القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّادس عشر- تابع 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

16-26 في تأكيد الله لإبراهيم أنّه سيهبه على الكبر من سارة العاقر ابنا ويقيمه أبا جمهور أمم ويعطيه علامة عهدٍ شعيرة الختان

   بعدما وُلد من هاجر إسماعيل الّذي كان يمكن أن يرى فيه تحقيق ما وُعد لمّا أراد تبنّي قيّم بيته، إذ قال له الله: "لا يرثك هذا بل من يخرج من صلبك هو يرثك"*، كيلا يظنّ هذا الوعد تحقّق في ابن الأمة، "لمّا كان ابن تسع وتسعين سنة تجلّى له الرّبّ وقال له أنا الله القدير اسلكْ أمامي وكن كاملا. فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثّرك جدّا جدّا. فسقط أبرام على وجهه؛ وخاطبه الله قائلا: ها أنا أجعل عهدي معك وتكون أبا جمهور أمم. لا يكون اسمك أبرام بعد بل يكون اسمك إبراهيم لأنّي جعلتك أبا جمهور أمم. وسأنميك جدّا جدّا وأجعلك أمما وملوكا منك يخرجون. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم عهد الدّهر لأكون لك إلها ولنسلك من بعدك. وأعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك جميع أرض كنعان مِلكا مؤبّدا وأكون لهم إلها. وقال الله لإبراهيم وأنت فاحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك مدى أجيالهم. هذا هو عهدي الّذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يُختن كلّ ذكر منكم. فتختنون القلفة من أبدانكم ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم. وابنَ ثمانية أيّام يُختن كلّ ذكر منكم مدى أجيالكم المولودُ في منازلكم والمشترى بفضّة من كلّ غريب ليس من نسلكم. يُختن المولود في بيتك والمشترى بفضّتك فيكون عهدي في أبدانكم عهدا مؤبّدا. وأيّ أقلف من الذّكور لم تُختن القلفة من بدنه تُقطع تلك النّفس من شعبها إذ قد نقض عهدي. وقال الله لإبراهيم سارايَ امرأتَك لا تسمّها ساراي بل سمّها سارة. وأنا أباركها وتكون أمما وملوكُ شعوب منها يكونون. فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في نفسه ألابن مئة سنة يولد أم سارة وهي ابنة تسعين سنة تلد. فقال إبراهيم لله لو أنّ إسماعيل يحيا بين يديك. فقال الله بل سارة امرأتك ستلد لك ابنا وتسمّيه إسحاق وأقيم عهدي معه عهدا مؤبّدا لنسله من بعده. وأمّا إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وهأنذا أباركه وأنميه وأكثّره جدّا جدّا ويلد اثني عشر رئيسا وأجعله أمّة عظيمة. غير أنّ عهدي أقيمه مع إسحاق الّذي تلده لك سارة في مثل هذا الوقت من قابل."* في هذه الأقوال تظهر بمزيد من الوضوح دعوة الأمم في إسحاق ابن الوعد الّذي يرمز إلى النّعمة لا الطّبيعة، لأنّه ابن وُعد به شيخ وعجوز عقيم. فلئن يكن الإنجاب من عمل الخلق الإلهيّ، مع ذلك حيثما يظهر عمل الله مشوبا بفساد ومجرى الطّبيعة معطّلا يظهر بنحو أسطع أثر نعمة الله. ولأنّ ذلك كان سيتمّ لا بإنسال عاديّ بل بإحياء استثنائيّ أتى أمر الله بالختان لمّا تلقّت سارة الوعد بولد. ولأنّه أمر أن يُختن لا البنون فقط بل كذلك جميع مواليد البيت وسائر المشتريْن بفضّة، تلك شهادة بأنّ هذه النّعمة تعمّ على الجميع. إذ هل يعني الختان سوى إعادة الجدّة للطّبيعة بإزالة البلى؟ وهل يشير اليوم الثّامن إلى غير المسيح الّذي قام بعد نهاية الأسبوع، أي بعد السّبت*؟ كلّ شيء يتلألأ جدّة، وتحت برقع العهد العتيق يكاد الجديد يلوح. وهل يُدعى ذاك بالعتيق  إلاّ لأنّه يخبئ الجديد؟ وهل يدعى هذا بالجديد إلاّ لأنّه يكشف العتيق؟

   أمّا ضحك إبراهيم فهو فرح المصدّق الشّكور لا هزء المكذّب الكفور. كذلك ليس قوله في نفسه: "ألابن مائة سنة يولد أم سارة وهي ابنة تسعين سنة تلد؟" قول متشكّك بل هو قول متعجّب. فإن استغرب أحد ما قيل له: "وأعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك جميع أرض كنعان مِلكا مؤبّدا" in possessionem aeternam وتساءل كيف تحقّق أو يُنتظر أن يتحقّق ذلك الوعد والحال أنّه لا يمكن أن يدوم مِلك أرضيّ لأيّ شعب إلى الأبد، فليعلمْ أنّ كلمة aeternum في لغتنا ترجمة للكلمة اليونانيّة aionion المشتقّة من كلمة aion الّتي تعني القرن saeculum؛ لكنّ اللاّتين لم يجرؤوا على ترجمة الكلمة ب saecularis مخافة أن يُفهم منها معنى آخر. إذ تُطلق هذه الكلمة على عدّة أشياء تحدث في هذا العالم saeculum وتعبر في زمن وجيز، بينما تقال  على ما لا نهاية له او ما يدوم إلى نهاية هذا العالم*.

 

16-27 في الولد الّذي تهلك نفسه إن لم يُختن في اليوم الثّامن لأنّه نقض عهد الله

   قد نحتار كذلك في المعنى الّذي ينبغي أن نفهم به هذا القول: "أيّ أقلف من الذّكور لم تُختن القلفة من بدنه تُقطع تلك النّفس من شعبها إذ نقض عهدي"، والحال أنّ ذلك ليس ذنب الصّغير الّذي قال إنّ نفسه تهلك، وليس هو الّذي نقض عهد الله بل أبواه اللّذان أهملا ختانه. إلاّ إن اعتبرنا أنّ الصّغار أيضا، لا من جهة سيرة حياتهم الخاصّة بل من حيث الأصل المشترك للجنس البشريّ، نقضوا كلّهم عهد الله في ذلك الإنسان الفرد الّذي خطئوا فيه جميعا. فعلى عدّة أشياء تُطلق عبارة "عهد الله"، في ما عدا العهدين الأكبرين العتيق والجديد، كمايمكن أن يكتشف من يقرأ الكتاب المقدّس. أوّل عهد هو بلا شكّ ذاك الّذي أقيم مع الإنسان الأوّل، وهو: "يوم تأكل منها تموت موتا". من هنا كُتب في السّفر المدعوّ بالكنسيّ: "كلّ جسد يبلى مثل الثّوب لأنّ العهد منذ البدء أنّه يموت موتا"*. فما دام النّاموس قد أُعطي بنصّ واضح فيما بعد، والرّسول يقول: "حيث لا يكون ناموس لا يكون تعدٍّ"، كيف يصحّ ما جاء في المزمور: "حسبت جميع منافقي الأرض خبَثاً"، إلاّ باعتبار أنّ كلّ المكبّلين بقيد الخطيئة تعدّوا حتما على وصيّة من النّاموس؟ لذلك إن كان حتّى الصّغار، كما يعلّمنا الإيمان الحقّ، يولدون بالخطيئة- لا الشّخصيّة بل الأصليّة- ومن هنا نعترف بأنّ نعمة مغفرة خطاياهم ضروريّة لخلاصهم، فذاك يعني  بالتّأكيد الإقرار بأنّهم كخطأة منتهكون لذلك النّاموس الّذي سُنّ في الجنّة. بحيث يصحّ كلا القولين: "حسيت جميع منافقي الأرض خبَثاً" و"حيث لا يكون ناموس لا يكون تعدٍّ". وهكذا لأنّ الختان كان علامة الإحياء ولأنّ الطّفل يستحقّ بسبب الخطيئة الأصليّة الّتي نقض بها أوّل عهود الله أن يهلك بالميلاد إن لم يخلَّص بالإحياء. على هذا الوجه يجب أن نفهم قول الله: "لأنّه لم يتلقّ الإحياء تُقطع تلك النّفس من شعبها". إذ نقض العهد لمّا خطئ هو أيضا مع كلّ البشر في آدم. فلو قال: "إذ نقض عهدي هذا"، للزم أن نفهم أنّ المقصود الختان تحديدا، أمَا وهو لم يحدّد بأيّ نحو نقض الطّفل العهد، لنا كامل الحرّيّة في أن نفهم من قوله ذلك العهد الّذي يمكن أن يكون الطّفل شريكا في نقضه. فإن ادّعى أحد أنّ ذلك يخصّ الختان قصرا وحصرا، لأنّ الطّفل الّذي لم يُختن نقض عهد الله، فليبحث عن عبارة تتيح فهم نقض العهد على وجه لا ينكره العقل باعتباره تمّ فيه حتّى إن لم يكن تمّ بفعله. لكن حتّى بهذا المعنى ينبغي التّنبيه إلى أنّ نفس الطّفل غير المختون بدون أيّ إهمال من جانبها تهلك بغير وجه حقّ لو لم تكن في إسار الخطيئة الأصليّة*.

 

16-28 في تغيير اسمي إبراهيم وسارّة اللّذين بعدما كانا غير قادرين على الإنجاب بسبب عقمها وشيخوخة كليهما نالا نعمة الخصوبة

   بعد إعطاء ذلك الوعد العظيم البيّن لإبراهيم حيث قيل له بأوضح عبارة: "جعلتك أبا جمهور أمم وسأنميك جدّا جدّا وأجعلك أمما وملوكٌ منك يخرجون. . . وأعطيك من سارة ابنا ( وأباركه و يكون) أمما وملوكُ شعوب ( منه) يكونون"- وهو وعد نرى تحقّقه في المسيح- مذّاك لم يعد الزّوجان يُدعيان في الكتاب المقدّس أبرام وساراي كذي قبل، بل صارا، كما دعوناهما منذ البداية لأنّ الجميع يدعونهما كذلك، إبراهيم وسارة. أمّا سبب تغيير اسم إبراهيم فقد فُسّر لنا:"لأنّي جعلتك أبا جمهور أمم". ذاك إذن معنى إبراهيم، أمّا أبرام اسمه السّابق فمعناه "الأب الأعلى".  وأمّا تغيير اسم سارة فلم يُذكر تعليله، لكن حسب ما يفيد من كتبوا في تفسير الأسماء العبريّة الواردة في الكتاب المقدّس، تعني ساراي "قوّتي"، أمّا سارة فتعني "القوّة". لذلك كُتب في "الرّسالة إلى العبرانيّين": "بالإيمان سارة أيضا نالت قوّة حمل النّسل"*. كان كلاهما عجوزا كما يشهد الكتاب المقدّس، لكنّها كانت فضلا عن ذلك عاقرا وانقطعت عنها العادة الشّهريّة*. فما كان يمكن أن تلد إذن حتّى لو لم تكن عاقرا. بوسع امرأة في سنّ متقدّمة ما زالت تأتيها العادة أن تلد لا محالة، لكن من شابّ أمّا من شيخ فلا. وبالمثل يستطيع الشّيخ الإنجاب لكن من شابّة كما استطاع إبراهيم أن ينجب بعد موت سارة من قطورة لأنّه وجدها في شرخ الشّباب*. هذا إذن ما يدعونا الرّسول إلى العجَب منه، ويقول بهذا الصّدد إنّ جسد إبراهيم كان قد مات*، ففي مثل تلك السّنّ ما كان هو نفسه قادرا على الإنجاب من امرأة ما زالت لها من سنّ الحمل بقيا باقية. يجب أن نفهم إذن أنّ جسده كان ميّتا لبعض لا لكلّ وظائفه، وإلاّ لكان جثّة ميّت لا جسد حيٍّ أوهنته السّنون. لكن اعتيد حلّ الإشكال الّذي يطرحه إنجاب إبراهيم لاحقا من قطورة بأنّ هبة الإنجاب الّتي تلقّاها من الرّبّ بقيت له حتّى بعد موت زوجته. لكن يبدو لي الحلّ الّذي اتّبعناه أفضل لأنّ شيخا في المائة لا يستطيع الإنجاب من أيّة امرأة في زماننا الحاضر، لكن لا في عصره لمّا كان النّاس يعيشون طويلا إلى درجة أنّ المائة سنة ما كانت تجعل من الإنسان شيخا طاعنا.

 

16-29 في الرّجال أو الملائكة الثّلاثة الّذين يخبرنا الكتاب المقدّس أنّ الرّبّ تجلّى في صورتهم لإبراهيم

   تجلّى الله مرّة أخرى لإبراهيم في بلّوط ممرا في صورة ثلاثة رجال لا شكّ أنّهم كانوا ملائكة، رغم أنّ البعض يرون أنّ أحدهم كان الرّبّ المسيح مؤكّدين أنّه كان يمكن حتّى قبل ادّراع الجسد أن يُرى. فبمقدور الذّات الإلهيّة اللاّمرئيّة ذات الطّبيعة اللاّمتغيّرة واللاّجسديّة أن يتجلّى لأنظارنا نحن الفناة دون أن يطرأ عليها غيار، لا بذاتها بل بواسطة كائن خاضع لها، وهل ثمّة ما لا يخضع لها؟ لكن إن أكّدوا أنّ أحدهم المسيح لأنّه رأى ثلاثة بينما تكلّم إلى الرّبّ بصيغة الإفراد- إذ جاء في الكتاب: "فإذا ثلاثة رجال وقوفٌ أمامه، فلمّا رآهم بادر للقائهم من باب الخباء وسجد إلى الأرض. وقال يا سيّدي إن نلتُ حظوة في عينيك"*، الخ- لِم لا يلاحظون أنّ اثنين منهم جاءا لتدمير سدوم بينما كان إبراهيم يخاطب واحدا فقط يدعوه "الرّبّ" ويتوسّل إليه ألاّ يهلك البارّ مع الأثيم؟ كذلك استقبل لوط الاثنين الآخرين، فكان في حديثه معهما يدعوهما بصيغة الإفراد "سيّدي". فبعدما قال لهما بصيغة التّثنية: "يا سيّديّ ميلا إلى بيت عبدكما" وبقيّة ما جاء من أقواله، نقرأ: "فأمسك الرّجلان بيده وبيد امرأته وابنتيه لشفقة الرّبّ عليه وأخرجاه وصيّراه خارج المدينة. فلمّا أخرجاهم إلى خارج قالا له انج بنفسك لا تلتفت إلى ورائك ولا تقف في البقعة كلّها وتخلّص إلى الجبل لئلاّ تهلك. فقال لهما لوط يا سيّدي. إنّ عبدك قد نال حظوة في عينيك". بعد هذه الأقوال أجابه أيضا بصيغة الإفراد الرّبّ الّذي كان حالاّ في الملاكين قائلا: "هأنذا قد شفّعتك في هذا الأمر"* الخ. لذلك أرجحُ بكثير أنّ إبراهيم تعرّف في الرّجال الثّلاثة ولوطا في الاثنين الرّبَّ الّذي كانا يخاطبانه بصيغة الإفراد، رغم اعتقادهم أنّهم بشر. ولا لسبب سوى ذلك استقبلاهم محتفيْن بهم كفناة بحاجة إلى وسائل الرّاحة البشريّة. لكن كان فيهم، حتّى عند النّظر إليهم كبشر، ما يفوقون به البشر بنحو لا يمكن معه أن يشكّ مضيّفاهم في أنّ الرّبّ حالّ فيهم كما يحلّ عادة في الأنبياء. ولذلك كانا يخاطبانهم هم أنفسهم بالجمع تارة وتارة يخاطبان الرّبّ فيهم بالإفراد. لكنّ الكتاب المقدّس يشهد بأنّهم كانوا ملائكة، لا في سفر التّكوين فقط، بل كذلك في الرّسالة إلى العبرانيّين حيث نجد في معرض الثّناء على حسن الضّيافة: "ولا تنسوا ضيافة الغرباء لأنّ بها أناسا أضافوا ملائكة وهم لا يدرون"*. من أولئك الرّجال الثّلاثة إذن، لمّا وُعد إبراهيم مجدّدا بولد من سارة هو إسحاق، تلقّى كذلك الرّدّ الإلهيّ : "وإبراهيم سيكون أمّة كبيرة مقتدرة ويتبارك به جميع الأمم"*. في هذا الرّدّ الوجيز المليء بالمعاني وُعد بنعمتين: شعب إسرائيل بحسب الجسد وكلّ الأمم بحسب الإيمان.

 

16-30 في تخليص لوط من السّدوميّين وإهلاكهم برجز من السّماء، وفي أبيملك الّذي لم يمكن أن تمسّ غلمته بعفّة سارة

   بعد هذا الوعد وبعد تخليص لوط من قوم سدوم أحالت مطر من نار أتت من السّماء رمادا تلك القرية الظّالمة حيث طغت المفاسد بين الذّكران حتّى صارت عادة شأن الأعمال الأخرى المباحة. لكن لم يكن عقابهم هذا سوى مثال لحكم الله في يوم آت. وهل يرمز نهي من نجّاهم الملاكان عن الالتفات إلى الوراء إلى غير نهي النّفس عن العودة إلى الحياة العتيقة الّتي خلعتها بتلقّي نعمة الإحياء إن كان مرادها النّجاة من عقاب يوم الدّينونة؟ فإنّ امرأة لوط لمّا التفتت لبثت مكانها واستحالت عمودا من ملح، مقدّمة بذلك للمؤمنين كإدام يعلّمهم مذاقُه كيف يحترسون من مثله*.

   بعد ذلك فعل إبراهيم في جرار عند ملك تلك المدينة أبيملك ما كان قد فعل في مصر بخصوص امرأته، ورُدّت إليه بنحو مماثل مصونة. ولمّا أبدى إبراهيم للملك الّذي لامه على إخفائه أنّها امرأته وقوله إنّها أخته مبديا أنّه خاف على حياته، أضاف: "وعلى الحقيقة هي أختي ابنة أبي غير أنّها ليست ابنة أمّي"*، لأنّها كانت أخته من أبيه، قريبة جدّا إذن. وكانت على حظّ عظيم من الجمال جعل الرّجال يحبّونها حتّى في مثل سنّها. 

 

16-31 في إسحاق المولود بحسب الموعد والّذي أُطلق عليه هذا الاسم من ضحك أبويه

   بعد هذه الأحداث وُلد لإبراهيم مصداق وعد الله ابنٌ من سارة سمّاه إسحاق، ويعني الضّحك. فقد ضحك أبوه يوم وُعد به في عجب وفرح، وضحكت كذلك أمّه لمّا وعدها الرّجال الثّلاثة مجدّدا في شكّ وفرح. ومع أنّ الملاك لامها على ضحكها، لأنّه حتّى إن نمّ على الفرح لم ينمّ عن تمام الإيمان، فإنّه ثبّتها من بعد هي أيضا على الإيمان. من هنا أتى اسم الولد، ولقد أظهرت سارة أنّ ضحكها لم يكن من قبيل الاستخفاف برفث اللّغو، بل نمّ عن عظيم الفرح، بتسميته عند ولادته إسحاق. إذ قالت: "قد أنشأ الله لي ( ضحكا) فكلّ من سمع يفرح لي"*. لكن بعد وقت قصير طُردت الأمة وابنها من البيت. وفي ذلك حسب الرّسول تورية عن العهدين العتيق والجديد حيث تمثّل سارة أورشليم السّماويّة، أي مدينة الله*.

 

16-32 في طاعة وإيمان إبراهيم اللّذين امتُحنا بتقديم ابنه قربانا، وفي موت سارة

   في جملة أحداث يطول ذكرها كلّها، ابتُلي إبراهيم بذبح ابنه حبيبه إسحاق، لتُختبر طاعته وتقواه ويعلم بهما النّاس على مرّ الأزمان لا الله. إذ لا يجب الشّكوى من البلوى بل ويجب تهنئة النّفس عليها فبها تثبت التّقوى. وكثيرا ما لا يمكن للنّفس الإنسانيّة أن تعرف ذاتها بغير ما تجيب به قواها السّؤال الّذي يطرحه عليها الاختبار بنحو ما، لا بالأقوال بل بالتّجربة. فإذا اعترفت بأنّ قوّتها هبة من الله، فهي إذّاك تقيّة وتتثبّت وتترسّخ في النّعمة ولا تنتفخ نفجا وغرورا. لا جرم أنّ إبراهيم لم يتصوّر أبدا أنّ الله يلتذّ بالضّحايا البشريّة، لكن يجب الامتثال بدون نقاش لله لمّا يصدر أوامره. لكنّ إبراهيم يستحقّ الثّناء لإيمانه بأنّ ابنه سيُحيى فورا بعد ذبحه، فقد سبق أن قال له الله لمّا كره تنفيذ رغبة زوجته بطرد الأمة وابنها: "بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الأمة أيضا أجعله أمّة فإنّه نسلك"*. فكيف قيل: "بإسحاق يدعى لك نسل" ما دام الله قد دعا إسماعيل أيضا نسله؟ يفسّر الرّسول المراد قائلا: "بإسحاق يدعى لك نسل. أي ليس أبناء الجسد هم أبناء الله بل أبناءُ الموعد يُحسبون نسلا"*. وبذلك يدعى نسلا لإبراهيم أبناء الموعد في إسحاق، أي يجتمعون ملبّين دعوة النّعمة في المسيح. وهكذا فإنّ ذلك الأب التّقيّ الّذي بيده هذا الوعد والمؤمن بأنّه سيتحقّق في ذاك الّذي أمره الله بذبحه، لم يشكّ في إمكانيّة أن يعاد إليه بعد الذّبح من أمكن قبلُ أن يوهب له وما كان يأمله. بهذا المعنى فهم الرّسول وشرح بلاءه في الرّسالة إلى العبرانيّين. يقول: "بالإيمان قرّب إبراهيم إسحاق حين امتُحن؛ ذاك الّذي قد حصل على الموعد قرّب وحيده. وقد قيل له بإسحاق يدعى لك نسل. واعتقد أنّ الله قادر أن يقيم من بين الأموات"*. لذلك أضاف: "ولذلك عاد فحصل عليه مثالا"*، وممّن سوى ذاك الّذي يقول عنه الرّسول: "الّذي لم يُشفق على ابنه بل أسلمه عن جميعنا"*. لذلك حمل إسحاق بنفسه، كما المسيح صليبه*، إلى مكان الذّبح الحطب المعدّ ليوضع عليه. أخيرا حيث لم يكن مطلوبا ذبح إسحاق بعد ما مُنع الأب من نحره، ماذا كان ذلك الكبش الّذي تحقّقت به التّضحية بسفح دم؟ لمّا رآه إبراهيم كان قرناه معتقلين في الجدّاد، فهل كان يرمز إلى أحد سوى يسوع الّذي كللّه اليهود قبل صلبه بالشّوك؟

   لكن لنستمع بالأحرى إلى الأقوال الإلهيّة كما نقلها الملاك. يقول الكتاب المقدّس: "ومدّ إبراهيم يده فأخذ السّكّين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرّبّ من السّماء قائلا إبراهيم إبراهيم؛ قال هأنذا. قال لا تمدد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا فإنّي الآن عرفت أنّك متّق لله فلم تذخر ابنك وحيدك عنّي"*. قيل: "الآن عرفت" والمقصود: "جعلت الآن معروفا"، إذ ما كان الله يجهل ذلك قبل وقوعه. ثمّ نقرأ أنّه بعد ذبح الكبش مكان ابنه إسحاق: "وسمّى إبراهيم ذلك الموضع الرّبّ ( رأى)، ولذلك يقال اليوم جبلُ الرّبُّ ( رأى)"*. فكما قيل: "الآن عرفت" بمعنى "جعلت الآن معروفا"، كذلك قيل هنا: "الرّبّ رأى" بمعنى تجلّى، أي جعل ذاته تُرى. "ونادى ملاك الرّبّ إبراهيم ثانية من السّماء. وقال بنفسي أقسمت يقول الرّبّ بما أنّك فعلت هذا الأمر ولم تذخر ابنك وحيدك. لأباركنّك وأكثّرنّ نسلك كنجوم السّماء وكالرّمل الّذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه. ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنّك سمعت قولي"*. هكذا أكّد لإبراهيم وبقسم من الله الوعد بدعوة الأمم في نسل إبراهيم بعد تقديم الكبش الّذي يرمز إلى المسيح محرقة. كثيرا ما وعد الله لكنّه لم يقسم أبدا. وهل قسم الله الحقّ الصّادق سوى توكيد للوعد وتوبيخ لقليلي الإيمان؟

   بعد هذه الأحداث ماتت سارة وهي في المائة والسّابعة والعشرين من العمر، وزوجها في المائة والسّابعة والثّلاثين، إذ كان يزيد عنها بعشر سنين كما يقول هو نفسه لمّا تلقّى الوعد بابن منها: "ألابن مائة سنة يولد أم سارة وهي ابنة تسعين سنة تلد؟" إذّاك اشترى إبراهيم حقلا دفن فيه امرأته. يومها إذن حسب رواية إستفانس، ثبّت إقامته على تلك الأرض لأنّه بدأ يملك فيها، بعد موت أبيه قبل ذلك بسنتين حسب ما يفيد الحساب.

 

16-33 في رفقة حفيدة ناحور الّتي تزوّجها إسحاق

   ثمّ تزوّج إسحاق رفقة حفيدة عمّه ناحور في السّنة 140 من عمر أبيه وثلاث سنوات بعد موت أمّه. لكن ماذا قصد إبراهيم بقوله لعبده كبير بيته لمّا أرسله في طلبها إلى بلاد ما بين النّهرين: "ضع يدك تحت فخذي. أستحلفك بالرّبّ إله السّماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيّين"*، سوى أنّ الرّبّ إله السّماء والأرض سيأتي من جسد يخرج من فخذه؟ أتلك علامات يستهان بها على الحقيقة المُنبإ بها سلفا والّتي نرى تحقّقها في المسيح؟

 

16-34 ماذا يجب أن نفهم من زواج إبراهيم بقطورة بعد موت سارة

   لكن ما معنى زواج إبراهيم بعد موت سارة بقطورة؟ حاشا أن نظنّ به غلمة، خاصّة في مثل عمره وصفاء إيمانه. ألعلّه كان يبتغي إنجاب بنين بينما كان يؤمن جازما بأن سيكون له، كما وعده الله، نسل من إسحاق بعدد نجوم السّماء وتراب الأرض؟ لكن إن كانت هاجر وإسماعيل، حسب ما يعلّمنا الرّسول، يرمزان إلى جسديّي العهد العتيق، لِم لا تعني قطورة وبنوها كذلك الجسديّين الّذين يظنّون أنّهم ينتسبون إلى العهد الجديد؟ فقد سمّيتْ كلتاهما زوجة إبراهيم وسرّيّته، بينما لم تُدع سارة سرّيّة قطّ. إذ جاء في الكتاب عن إعطاء سارة هاجر لإبراهيم: "فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصريّة أمتها من بعد عشر سنين من مُقام أبرام في أرض كنعان فأعطتها لأبرام رجلها لتكون له زوجة"*. أمّا عن قطورة الّتي أخذها بعد موت سارة، فنقرأ: "وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة"*. ها قد دعيت كلتاهما زوجة، ثمّ نجدهما تدعيان سرّيّتين، إذ يقول الكتاب بعد ذلك: "وأعطى إبراهيم جميع ما له لإسحاق. ولبني السّراريّ الّتي لإبراهيم وهب إبراهيم هبات وصرفهم عن إسحاق ابنه في حياته شرقا إلى أرض المشرق"*. يحصل أبناء السّراريّ إذن على بعض الهبات لكنّهم لا يصلون إلى الملكوت الموعود. ولا كذلك المبتدعة ولا اليهود الجسديّون لأنّ لا أحد يرث مع إسحاق، و"ليس أبناء الجسد هم أبناء الله بل أبناءُ الموعد هم يُحسبون نسلا"، هو الّذي قيل عنه: "بإسحاق يدعى لك نسل". ولا أرى في الواقع من سبب لتسمية قطورة الّتي تزوّجها بعد وفاة زوجته سرّيّة سوى هذا السّرّ. لكن إن لم يقبل أحد بهذا التّأويل، فلا يفتر على إبراهيم*. أوليس تفنيدا مسبقا لمبتدعة المستقبل مناهضي الزّواج بعد التّرمّل أن يبيَّن أبو جمهور الأمم قد عاد فتزوّج بعد موت زوجته دون تأثيم؟ ومات إبراهيم في سنّ المائة والخامسة والسّبعين، تاركا ابنه إسحاق الّذي ولده في سنته المائة ابن خمس وسبعين إذن.

 

16-35 ماذا بيّن جواب الله بشأن التّوأمين اللّذين كانا لا يزالان في رحم رفقة

   لنر الآن كيف تواصلت مسيرة مدينة الله في عقب إبراهيم. منذ السّنة الأولى من حياة إسحاق حتّى وُلد له ابنان، هناك حادثة مشهودة، هي لمّا دعا الله أن تلد امرأته الّتي كانت عاقرا فاستجاب الرّبّ لطلبه، فحملت وازدحم الولدان في رحمها. ولمّا شقّ عليها الحمل سألت الرّبّ فتلقّت منه هذا الجواب: "إنّ في جوفك أمّتين ومن أحشائك يتفرّع شعبان: شعب يقوى على شعب وكبيرٌ يُستعبد لصغير"*. وهو ما يريد بولس الرّسول أن يرى فيه دليلا عظيما على النّعمة، فقد اجتُبي الأصغر ورُذل الأكبر من قبل ولادتهما وقبل أن يعملا خيرا أو شرّا وبدون أيّ استحقاق، إذ كانا متساويين بلا شكّ في ما يتعلّق بالخطيئة الأصليّة، أمّا الشّخصيّة فلم يكن لأيّ منهما أيّة خطيئة. لكنّ مخطّط هذا المؤلّف لا يسمح بقول المزيد الآن حول هذا الموضوع الّذي تكلّمنا فيه بإسهاب في مؤلّفات أخرى. أمّا قوله: "كبير يُستعبد لصغير" فلا يؤوّله أيّ من كتّابنا بغير خضوع شعب اليهود الأكبر لشعب النّصارى الأصغر لاحقا. ورغم أنّه يجوز أن نراه تحقّق في شعب الأدوميّين المنحدر من الابن الأكبر الّذي له اسمان، فهو يدعى عيسو وكذلك أدوم ومنه الأدوميّون، بما أنّ الشّعب المنحدر من الأصغر أي إسرائيل قوي عليه وأخضعه لاحقا، مع ذلك يبدو أنسبَ الاعتقاد بأنّ هذه النّبوءة الّتي تنصّ على "شعب يقوى على شعب وكبير يُستعبد لصغير" رمت إلى معنى أسمى، وهل هو غير ما تحقّق في اليهود والنّصارى*؟

 

16-36 في البشارة والمباركة الّتي تلقّاها إسحاق مثل أبيه الّذي من أجله كان محبوبا عند الله

   تلقّى إسحاق أيضا نبوءة كالّتي تلقّى أبوه مرارا. عن تلك البشارة جاء في الكتاب المقدّس: "وكان في الأرض جوع غير الجوع الأوّل الّذي كان في أيّام إبراهيم فمضى إسحاق إلى أبيملك ملك فلسطين في جرار. فتجلّى له الرّبّ وقال لا تنزل إلى مصر بل أقم بالأرض الّتي أعيّنها لك. انزل هذه الأرض وأنا أكون معك وأباركك لأنّني لك ولنسلك سأعطي جميع هذه البلاد وأفي بالقسم الّذي أقسمته لإبراهيم أبيك. وأكثّر نسلك كنجوم السّماء وأعطيهم جميع هذه البلاد ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض"*. لم يتّخذ هذا البطريق زوجة أخرى ولا سرّيّة بل كان قانعا بذرّيّة التّوأمين المولودين له من نفس المرأة. وهو أيضا خاف نفس الخطر من جمال زوجته لمّا سكن بين غرباء، ففعل كأبيه قائلا إنّها أخته ومخفيا أنّها امرأته، وكانت قريبته فعلا من جهة الأمّ والأب معا. لكنّها هي الأخرى لم يمسّها الغرباء لمّا علموا بأنّها زوجته. مع ذلك لا شكّ أنّ فضل أبيه الّذي ناله عند الله بإيمانه وطاعة كان أعظم، ولذلك يقول الله إنّه من أجله أسبغ عليه ما أسبغ من النّعم: "يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنّ إبراهيم سمع قولي وحفظ أوامري ووصاياي ورسومي وشرائعي". ثمّ أنبأه مرّة أخرى: "أنا إله أبيك لا تخف فإنّي معك أباركك وأكثّر نسلك من أجل عبدي إبراهيم"*. من ذلك ندرك مدى عفّة فعل إبراهيم الّذي يبدو لقوم سفهاء يبحثون في الكتاب المقدّس عن مبرّرات لتفسّخهم أنّه فعله بدافع الغلمة. ثمّ لنعلم كذلك أنّه لا ينبغي أن نقارن بين النّاس على أساس الفضائل الفرديّة بل أن نعتبر في كلّ منهم المجموع. إذ يمكن أن تكون لشخص في سيرته وأخلاقه حسنة يفوق بها آخر، وهي أهمّ بكثير من الّتي يفوقه بها الآخر. وبالتّالي حسب الحكم السّليم والصّحيح، مع أنّ التّعفّف مفضّل على الزّواج، يُعَدّ المؤمن المتزوّج أفضل من الكافر المتبتّل. بل ليس ذلك الكافر أقلّ جدارة بالثّناء فقط، لكنّه كذلك قمين بالبغض الشّديد. هب أنّهما صالحان: حتّى في هذه الحال لا شكّ أنّ المتزوّج المستمسك بالإيمان وطاعة الله أفضل من الحصور الأدنى إيمانا وطاعة. أمّا إن تساويا في بقيّة الجوانب فمن يشكّ في أفضليّة البتول على المتزوّج*؟

 

16-37 في من رُمز إليهم في عيسو ويعقوب

   ترعرع ابنا إسحاق إذن بالتّساوي؛ وانتقلت أولويّة الأكبر إلى الأصغر بصفقة واتّفاق بينهما، وذلك لمّا اشتهى الأكبر، تحت تأثير شراهته، عدسا أعدّه أخوه الأصغر، فباعه بهذا الثّمن بكريّته مع القسم*. نتعلّم من ذلك أنّ الإنسان يؤاخَذ في الأكل لا على نوع الطّعام بل على فرط الشّراهة. ثمّ شاخ إسحاق وكلّت عيناه من الهرم، فأراد يوما أن يبارك ابنه الأكبر، وبدون علمه، بارك مكانه الأصغر الّذي تقدّم بين يدي أبيه متنكّرا في زيّ أخيه الّذي كان مشعرا، بعدما اكتسى بجلد المعز كما لو كان يحمل خطايا غيره. وكيلا يُظنّ أنّ حيلة يعقوب تلك غشّ ومكر، بدل البحث عن سرّ عظيم فيها، فال الكتاب المقدّس قبل ذلك: "كان عيسو رجلا عارفا بالصّيد رجلا برّيّا ويعقوبُ رجلا سليما مقيما بالخيام"*. وقد ترجم بعض كتّابنا "لا غشّ عنده" لكن سواء قلنا "لا غشّ عنده" أو "سليما" أو بالأحرى "بلا تصنّع" وهو ما يرادف باليونانيّة aplastikos، أيّ غشّ لنيل تلك المباركة صدر عن رجل لا غشّ عنده؟ هل تلك الحيلة لرجل سليم لا يعرف الكذب سوى سرّ عميق يحمل حقيقة كبرى؟ وما هي تلك المباركة؟ يقول: "ها هي ذه رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرّبّ. يعطيك الله من ندى السّماء ومن دسم الأرض يكثّر لك الحنطة والخمر. وتخدمك الأمم ويسجد لك ( الرّؤساء)، سيّدا تكون لإخوتك ولك بنو ( أبيك) يسجدون، لاعنك ملعون ومبارِكك مبارك"*. مباركة يعقوب هي إذن إعلان المسيح في كلّ الأمم، وهو يتمّ ويتحقّق. النّاموس والنّبوءة: ذاك هو إسحاق. النّاموس بأفواه اليهود يبارك المسيح، بلا علم منه لأنّه هو ذاته غير معلوم. العالم يعبق كحقل برائحة اسم المسيح، ويباركه ندى السّماء أي ودق من كلام الله، ودسمُ الأرض أي تجمّع الشّعوب. كثرة حنطته وخمره هي كثرة من تجمعهم الحنطة والخمر لسرّ جسده ودمه المقدّس. تخدمه الأمم ويسجد له الرّؤساء. هو سيّد لإخوته لأنّ شعبه يسود على اليهود. له يسجد بنو أبيه أي بنو إبراهيم بحسب الإيمان لأنّه هو ذاته ابن إبراهيم بحسب الجسد. لاعنه ملعون ومباركه مبارك. أقول إنّ مسيحنا تباركه ألسنة اليهود حتّى في ضلالتهم، فإنّهم مع ذلك يرتّلون النّاموس والأنبياء، والصّدق إذّاك يقولون، ويحسبون أنّهم يباركون آخر وينتظرونه في ضلالهم*.

   ثمّ إذا بالأخ الأكبر يطلب المباركة الموعودة فيرتعش إسحاق ويدرك أنّه بارك واحدا مكان الآخر ويسأل في عجب من يكون ذلك، لكنّه لا يشتكي من أنّه خُدع، ويقول: "فمَن ذاك الّذي صاد صيدا فأتاني به قبل أن تجيء وباركته؟ نعم ومباركا يكون"*. من لا ينتظر في هذا الموقف بالأحرى لعنة رجل مغضب لو لم يجر ذلك بوحي السّماء لا بما درج النّاس عليه في الأرض؟ فيا لها أحداثا تمّت في الواقع التّاريخيّ ومع ذلك ذات طابع نبويّ، على الأرض لكن بوحي من السّماء، بواسطة بشر لكن بتدبير إلهيّ! لو استُخرجت من القصّة جزئيّاتها المليئة بالأسرار لاقتضت عدّة مجلّدات، لكنّ الحدّ الّذي فرضنا على هذا المؤلّف ليبقى في نطاق معقول يجبرنا على الإسراع إلى مواضيع أخرى.

 <<