القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّاني عشر- تابع  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

12-16 ألنفهم أنّ الله كان ربّا دوما يجب أن نعتقد أنّ خليقة وُجدت كذلك دوما ليكون ربّها، وكيف نقول وُجد دوما ما هو مخلوق ولا يمكن أن يساويه في القدم

   من جهتي لا أجرؤ على القول إنّ الرّبّ الله لم يك ربّا يوما ما، ويجب كذلك ألاّ أشكّ في أنّ الإنسان لم يوجد قطّ قبل نقطة محدّدة من الزّمان خلق فيها الإنسان الأوّل. لكن لمّا أفكّر: على ماذا كان الله ربّا دوما ما دامت الخليقة لم تكن توجد دوما، أخشى أن أؤكّد شيئا ما لأنّي أنظر في ذاتي وأذكر ما جاء في الكتاب المقدّس: "أيّ إنسان يعلم مشورة الله أو يفطن لما يريد الرّبّ؟ إنّ أفكار البشر ذات إحجام وبصائرنا غير راسخة. إذ الجسد الفاسد يثقّل النّفس والمسكن الأرضيّ يخفض العقل الكثير الهموم."* من هذه الأفكار الّتي أقلّب وأنا في مسكني الأرضيّ منها الكثير، وهي كثيرة فعلا لأنّ واحدة من بينها أو من خارجها هي الصّحيحة قد لا تخطر لي ولا أستطيع اكتشافها، إن قلتُ إنّ خليقة وُجدت دوما ربّها من هو ربّ دوما وما كان آن لم يكن فيه ربّا، لكن تارة هذه وتارة تلك خلال شتّى الآونة كيلا نجعل إحداها مساوية للخالق في القدم- وهو ما يرفضه الإيمان والعقل السّليم، فيجب إذّاك الاحتراس من رأي مخالف للعقل بعيد عن نور الحقيقة: هو أنّ خليقة وُجدت دوما على مرّ الأزمان، تموت هذه وتولد تلك، لكن لا تبدأ في الوجود خليقة خالدة إلاّ بمجيء عالمنا لمّا خُلق الملائكة إن صحّ أنّهم هم المقصودون بالنّور الّذي كُوّن في بداية الخلق أو بالأحرى السّماء المذكورة حيث نقرأ: "في البدء خلق الله السّماء والأرض." لكن بما أنّهم لم يوجدوا قبل ما خُلقوا لا نعتقد إذ نقول إنّهم وُجدوا دوما أنّهم مساوون لله في القدم.

   لكن قلت إنّ الملائكة لم يُخلقوا في الزّمان بل وُجدوا قبل كلّ زمان بحيث كان ربّا لهم الله الّذي ما كان أبدا دون أن يكون ربّا، سيسألني سائل كذلك إن خُلقوا قبل كلّ زمان هل أمكن أن يوجدوا دوما ما داموا قد خُلقوا خلقا. قد يبدو من الواجب الرّدّ على ذلك: كيف لا والحال أنّ لا نرى حرجا في القول عمّا يوجد في كلّ زمان إنّه يوجد دوما، وأنّهم وجدوا في كلّ زمان، بل إنّهم خُلقوا قبل كلّ زمان؟ هذا إن اعتبرنا أنّ الزّمان بدأ عند خلق السّماء وأنّهم كانوا يوجدون قبل السّماء، لكن إن اعتبرنا أنّه لا يرتبط بالسّماء لكن وُجد حتّى قبل السّماء، فهو لا يتمثّل في السّاعات والأيّام والشّهور والسّنين- إذ بيّنٌ أنّ هذه الأقيسة للمدد الزّمنيّة الّتي تسمّى عادة وبالمعنى الأصليّ أزمنة بدأت بحركات الكواكب، ولذا قال الله عند إنشائها: "وتكون لآيات وأوقات وأيّام وسنين"*- بل في الحركة التّحوّليّة الّتي تمرّ منها صورة فأخرى إذ لا يمكن أن تتواجد صورها كلّها. إذن إن حصلت صيرورة مماثلة قبل أن توجد السّماء في حركات الملائكة ومن ثمّة وُجد الزّمان قبل إنشاء السّماء وكان الملائكة منذ خلقهم يتحرّكون زمانيّا، حتّى بهذا المعنى يكون الملائكة قد وُجدوا في كلّ زمان ما دام الزّمان خُلق معهم. فمن يستطيع القول إنّ ما وُجد في كلّ زمان لم يوجد دوما؟

   لكن إن أجبتُ بهذا سيقال لي: كيف حينئذ لا يكونون مساوين لله في القدم ما داموا قد وُجدوا دوما كما هو موجود دوما؟ كذلك كيف يقال إنّهم مخلوقون إن اعتبرنا أنّهم وُجدوا موما؟ بم نردّ على هذه الاعتراضات؟ أيجب القول إنّهم هم أيضا وُجدوا دوما لأنّهم وُجدوا في كلّ زمان، فقد أُنشئوا مع الزّمان أو أُنشئ معهم الزّمان وهم مع ذلك مخلوقون؟ إذ لا يمكن أن ننكر أنّ الزّمان نفسه مخلوق مع أنّ لا أحد يشكّ في أنّ الزّمان وُجد في كلّ زمان. فلو لم يوجد الزّمان في كلّ زمان لوُجد زمان لم يكن يوجد فيه أيّ زمان! ومن يبلغ به الغباء حدّ تأكيد ذلك؟ إذ نستطيع أن نقول بحقّ: كان هناك زمان لم تكن رومية توجد فيه، وكان زمان لم تكن أورشليم توجد فيه، وكان زمان لم يكن إبراهيم يوجد فيه، وكان زمان لم يكن الإنسان يوجد فيه، ومثل ذلك في أشياء أخرى شبيهة. أمّا القول: كان زمان لمّا لم يكن أيّ زمان موجودا، فهو في سخف القول: كان يوجد إنسان لمّا لم يكن أيّ إنسان موجودا، أو كان هذا العالم يوجد لمّا لم يكن هذا العالم موجودا. إن كنّا نقصد هذا الإنسان وذاك، يمكننا القول بنحو ما: كان ذاك الإنسان موجودا لمّا كان هذا غير موجود؛ وبنفس النّحو إذن يمكننا القول بصواب: كان ذاك الزّمان لمّا لم يكن هذا كائنا. لكن من يبلغ به الخطل حدّ القول: كان زمان لمّا لم يكن يوجد أيّ زمان*.

   إذن كما نقول إنّ الزّمان مخلوق رغم القول إنّه وُجد دوما لأنّ الزّمان وُجد في كلّ زمان، كذلك إقرارنا أنّ الملائكة وُجدوا دوما لا يستتبع أنّهم لم يُخلقوا. فنحن نقول إنّهم وُجدوا دوما لأنّهم وُجدوا في كلّ زمان، وهم قد وُجدوا في كلّ زمان لأنّه لم يمكن أن يوجد بدونهم زمان. فحيث لا توجد أيّة خليقة تُحدث حركاتها التّحوّليّة جريان الزّمان، لا يمكن إطلاقا أن يوجد زمان. لذلك حتّى إن وُجدوا دوما هم مخلوقون، ولا يعني كونهم وُجدوا دوما أنّهم مساوون لله في أبديّته الّتي لا يدركها التّغيير، أمّا هم فقد خُلقوا، وإنّما نقول كانوا دوما لأنّهم كانوا في كلّ زمان وما أمكن أن يوجد زمان بدونهم. ولأنّ الزّمان يجري جرّاء التّحوّل لا يمكن أن يكون مساويا في القدم للأبديّة الّتي ليس فيها تحوّل. من ثمّة حتّى إن تكن سمة الخلود في الملائكة لا تجري في الزّمان ولم تمض كما لو لم تعد كائنة ولا هي آتية كما لو لم تكن بعد، رغم حركاتهم الّتي يجري جرّاءها الزّمان منتقلا من الآتي إلى الماضي، ولذلك لا يمكن أن يكونوا بمثل أبديّة الخالق الّذي لا يجوز القول إنّه بحركته كان ما لم يعد وسيكون ما ليس بعد.

   لذلك إن كان الله قد كان ربّا دوما، فقد كانت له خليقة دوما تحت سلطانه، لكنّها لم تولد منه وإنّما أوجدها من العدم وليست مساوية له في القدم. إذ كان قبلها وإن لم يوجد أيّ زمان كان يوجد بدونها، فهو متقدّم عنها لا بمدّة عابرة بل بأبديّة باقية. لكن إن أجبت بهذا من يسألون هل كان الله خالقا دوما وربّا دوما إن لم توجد خليقة تحت سلطانه دوما، أو كيف تكون مخلوقة لامساوية للخالق في القدم إن وُجدت دوما، فإنّي أخشى أن يسرع كثيرون إلى الحكم بأنّي أؤكّد أشياء أجهلها بدلا من تعليم أشياء أعرفها. أعود إذن إلى ما شاء بارينا أن نعلم، أمّا تلك الأمور الّتي أتاح للرّاسخين في الحكمة معرفتها في هذه الحياة، أو ادّخر للكاملين علمها في الحياة الأخرى، فأقرّ بأنّها فوق طاقتي، وإنّما فكّرت أن أتعرّض لها ليرى من يقرؤون كتابي من أيّة إشكالات خطيرة يجب أن يحترسوا، ولا يحسبوا بمقدورهم معرفة كلّ شيء، ويدركوا أنّ واجبهم الامتثال بالأحرى للرّسول إذ يدعوهم إلى ما فيه النّجاة، حيث يقول: "أوصي كلّ من فيكم ألاّ يسمو بعقله فوق ما ينبغي بل أن يتعقّل تعقّل الحكمة على مقدار ما قسم الله لكلّ واحد من الإيمان"*. فعلا إن اقتات الطّفل بما يناسب قواه صار بوسعه بفضل نموّه تناول المزيد، لكن إن تجاوز المقدار الّذي يطابق طاقته يهن عوض النّموّ.

 

12-17 كيف يجب أن نفهم وعد الله الإنسان بالحياة الأبديّة من قبل الأزمنة الأبديّة

   أمّا أيّة أزمنة مرّت قبل إنشاء النّوع الإنسانيّ فأمر أقرّ بجهله، وإن كان لا شكّ عندي في أنّ لا شيء بتاتا مساو للخالق قدما. هذا ويتحدّث الرّسول عن أزمنة أبديّة، لا تلك الآتية بل- وهو أعجب- أزمنة ماضية. إذ يقول: "على رجاء الحياة الأبديّة الّتي وعد بها الله الّذي لا يكذب من قبل الأزمنة (الأبديّة)"* . ها إنّه قال قد كانت في الماضي أزمنة أبديّة لم تكن مع ذلك مساوية لله في القدم. فإن لم يكن الله موجودا فقط قبل الأزمنة الأبديّة بل وعد كذلك بالحياة الأبديّة الّتي جلاّها لوقتها، أي في الزّمان المناسب، فبأيّ شيء سوى كلمته وعد؟ فإنّه هو الحياة الأبديّة*. لكن كيف وعد والبشر الّذين وعد لم يكونوا قد وُجدوا قبل تلك الأزمنة الأبديّة، إلاّ لأنّه في أبديّته وكلمته المساوي له في القدم كان قد قضى بما سيكون في الزّمان المحدّد له.

 

12-18 ما يدفع به الإيمان الصّحيح بشأن مشيئة الله وقضائه المنزّه عن التّغيير مماحكات من يزعمون أعمال الله تتكرّر منذ الأزل عبر دورات زمنيّة مستمرّة 

   كذلك لا شكّ عندي في أنّه ما وُجد أبدا أيّ إنسان قبل خلق الإنسان الأوّل، ولا عاد ذاك الإنسان الأوّل في تلك الدّورات لا أدري كم مرّة، ولا آخر يشبهه بالطّبيعة. ولا تزعزع اقتناعي حجج الفلاسفة الّتي تُعَدّ أمضاها تلك الّتي تقول إنّ لا قِبَل لأيّ علم بالحاطة بما لا نهاية له؛ لذا فلله حسب أقوالهم كلّ الأسباب المتناهية لكلّ ما صنع من الأشياء المتناهية؛ لكن لا يجب الظّنّ أنّ إحسانه كان عاطلا في أيّ آن، فلا يكون عمله قد تمّ في الزّمان بعد عطالة أزليّة كما لو ندم على فراغه الأسبق المستمرّ منذ الأزل فشرع في العمل. لذلك لا بدّ في زعمهم من عودة نفس الأشياء دون ذهاب الأشياء اللاّزم مآبها، سواء مع بقاء العالم وخضوعه لسنّة التّغيير رغم خلقه القديم بلا بداية في الزّمان، أو بتجدّده الدّائم هو أيضا بالموت والحياة بتلك الحركة الدّوريّة المتواصلة في الماضي والآتي، وذلك طبعا كيلا يُظنّ- إن قيل إنّ أعمال الله بدأت في آن محدّد وإنّه بنحو ما رذل عطالته السّابقة الأزليّة كحياة خاملة كسلى ومن ثمّة قبيحة عنده فغيّرها. بينما إن قيل إنّه يُحدث باستمرار أعمالا زمنيّة تترى حتّى الوصول يوما إلى خلق الإنسان الّذي لم يعمد قبل إلى خلقه، لا عن علم- إذ لا يمكن في رأيهم أن يحيط علم باللاّنهائيّ- بل يبدو أنّه صنع ما صنع عرضا وانسياقا لتقلّبات الصّدفة. ويضيفون أنّ القبول بتلك الدّورات الّتي تعيد باستمرار نفس الأشياء الزّمنيّة- سواء مع احتفاظ العالم ببقائه أو مع مشاركته هو أيضا في ذلك المسار الدّوريّ بولادته وموته مرّة تلو أخرى يضمن نفي العطالة والبطالة المستمرّة من الأزل والعفويّة وعدم التّدبير في أعماله؛ بينما لو لم يكن عود الأشياء الدّوريّ لما أمكن أن يحيط بتنوّعها وغيارها اللاّمتناهي علم أو علم سابق.

   هذه الاستدلالات الّتي يحاول بها دعاة الكفر إزاغة إيماننا البسيط عن سواء السّبيل لنطّوّف معهم في لفّاتهم، حتّى لو لم يستطع عقلنا دحضها فيجب على إيماننا ازدراؤها. غير أنّ عقلنا، بعون الرّبّ إلهنا، بالبرهان السّاطع يستطيع كسر تلك الحلقات الدّوّارة الّتي ابتدعتها* أوهامهم. فإنّهم ليضلّون ضلالا بعيدا بهيمانهم في لفّاتهم الزّائفة على المسير في السّراط المستقيم، إذ يقيسون العقل الإلهيّ المنزّه عن التّغيير والقادر على الإحاطة باللاّنهاية واستقصاء ما لا يحصره العدّ والإحصاء بدون تحوّل في علمه بمقياس عقلهم البشريّ الضّيّق المتغيّر؛ ويحصل لهم ما يقول الرّسول: "( يقابلون أنفسهم بأنفسهم فلا يفهمون)"*. فلأنّهم كلّما خطر لهم القيام بفعل جديد فعلوه بقرار جديد- إذ أوتوا فكرا متغيّرا- لا يضعون الله في اعتبارهم حقّا بل أنفسهم ولا يقابلون أنفسهم به بل بأنفسهم. أمّا نحن فلا يجوز عندنا الظّنّ أنّ الله يكون في الاستراحة على حال وفي العمل على غيرها، إذ لا ينبغي القول إنّه على حال أصلا كما لو حدث في ذاته انفعال لم يكن موجودا فيها سابقا. لأنّ من ينتقل من حال إلى حال ينفعل، وكلّ ما ينفعل يتعرّض للتّغيير. فلا ترينّ في عطالته تهاونا وتوانيا وتراخيا، ولا في عمله جهدا وجدّا وكدّا.* يعلم أنّه إذ يعمل يستريح ويعمل إذ يستريح، وقادر على إنجاز عمل جديد بقرار غير جديد بل أزليّ. وبدون ندم على الامتناع السّابق يشرع في عمل ما لم يعمل سابقا. لكن إن امتنع من قبل وعمل من بعد، وذاك أمر لا أدري كيف للإنسان بفهمه، فما ندعوه بعديّة وقبليّة حصل بلا شكّ في الأشياء الّتي ما كانت توجد قبل وباتت بعد موجودة؛ أمّا هو فلم تغيّر أو تلغ فيه مشيئة لاحقة مشيئة سابقة، بل إنّه بنفس الإرادة الواحدة السّرمديّة غير المتغيّرة جعل الأشياء الّتي أبدعها لا توجد قبل طالما استمرّ انعدامها وتوجد بعد منذ خروجها إلى الوجود، مُظهرا بذلك ربّما وبنحو عجيب لمن يستطيعون إدراك آياته أنّ لا حاجة به إليها وإنّما من فيض إحسانه المجّانيّ أنشأها بينما ظلّ منذ الأزل في سعادة لا تقلّ عن سعادته بعد خلقها.

 

12-19 ضدّ من يزعمون أنّ الأشياء اللاّمتناهية لا يمكن أن يحيط بها علم الله

   أمّا قولهم إنّ علم الله لا يستطيع الإلمام باللاّمتناهيات، فبقي بعده أن يزعموا، إن جسروا على إلقاء أنفسهم في هاوية الكفر السّحيقة، أنّ الله لا يعلم الأعداد كلّها. فمن الثّابت أنّها لامتناهية؛ إذ أيّما عدد نتصوّره آخرها لا أقول إنّه قابل للازدياد بإضافة واحد إليه، بل مهما بلغ حجمه ومهما عظمت أجزاؤه كثرة لا يمكن فقط، في علم النّسبة والحساب، مضاعفته بل ضربه في أيّ عدد. لكنّ لكلّ الأعداد خصائصها المحدِّدة بحيث لا يمكن أن يماثل أيّ منها الآخر. هي إذن متباينة ومختلفة وكلّ منها على حدة متناه وهي في مجموعها لامتناهية. أفلا يعلم الله مجموع الأعداد بسبب مجموعها اللاّمتناهي، بل يدرك علمه مجموعة منها ويجهل البقيّة؟ من يبلغ به الخطل قول هذا؟ لا إخالهم يجرؤون على الاستخفاف بالأعداد والادّعاء أنّها لا تندرج في علم الله فإنّ أفلاطون الّذي يحظى لديهم بمصداقيّة كبرى يفيد بأنّ الله صنع العالم من الأعداد. وجاء في كتبنا نحن أيضا عن الله: "رتّبتَ كلّ شيء بمقدار وعدد ووزن"، ويقول كذلك عنه النّبيّ: "من ( يُبدع العالم) بعدد"* والمخلّص يقول في الإنجيل: "فإنّ شعر رؤوسكم جميعه محصى"*. حاشا أن نشكّ إذن في أنّ كلّ عدد معلوم لمن "لا إحصاء لعلمه" كما نغنّي في المزمور.* لذا فإنّ لانهاية الأعداد*، وإن لم يمكن بعدد إحصاء الأعداد اللاّمتناهية، فإنّها لا تخفى عمّن لا إحصاء لعلمه. لذا ما دام كلّ ما يحيط به العلم محدودا في علم العالِم، لا شكّ أنّ كلّ لانهاية هي، بنحو ما يتعذّر التّعبير عنه، متناهية عند الله لأنّ لا شيء يعزب عن علمه. لذلك ما دام غير ممكن أن تكون لانهاية الأعداد لامتناهية بالنّسبة لعلم الله الّذي يحيط بها، من نكون نحن البشر الضّعفاء لنخوّل أنفسنا وضع حدود لعلمه زاعمين أنّه لا يقدر، ما لم تُعد نفس دورات الزّمان نفس الأشياء الزّمنيّة، على العلم مسبقا بكلّ ما يعلم ليعلمه ولا العلم بما عمل، هو الّذي علمه المتعدّد في بساطة والمتنوّع في تجانس يدرِك ما لا يدرَك بإدراك لا يدرَك، فلو شاء أن يصنع باستمرار أشياء جديدة ومختلفة يلي اللاّحق فيها السّابق لفعل بترتيب وتدبير، ولما تدبّر ما يخصّ منها كلّ زمان قبيل حلوله بل لأحاط بها جميعا في علمه الأزليّ.

 

12-20 في دهر الدّهور

   أمّا هل يعمل بهذا النّحو وتتسلسل باتّصال حلقات ما يدعى بدهور الدّهور لكنّها على اختلافها تتتالى في تباين مرتّب، ويبقى على الأقلّ من تخلّصوا من الشّقاء في سعادتهم خالدين فيها أبدا، أو هل تدعى كذلك بمعنى الدّهور القارّة الثّابتة في حكمة الله باعتبارها العلل الفاعلة لتلك الدّهور الّتي تمرّ عبر الزّمان*، فأمر لا أجرؤ على البتّ فيه. إذ ربّما أمكن أن تدعى دهور دهرا بحيث لا يعني دهر الدّهر سوى دهر الدّهور، كما لا تعني سماء السّماء سوى سماوات السّماوات. فإنّ الله يسمّي سماء الجلَد الّذي فوق المياه ومع ذلك يقول المزمور: "والمياه الّتي فوق السّماوات لتسبّح اسم الرّبّ"*. أمّا أيّ المعنيين أرجح أو هل هناك معنى آخر لدهر الدّهور فمسألة عميقة، ولا يمنع ما نحن الآن بصدده من تأجيل معالجتها إلى موضع لاحق، سواء أمكننا حسمها أو جعلَنا فحصُها المتأنّي أكثر احترازا فلا نجرؤ على إطلاق حكم ما في قضيّة بمثل هذا الغموض. فنحن بصدد تفنيد الرّأي القائل بدورات لا بدّ أن تعيد باستمرار على فترات من الزّمان نفس الكائنات. لكن أيّا ما كان الصّحيح بين معاني دهور الدّهور المذكورة، لا شكّ أنّه لا ينّصل بتلك الدّورات. فسواء كانت تتتالى غير متماثلة بل متولّدا بعضها من بعض في تسلسل محكم التّرتيب مع دوام سعادة الفائزين بالخلاص واليقين أن لا عودة إلى شقاوات هذا العالم، أو كانت التّدبير الأزليّ الّذي يحكم سير العالم الزّمنيّ، لا مكان فيها لتلك الدّورات الّتي تلفّ باقية على حالها، وتستبعدها كلّيّا حياة المبرورين الأبديّة.

 

12-21 في كفر من يزعمون أنّ النّفوس المشاركة في السّعادة الحقيقيّة الكبرى تعود  باستمرار عبر دورات زمنيّة إلى نفس الشّقاوات والمشقّات

   من من أهل التّقوى يطيق سماع هذا الهراء: أنّه بعد حياة ملؤها المآسي- هذا إن جاز أن ندعوها حياة فإنّها للموت أقرب، وتجثم علينا حتّى يجعلنا حبّ هذا الموت نخشى الموت الّذي يخلّصنا منها-* وبعد كرب كبيرة وكثيرة وفظيعة، لمّا يتمّ أخيرا بفضل الدّين الحقّ والحكمة الصّحيحة افتداؤها وإنهاؤها يوما ما والوصول إلى مشاهدة الله والفوز بالسّعادة الأبديّة في الاستغراق في النّور اللاّجسمانيّ بالمشاركة في الحياة الّتي لا يطالها البلى والفساد لمن نتّقد بحبّ الاتّحاد به، يكون لزاما أن يبارحها الإنسان بعد حين، فيُقصى بمبارحتها من الأبديّة والحقيقة والسّعادة* إلى منفى الفناء ليتخبّط في الغباء المخزي والشّقاء المزري، هنا حيث يفقد الله ويكره الحقيقة وينشد السّعادة في المفاسد والأرجاس؛ وكلّ ذلك في زعمهم تمّ وسيتمّ مرّة تلو أخرى بلا نهاية في ما مضى وما هو آت على فترات وأعداد معيّنة من القرون. وذلك حتّى يمكن لله، بفضل دورات محدّدة لا تنفكّ جيئة وذهابا تقلّبنا مناوبة بين مسرّات وهميّة وشقاوات فعليّة، وسرمديّة جرّاء تلك الحركة المتواصلة الدّوريّة، أن يعلم أعماله إذ لا يمكنه أن يجد للرّاحة سبيلا في عمل وعلم أعمال لامتناهية العدد. من يتصوّر ذلك؟ من يصدّقه؟ من يتحمّله؟ لو كان صحيحا لما كان فقط أحذرَ كتمانه، بل أقول لأستطيع توضيح قصدي لكان كذلك أفطنَ جهله. فعلا، ما دامت هناك ستنساه ذاكرتنا فتكتمل بنسيانه سعادتنا، فيم تضاعَف هنا بمعرفته تعاستنا؟ لكن إن كان لا بدّ أن نعلمه هناك فلنجهلْه على الأقلّ هنا، لتكون لنا في ترقّب الخير الأعظم هنا سعادة أكبر ممّا سنجد بالفوز به هناك، بما أنّا نرتقب هنا حياة أبديّة آتية بينما نجد هناك حياة سعيدة لكن غير أبديّة إذ نعلم أنّا سنفقدها يوما ما.

   لكن إن يقولوا إنّ لا أحد يستطيع بلوغ تلك السّعادة إلاّ بعدما تلقّنه الدّرس في هذه الحياة تلك الدّورات حيث تتناوب السّعادة والشّقاء، فكيف يزعمون إذن أنّ كلّ إنسان بقدر ما يحبّ الله أكثر يكون أيسر عليه بلوغ السّعادة وتعاليمهم تفتّر ذلك الحبّ بالأحرى؟ من فعلا لا يهن ويفتر حبّه لمن يعلم حتما أنّه سيبتعد عنه وسينفر من حقيقته وحكمته، وذلك رغم وصوله في معرفته إلى أقصى امتلاء تتيح له طاقته وهو في كمال السّعادة؟ والحال أنّ لا أحد يحبّ صديقا بشريّا بإخلاص وهو يعلم أنّه سيكون له عدوّا يوما ما؟* لكن حاشا أن تكون صحيحة هذه التّصوّرات الّتي تبشّرنا ببؤس فعليّ لا يرجى أن ينتهي أبدا وإنّما يتوقَّع فقط أن تقطّعه فواصل متكرّرة إلى ما لا نهاية له من سعادة زائفة. وهل ثمّة ما هو أكثر زيفا وخداعا من تلك السّعادة حيث نجهل ونحن في نور الحقيقة الجليّ أو نخشى ونحن في أوج السّعادة السّنيّ تعاستنا الآتية؟ إن صحّ أنّا سنكون فيها جاهلين بالكارثة الآتية، فبؤسنا هنا أوفر علما، إذ نعلم فيه سعادتنا الآتية؛ أمّا إن لم تخْف علينا هناك النّكبة الّتي ستحلّ بنا، فإنّ النّفس البائسة أسعد حالا هنا حيث تقضي فترة العمر الّتي بانقضائها ترقى إلى السّعادة ممّا تكون في فترة سعادتها الّتي بانقضائها تهوي إلى حضيض الشّقاء. وهكذا فما نرتقب في التّعاسة سعيد وفي السّعادة تعيس. فأرْجحُ إذن ونحن نعاني هنا من الويلات الحاضرة ونخاف هناك من الآتية أن نكون تعساء في كلّ الأحوال من أن نكون سعداء في بعض الأحيان.

   لكن بما أنّ تلك التّصوّرات باطلة كما ينبئنا الإيمان وتقنعنا الحقيقة، إذ تعدنا بصدق بالسّعادة الحقيقيّة حيث نكون في طمأنينة وعلى أتمّ ثقة باستمرارها إلى الأبد دون أن تقطعها شقاوة، لنحوّل إيماننا وألبابنا عن دوّار الكفرة الباطل الأخرق ونتّبع الطّريق القويمة الّتي هي بالنّسبة إلينا المسيح ليكون لنا هاديا ومخلّصا. وإن كان الأفلاطونيّ فرفوريوس قد رفض اتّباع مذهبهم حول تلك الدّورات واستمرار النّفوس بلا انقطاع في حركاتها المتناوبة جيئة وذهابا، سواء لأنّه استهجن تلقائيّا سخف تلك الأباطيل أو لأنّه اقتبس من فكر العصر المسيحيّ، وفضّل القول كما ذكرتُ في الكتاب العاشر بأنّ النّفس أُنزلت إلى العالم لتعرف الشّرّيّات، ثمّ بعد تخليصها وتطهيرها منها تعود فلا تعاني بعد من ذلك البؤس مطلقا، فما أحقّنا نحن ببغض ونبذ هذا الباطل المعادي للدّين المسيحيّ.

   الآن بعدما أثبتنا بطلان وعدم جدوى هذه الدّورات، لم تعد هناك ضرورة تفرض علينا الظّنّ أن لم يكن للجنس البشريّ ابتداء في الزّمان بدأ انطلاقا منه في الوجود، فبمقتضى دوراتهم المزعومة لا شيء يجدّ في العالم إلاّ وقد كان في فترات زمنيّة معيّنة في الماضي وسيكون في المستقبل. إذ يعني خلاص النّفس بنحو لا تعود فيه إلى البؤس مرّة أخرى- وهو خلاص لم تعرف قبل مثله أبدا- أنّ أمرا يحصل فيها لم يحصل قبل بتاتا، وهو حدث عظيم حقّا: سعادة أبديّة بلا انقطاع. لكن ما دام ذلك الحادث الجديد الّذي لم تُعده ولن تعيده أيّة صيرورة دوريّة يحصل في الطّبيعة الخالدة، لِم يدّعون استحالة حصوله في الأشياء الفانية؟ إن ينكروا جدّة تلك السّعادة بالنّسبة للنّفس زاعمين أنّها تعود إلى السّعادة الّتي كانت فيها دوما، فجديد على الأقلّ خلاصها الّذي يححرّرها من بؤس لم تكن فيه قطّ، بل وجديد أيضا ذلك البؤس الّذي حصل فيها من قبل ولم تكن فيه أبدا. أمّا إن لم تأت تلك الجدّة بفضل النّظام الّذي تحكم به العناية الإلهيّة الكون بل حصلت* بالصّدفة فأين أُعطيت حدودا وأقيسة تلك الدّورات الّتي لا يجدّ فيها جديد وإنّما يعاد ما كان؟ أمّا إن لم تُستبعد هذه الجدّة هي الأخرى من العناية الإلهيّة، سواء قيل إنّ النّفس مُنحت لتصحب الجسم أو سقطت فيه، فيمكن بالتّالي أن تحدث أشياء جديدة لم تحدث من قبل وهي مع ذلك لا تتنافى مع نظام الكون. وإن أمكن أن تصنع النّفس لذاتها جرّاء نزقها بؤسا جديدا لم يغب عن تدبير العناية الإلهيّة الّتي أدرجته في نسق الكون، وخلّصت النّفس منه لا بدون تبصّر وتدبّر، فبأيّة جسارة وسفاهة يجرّئنا غرورنا البشريّ على إنكار قدرة الله على صنع أشياء جديدة بالنّسبة للعالم لا بالنّسبة له لم يصنعها قبل ولم تغب عن تدبيره أبدا.

   أمّا إن قالوا إنّ النّفوس الّتي تخلّصت لن تعود بعد إلى الشّقاء لكنّ ذلك يتماشى تماما مع عدم حدوث جديد في الكون لأنّ زمرا وزمرا تخلّصت وتتخلّص وستتخلّص باستمرار، فهم بذلك يسلّمون ضمنيّا على الأقلّ بأنّ نفوسا جديدة يحصل لها بؤس جديد وخلاص جديد. لأنّهم إن قالوا بقدم وأزليّة تلك النّفوس الّتي يُحدَث بها يوميّا أناس جدد تتخلّص- إن عاشت بحكمة- من أجسامهم ولا تعاد إلى الشّقاء، لا بدّ أن يقولوا إذّاك بأنّها لامتناهية؛ إذ مهما بلغ عدد النّفوس، لا يمكن إن كان متناهيا أن يكفي على امتداد الدّهور الماضية اللاّمتناهية ليكوَّن منه باستمرار بشر تتخلّص نفوسهم باستمرار من الوضع الفاني بدون رجعة. وليس بوسعهم أن يفسّروا بأيّ وجه كيف يكون عدد النّفوس لامتناهيا في كائنات يزعمونها متناهية العدد ليمكن أن يحيط بها علم الله.

   هكذا بعدما فُنّدت تلك الدّورات الّتي كانوا يرون لزاما أن تعود النّفس بها إلى نفس الشّقاوات، هل يبقى حلّ أوفق للتّقوى سوى القول بأنّه لا يستحيل على الله أن يكوّن أشياء جديدة لم يكوّنها قبل وأنّ له مع علمه المسبق الممتنع عن الوصف إرادة غير متغيّرة؟ أمّا هل من الممكن أن يزداد باستمرار عدد النّفوس المخلّصة الّتي لن تعود أبدا إلى شقاوات هذا العالم فمسألة يُترك النّظر فيها لمن يجادلون بحذاذة منقطعة النّظير لدحض لاتناهي الكائنات. أمّا نحن فننهي محاجّتنا بخيارين: إن كان ممكنا فلِم ننفي إمكانيّة خلق ما لم يتمّ خلقه سابقا ما دام عدد النّفوس المخلّصة الّذي لم يكن يوجد من قبل لم يُنشأ دفعة واحدة بل لا ينفكّ عن الازدياد باستمرار؟ أمّا إن أوجبنا أن يكون هناك عدد معيّن من النّفوس المعدّة للخلاص بلا رجعة لا يزداد بعد، فلا شكّ أنّه، أيّا كان، لم يكن قبل أبدا، هو الّذي ما أمكن قطعا أن يزداد ويبلغ حدّه الأقصى بدون بداية ما، وهي بداية لم توجد قبل بتاتا. فليكون قد وُجد إذن، خُلق إنسان لم يوجد قبله أيّ إنسان.

 

12-22 في خلق الإنسان الأوّل الفرد والنّوع الإنسانيّ فيه

   بعدما حلّلنا إذن قدر مستطاعنا معضلة قدم الله مع  خلق كائنات جديدة دون جدّة في مشيئته، ليس صعبا أن نرى أنّ ما تمّ من إكثار النّوع الإنسانيّ انطلاقا من إنسان أبدعه أوّلا كان أحسن بما لا يقاس ممّا لو فعل ذلك انطلاقا من كثرة. فإنّه لمّا أنشأ الحيوانات، بعضها مستوحدا وإن جاز التّعبير مستوحشا أي أمْيل إلى الوحشة كالنّسور والحدإ والأسود والذّئاب وما شابهها، وبعضها اجتماعيّا يؤثر العيش في جماعات شأن الحمام والخطّاف والأيائل والظّباء وما شابهها، كلا النّوعين لم يكثّر انطلاقا من أفراد بل أمر أن يَنشأ كثرةً دفعة واحدة*. أمّا الإنسان الّذي أنشأ طبيعته وسطا بين الملائكة والبهائم- بحيث يستطيع إن ظلّ خاضعا لخالقه كربّه الحقّ حافظا بطاعة وتقوى وصاياه الالتحاق بنديّ الملائكة نائلا بدون توسّط الموت خلود السّعداء إلى ما لا نهاية له، أمّا إن أهان الرّبّ إلهه مستخدما بكبْر وعصيان إرادته الحرّة فيعيش موسوما للموت* على نحو البهيمة عبدا للشّهوة وآيلا بعد الموت إلى العذاب الأبديّ، فخلقه واحدا فردا*، لا ليعيش في عزلة بدون أيّ تجمّع لا محالة، بل ليؤكَّد بذلك النّحو مع التّشديد على وحدة المجتمع الإنسانيّ وعلى الرّابطة الاجتماعيّة ما دام يجمع بين البشر لا تماثل الطّبيعة فحسب بل كذلك آصرة الانتماء إلى أب واحد. فحتّى المرأة الّتي قضى بأن تكون للرّجل قرينة لم يشأ أن يخلقها مثله بل منه ليتمّ من إنسان فرد نموّ النّوع الإنسانيّ.

 

12-23 هل علم الله مسبقا أنّ الإنسان الأوّل سيخطَأ، وفي الآن نفسه كم من الأتقياء من نسله سينتقلون بنعمته إلى نديّ الملائكة

   لم يكن الله يجهل أنّ الإنسان سيخطَأ، وسينجب وهو خاضع للموت ذرّيّة آيلة للموت، وسيتمادى أولئك الفناة في الطّغيان والخطيئة إلى درجة أنّ البهائم الخالية من الإرادة النّابعة من العقل، والّتي انتشر نسلها في البرّ والبحر، تعيش فيما بينها وحسب النّمط الخاصّ بكلّ نوع منها في أمن وسلام أكثر من البشر الّذين نما نوعهم من أب واحد لإرساء الوفاق بينهم؛ غذ لم تشنّ الأسود فيما بينها ولا التّنانين فيما بينها حروبا كالّتي بين البشر*. لكنّ الله كان يعلم مسبقا ببروز شعب من الأتقياء مدعوّ بنعمته إلى التّبنّي الإلهيّ ومبرَّرا بروحه القدس بمغفرة الخطايا ليشترك مع الملائكة الأبرار في السّلام الأبديّ بعدما يُبطَل آخر عدوّ وهو الموت. من المجدي لذلك الشّعب اعتبار أنّ الله أنشأ النّوع الإنسانيّ من إنسان واحد ليبيّن للنّاس كم حسنٌ عنده أن تكون في كثرتهم وحدة أيضا*.

 

12-24 في طبيعة النّفس الإنسانيّة الّتي خلقها الله على صورته

   صنع الله الإنسان إذن على صورته*. فقد خلق له نفسا تجعله بالعقل والإدراك متفوّقا على حيوانات البرّ والبحر والجوّ الّتي ليس لها فكر مثله. ولمّا جبل الإنسانَ ترابا من الأرض وحباه نفسا بالصّفة الّتي ذكرت، وهو إمّا صنعها من قبل فبثّها بالنّفخ فيه، وإمّا صنعها بالنّفخ فيه، وشاء أن تكون تلك النّسَمة الّتي صنعها بالنّفخ ( وهل النّفخ إلاّ إحداث نسَمة؟) نفس الإنسان، جعل له كذلك امرأة لتكون له عونا لنشر نسله من ضلع استلّه من جنبه*. وفي الواقع لا يجب تصوّر هذه الأمور بنحو جسديّ وفق عاداتنا كما دأبنا على رؤية الحرفيّين يشكّلون من مادّة من الأرض بأيديهم الجسديّة مصنوعات بفضل فنّيّات صنعتهم. فيد الله قدرة الله الّذي يعمل حتّى المرئيّات بنحو لامرئيّ. لكن سيعتبر ذلك خرافةً أكثر ممّا هو حقيقة من يقيسون قدرة وحكمة الله الّتي يعلم ويستطيع بها صنع البذور نفسها بلا بذور على أعمالنا اليوميّة والاعتياديّة. أمّا الأشياء الّتي أُنشئت في بدء الخليقة، فلأنّهم لا يعلمونها لا يصدّقونها، كما لو لم يكن ما يعلمون عن الحمل والولادة في الإنسان، لو رُوي لهم وهم يجهلونه، سيبدو لهم تصديقه أصعب، مع أنّ الكثيرين يردّونه إلى علل طبيعيّة جسمانيّة لا إلى أعمال العقل الإلهيّ.

 

12-25 هل يمكن أن ننسب إلى الملائكة خلق أيّ من الكائنات حتّى الأدنى

   لكنّ لا شأن لنا في هذه الكتب بمن لا يصدّقون أنّ العقل الإلهيّ خالق الكائنات وكالئها بعنايته. أمّا من يعتقدون كأفلاطون مرجعهم أنّ كلّ الأحياء الفانية، الّتي يحتلّ بينها الإنسان سليل الآلهة أعلى مرتبة، كُوِّنت لا بقدرة الإله الأعلى صانع العالم بل بأيدي آلهة آخرين أدنى منه هو خالقهم، وبإذنه أو بأمره، فلو يدعون جانبا تفكيرهم الخرافيّ الّذي يبحثون من منطلقه عن مبرّر للطّقوس والقرابين، فيتّخذون آلهة يزعمونهم خالقيهم، سيتخلّون بيسر كذلك عن ضلال هذا الرّأي أيضا. إذ لا يجوز الاعتقاد ولا القول بخالق لأيّة طبيعة حتّى مهينة وفانية غير الله، وذلك حتّى قبل التّمكّن من إدراكه. أمّا الملائكة الّذين يفضّلون تسميتهم آلهة، فحتّى إن قدّموا عونهم الفعّال بأمره أو بإذنه للكائنات الّتي تولد في العالم، لا نعدّهم خالقي الأحياء، تماما كما لا نعدّ الزّرّاع خالقي الثّمار والأشجار.

 

12-26 في أنّ كلّ طبيعة وكلّ صورة في الكون من صنع الله وحده

   فعلا هناك من جهةٍ تلك الصّورة الّتي تضفى خارجيّا على المادّة الجسمانيّة لأيّ شيء، كما يعمل الخزّافون والصّاغة وبقيّة الصّنّاع البشريّين الّذين يلوّنون ويشكّلون كذلك صورا شبيهة بأجسام الأحياء. لكن هناك أخرى لها علل فاعلة حميميّة مأتاها المشيئة الخفيّة الباطنة لذات حيّة وعاقلة خلقت، دون أن تكون مخلوقة، لا صور الأجسام الطّبيعيّة فقط، بل كذلك أنفس كلّ الأحياء. الصّورة الأولى تُعزى إلى الصّنّاع من مختلف الأنواع، أمّا الأخيرة فتأتي من صانع واحد هو الله الخالق المصوّر الّذي خلق العالم نفسه والأملاك بلا عالم ولا أيّ أملاك. فبقوّته الإلهيّة والفعّالة إن جاز التّعبير، هذه القوّة الّتي تُحدِث وما هي بالمحدَثة، تلقّت الشّمس والسّماء صورتهما المكوّرة عند إنشاء العالم، وبنفس القوّة الإلهيّة والفعّالة المحدِثة غير المحدَثة تلقّت صورتها كرويّة العين أو التّفّاحة وبقيّة الأشكال الطّبيعيّة الّتي نراها تحلّ في الأشياء وكلّ ما يولد، لا آتية من الخارج بل مجبولة بقدرة باطنة، قدرة الخالق الّّذي قال: "ألستُ مالئ السّماء والأرض"* والّذي حكمته "تبلغ من غاية إلى غاية بالقوّة وتدبّر كلّ شيء بالرّفق"*. لستُ أدري والحال تلك أيّ نوع من العون قدّم الملائكة المخلوقون أوّلا للخالق عند صنع بقيّة المخلوقات. وأنا لا أجرؤ على إسناد قدرة لهم قد لا تكون بملكهم، ولا يجب بالمثل أن أنفي عنهم قدرة يملكونها؛ لكنّي أنسب خلق وتصوير كلّ الكائنات الّذي به تكتسب وجودا حقيقيّا إلى الله وإن استعمل كذلك الملائكة* الّذين يعلمون أنّهم يدينون هم أيضا له بالوجود ويسبّحون بحمده.

   لا نعتبر الزّرّاع إذن خالقي الثّمار لمّا نقرأ: "فليس للزّارع إذن شيء ولا السّاقي بل المنمي وهو الله"*، بل وحتّى الأرض وإن بدت أمّ كلّ الأشياء الّتي تخرج من البذور النّبت وتثبّته بالجذور الممتدّة فيها لمّا نقرأ كذلك: "الله يجعل لها جسما كيف شاء ولكلّ من الزّرع جسمه المختصّ به."* هكذا لا يجب أن ندعو المرأة خالقة نسلها فإنّما خالقه من قال لأحد أوليائه: "قبل أن أصوّرك في البطن عرفتك"*. ولئن أمكن لنفس الحامل عند تعرّضها لشتّى التّأثّرات أن تُحدث في الجنين بعض السّمات- كما فعل يعقوب بعصيّ مختلفة ليُنتج ضأنا مختلفا ألوانه*- فإنّ الولدة لم تصنع مولودها مثلما لم تصنع نفسها. إذن أيّا ما تكن الأسباب الجسميّة والنّطفيّة المؤثّرة على الكائنات في عمليّة الولادة، سواء بعمل الملائكة أو البشر أو شتّى الحيوانات أو بفعل التّزاوج، وأيّا ما تكن قدرة شهوات أو انفعالات نفس الأمّ على طبع بعض الملامح أو الألوان في الأجنّة الغضّة الطّريّة، تبقى تلك الطّبائع القابلة للتّأثّر بهذا النّحو أو ذاك في الحدود المتاحة لنوعها صنع الله العليّ الّذي تتخلّل قدرته الخفيّةكلّ الكائنات دون أن تتلوّث ذاته بذلك الحضور، فتعطي الوجود لكلّ ما هو كائن بنحو ما وبالقدر المتاح لنمط وجوده، فبدون فعله لن يكون كذا أو كذا بل لا يمكن أصلا أن يكون.

 

12-27 في رأي الأفلاطونيّين الّذين يعتقدون أنّ الملائكة، وإن كانوا مخلوقين، خالقو الأجسام البشريّة

   هكذا ذهب أفلاطون إلى أنّ الإله الأعلى خلق آلهة أدنى هم صانعو بقيّة الأحياء: بحيث تتلقّى منه جزءها الخالد ومنهم جزءها الآيل إلى الموت. لم يشأ إذن أن يكونوا خالقي النّفوس، ونسب إليهم خلق الأجسام. وبما أنّ فرفوريوس يزعم أنّ النّفس بحاجة لتتنقّى إلى الفرار من كلّ جسم، ويرى مثل معلّمه أفلاطون وبقيّة الأفلاطونيّين أنّ من عاشوا بتفلّت وانحراف يعودون لقضاء عقوباتهم إلى أجسام أحياء فانية- تشمل البهائم حسب أفلاطون وتنحصر في البشر حسب رأيه- يترتّب عن ذلك أنّ أولئك الآلهة كما يدعونهم، والّذين يريدون أن نعبدهم بوصفهم والدينا ومنشئينا صانعو قيودنا وسجوننا فقط، وليسوا بخالقينا بل هم حابسونا في سجون ممضّة وكبّلونا بقيود ثقيلة. فليكفّ الأفلاطونيّون إذن عن اعتبار هذه الأجسام عقابا للنّفوس، أو فلا يطلبوا منّا عبادة أولئك الآلهة الّذين يدعوننا إلى الفرار والتّخلّص من عملهم قدر ما نستطيع. هذا وكلا القولين مردود: فالنّفوس لا تُمضي عقوبة لمّا تُرَدّ إلى هذه الحياة، ولا خالق لجميع الأحياء سواء في الأرض أو في السّماء سوى خالق الأرض والسّماء. فعلا إن لم يكن من سبب للعيش في هذا الجسم سوى قضاء عقوبات، بأيّ وجه يقول أفلاطون نفسه إنّ هذا العالم ما كان ليُسوّى في أجمل وأحسن صورة لو لم يُملأ بجميع أنواع الأحياء الخالدة والفانية؟ وما دام إنشاؤنا، حتّى ككائنات فانية، نعمة إلهيّة، كيف يكون عقابا رجوعنا إلى هذه الأبدان، أي إلى نعم إلهيّة؟ وما دام الله، كما يذكر أفلاطون مرارا، يحتوي بصفته العقل الكونيّ الأبديّ صور كلّ الأحياء، لِم لا يكون خالقها جميعا؟ أم تُرى لا يحبّ أن يكون صانع بعضها والحال أنّ لعقله الّذي تقصر الألسن عن وصفه وإيفائه الثّناء الواجب كامل القدرة على صنعها؟

 

12-28 في أنّ الإنسان الأوّل مكنون فيه كامل النّوع الإنسانيّ الّذي علم الله مسبقا أيّ فريق فيه سيُكرم بالمكافأة وأيّ فريق سيُحكم بعقابه

   الدّين الحقّ يُقرّ وينادي صدقا وعدلا بأنّ خالق العالم أجمع هو كذلك خالق جميع الأحياء، أي النّفوس والأجسام. رأس أحياء الأرض الإنسان الّذي صنعه على صورته، وللسّبب الّذي ذكرت أو ربّما لآخر أجلّ وأخفى، خُلق فردا لكنّه لم يُترك فردا. فما في الأنواع مثله ميلا إلى الفرقة انحرافا وإلى الاجتماع طبعا. ولا تجد الطّبيعة الإنسانيّة، لمكافحة آفة الفرقة أو الحيلولة دون حلولها أو لمعالجتها متى حلّت، خطابا أبلغ وأفق من العبرة المستخلصة من ذكرى والدها الّذي أراده الله فردا تنتشر منه كثرة لتُحفظ في الكثرة الوحدةُ ممثّلة في تآلف القلوب. كذلك يبيّن خلق المرأة من جنبه بوضوح كم يجب علينا أن نُعزّ الرّابطة الزّوجيّة*. أعمال الله هذه آيات كبرى لأنّها من أولى أعماله؛ ويحرو بمن لا يؤمنون بها ألاّ يؤمنوا بأيّة عجائب، إذ لا ندعو عجائب على ما يحدث وفق سير الطّبيعة الاعتياديّ. لكن هل ثمّة شيء في ظلّ النّظام الّذي تسيّر به العناية الإلهيّة العالم، حتّى إن خفي سببه، يحدث سدى؟ يقول المزمور المقدّس: "هلمّوا فانظروا أعمال الرّبّ الّذي أتى بعجائب في الأرض."* أمّا لماذا خُلقت المرأة من جنب الرّجل، وبماذا يرهص هذا الحدث الّذي هو بنحو ما أولى العجائب، فسأقوله في محلّ آخر بعون الله. والآن حيث يتعيّن إنهاء هذا الكتاب، يمكننا التّفكير- إن لم يمكن بعد على أساس البرهان لا محالة، فباعتبار علم الله المسبق- أنّ في هذا الإنسان الأوّل الأصليّ المصدر الّذي نشأت منه جماعتان تتقاسمان النّوع الإنسانيّ كمدينتين منفصلتين. منه سينبثق النّاس ليشترك فريق مع الأملاك الأشرار في العقاب والآخر مع الأخيار في المكافأة، وفق حكم الله العادل وإن خفي. فبمقتضى ما جاء في الكتاب المقدّس: "سبل الرّبّ جميعها رحمة وحقّ"*، لا يمكن أن يكون في نعمته ظلم ولا في عدالته غشم.

 

 <<