القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الرّابع عشر 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الكتاب الرّابع عشر

 

14-1 بمعصية الإنسان الأوّل كان الجميع سيتردّون في الموت الثّاني الأبديّ لو لم تنجّ الكثيرين نعمة الله

   ذكرنا في الكتب السّابقة أنّ الله لدمج النّوع الإنسانيّ في وحدة متآلفة لا بتماثل الطّبيعة فقط بل كذلك بوشائج القربى، وجمعه برابطة السّلام شاء إن شاء النّاس من إنسان واحد، وألاّ يموت هذا النّوع في أيّ من أفراده لولا أنّ الإنسانين الأوّلين اللّذين خُلق أحدهما من العدم والأخرى منه استحقّا بمعصيتهما العقاب. فقد اقترفاخطيئة كبرى نجم عنها فساد في الطّبيعة الإنسانيّة أورث عقبهما إصر الخطيئة وحتميّة الموت. وقد ساد على البشر سلطان الموت، وإن كاد ليُرديهم جميعا في هاوية الموت الثّاني الأبديّ العقابُ المجتزى لولا أن تدارك بعضَهم نعمة من الله لم تُجتزَ. نتيجة لذلك لم يوجد بين الأمم في الأرض قاطبة، على عددها وتعدادها وتنوّع أعرافها وعاداتها واختلاف ألسنتها وأسلحتها وألبستها أكثر من نوعين من المجتمعات البشريّة، يحقّ أن نسمّيهما حسب كتابنا المقدّس المدينتين. إحداهما لمن يريدون العيش بحسب الجسد، والأخرى لمن يريدون العيش بحسب الرّوح كلّ في سلام بمقتضى نوعه، وإن نالوا مرادهم يعيشون كلٌّ في سلام بمقتضى نوعه.

 

14-2 في الحياة الجسديّة الّتي يجب فهم أنّها لا تأتي من نقائص الجسد فقط بل كذلك من نقائص النّفس

   علينا إذن أن ننظر أوّلا إلى المقصود بالحياة بحسب الجسد وبحسب الرّوح. فقد يتراءى لأوّل وهلة لمن يلقي لمحة على ما ذكرنا دون تذكّر أو تدبّر لغة الكتاب المقدّس أنّ الفلاسفة الأبيقوريّين يعيشون قطعا بحسب الجسد بما أنّهم جعلوا الخير الأعظم بالنّسبة للإنسان في لذّة الجسد، وكذلك غيرهم ممّن تصوّر بنحو أو بآخر خير الجسد خير الخير الأعظم للإنسان، وعامّة النّاس الّذين لا يتّبعون مذهبا معيّنا أو يتفلسفون بذلك النّحو وإنّما يتّبعون الشّهوات ولا يعرفون سعادة في غير ما تتناول حواسّهم، وأنّ الرّواقيّين الّذين يضعون في النّفس الخير الأعظم بالنّسبة للإنسان يعيشون بالعكس بحسب الرّوح، إذ هل النّفس سوى الرّوح؟ لكن يتبيّن من كتاب الله أنّ كلا الفريقين يعيش بحسب الجسد. فهو لا يطلق اسم الجسد فقط على جسم الحيّ الأرضيّ الفاني، كما في قوله: "ليس كلّ جسد جسدا واحدا بل للنّاس جسد وللبهائم جسد آخر وللطّيور آخر وللأسماك آخر."* بل كذلك في معان أخرى كثيرة، من ضمنها تسمية الإنسان نفسه، أي طبيعة الإنسان، مرارا بالجسد، من باب تسمية الكلّ بالجزء، كما في قوله: "إذ لا يُبرَّر بأعمال النّاموس (أيّ جسد)"*، إذ هل قصد سوى "أيّ إنسان"؟ وهو ما يقول بعد ذلك بقليل: "ليس أحد يتبرّر بالنّاموس"*، وفي رسالته إلى أهل غلاطية: "لعلمنا بأنّ الإنسان لا يبرَّر بأعمال النّاموس"*، وبهذا المعنى يُفهم كذلك: "والكلمة صار جسدا"، وهو ما لم يفهمه على وجهه الصّحيح من تصوّروا المسيح بدون نفس إنسانيّة*. فكما يُقصد الجزء بالكلّ في أقوال مريم المجدليّة كما جاء في الإنجيل: "إنّهم أخذوا ربّي ولا أدري أين وضعوه"* والحال أنّها تتحدّث فقط عن جسد المسيح الّذي ظنّت أنّهم أخذوه من القبر حيث دُفن، كذلك يُقصد الإنسان بالجسد، جزئه الكاني عن الكلّ، كما في الأمثلة المذكورة.

   إذن بما أنّ كتاب الله يطلق اسم الجسد بمعان كثيرة يطول تقصّيها وجمعها، لنركّز انتباهنا، ليمكننا استجلاء المقصود بالعيش بحسب الجسد، على تلك الفقرة من رسالة بولس إلى أهل غلاطية حيث يقول: "وأعمال الجسد واضحة وهي الزّنى والنّجاسة والعهر؛ وعبادة الأوثان والسّحر والعداوات والخصام والغيْرة والمغاضبات والمشاقّات والبدع؛ والمحاسدات والقتل والسّكر والقصوف وما شابه ذلك؛ وعنها أقول لكم أيضا كما قد قلت: إنّ الّذين يصنعون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله."* بالتّمعّن في كامل هذه الفقرة من الرّسالة الرّسوليّة قدر ما يبدو لنا وافيا بغرضنا الحاليّ، يمكن حلّ هذه المسألة، أعني: فيم يتمثّل العيش بحسب الجسد. فمن بين أعمال الجسد الّتي يقول إنّها واضحة وسردها مع إدانتها، لا نجد فقط تلك الّتي تتعلّق بلذّة الجسد كما هو الزّنا والنّجاسة والعهر والسّكر والقصوف، بل كذلك تلك الّتي تنمّ عن رذائل في النّفس لا صلة لها بلذّة الجسد. من فعلا لا يرى أنّ عبادة الأوثان والسّحر والعداوات والخصام والغيْرة والمغاضبات عيوب في النّفس لا الجسد؟ بل قد تدفع عبادة الأوثان أو ضلالة بدعة من البدع إلى الامتناع عن ملاذّ الجسد. لكنّ الإنسان، حتّى في تلك الحال، ومع أنّا نراه كابحا وقامعا شهوات جسده، يعيش بحسب الجسد كما يشهد عليه كلام الرّسول، ويثبت أنّه في امتناعه عن شهوات الجسد يأتي أعمالا جسديّة مرذولة. من لا يحمل ضغائن في نفسه؟ ومن يقول لعدوّه أو من يعتبره عدوّه: "جسدك يضمر لي السّوء" بدلا من "نفسك تضمر لي السّوء"؟ باختصار، كما أنّ لا أحد يتردّد عند سماع "الجسديّات" carnalitates- إن جاز التّعبير- في نسبتها إلى الجسدcarnis، كذلك لا أحد يتردّد في ردّ "النّفسيّات" animositates ( العداوات) إلى النّفس animus*. فهل من سبب لتسمية معلّم الأمم الحقَّ والإيمانَ كلّ هذه الشّرور وأمثالها أعمالَ الجسد سوى أنّه، بأسلوب البيان المتمثّل في تسمية الكلّ بالجزء، يقصد الإنسان باسم الجسد؟

 

14-3 في أنّ النّفس لا الجسد تسبّبت في الخطيئة وأنّ الفساد الّذي أصيب به الإنسان جرّاء الخطيئة ليس خطيئة بل هو عقاب

   إن قال أحد إنّ الجسد سبب الفساد الخلقيّ المتمثّل في شتّى الرّذائل بحجّة أنّ النّفس إنّما تعيش بذلك النّحو بتأثير الجسد، فمعنى ذلك أنّه بالتّحقيق لا ينظر جيّدا إلى طبيعة الإنسان في كلّيّتها. صحيح أنذ "الجسد الفاسد يثقّل النّفس". لذلك فإنّ الرّسول الّذي قال في حديثه عن هذا الجسد الفاسد: "وإن كان إنساننا الظّاهر ينهدم"*، أضاف بعد قليل: "فإنّا نعلم أنّه إذا نُقض بيت مسكننا الأرضيّ فلنا بناء من الله بيت لم تصنعه الأيدي أبديّ في السّماوات. فلذلك نحنّ متشوّقين أن نلبس بيتنا الّذي من السّماء، إن وُجدنا لابسين لا عراة. فإنّا في هذا المسكن نحنّ مثقَلين لأنّا لا نحبّ أن نخلعه بل أن نلبس فوقه حتّى يُبتلع المائت بالحياة."* يثقلنا الجسد الفاسد إذن، ولعلمنا بأنّ سبب ذلك الثّقل ليس طبيعة وجوهر الجسد بل فساده، لا نحبّ أن نخلعه بل أن نلبس عليه عدم الفساد. فإذّاك سيبقى لنا، لكن لأنّه لن يبقى فاسدا، لن يُثقلنا. الآن إذن "الجسد الفاسد يثقّل النّفس والمسكن الأرضيّ يخفض العقل الكثير الهموم". مع ذلك يخطئ من يظنّون الجسد مصدر كلّ أدواء النّفس*.

   يبدو فعلا أنّ فرجيليوس يعرض فكرة أفلاطونيّة في هذه الأبيات الرّائعة حيث يقول: "لهذه البذور عنفوان ناريّ وأصل سماويّ، طالما لم تلبّدها أدران الجسد، ولم تبلّدها علائق# أرضيّة وأعضاء آيلة إلى الموت"، وليبيّن أنّ انفعالات النّفس الأربع الشّهيرة، الرّغبة والخوف والفرح والحزن*، باعتبارها أصل كلّ الخطايا والرّذائل، تأتي كلّها من الجسد، يردف قائلا: "من هنا فهي تخاف وترغب، وتفرح وتألم، ولا ترى صفاء السّماء وهي حبيسة الظّلام وسجنها العمي."* أمّا عقيدتنا فلها رأي آخر. ليس فساد الجسد سبب الخطيئة وإنّما هو عقابها، وما جعل الجسد الفاسد النّفسَ خاطئةً، بل النّفس الخاطئة جعلت الجسد فاسدا. ورغم أنّ فساد الجسد يولّد حوافز إلى الرّذائل والشّهوات الذّميمة، لا ينبغي مع ذلك ردّ كلّ انحرافات حياة* متفسّخة إلى الجسد، لئلاّ نبرّئ منها الشّيطان الّذي هو بلا جسد. فحتّى إن لم يكن ممكنا أن ننسب إلى الشّيطان الزّنا والسّكر ورذائل مماثلة* تعود إلى شهوات الجسد، مع ذلك لكونه في نفس الوقت المشير الموسوس في الخفاء بتلك الخطايا، هو مستكبر وحسود إلى أبعد الحدود. وييملّكه هذا الانحراف إلى درجة أنّه بسببه حُبس في سجن الهواء المظلم في انتظار العقاب الأبديّ. لكنّ الرّسول نسب هاتين الرّذيلتين ورذائل أخرى تطغى في الشّيطان إلى الجسد وإن لم يكن للشّيطان جسد قطعا. إذ يقول إنّ العداوات والخصام والغيْرة والمباغضات والمحاسدات أعمال الجسد. الحقّ أنّ رأس وأصل هذه الشّرور كلّها الكبرياء الّتي تسود في الشّيطان بلا جسد. لكن من أشدّ منه عداوة للصّدّيقين؟ من أشدّ منه خصاما وبغضا وحسدا لهم؟ لكن بما أنّ له كلّ هذه الرّذائل وهو بلا جسد، كيف تكون من أعمال الجسد إلاّ من حيث هي أعمال الإنسان الّذي يدعوه كما قلت باسم الجسد؟ فما لامتلاكه جسدا- وهو ما لا يملك الشّيطان- بل لعيشه بحسب ذاته، أي بحسب البشريّة، صار الإنسان شبيها بالشّيطان. لأنّه هو أيضا أراد أن يعيش بحسب هواه يوم لم يثبت على الحقّ، فما بما هو لله بل بما هو له يتكلّم بالكذب، وما هو بالكذوب فقط بل هو أبو الكذب. فإنّه فعلا أوّل من كذب: منه هو الّذي بدأت منه الخطيئة بدأ الكذب.

 

14-4 ماذا تعني الحياة بحسب البشريّة وبحسب رضى الله

   إذن لمّا يعيش الإنسان بحسب البشريّة لا بحسب رضى الله، يكون شبيها بالشّيطان، إذ ما كان لملاك أن يعيش بحسب الملاكيّة بل بحسب رضى الله ليثبت على الحقّ ويتكلّم بالحقّ الّذي هو من الله لا منه هو. فعن الإنسان يقول كذلك نفس الرّسول في موضع آخر: "ولكن إن كان بكذبي قد ازداد صدق الله"*، قال: كذِبنا وصدْق اللهِ. لذلك لمّا يعيش الإنسان بحسب الحقّ، لا يعيش بحسب بشريّته بل بحسب رضى الله، فقد قال الله: "أنا الحقّ"*. لكن لمّا يعيش لكن لمّا يعيش بحسب ذاته، أي بحسب البشريّة، فهو يعيش يقينا بحسب الكذب، لا لأنّ الإنسان ذاته كذب بما أنّ منشئه وخالقه الله الّذي ليس قطعا منشئ وخالق الكذب، بل لأنّ الإنسان خُلق في صورة قويمة بحيث يعيش حياة سويّة لا بحسب ذاته بل بحسب من خلقه، أي بفعل ما يشاء خالقه لا ما يملي هواه: فعيشه على غير النّحو الّذي خُلق ليعيش عليه هو الكذب. يريد أن يعيش سعيدا حتّى وهو يعيش على غير النّحو الّذي يتيح له ذلك، أفثمّة أكذب من هذه الإرادة؟ فما باطلا إذن يمكن القول إنّ كلّ خطيئة كذبة، إذ لا تقع الخطيئة بدون تلك الإرادة الّتي بها نحبّ أن نسعد أو نكره أن نشقى؛ والكذب يكمن إذن في أنّ ما يُفعل ليكون لنا فيه خير يكون لنا فيه شرّ بالأحرى، أو ما يُفعل لنكون به في حالة أحسن يجعلنا بالأحرى في حالة أسوأ. وهل لذلك من سبب سوى أنّ حسن حال الإنسان يأتي من الله الّذي بالخطيئة يُعرض عنه، لا من ذاته الّتي بعيش بحسب هواها يخطأ؟

   لذلك فما قلنا عن نشأة مدينتين مختلفتين ومتضادّتين لأنّ البعض يعيشون بحسب الجسد والآخرين بحسب الرّوح يمكن قوله كذلك بهذا النّحو: أنّ البعض يعيشون بحسب البشريّة والآخرين بحسب رضى الله. يقول بولس بوضوح لأهل كورنتوس: "فإنّه إذ فيكم حسد وخصومة ألا تكونون جسديّين وتسلكون بحسب البشريّة."* أن يسلك الإنسان بحسب البشريّة هو إذن أن يكون جسديّا، لأنّ المقصود بالجسد أي بجزء من الإنسان هو الإنسان. وهو ينعت فعلا من دعاهم حيوانيّين سابقا بالجسديّين لاحقا، قائلا: "فإنّه مَن مِن النّاس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الّذي فيه، فهكذا لا يعلم أحد ما في الله إلاّ روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الرّوح الّذي من الله لنعرف ما أنعم الله علينا به من العطايا. الّتي ننطق بها لا بكلمات تعلّمها الحكمة البشريّة بل بما يعلّمه الرّوح إذ نقرن الرّوحيّات بالرّوحيّات. والإنسان الحيوانيّ لا يدرك ما لروح الله لأنّ ذلك جهالة عنده."* للنّاس الّذين هم من هذا الصّنف، أي حيوانيّون، يقول بعد قليل: "وأنا أيّها الإخوة لم أستطع أن أكلّمكم كالرّوحيّين بل كالجسديّين"*. وذلك أيضا وفق نفس الأسلوب البيانيّ، أعني تسمية الكلّ بالجزء. إذ بالنّفس والجسد اللّذين هما جزءا الإنسان يمكن أن يُقصد الكلّ: ألا وهو الإنسان. وهكذا لا فرق بين الإنسان الحيوانيّ والجسديّ، بل هما اسمان لمسمّى واحد هو الإنسان الّذي يعيش بحسب البشريّة؛ كما هو المقصود بما نقرأ: "لا يبرَّر بأعمال النّاموس ( أيّ جسد)" وبما هو مكتوب: "فجملة النّفوس الّتي دخلت مصر من آل يعقوب ( خمس و) سبعون نفسا"*. فالمقصود هناك بكلّ جسد كلّ إنسان، وهنا بخمس وسبعين نفسا خمسة وسبعون إنسانا*. وفي قوله: "ننطق بها لا بكلمات تعلّمها الحكمة البشريّة" كان يمكن أن يقال: "الحكمة الجسديّة"، لكنّ هذا ظهر بشكل أوضح لمّا أضاف: "لأنّه إذا كان واحد يقول أنا لبولس وآخر أنا لأبلّوس ألا تكونون بشريّين؟" كان يقول "تكونون حيوانيّين" و"تكونون جسديّين"، ثمّ قال: "تكونون بشريّين"، يعني: "تعيشون بحسب الإنسان لا بحسب الله الّذي لوعشتم بحسبه لكنتم آلهة".

 

14-5 في أنّ رأي الأفلاطونيّين حول طبيعة الجسم والنّفس أيسر احتماله من رأي المانويّة، لكنّه مردود هو الآخرلأنّه يعزو أسباب كلّ الانحرافات إلى الطّبيعة الجسديّة

   لا مجال إذن لإلقاء تبعة الخطايا والرّذائل على الطّبيعة الجسديّة لأنّ ذلك تجديف على الخالق، فإنّها في نوعها وجنسها حسنة، لكنّ الابتعاد عن الخالق الحسن والعيش بحسب المخلوق الحسن غير حسن، سواء اختار الإنسان العيش بحسب الجسد أو بحسب النّفس أو بحسب الإنسان بكامله الّذي يتألّف من النّفس والجسد، ولذا يمكن أن يشار إليه باسم النّفس فقط أو الجسد فقط. فمن يمدح طبيعة النّفس باعتبارها الخير الأعظم، ويذمّ طبيعة الجسد باعتبارها شرّا، يلتمس النّفس جسديّا ويفرّ الجسد جسديّا بالتّحقيق، لأنّه بذلك يتّبع الباطل الإنسانيّ لا الحقّ الرّبّانيّ. صحيح أنّ الأفلاطونيّين لا يبغضون كالمانويّة الأجسام الأرضيّة باعتبارها من طبيعة الشّرّيّات، ما داموا يعزون كلّ العناصر الّتي يتألّف منها العالم المنظور والملموس وصفاتها إلى الله صانعها. مع ذلك يرون أنّ النّفوس تتأثّر بتلك العلائق# الأرضيّة والأعضاء الفانية إلى حدّ تعرّضها لأسقام الرّغبة والخوف والفرح والحزن. ففي تلك الانفعالات perturbationes الأربعة كما يدعوها شيشرون أو التّأثّرات passiones كما يدعونها غالبا بنقل الكلمة اليونانيّة المطابقة، تكمن كلّ انحرافات الأخلاق الإنسانيّة. لكن إن كان الأمر كذلك، لماذا نرى أيناس في ملحمة فرجيليوس، لمّا سمع من أبيه في العالم السّفليّ عن عودة النّفوس من جديد إلى الأجسام، يهتف مستغربا: "أبتاه، أيُتصوّر أن تصعد بعض النّفوس السّعيدة# من هنا إلى عالم النّور وتعود مجدّدا إلى عوق الأجسام؟ أيّة رغبة مشؤومة في ذلك النّور المليء بالشّقاء!"* أتنشأ تلك الرّغبة المشؤومة فيها من العلائق# الأرضيّة والأعضاء الفانية بعد بلوغ النّفوس الصّفاء الّذي ذكر؟ ألم يؤكّد أنّ النّفوس نُقّيت من كلّ آفات الجسد كما يقول لمّا يعاودها الحنين إلى الحلول في الأجساد من جديد؟ نستنتج من ذلك أنّه حتّى لو صحّ أنّ النّفوس لا تفتأ تتنقّل بالتّناوب بين التّطهّر والتّدنّس جيئة وذهابا- وهو هراء باطل- ما كان حقّا أن يقال إنّ كلّ نزوعات النّفوس الأثيمة والمرذولة تنشأ من أجسامها الأرضيّة، ما داموا يقولون إنّ تلك الرّغبة المشؤومة- على حدّ تعبير الشّاعر الشّهير- تأتي النّفس وهي بعيدة تماما عن الجسد، وقد تطهّرت من كلّ أدرانه واستقلّت عن كلّ جسم، فتدفعها إلى الحلول في جسم. لذلك وباعترافهم ليس تأثير الجسد هو ما يجعل النّفس تهوى وتخشى وتفرح وتترح* بل يمكن كذلك أن تحرّكها من ذاتها هذه الأهواء.

 

14-6 في صفة الإرادة الإنسانيّة الّتي بتقييمها يُحكم بأنّ انفعالات النّفس منحرفة أو مستقيمة

   لكن يهمّ على أيّة صفة تكون إرادة الإنسان، فإذا كانت منحرفة تكون نوازعها منحرفة، أمّا إذا كانت مستقيمة فليست نوازعها غير ذميمة فقط، بل هي كذلك حميدة، لأنّ الإرادة تتجلّى فيها كلّها، بل ما هي كلّها سوى إرادات. إذ هل الرّغبة أو الفرح سوى الإرادة متمثّلة في رضانا بما نريد؟ وهل الخوف والحزن سوى الإرادة متمثّلة في نفورنا ممّا لا نريد؟ لكن لمّا نُظهر رضانا باشتهاء ما نريد فتلك رغبة، لكن لمّا نُظهر رضانا بالالتذاذ بما نريد فذلك فرح؛ كذلك لمّا نُظهر نفورنا ممّا لا نريد أن يحدث فتلك الإرادة خوف، لكن لمّا نُظهر نفورنا ممّا حدث رغما عنّا فتلك الإرادة حزن. هكذا أمام تنوّع الأشياء المحبوبة والمكروهة، كلّما استميلت أو نُفّرت إرادة الإنسان تحوّلت وانقلبت إلى هذه الانفعالات أو تلك. لذلك يجب على الإنسان الّذي يعيش بحسب رضى الله لا بحسب البشريّة أن يكون محبّا للخير، وبالتّالي أن يكره الشّرّ. وبما أنّ لا أحد شرّير بطبيعته، وكلّ شرّير هو كذلك جرّاء الفساد الطّارئ على طبيعته، يجب على من يعيش بحسب رضى الله أن يبغض الأشرار بغضا تامّا، فلا يكره الإنسان بسبب النّقيصة ولا يحبّ النّقيصة بسبب الإنسان، بل يكره النّقيصة ويحبّ الإنسان. فبعلاج النّقيصة سيبقى كلّ ما يجب أن يحَبّ ولا شيء ممّا يجب أن يبغَض*.

 

14-7 نجد في الكتاب المقدّس الحبّ والمحبّة بمعنى حسن أو سيّء على السّواء

   إذ لا شكّ أنّ من شرعته في الحياة أن يحبّ الله ويحبّ قريبه كما يحبّ نفسه لا بحسب البشريّة بل بحسب رضى الله يُعدّ بسبب هذا الحبّ شخصا ذا مشيئة صالحة، وهي ما يدعى في الكتاب المقدّس بالمحبّة caritas. لكنّ الكتاب المقدّس يدعوها كذلك حبّا. إذ يقول الرّسول عمّن يوصي باختياره لقيادة الشّعب إنّه يجب أن يكون محبّا للخير*. ولمّا سأل الرّبّ بطرس الرّسول قائلا: "أتحبّني diligis me أكثر من هؤلاء؟" أجابه: "يا ربّ أنت تعلم أنّي أحبّك amo te". فسأل الرّبّ ثانية إن كان بطرس يحبّه محبّة لا حبّا، فأجابه ثانية: "يا ربّ تعلم أنّي أحبّك". لكن لمّا سأل يسوع ثالثة، لم يقل: "diligis me" بل "amas me". وتابع الإنجيليّ: "فحزن بطرس لأنّه قال له ثالثة أتحبّني amas me؟"، بينما لم يقل الرّبّ ثلاثا بل مرّة واحدة: "amas me" ومرّتين "diligis me". من ذلك نفهم أنّه حتّى لمّا كان الرّبّ يقول: "diligis me" لم يكن يعني سوى: "amas me"، أمّا بطرس فلم يغيّر اللّفظ الّذي يشير إلى هذا الشّعور ذاته، بل قال للمرّة الثّالثة: "يا ربّ أنت تعلم كلّ شيء وأنت تعلم أنّي أحبّك amo te"*.

   رأيت أن أذكّر بهذه الأمور لأنّ البعض يظنّون dilectio أو caritas ( المحبّة) غير amor ( الحبّ)، إذ يقولون إنّ المحبّة في الخير والحبّ في الشّرّ. لكن من الثّابت أنّ الكتّاب الدّنيويّين أنفسهم لم يأخذوا الأمر بهذا الوجه. فلينظر الفلاسفة إن كان هناك فرق وليقدّموا مسوّغاته. فإنّ كتبهم في الواقع عن الحبّ ضمن المستحسنات وتعطي حبّ الله ذاته قدرا عظيما. أمّا كتبنا المقدّسة الّتي نقدّم سلطتها على كلّ الكتب الأخرى، فقد رأينا أن نبيّن أنّ لا فرق فيها بين معاني تلك الكلمات. إذ بيّنّا آنفا أنّ الحبّ يقال في ما هو حسن. لكن كيلا يتصوّر أحد أنّ الحبّ يقال في ما هو شرّ وما هو خير على السّواء لا محالة، بينما لا تُطلَق المحبّة إلاّ على ما يكون في الخير، لينظر إلى ما كُتب في المزمور: "أمّا من يحبّ diligit الجوْر ( فيبغضه)"*، وإلى ما يقول يوحنّا الرّسول: "إن كان أحد يحبّ dilexerit العالم فليس فيه محبّة dilectio الآب"*. ها أنّ المحبّة في نفس الجملة تُطلَق على ما يكون في الخير وما يكون في الشّرّ. وكيلا يتبادر لأحد أن يسأل عمّا إن كان المراد بالحبّ amor ما يكون في الشّرّ كذلك- إذ بيّنّا سابقا أنّه يطلق على ما يكون منه في الخير- ليقرأ ما كُتب: "حينئذ يكون النّاس محبّين لأنفسهم وللمال se ipsos amantes amatores pecuniae"*. وبالتّالي فالإرادة المستقيمة حبّ حسن والإرادة المنحرفة حبّ سيّء. الحبّ الصّابي إلى امتلاك ما يستهويه هو الرّغبة، والممتلك له المتنعّم به هو الفرح، والفارّ ممّا ينفّره هو الخوف، والمتألّم منه إن حدث هو الحزن. هذه الحالات إذن سيّئة إن كان الحبّ سيّئا، وحسنة إن كان حسنا. سنثبت ما نقول من الكتاب المقدّسز يرغب الرّسول أن ينحلّ فيكون مع المسيح.* وجاء فيه: "اشتاقت نفسي إلى الرّغبة في أحكامك"*، أو بعبارة أنسب لغرضنا: رغبت نفسي في ابتغاء أحكامك. وكذلك: "فابتغاء الحكمة يبلّغ إلى الملكوت"*. لكن جرت العادة على فهم الرّغبة أو الشّهوة، إن لم يُضف موضوعهما، بمعنى قبيح فقط. والفرح يكون كذلك في ما هو خير، كما في قوله: "افرحوا بالرّبّ وابتهجوا أيّها الصّدّيقون"*، و"لقد أنشأتَ فرحا في قلبي"*، و"ستملأني فرحا مع وجهك"*. ونجد الخوف في معنى حسن عند الرّسول: "اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة"*، و"لا تستكبر بل خف"*، و"لكنّي أخاف أنّها كما أغوت الحيّة حوّاء باحتيالها كذلك تُفسد بصائركم عن الخلوص الّذي في المسيح"*. أمّا الحزن tristia الّذي يدعوه شيشرون سقما aegritudo وفرجيليوس ألما dolor حيث يقول: "تفرح وتألم"، وآثرت من جهتي تسميته حزنا tristia لأنّ السّقم أو الألم يُستخدم أكثر في الحديث عن الجسد، فالبتّ في ما إن كان ممكنا أن نجده في وجه حسن مسألة أصعب.

 

<<