإلهيّة حالا فبدا لهما عريهما وارتبكا فطفقا يغطّيان بورق التّين الّذي ربّما كان أوّل ما عثرت عليه أيديهما* سوأتيهما اللّتين بقيتا كما كانتا لكنّهما لم تكونا تثيران حياءهما سابقا. انتابهما إذن شعور جديد مصدره تمرّد جسدهما كردّ فعل على تمرّدهما. فالنّفس الّتي استخدمت حرّيّتها بإرادتها في مسلك منحرف وأبت الخضوع لسلطان ربّها جُرّدت من السّلطان الّذي كان لها على الجسد. ولتخلّيها باختيارها عن سيّدها الأعلى فقدت سلطتها على خادمها الأدنى، فلم يعد الجسد خاضعا لها كلّيّا كما كان يمكن أن يبقى دائما لو بقيت خاضعة لله. عندئذ بدأ الجسد إذن يشتهي ما هو ضدّ الرّوح، وهو نزاع وُلدنا به حاملين معنا بذرة الموت، وفي أعضائنا وطبيعتنا المشوبة بالفساد تمرّده أو غلبته نتيجة للخطيئة الأولى.

 

13-14 في أيّ تقويم خلق الله الإنسان وفي أيّ وضع تردّى بإرادته

   فقد خُلق الإنسان سويّا بمشيئة الله خالق الطّبائع لا النّقائص، لكنّه بمحض إرادته أفسد طبيعته فعوقب عدلا وولد ذرّيّة تحمل الفساد والعقاب. إذ كنّا في ذلك الإنسان الفرد لمّا كنّا كلّنا ذلك الإنسانَ الّذي سقط في الخطيئة جرّاء المرأة الّتي أُنشئت منه قبل الخطيئة*. لم تكن قد وُزّعت علينا الصّورة الّتي كان كلّ منّا سيعيش بها، لكن كانت قد أُنشئت الطّبيعة البذريّة الّتي كنّا سننشأ منها؛ فاستحال، بعدما باتت جرّاء الخطيئة مشوبة بالفساد مكبّلة بقيد الموت خاضعة لحكم البلى العادل، أن يولد الإنسان من الإنسان على غير تلك الوضعيّة. هكذا من سوء استعمال حرّيّة الاختيار نشأت، بتولّد شقوة عن شقوة، سلسلة من الكوارث الّتي قادت النّوع الإنسانيّ، جرّاء انحرافه الأصليّ الّذي هو بمثابة فساد تغلغل في جذوره، إلى طامّة الموت الثّاني الّذي لا نهاية له، إلاّ من نٌجّي منه بنعمة الله.

<<