القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

مقدّمة المترجم  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

مدينة الله للقدّيس أغسطينوس

 

مقدّمة المترجم

 

   يجب ألاّ ندع أيّ تعليم أضفى عليه القدم مهابة بل أن نجتهد لقراءة ما كتب الحكماء ونعتني بدراسة روايات وأقوال الباحثين في العصور القديمة وننظر في رجال وأعمال الماضي؛ فإنّها لمتعة كبرى أن نعلم كلّ ذلك ( فيلون الإسكندريّ)

 

 

   "مدينة الله" مع "الاعترافات" أشهر كتب القدّيس أغسطينوس، ألّفه على امتداد 15 سنة بداية من 412، إثر اجتياح القوط لرومية بقيادة ألاريك وما تبعه من اتّهامات وجّهها الوثنيّون للمسيحيّة الّتي أصبحت منذ حوالي قرن دين الامبراطوريّة الرّومانيّة وحظرت الطّقوس الوثنيّة ومن شكوك وحيرة عند المسيحيّين أنفسهم، فقد كان ذلك بالنّسبة لهم كارثة تشبه في تاريخ الإسلام إلى حدّ ما غزو المغول لبغداد أو إلغاء الخلافة العثمانيّة. ويحوي رؤية لتاريخ العالم من منظور لاهوتيّ مسيحيّ تقوم على فكرتين أساسيّتين: المقابلة بين "مدينتين"- دنيويّة وروحيّة-، وخضوع مسار التّاريخ العالميّ للعناية الإلهيّة.

   كان النّظر إلى تاريخ مختلف الشّعوب في مجموعه وتشابكه أمرا مألوفا في عصر أغسطينوس فقد بات العالم القديم بتوسّع الامبراطوريّة الرّومانيّة، والمقدونيّة قبلها إلى حدّ ما، كمدينة واحدة فعلا، وكانت بعض المذاهب الفلسفيّة كالرّواقيّة تنظر إلى العالم كوطن واحد للبشريّة ( كما في تأمّلات مرقس أورليوس)، خلافا للنّظرة اليونانيّة الكلاسيكيّة الضّيّقة، وهو تصوّر أقرب إلى روح المسيحيّة ( والإسلام لاحقا)؛ ونجد عند يوليانوس الأفريقيّ ويوسبوس محاولة لوضع التّاريخ اليهوديّ والمسيحيّ في إطار عالميّ وربطه بالتّواريخ الأخرى، سيما وقد بات معروفا بعد فتوحات الإسكندر تاريخ أمم أخرى كالمصريّين بفضل مانيثون أو البابليّين بفضل برعشّا. وفكرة المدينة الرّوحيّة أي الكنيسة جسد المسيح، حيث معيار المواطنة التّقوى الحقيقيّة لا الانتماء الصّوريّ، كممفهوم الأمّة عند المسلمين تقريبا، ومقابلتها بمدينة الأرض موجودة في الكتاب المقدّس حيث ترمز أرشليم وبابل إلى التّقوى والاستكبار البشريّ، وربّما استمدّها كذلك من معاصره الإفريقيّ تيخونوس، وقد أثّرت في المؤرّخين المسيحيّين، فنجدها مثلا في كتاب تلميذه أوروسيوس، أو هرشيوش كما يدعوه المؤرّخون العرب، وهو بمثابة الملحق التّاريخيّ المفصّل "لمدينة الله" أو في كتاب "المدينتين" لأوتّو الفريزنجيّ. والمدينتان غير منفصلتين بل متشابكتان في التّاريخ وإن اختلفتا في أصلهما وتطوّرهما ومآلهما.

   وليس مسار تاريخ البشريّة اعتباطيّا خاضعا للصّدفة، أو دوريّا ( كتاريخ المدن في رؤية أفلاطون أو بوليبيوس أو ابن رشد لاحقا، أو تاريخ الحضارات في تصوّر اشبنقلر) أو تقهقريّا كما في نظرة هسيودوس الأسطوريّة ( توالي الجنس الذّهبيّ فالفضّيّ فالبرنزيّ فأنصاف الآلهة والأبطال فالجنس الحديديّ الحاليّ، وهي نظرة تذكّر برؤيا نبوكدنصّر وتأويلها في سفر دانيال 2: 31-45)، بل تسيّره العناية الإلهيّة، ويقسّمه أغسطينوس وكذلك أوروسيوس وأوتّو إلى 7 حقب: من نزول آدم إلى الطّوفان، فعهد إبراهيم، فمُلك داوود، فأسر بني إسرائيل، فمجيء المسيح، ثمّ العصر الحاليّ الّذي سينتهي بالدّينونة واستراحة الله والأبرار في ملكوت السّماء، على غرار ما جاء عن خلق العالم في سفر التّكوين (وقد أتت فكرة خلق العالم في ستّة أيّام في القرآن أيضا 50: 38 دون الاستراحة حتّى بتأويل أغسطين). في هذا التّاريخ كلّ الأحداث، حتّى الطّبيعيّة، ذات معنى وغاية، وحتّى إن خفيت علينا مقاصد الله فما أحكامه بظالمة أبدا.

   قسّم أغسطينوس كتابه إلى خمسة أجزاء تضمّ 22 كتابا. في الجزءين الأوّل والثّاني يردّ على الوثنيّين ودعوى ضرورة عبادة آلهتهم لتحقيق وحفظ الازدهار المادّيّ ( الكتب 1-5) والسّعادة الأخرويّة ( 6-10) وعلى نسبة نكبات الامبراطوريّة الرّومانيّة للمسيحيّة، مبيّنا أنّها عرفت كوارث شبيهة قبل مجيء المسيح وأنّ عبادة الآلهة بالعكس مسؤولة عن أسوإ أدوائها: تفشّي الرّذائل، ومناقشا شتّى النّظريّات الفلسفيّة ( وارّون، فرفوريوس الصّوريّ...) ومستنتجا أنّ إله المسيحيّة وحده يستحقّ العبادة. في الأجزاء الثّلاثة الأخرى يعرض وجهة النّظر المسيحيّة عن تاريخ العالم: أصل المدينتين ( 11)، خلق الملائكة والإنسان ( 12)، نتائج الخطيئة الأصليّة: الموت وشهوات الجسد ( 13-14)، الفترة الممتدّة إلى الطّوفان ( 15)، ثمّ إلى إبراهيم فمملكة داوود ( 16) ثمّ مجيء المسيح مع إبراز النّصوص المبشّرة به في العهد العتيق ( 17)، تاريخ المدينتين منذ إبراهيم ( 18) وغايتهما ( 18) ويوم الدّينونة ( 20) ويبيّن الفرق بين مآل مدينة الشّيطان ( 21) ومدينة الله، أي الأبرار ( 22).

   قد يبدو الكتاب بعيدا عن فكرنا الحديث وأقرب إلى اللاّهوت منه إلى التّاريخ، مع ذلك نجد فيه جوانب كثيرة تثير اهتمامنا، كحكمه على توسّع الامبراطوريّة الرّومانيّة الّذي ينطبق إلى حدّ بعيد على السّياسات الامبرياليّة المعاصرة رغم اختلاف الظّروف، أو إلحاحه على أهمّيّة القيم والأخلاق في حياة الدّول أو بعض القضايا الّتي تفتح الباب لحوار بين الأديان...ونترك للقارئ لذّة اكتشافه بنفسه، ونحن على ثقة أنّه رغم طوله الّذي يعتذر عنه الكاتب بنفسه في نهايته لا يخلو من متعة بالنّسبة للقارئ الجدّيّ. ولا نملك لتشجيعه إلاّ أن نستعير اعتذار كاتب "رأس المال" عن صعوبة منهجه: "ليس من طريق ممهّدة إلى العلم ووحدهم يفوزون ببلوغ ذراه النّيّرة من لا يخشون تجشيم أنفسهم تسلّق أشفائه الوعرة"، ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل كما يقول أبو الطّيّب. وللقارئ التّونسيّ والعربيّ الّذي قد يتصوّر أنّه غير معنيّ بهذا التّراث القديم، إن عدّه من تراثنا أصلا، نعيد قولة هوراتيوس الشّهيرة: القصّة قصّتك de te fabula narratur. وقد ألحقنا به تراجم للأعلام ونبذة عن التّاريخ الرّومانيّ وملاحظات عن مقاطع أشرنا إليها في النّصّ، وأشرنا في بعض المواضع – لا كلّها وإلاّ طال بنا الأمر- إلى ما يلتقي أو يختلف فيه أغسطينوس والتّراث الفكريّ الّذي ينتمي إليه مع التّراث العربيّ الإسلاميّ. ونرجو أن نكون قد وفّقنا في التّرجمة.

 

عمّار الجلاصيّ، 2/12/2002