القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّامن- تابع  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

8-15 في أنّ الشّياطين بأجسمها الهوائيّة ومحالّ سكنها الأعلى لا تفضل البشر

   لذلك حاشا النّفس التّقيّة صدقا والخاضعة لله الحقّ، إذ تتفكّر في هذه الأمور، أن تحسب الشّياطين أفضل منها لأنّ لها أجساما أفضل. وإلاّ فستفضّل على نفسها حيوانات كثيرة تفضلنا بحدّة حواسّها وبسهولة وسرعة حركتها وبقوّة أجسامها ومتانتها المستديمة. مَن مِن البشر يعدل في الإبصار النّسور والعقبان؟ أو في الشّمّ الكلاب؟ أو في السّرعة الأرانب والظّباء وكلّ الطّيور؟ أو في القوّة الأسود والفيلة؟ أو في طول العمر الثّعابين الّتي زعموا أنّها تنضو ثوب الشّيخوخة لتعود إلى ريعان الشّباب؟ لكن كما نحن بالتّفكير والإدراك أفضل من هذه الحيوانات جميعا، كذلك ينبغي أن نكون أفضل من الشّياطين أيضا بانتهاج حياة فاضلة كريمة. فمن تفضيل العناية الإلهيّة لها علينا بمنحها بعض المواهب الجسمانيّة الأرقى تتفوّق بها علينا تفوّقا بيّنا، ينجم أنّا مدعوّون بهذا النّحو إلى أن نتعهّد ما نتفوّق به عليها بعناية أكبر بكثير من الجسم، ونتعلّم ازدراء ذاك الامتياز الجسمانيّ الّذي نعلم أنّها تحظى به أمام استقامة نهج الحياة، عالمين أنّا سننال نحن أيضا خلود الأجسام، لا ذاك الّذي لا ينفكّ يكابد العذاب الأبديّ، بل ذاك الّذي تؤهّل له نقاوة النّفوس. أمّا علوّ المسكن، فمن المضحك أن نتأثّر بسكناها في الهواء بينما نكنّ نحن في الأرض إلى درجة الحكم بأنّه يجب من ثمّة تقديمها علينا، إذ سنقدّم بهذه الطّريقة على أنفسنا كلّ الطّيور. يقولون: لكنّ الطّيور لمّا يتعبها الطّيران أو لحاجة أجسامها إلى استرداد قواها بالقوت تعود إلى الأرض طلبا للرّاحة أو الغذاء، وهو ما لا تفعله الأرواح. أيرون إذن أنّه كما تفضلنا الطّيور تفضل الأرواح حتّى الطّيور؟ إن كان من الخبل التّفكير بهذه الطّريقة، فلا شيء يبرّر الحكم بناء على سكنى الشّياطين عنصرا أعلى بشرفها ممّا يوجب خضوعنا لها من باب الشّعور الدّينيّ. فكما أمكن لا فقط ألاّ تفضَّل طيور الجوّ علينا نحن أهل الأرض، بل كذلك أن تسخَّر لنا نظرا إلى شرف النّفس العاقلة الّتي فينا، كذلك أمكن ألاّ تكون الشّياطين، مع اقترانها بالهواء أكثر منها، أفضل منّا نحن أهل الأرض لمجرّد كون الهواء أعلى من الأرض محلاّ، بل يجب تفضيل البشر عليها إذ لا وجه لمقارنة يأسها برجاء النّاس الأتقياء. فإنّ نسق أفلاطون ذاتَه الّذي يجمع ويرتّب حسبه العناصر الأربعة، حاشرا بين الطّرفين، النّار ذات الحركيّة القصوى والأرض المستقرّة تماما، العنصرين الأوسطين الهواء والماء، بحيث يعلو الماء الأرض كما يعلو الهواء الماء والنّار الهواء، يدعونا إلى ألاّ نحكم على شرف الحيوانات بحيب ترتيب عناصرها*. وأبوليوس نفسه يصنّف فعلا مع بقيّة حيوانات البرّ الإنسان الّذي يفضَّل مع ذلك على الحيوانات المائيّة، بينما يقدّم أفلاطون المياه على الأرضين، بحيث نفهم أنّه لا يجب، عند مقارنة مراتب الحيوانات اتّباع نفس التّرتيب الّذي يبدو في منازل* العناصر، بل قد يحصل أن تسكن نفس أرقى عنصرا أدنى والأخسّ الأعلى.

 

8-16 ماذا رأى الأفلاطونيّ أبوليوس بشأن أخلاق وأعمال الشّياطين

   في حديثه عن خلُق الشّياطين، قال فيلسوفنا الأفلاطونيّ إذن إنّها تتعرّض لنفس انفعالات النّفس الّتي تهزّ البشر، فتغيظها الإساءات وترضيها الطّاعات والعطاءات وتسعدها التّشريفات وتمتعها الطّقوس والتّعظيمات، وتتأثّر إن أُهمل شيء من تلك العبادات. من جملة ما قال أنّ عرافة زاجري الطّير وقارئي أحشاء الذّبائح ووسطاء الوحي وعابري الأحلام تابعة لها، ومنها أيضا معجزات السّحرة. قال كذلك معرّفا إيّاها بإيجاز: "الشّياطين بالنّوع أحياء، بالنّفس منفعلة، بالفكر عاقلة، بالجسم هوائيّة، بالزّمان سرمديّة؛ فمن هذه الصّفات الخمس تشاركنا في الثّلاث الأولى، والرّابعة خاصّة بها والخامسة مشتركة بينها وبين الآلهة."* لكنّي أرى بين الثّلاث الأولى الّتي تشترك فيها معنا اثنتين تشترك فيها مع الآلهة أيضا. إذ يقول إنّ الآلهة أيضا أحياء، وفي توزيعه للأحياء كلّ حسب عنصره وضعنا في الأحياء الأرضيّة مع الحيوانات الأخرى الّتي تعيش على البرّ وتحسّ، وفي البحريّة الأسماك وبقيّة الأحياء السّابحة، وفي الهوائيّة الشّياطين، وفي الأثيريّة الآلهة. ومن ثمّة، تشترك الشّياطين في نفس الصّفة، لكونها من حيث النّوع أحياء لا مع البشر فقط بل كذلك مع الآلهة والبهائم؛ ولكونها بالفكر عاقلة مع الآلهة والبشر؛ ولكونها بالنّفس منفعلة مع البشر وحدهم*؛ وتنفرد بكونها هوائيّة بالجسم. ما بشرف عظيم بالتّالي أن تكون بالنّوع أحياء ما دامت البهائم أيضا بتلك الصّفة. ومن حيث هي بالفكر عاقلة ليست فوقنا إذ لنا نحن أيضا نفس الصّفة. ومن حيث هي بالزّمان خالدة، ما جدوى ذلك إن لم تكن سعيدة؟ فلأفضلُ سعادة زمنيّة من شقاوة أبديّة. ومن حيث هي بالنّفس منفعلة، كيف تكون أرقى منّا ونحن في ذلك أمثالها، وما كنّا لنشاركها فيه لو لم نكن أشقياء؟ أمّا من حيث كونها بالجسم هوائيّة، فما قيمة ذلك بينما يفضَّل على كلّ جسم أيّ جوهر نفسيّ، ومن ثمّة فالعبادة الدّينيّة الّتي تؤدّى من النّفس لا تجب قطّ لهذا الشّيء الأدنى من النّفس شرفا؟ ثمّ لو عدّ ضمن ما ذكر للشّياطين من الصّفات الفضيلة والحكمة والسّعادة، وأكّد أنّها تشترك فيها مع الآلهة الخالدة، لكان قد نسب إليها صفة محبّذة وذات شأن. ومع ذلك، ما كان علينا حتّى حينذاك أن نعبدها كإله باعتبار تلك الصّفات، بل كان يجب أن نعبد من نعلم أنّها تلقّتها منه. فما أقلّ جدارة تلك الأحياء الهوائيّة بشرف الألوهة، هي العاقلة ليمكن أن تشقى* والمنفعلة لتشقى فعلا والخالدة لكيلا يمكنها إنهاء شقائها.

 

8-17 هل يجوز أن يعبد الإنسان تلك الأرواح الّتي يجدر به التّحرّر من رذالاتها

   لتلك الأسباب، وأغفل هنا غيرها مقتصرا على البحث في ما ذكر أنّه مشترك بيننا وبين الشّياطين أعني انفعالات النّفس، إن كانت العناصر الأربعة مليئة بالأحياء الخاصّة بكلّ منها، النّار والهواء بالخالدة والماء والأرض بالفانية، أسأل: لماذا تهزّ نفوسَ الشّياطين اصطخابات وزوابع الأهواء. الانفعال perturbatio هو ما يدعى باليونانيّة pathos، لذا اختار وصفها بالمنفعلة passiva بالنّفس، لأنّ لفظة passio ( التّأثّر، الهوى، العاطفة) المشتقّة من لفظة pathos تعني نزوعا في النّفس مضادّا للعقل. لماذا توجد إذن في نفوس الشّياطين تلك النّزوعات الّتي لا توجد في نفوس البهائم؟ فإنّه إن ظهر في البهيمة شيء شبيه لا يُعَدّ انفعالا، لأنّه لا يضادّ العقل الّذي تخلو منه البهائم. أمّا وجود تلك الانفعالات في البشر فيعود إلى الغباوة أو الشّقاوة: فنحن هنا لم ننعم بعد بالسّعادة النّابعة من تمام الحكمة الّتي وُعدنا في الحياة الأخرى لمّا نتخلّص من ثوب الموت الّذي نحمل هنا. أمّا الآلهة فيؤكّدون أنّها لا تتعرّض لتلك الانفعالات، لا فقط لأنّها خالدة بل كذلك لأنّها سعيدة. يذكرون فعلا أنّ لها هي الأخرى نفوسا عاقلة لكن نقيّة تماما من السّقم والدّنس. وبالتّالي إن كانت الآلهة لا تنفعل لأنّها أحياء سعيدة لا يطالها الشّقاء، والبهائم لا تنفعل لأنّها أحياء لا يمكن أن تسعد أو تشقى، بقي أنّ الشّياطين كالبشر تنفعل لأنّها أحياء غير سعيدة بل شقيّة. أيّ حمق إذن بل أيّ جنون أن نخضع بفعل دين مزعوم للشّياطين، في حين أنّا بالدّين الحقّ نتحرّر من ذلك الانحراف الّذي نحن فيه أمثالها! فبينما ينكز الشّياطينَ الغضبُ، كما نرى أبوليوس، رغم مداراته لها واعتباره أنّها خليقة بالأشراف الإلهيّة، مضطرّا إلى الاعتراف به، يأمرنا الدّين الحقّ بألاّ نمكّن الغضب من أنفسنا وأن نقاومه بالأحرى. وبينما تُستمال الشّياطين بالهدايا، يأمرنا الدّين الحقّ بألاّ نحابي أحدا لتلقّي هدايا منه. وبينما تُتملّق الشّياطين بمظاهر التّبجيل، يأمرنا الدّين الحقّ بألاّ نتأثّر قطّ بتلك المظاهر. وبينما تكره الشّياطين بعض النّاس وتحبّ بعضا لا استنادا إلى حكم متبصّر متأنّ بل انقيادا لنفسها المنفعلة كما يدعوها، يأمرنا الدّين الحقّ بأن نحبّ حتّى أعداءنا. أخيرا كلّ نزوعات القلب ونزوغات الفكر وكلّ اصطخابات وزوابع  النّفس الّتي يؤكّد أنّها تجيش وتعصف بالشّياطين، يأمرنا الدّين الحقّ بنبذها. هل من سبب إذن سوى غباء وضلال عجيب يجعل المرء يتّضع بالإجلال لما لا يحبّ التّشبّه به في حياته، ويعبد ما لا يحبّ تقليده، بينما غاية الورع أن يقلّد ما يعبد*.

 

8-18 أيّ دين يدعو البشر إلى الاستعانة بالشّياطين لتقرّبهم إلى الآلهة

   عبثا إذن خلع عليها أبوليوس ومن يرون رأيه شرفَ جعلِها في الهواء وسائط بين السّماء الأثيريّة والأرض، بحيث يمكنها، نظرا إلى أنّ "لا إله يختلط بالإنسان" كما قال أفلاطون* حسب ما يُنقل عنه، أن تحمل إلى الآلهة أدعية البشر ثمّ منها إلى البشر ما حقّقت من طلباتهم*. رأى من ظنّوا هذه الظّنون من غير اللاّئق اختلاط البشر بالآلهة والآلهة بالبشر، وألاّ ضير من اختلاط الشّياطين بالبشر والآلهة معا، ناقلة من هؤلاء رغباتهم وحاملة من تلك مكرماتها. فيكون على الإنسان السّليم القلب والبعيد عن آثام السّحر أن يتّخذ أولياء لضمان استجابة الآلهة تلك الكائنات الّتي تحبّ هذه الفنون، بينما يجعله استنكافه منها أجدر بأن تستجيب له بيسر وسرور. هي فعلا تحبّ مخازي التّمثيل الّتي لا تحبّها العفّة، وتحبّ في شعوذات السّحرة "ألف طريقة للإيذاء"* تستنكف منها البراءة. إذن إن أحبّت العفّة والبراءة الحصول على شيء من الآلهة، لا تستطيع بأفضالها بدون تدخّل أعدائها*. هو لا يحاول إذن سوى تبرير اختلاقات الشّعراء ولهو المسارح*. يؤيّدنا ضدّ تلك التّصوّرات معلّمهم وأعلى مرجع عندهم أفلاطون، للبتّ في ما إن كانت الفضيلة في الإنسان تستحقّ من نفسها هذا الهوان: لا أن تتعلّق بالمخازي فقط، بل أن تتصوّرها فوق ذلك مرضيّة ومحبّبة عند الألوهة.

 

8-19 في إثم السّحر الّذي يُلتمس به عون الأرواح الشّرّيرة

   لِم لا أستشهد ضدّ السّحر الّذي يستطيبه بعض من بلغوا منتهى الشّقاوة والكفر الحسَّ المشتركَ والنّورَ المتوفّر للجميع؟ لماذا فعلا تؤدّب القوانين بصرامة رادعة تلك الممارسات إن كانت من عمل قوى ربّانيّة تجب عبادتها؟ أم وضع تُرى تلك القوانينَ الّتي تعاقب السّحر المسيحيّون؟ بأيّ معنى سوى أنّ هذا المكر بلا شكّ مضرّ بالجنس البشريّ يقول الشّاعر الشّهير: "بحقّ الآلهة، وكلّ عزيز عليك، وبحياتك الغالية، أأستعدّ لنفثات السّحر وأنت كارهة؟"* وما يقول أيضا في موضع آخر عن هذه الفنون: "ورأيته ينقل إلى حقل آخر الزّرع وهو قائم غير حصيد."* ما يروون عن نقل غلّة الغير إلى أرض أخرى بهذا الفنّ الإجراميّ المشؤوم، ألا يذكر شيشرون أنّ الألواح الاثنتي عشر، أي أقدم القوانين الرّومانيّة، نصّت على تسليط أشدّ العقاب عليه وعلى مقترفه؟* وبعد، أأمام قضاة نصارى اتُّهِم أبوليوس بالسّحر؟* قطعا لو كان يعلم أنّ تلك الفنون الّتي اتّهِم بممارستها من الأعمال الرّبّانيّة ومن تقوى القلوب وتتماشى مع أعمال القوى الإلهيّة لجشم لا مجرّد الإقرار بل والمناداة بها* مجرّما بالأحرى القوانين الّتي تحظر وتدين أعمالا ينبغي بالعكس إكبارها وإجلالها. بذلك كان فعلا سيقنع القضاة برأيه، أو إن حكموا عليه بالإعدام بمقتضى قوانين جائرة لمناداته وإشادته بتلك الفنون كانت الشّياطين ستكافئه حتما بهبات تحقّ بهمّته إذ لم يخش وهو يدعو إلى أعمالها الجليلة فقدان حياته. كذلك شهداؤنا لمّا حوكموا على اتّباع الدّين المسيحيّ الّذي كانوا يعلمون أنّهم به ينالون الخلاص والمجد الأبديّ لم يختاروا الإفلات بإنكاره من العقاب الدّنيويّ، بل بالإقرار والمناداة به والدّعوة إليه وتحمّل كلّ المحن بثبات وعزم في سبيله وبالموت بقلوب مطمئنّة تعمرها التّقوى، أجبروا القوانين الّتي تحظره على الخجل ودفعوا إلى تغييرها. لكنّ لهذا الفيلسوف الأفلاطونيّ مرافعة بليغة مستفيضة دفع بها عن نفسه تهمة السّحر، ولم يشأ تبرئة نفسه إلاّ بالتّنصّل ممّا لا يمكن أن يأتيه بريء*. لكن ّ كلّ معجزات السّحرة الّتي يرى محقّا إدانتها تتمّ بواسطة علوم وأعمال الشّياطين الّتي يتّضح لماذا يرى لزاما تكريمها، إذ يؤكّد حاجتنا، لتُحمل أدعيتنا إلى الآلهة، إلى تلك الأرواح الّتي يجب بالعكس أن نجتنب أعمالها إن رغبنا حقّا في وصول صلواتنا إلى الإله الحقّ. ثمّ إنّي أسأل أيّة دعوات يرى تكليفها بحملها* السّحريّة ترى أم المرخّصة؟ السّحريّة لن تقبلها والمرخّصة لن تقبل حملتها. لكن إن جأر المذنب التّائب بدعواته* سيما إن كان قد أتى شيئا من السّحر، أتراه يتلقّى الغفران بشفاعة تلك الكائنات الّتي بتحريضها أو بمباركتها تحديدا سقط في الخطء الّذي يشكو؟ أم لعلّ الشّياطين هي الأخرى، ليمكنها الحصول على المغفرة للتّائبين، تبادر بإعلان توبتها على تغريرها بهم؟ لم يقل ذلك أحد أبدا عن الشّياطين الّتي لو كانت حقّا كذلك لما جرؤت قطّ على المطالبة بالأشراف الإلهيّة، ما دامت قد رغبت بتوبتها الوصول إلى نعمة الغفران. فهناك الكِبْر الجدير بالنّقمة وهنا التّواضع الجدير بالرّحمة.

 

8-20 هل يجب الاعتقاد بأنّ الآلهة تحبّذ الاختلاط بالشّياطين على الاختلاط بالبشر

   هل من ضرورة فعلا ماسّة وأكيدة تجبر الشّياطين على القيام بدور الوسطاء بين الآلهة والبشر فتحمل من هؤلاء رغائبهم وتجلب من الآلهة أفضالها؟ ما عسى أن تكون تلك الحاجة الماسّة والضّرورة القاهرة؟ هي حسب أقوالهم "ألاّ يختلط أيّ إله بالإنسان". يا لقداسة الإله الّذي لا يختلط بالإنسان المتضرّع ويختلط بالشّيطان المتنطّع! لا يختلط بالإنسان التّائب ويختلط بالشّيطان الكاذب! لا يختلط بالإنسان المحتمي بالألوهة ويختلط بالشّيطان منتحل الألوهة! لا يختلط بالإنسان ملتمس العفو والغفران ويختلط بالشّيطان الموسوس بالإثم والعدوان! لا يختلط بالإنسان طارد الشّعراء من المدينة الفاضلة بكتب الحكماء ويختلط بالشّيطان طالب الرّفث والافتراء من ملاهي الشّعراء! لا يختلط بالإنسان مانع اختلاق جرائم للآلهة ويختلط بالشّيطان الملتذّ بجرائم الآلهة المؤتفكة! لا يختلط بالإنسان معاقب كيد السّحرة بالقوانين العادلة ويختلط بالشّيطان معلّم ومنفّذ نفثات السّحر الباطلة! لا يختلط بالإنسان المتهرّب من محاكاة الشّيطان ويختلط بالشّيطان المتربّص لغواية الإنسان*.

 

8-21 هل تستخدم الآلهة الشّياطين كمراسيل وتراجم، وهل تقع في خداعها بدون علمها أو برضاها

   لكن هناك يقينا ضرورة كبرى لهذه الوساطة الغريبة والمعيبة: هي أنّ الآلهة ساكنة الأثير والمعنيّة بشؤون البشر تجهل لا محالة ماذا يصنع البشر ساكنو الأرض إن لم تخبرها الشّياطين ساكنة الهواء، لأنّ الأثير عُلّق عاليا وبعيدا عن الأرض بينما الهواء متاخم للأثير والأرض معا. يا للحكمة الرّائعة! ماذا يرى هؤلاء الفلاسفة عن الآلهة الّتي يريدونها كلّها خيّرة، سوى أنّها تُعنى بشؤون البشر كيلا تبدو غير جديرة بعبادتهم، لكن لبعد الشّقّة بين العنصرين تجهل شؤون البشر، ومن ثمّة يتصوّرون الشّياطين ضروريّة ولذا يرون من اللاّزم عبادتها هي أيضا، فبواسطتها تتسنّى للآلهة معرفة ما هو مطلوب في عالم البشر ومساعدة البشر كلّما دعت الحاجة؟ إن كان الأمر كذلك، فتلك الآلهة الصّالحة إذن أعلم بالشّيطان لقرب الجسم ممّا هي بالإنسان لصلاح النّفس. يا للضّرورة القاسية، أم أقول بالأحرى يا للباطل السّخيف والمقيت كيلا أجعل الألوهة لغوا باطلا! إن كان فعلا بإمكان النّفس الإنسانيّة، بعد التّخلّص من علائق وعوائق الجسم أن ترى الآلهة، فهي لا تحتاج في ذلك إلى وساطة الشّياطين؛ لكن إن كانت الآلهة الأثيريّة تدرك بالجسم دلائل النّفوس الجسمانيّة كالكلام والقسمات والحركة*، وتدرك بنفس الواسطة ما تبلّغها الشّياطين، يمكن إذّاك أيضا أن تخدعها أكاذيب الشّياطين؛ أمّا إن لم يكن ممكنا أن تخدع الشّياطين ألوهة الآلهة فإذّاك لا يمكن أن تجهل تلك الآلهة أعمالنا.

   لكن أودّ أن يقول لي هؤلاء القوم إن كانت الشّياطين قد أخبرت الآلهة بأنّ اختلاقات الشّعراء عن جرائم الآلهة تسوء أفلاطون وأخفت أنّها ترضيها، أم أخفت كلتا الواقعتين مفضّلة أن تبقى الآلهة على جهل تامّ بالأمر، أم أنبأتها بكلتيهما: حكمة أفلاطون المُجلّة للآلهة ولهوها هي المُهين لها، أم شاءت أن تجهل الآلهة استشناع أفلاطون لإطلاق الشّعراء ألسنتهم بثلب الآلهة غير متورّعين عن افتراء جرائم عليها بينما لم تستح أو تخش من مكاشفتها بمكرها الّذي يجعلها تحبّ الألعاب التّمثيليّة حيث تُشهر قبائح الآلهة؟ ليختاروا ما شاؤوا من هذه الخيارات الأربعة المطروحة في سؤالي وليلاحظوا في أيّ واحد منها اختاروا مدى الانتقاص الضّمنيّ للآلهة الخيّرة. إن اختاروا الأوّل سيُقِرّون بأنّ الآلهة الخيّرة لم تتمكّن من مساكنة أفلاطون الخيّر مع منعه إهانتها، لكنّها ساكنت الشّياطين  الشّرّيرة مع التذاذها بإهاناتها، ما دامت الآلهة الخيّرة لا تستطيع معرفة الإنسان الخيّر المقيم بعيدا عنها إلاّ بواسطة الشّياطين الشّرّيرة الّتي تعرفها بحكم الجوار*. أمّا إن اختاروا الثّاني وقالوا بأنّ الشّياطين تخفي كلتا المعلومتين، لتظلّ الآلهة على جهل تامّ بقانون أفلاطون الدّيّن ولهو الشّياطين الأثيم، فأيّ علم نافع عن البشر يتاح للآلهة إذّاك بواسطة الشّياطين وهي تجهل ما قرّر إكراما لها ورع النّاس الأبرار ضدّ مجون الشّياطين الأشرار؟ فإن اختاروا الثّالث وأجابوا أنّ الآلهة خُبّرت بواسطة رسلها الشّياطين لا فقط بحكم أفلاطون الّذي يمنع إهانة الآلهة بل كذلك بمكر الشّياطين المتهلّلة بإهانة الآلهة، أفتخبير هذا أم تعيير؟ والآلهة تسمع بكلا الموقفين وتعلم بكليهما، ولا يكفي ألاّ تمنع من الدّنوّ منها تلك الشّياطين الماكرة الّتي تحبّ وتأتي فعالا ضدّ كرامة الآلهة وضدّ قانون أفلاطون، بل فوق ذلك تبعث هذه الوسائط السّيّئة القريبة إلى أفلاطون الصّالح القصيّ عطاياها! إذ يقيّدها كالسّلسلة تراتب العناصر، متيحا لها الاتّصال بتلك الّتي تهاجمها دون هذا الّذي يدافع عنها، وهي تعلم عمل كلا الطّرفين لكن لا تستطيع تغيير وزني الهواء والأرض. أمّا إن اختاروا الحلّ الرّابع الباقي فهو أسوأ من البقيّة. إذ من يتحمّل أن تبلّغ الشّياطين الآلهة بإفك الشّعراء الأثيم عن الآلهة الخالدة وألعاب المسرح المعيبة وعن شغفها الشّديد والتذاذها العذب بكلّ تلك القبائح، وتكتم عنها رأي أفلاطون القاضي، وفق فلسفته الرّصينة، بإقصائها كلّها من مدينته الفاضلة، فتكون الآلهة مجبرة على الاطّلاع بواسطة تلك الرّسل على سيّئات شرّ الكائنات الّتي اجترحتها تلك الرّسل بالذّات ولا أحد سواها، ولا يتاح لها أن تعلم منها بالمقابل مبرّات الفلاسفة، بينما تلك تهينها وهذه تكرمها.

 

8-22 في ضرورة نبذ عبادة الشّياطين خلافا لرأي أبوليوس

   بما أنّه لا يجوز اختيار أيّ من هذه البدائل الأربعة، كيلا نتصوّر في أيّ منها ما يسيء إلى الآلهة، يبقى أنّه لا يجب قطّ تصديق ما يحاول إقناعنا به أبوليوس أو أيّ من الفلاسفة المؤيّدين لرأيه: من أنّ الشّياطين وسائط بين الآلهة والبشر تؤدّي دور المراسيل والتّراجم حاملة من هنا رغائبنا رادّة* من هناك آلاء الآلهة؛ فإن هي إلاّ أرواح ميّالة إلى الضّرّ بعيدة عن البرّ منتفخة بالكبْر ممتقعة من الحسد بارعة في التّغرير، هي الّتي تسكن الهواء لأنّها عدلا أُنزلت من حالق السّماء، بسبب خطيئتها الّتي لا تفتدى، وحُكم عليها بسكنى هذا العنصر كسجن لها. وما علوّ محلّ الهواء على الأرض والماء بدليل على أنّها تفضل في الشّرف البشر الّذين يفوقونها بيسر لا بجسمهم التّرابيّ بل بنفسهم التّقيّة المجتباة من الله الحقّ لنيل إحسانه. لكنّها تسيطر على كثيرين منهم غير جديرين بالمشاركة في رابطة الدّين الحقّ كأسرى وعبيد طيّعين، أقنعت بألوهتها أكثرهم بآيات باهرة وكاذبة، أعمالا كانت أو أقوالا. لكنّها لم تستطع أن تقنع بألوهتها بعضهم النّاظرين إلى رذائلها بمزيد من التّنبّه والتّأنّي، فانتحلت صفة الرّسل بين الآلهة والبشر وشفعائهم لنيل مزاياها. ولئن لم ير من موجب لإسناد حتّى هذا الشّرف إليها من لم يكونوا يؤمنون بألوهتها لأنّهم لاحظوا طبيعتها السّيّئة بينما يريدون أن تكون الآلهة خيّرة، فقد أعوزتهم مع ذلك الجرأة على الصّدع بأنّها لا تستحقّ البتّة الشّرف الإلهيّ، سيما لخوفهم من إغاظة الشّعب الّذي كانوا يرونه مكبّا تحت تأثير أساطير الأوّلين على عبادتها، مقيما لها عديد الأعياد والمعابد.

 

8-23 ماذا رأى هرمس العظيم ثلاثا حول عبادة الأوثان ومن أين عرف أنّ أساطير المصريّين إلى زوال

   ولقد رأى وكتب عنها هرمس المصريّ الملقّب العظيم ثلاثا آراء مختلفة. إذ ينفي أبوليوس ألوهتها، لكن لمّا يؤكّد أنّها تسكن منطقة وسطى بين الآلهة والبشر وتبدو ضروريّة للبشر كصلة مع الآلهة لا يفصل عبادتها عن عبادة الآلهة العلى. أمّا هرمس فيقول إنّ بعض الآلهة من صنع الإله الأعلى وبعضها من صنع البشر. من يسمع هذا الكلام كما أوردته يظنّني أتحدّث عن التّماثيل الّتي هي من عمل أيد بشريّة. لكنّه يؤكّد أنّ التّماثيل المرئيّة الملموسة بمثابة أجسام للآلهة تقطنها الأرواح الّتي دُعيت لتحلّ بها والقادرة على الإيذاء وعلى تحقيق بعض رغبات من يولونها الأشراف الإلهيّة والطّقوس العباديّة. يؤكّد إذن أنّ هذه الأرواح اللاّمرئيّة تُقرن بفضل فنّ معيّن بأجسام مادّيّة مرئيّة، فتكون التّماثيل المخصّصة والخاضعة لتلك الأرواح بمثابة أجسام حيّة: هذا ما يدعوه صنع آلهة، وقد أوتي البشر حسب قوله تلك القدرة العظيمة والعجيبة على صنع الآلهة. سأورد أقوال هذا المصريّ كما تُرجمت إلى لغتنا؛ يقول: "بما أنّا نشرع في الحديث عن التّصاحب والتّآلف بين البشر والآلهة، اعلم يا إسكلابيوس قدرة وقوّة الإنسان، فكما أنّ الرّبّ والآب أو الإله الأعظم هو صانع آلهة السّماء، كذلك الإنسان هو صانع الآلهة المقيمة في المعابد الرّاضية بمجاورة البشر." ويضيف بعد ذلك بقليل: "هكذا تواظب البشريّة، ذاكرة باستمرار طبيعتها وأصلها، على محاكاة الألوهة المذكورة؛ فمثلما جعل الآب والرّبّ الأعلى الآلهة خالدة على مثاله، كذلك صنعت البشريّة آلهتها على صورتها."* ولمّا ردّ إسكلابيوس الّذي إليه بالأخصّ كان يوجّه خطابه: "أتقصد التّماثيل يا ترِسماجستوس؟" أجاب: "نعم، إيّاها أعني. ترى يا إسكلابيوس قلّة إيمانك أنت نفسك. التّماثيل النّابضة بالحياة، المفعمة بالحسّ والرّوح، صانعة الأعاجيب، العليمة بالغيب، المخبرة عنه بقراءة الحظّ وبالوحي والرّؤى ووسائل أخرى عديدة، مصيبة النّاس بالأمراض وشافيتهم منها، جالبة الأفراح والأتراح للنّاس كلّ بما كسب. أم تجهل ترى يا إسكلابيوس أنّ مصر صورة من السّماء وأرضنا بمثابة معبد العالم. وما دام حسنا أن يعلم الحكيم كلّ ما هو آت، لا يُعقل أن تجهلوا من جهتكم هذا: سيأتي زمن يظهر فيه أنّ المصريّين ثابروا عبثا على إجلال الآلهة بقلوب صادقة التّقوى." ثمّ يشرح هرمس في حديث طويل هذا المقطع الّذي يبدو كأنّه يتنبّأ فيه بزماننا هذا حيث نرى الدّين المسيحيّ، بقدر ما هو أصدق وأجلّ، يمضي محطّما بقوّة أعتى وحرّيّة أجلى كلّ الابتداعات الكاذبة ليحرّر الإنسان بنعمة المخلّص الحقّ من تلك الآلهة الّتي صنعها الإنسان، ويخضعه لله الّذي صنع الإنسان.

   لكنّ هرمس في تنبّؤه بهذه الأحداث يتحدّث كصديق لتلك الأباطيل الشّيطانيّة، ولا يسمّي بالتّصريح وكامل الوضوح دين المسيح، بل يشهد بنحو ما في نبوءته بإزالة ونسف ذلك التّراث الّذي بحفظه يُحفظ في مصر، كما يزعم، شبَه من السّماء، آسفا لتلك الأحداث الآتية الحزينة من منظوره. إذ كان من أولئك الّذين يقول عنهم الرّسول "إنّهم لمّا عرفوا الله لم يمجّدوه ولم يشكروه كإله بل سفهوا في أفكارهم وأظلمت قلوبهم الغبيّة. وقد زعموا أنّهم حكماء فصاروا حمقى. واستبدلوا مجد الله الّذي لا يدركه الفساد بشبه صورة إنسان ذي فساد" وغير ذلك ممّا يطول عرضه. فعلا يطلق كثيرا من الأقوال الشّبيهة عن الإله الواحد الحقّ صانع الكون، تطابق الحقيقة بلا شكّ، ولا أدري كيف خُتم على قلبه لينزل إلى حضيض ترّهات كالرّغبة في استمرار خضوع البشر للآلهة الّتي يعترف بأنّها من صنع البشر والأسف على إزالتها مستقبلا كما لو كان هناك ما هو أتعس بالنّسبة للإنسان من سيطرة ما صنع هو نفسه عليه. فأسهل أن يفقد إنسانيّته بعبادته كآلهة تماثيل صنعها* من أن تصير آلهة تلك التّماثيل الّتي صنعها بيديه. وأيسر أن يصبح الإنسان الّذي وُضع في مرتبة شريفة شبيها بخلوّه من الفهم بالبهيمة من أن يفضل عملَ الله المشكّل على صورته، أي الإنسانَ ذاتَه، عملُ الإنسان. لذا يغرب الإنسان عمّن صنعه، وذاك عين العدل، لمّا يفضّل على نفسه ما صنع هو نفسه*.

   كان هرمس المصريّ يألم لهذه المبتدعات الباطلة المضلّة المضرّة الأثيمة* لعلمه بأنّ زمان إزالتها آت لا ريب، لكنّه كان يألم بصفاقة كما يعلم بحماقة*. فما كشف له ذلك الرّوح القدسُ كما كشف للأنبياء المكرمين الّذين كانوا عند تنبّؤهم به يقولون مبتهجين: "هل يصنع البشر لهم آلهة وهي ليست بآلهة"*؛ وفي موضع آخر: "ويكون في ذلك اليوم، يقول ربّ الجنود، أنّي أستأصل أسماء الأصنام عن الأرض فلا تُذكر من بعد"*؛ وبخصوص مصر وهذا الموضوع تحديدا يتنبّأ أشعيا الصّدّيق: " هوذا الرّبّ يدخل مصر فتتزلزل أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر في داخلها"* وبأشياء شبيهة أخرى. ومن قبيله أولئك الّذين كانوا يستبشرون بمجيء ما كانوا يعلمون أنّه آت كسمعان وحنّة الّتي علمت فورا بمولد يسوع وكأليصابات الّتي تعرّفته بالرّوح وهو جنين* وكبطرس القائل بكشف الآب: "أنت المسيح ابن الله الحيّ."* أمّا ذاك المصريّ فقد كشفت له الأرواح الشّيطانيّة مجيء زمان عذابها، هي الّتي قالت عند مجيء الرّبّ في صورة الجسد: "أجئتَ إلى ههنا قبل الزّمان لتعذّبنا"*، سواء لأنّها فوجئت بمجيئه مع علمها بأنّه آت لكن حسبته آتيا في زمان لم يئن أوانه، أو لأنّها كانت تدعو عذابا وضعها إذّاك إذ عُرفت فصارت محلّ الاحتقار، وكان ذلك "قبل الزّمان" أي قبل يوم الدّينونة حيث ستعاقَب بالعذاب الأبديّ مع كلّ النّاس المفتونين بصحبتها كما يحدّثنا الدّين الّذي لا يُضِلّ ولا يُضَلّ، لا كذاك الّذي "يميل مع كلّ ريح تعليم" إلى هنا وإلى هناك ويخلط الحقّ بالباطل فيألم لضياع ما يدعوه دينا ويعترف فيما بعد أنّه ضلال مبين. 

  

8-24 كيف اعترف هرمس بضلال أسلافه مع ألمه لإزالته الآتية

   بعد كلام كثير تحدّث من جديد عن الآلهة الّتي صنعها البشر قائلا: "لكن قلنا ما يكفي حول هذه الأمور، فلنعد إلى الإنسان والعقل، هذه الهبة الإلهيّة الّتي باعتبارها ندعو الإنسان حيوانا عاقلا. فأقلّ عجبا وإن دعا إلى العجب ما يقال عن الإنسان من معجبات مقارنةً به. أدعى إلى العجب من كلّ العجائب فعلا قدرة الإنسان على اكتشاف الطّبيعة الإلهيّة وصنعها*. لأنّ آباءنا الأوّلين ضلّوا ضلالا بعيدا بخصوص علم الرّبوبيّة وكفروا وأعرضوا عن شعائر الدّين الرّبّانيّ ابتكروا فنّا لصنع الآلهة، وأضافوا إلى فنّهم ذاك قوّة مناسبة مستمدّة من طبيعة العالم ودمجوها به، ولعجزهم عن صنع نفوس راحوا يستحضرون أرواح الشّياطين فقمّصوها تلك الصّور المقدّسة والأسرار الرّبّانيّة وبذلك أتيح لتلك الأصنام أن تكتسب القدرة على الإحسان والإساءة سويّا." ولا أدري إن كانت الشّياطين لو دُعيت للشّهادة تحت القسم ستعترف كما اعترف. يقول: "لأنّ آباءنا الأوّلين ضلّوا ضلالا بعيدا بخصوص علم الرّبوبيّة وكفروا وأعرضوا عن شعائر الدّين الرّبّانيّ ابتكروا فنّا لصنع الآلهة". فهل قال إنّهم ضلّوا ضلالا يسيرا فابتكروا فنّ صنع الآلهة، أو اكتفى بقول: "ضلّوا" ولم يُردف "ضلالا بعيدا"؟ هذا الضّلال البعيد، هذا الكفر، هذا الإعراض من أولئك الآباء الأوّلين عن شعائر الدّين الرّبّانيّ هو الّذي وضع إذن فنّ صنع الآلهة. لكنّ ما ابتكر ذلك الضّلال البعيد والكفر والإعراض عن شعائر الدّين الرّبّانيّ، فنَّ صنع الآلأهة، يؤلم حكيمَنا مجيء زمان إزالته لأنّه ينظر إليه كدين ربّانيّ. فانظر إن لم يكن مدفوعا بقوّة ربّانيّة إلى كشف ضلال أسلافه الماضي، وبقوّة شيطانيّة إلى الأسف على عقاب الشّياطين الآتي.

   فعلا إن كان أجداده في ضلالهم البعيد بشأن الرّبوبيّة وكفرهم وإعراض نفوسهم عن شعائر الدّين الرّبّانيّ قد ابتكروا فنّ صنع الآلهة، ما العجبُ في أن يزيل هذا الفنَّ المقيتَ المعرضَ عن الدّين الرّبّانيّ الدّينُ الرّبّانيُّ، لمّا يصوّب الضّلالَ الهدى، ويفنّد الكفرَ الإيمان، ويصحّح الإعراضَ الإقبالُ*؟ لو أخبر دون ذكر الأسباب بأنّ آباءه اخترعوا فنّ صنع الآلهة لتسنّى لنا، إن كنّا نفكّر بسداد وتقوى، أن نلاحظ ونرى أنّهم ما كانوا ليصلوا أبدا إلى هذا الفنّ الّذي يصنع به الإنسان آلهة لو لم يزيغوا عن الهدى وآمنوا بما يتماشى مع شرف الألوهة وأقبلوا على شعائر الدّين الرّبّانيّ. لكن لو ذكرنا نحن أنّ أسباب هذا الفنّ ضلالُ النّاس البعيد وكفرهم وإعراض نفوسهم الضّالّة الكافرة عن الدّين الرّبّانيّ، لكان علينا أن نواجه سفاهة المكابرين. أما وذاك الرّجل الّذي تعجبه في الإنسان أكثر من كلّ القدرات طاقة هذا الفنّ الّذي يتيح له إبداع آلهة، ويؤلمه مجيء الزّمان الّذي يؤمر فيه، بل وبموجب القوانين أيضا، بإزالة كلّ ما ابتدع ووضع البشر بخصوص الآلهة، يعترف هو نفسه علنا بالأسباب الّتي أدّت إلى تلك العادات، مؤكّدا أنّ اختراع آبائه لهذا الفنّ الّذي يصنعون به آلهة أتى نتيجة ضلالهم البعيد وكفرهم وإعراض نفوسهم عن شعائر الدّين الرّبّانيّ، فماذا يجدر بنا نحن أن نقول أو بالأحرى أن نفعل سوى أن نحمد قدر مستطاعنا الله ربّنا الّذي أزال هذه البدع بأسباب مضادّة للّتي أنشأتها.

   فما أنشأته مسالك الضّلال أزالته طريق الحقّ، وما أنشأه الكفر أزاله الإيمان، وما أنشأه الصّدود عن شعائر الدّين الرّبّانيّ أزاله الإقبال نحو الله الحقّ الواحد القدّوس. وما ذاك في مصر وحدها الّتي عليها وحدها  أسفت بلسان ذاك الرّجل أرواحُ الشّياطين، بل في جميع الأرض الّتي ترنّم للرّبّ ترنيما جديدا كما بشّرت الكتب المقدّسة حقّا والنّبويّة حقّا، حيث كُتب: "رنّموا للرّبّ ترنيما جديدا، رنّموا للرّبّ يا جميع الأرض"*، فعنوان هذا المزمور هو فعلا: "لمّا بني البيت بعد السّبي"*. فعلا ها أنّ بيتا يشاد للرّبّ*، مدينة الله الّتي هي الكنيسة المقدّسة* في جميع الأرض بعد الأسر حيث ظلّ من منهم، إذ باتوا مؤمنين بالله، شيد البيت كما من حجارة حيّة، سبياً مماليك للشّياطين. فكون الإنسان هو الّذي صنع تلك الآلهة لا يمنع أن يكون، وهو صانعها، مملوكا لها إذ كانت عبادته لها تجرّه إلى عشرتها، لا عشرة أصنام غبيّة* بل عشرة شياطين ذكيّة*. وهل الأصنام سوى ما يقول عنها الكتاب المقدّس: "لها عيون ولا تبصر"؟* ومهما تفنّن الصّنّاع في تصويرها في أشرف الموادّ، تظلّ خلوا من الحياة والحسّ. لكنّ الأرواح النّجسة المقترنة، بفعل ذلك الفنّ الأثيم، بهذه الأوثان أسرت نفوس عبّادها  بنحو يثير الرّثاء بشدّها إلى صحبتها. لذا يقول الرّسول: "ماذا أقول: أإنّ ذبيحة الوثن شيء أو إنّ الوثن شيء. بل إنّ الّذي تذبحه الأمم إنّما تذبحه للشّياطين لا لله، فلا أريد أن تكونوا شركاء الشّياطين."* إذن بعد هذا الأسر الّذي كان النّاس خاضعين فيه للشّياطين، هوذا بيت الله يُبنى في جميع الأرض. من هنا مطلع المزمور حيث نقرأ: "رنّموا للرّبّ ترنيما جديدا، رنّموا للرّبّ يا جميع الأرض. رنّموا للرّبّ، باركوا اسمه، بشّروا من يوم إلى يوم بخلاصه. حدّثوا في الأمم بمجده في جميع الشّعوب بمعجزاته. لأنّ الرّبّ عظيم وكثير الحمد مرهوب فوق جميع الآلهة. لأنّ جميع آلهة الشّعوب أصنام والرّبّ هو صنع السّماوات."*

   فمَن ألم لمجيء الزّمان الّذي تلغى فيه عبادة الأصنام وتُزال في عبّادها سيطرة الشّياطين* كان يرغب إذن، تحت تأثير الرّوح الشّرّير، في استمرار ذلك الأسر الّذي بانتهائه يتغنّى المزمور ببناء بيت في جميع الأرض. كان هرمس ينبئ بتلك الأحداث آسفا لها، بينما كان النّبيّ ينبئ بها فرحا. ولانتصار الرّوح الّذي كان يترنّم بها على لسان الأنبياء المكرمين، حتّى هرمس اضطرّ بطريقة عجيبة للاعتراف بأنّ تلك الأشياء الّتي كان يكره وينعي* إزالتها لم يصغها أناس متبصّرون مؤمنون ديّنون بل وضعها ضالّون كافرون معرضون عن الدّين الرّبّانيّ. فمع أنّه يدعوها آلهة، لمّا يخبرنا أنّها من صنع أولئك النّاس الّذين لا ينبغي بحال أن نكون أمثالهم، يُظهر، أحبّ أو كره، أنّه لا يجب أن يعبدها من ليسوا أشباه صانعيها، أي المتبصّرون المؤمنون الدّيّنون، مبيّنا في نفس الوقت أنّ صانعيها جرّوا أنفسهم إلى اتّخاذ آلهة ممّا لم يكن آلهة. فصحيح بالتّحقيق قول النّبيّ: "هل يصنع البشر لهم آلهة وهي ليست بآلهة". وبالتّالي لمّا دعا هرمس تلك الأصنام الّتي يتّخذها آلهة أولئك القوم وصاغها بأيديهم أولئك الصّنّاع، أي الشّياطين المقترنة بتلك الأصنام بفعل فنّ أجهل ماذا يكون تحديدا "آلهة صنعها الإنسان"، لم ينسب إليها مع ذلك ما ينسب الأفلاطونيّ أبوليوس، الّذي عرضنا في ما تقدّم رأيه عرضا كافيا وبيّنّا سخفه وشذوذه، من أنّها وسائط وتراجم بين الآلهة الّتي صنعها الإله الأعظم والبشر الّذين صنعهم نفس ذاك الإله، تحمل من هنا الرّغبات وتعود من هنالك بالهبات.

   فمن أحمق الحمق لعمري الاعتقاد بأنّ للآلهة الّتي صنعها البشر عند الآلهة الّتي صنعها الإله الأعظم شأنا أعظم ممّا للبشر الّذين صنعهم نفس ذاك الإله. وشيطانا مقترنا بصنم بفعل فنّ أثيم اتّخذ الإنسانُ إلها، لكنّه إله لذلك الإنسان لا لكلّ النّاس. إذن ما طبيعة ذاك الإله الّذي ما صنعه الإنسان إلاّ وهو في الضّلال والكفر والإعراض عن الله الحقّ؟ ثمّ إن لم تكن الشّياطين المعبودة في الهياكل والمقرونة بواسطة فنّ مشبوه بتلك الصّور، أعني تلك التّماثيل المادّيّة، بفعل أولئك القوم الّذين صنعوا بهذا النّحو آلهة وهم في الضّلال والكفر والإعراض عن الدّين الرّبّانيّ الحقّ، مراسيل وتراجم بين البشر والآلهة، بسبب شرورها ومفاسدها وكذلك لأنّ البشر، حتّى وهم في الضّلال والكفر والإعراض عن شعائر الدّين الرّبّانيّ، أفضل منها بلا شكّ، هم الّذين صنعوا الآلهة، بقي إذن أنّ ما تقدر عليه إنّما تقدر عليه كشياطين، ناشرةً أذاها وهي تتظاهر بتقديم جمائل للبشر، والأذى إذّاك أعظم قدر ما الخداع أحكم، أو مسيئة إليهم بنحو سافر. والحقّ أنّها في الحالتين عاجزة عن فعل أيّ شيء ما لم تأذن لها عناية الله الخفيّة العميقة الغور، ولا تستمدّ إذّاك سلطانها على البشر من صداقتها للآلهة بصفتها وسائط بين البشر والآلهة، إذ لا يمكن بتاتا أن تكون صديقة للآلهة الخيّرة الّتي ندعوها ملائكة بررة وعقولا مجرّدة، والمستقرّة في مقامها السّماويّ الكريم سواء كانت عروشا أو سيادات أو رئاسات أو سلاطين* والمنزّهة عن انفعالات النّفس، فهي بعيدة عنها بُعدَ الرّذائل عن الفضائل والخبائث عن الطّيبات.

 

8-25 في ما يمكن أن يكون مشتركا بين الملائكة البررة والنّاس الصّالحين

   ينبغي إذن أن نلتمس رعايةَ أو إنعامَ الآلهة أو بالأحرى الملائكة الطّيّبة لا بوساطة الشّياطين المزعومة، بل بمشابهتنا لها في المشيئة الصّالحة الّتي بها نكون معها ونعيش معها ونعبد معها الإله الّذي تعبد، حتّى إن لم نتمكّن من رؤيتها بعيون أجسادنا. لكنّا نشقى باختلافنا عنها في الإرادة وخورنا أمام ضعفنا، ونبعد عنها بطلاح نهج حياتنا لا بمحلّ أجسامنا. إذ ليست سكنانا في الأرض في ظروف اقتران النّفس بالجسد هي الّتي تحول دون ارتباطنا بها، بل فتنتنا بالمتاع الأرضيّ الّتي تعكس تدنّس قلوبنا بأدران وجودنا هنا. لكن لمّا نشفى من أسقامنا فنصير أمثالها، نقترب إذّاك منها بالإيمان، إن آمنّا أنّا ننال السّعادة ممّن نالتها منه هي أيضا وكذلك بتدخّلها عنده لصالحنا.

 

8-26 في أنّ كلّ دين الوثنيّين حيك حول بشر أموات

   يجدر حقّا بالملاحظة كيف انجرّ ذلك المصريّ، وهو يعرب عن أسفه على مجيء الزّمان الّذي سيُزال فيه من مصر التّراث الّذي يعترف بأنّه من وضع أناس ضلّوا ضلالا بعيدا وكفروا وأعرضوا عن شعائر الدّين الرّبّانيّ، إلى القول من جملة ما قال: "ستكون إذّاك تلك الأرض، موطنُ الهياكل والمعابد المقدّسُ، مليئةً بالقبور والأموات." كما لو لم يكن البشر سيموتون أو كما لو كانوا سيُدفنون في مكان آخر سوى الأرض إن لم يُزل ذلك التّراث، وكما لو لم يكن دوران الزّمان وتعاقب الأيّام سيزيد حتما عدد القبور قدر ازدياد الوفيّات! لكنّه كما يبدو يألم لحلول أضرحة شهدائنا محلّ هياكلهم ومعابدهم، على الأرجح ليتصوّر من يقرؤون نبوءاته بفكر معرض عنّا ومنحرف* أنّ الوثنيّين كانوا يعبدون آلهة في الهياكل بينما نعبد نحن أمواتا في القبور.

   فأولئك الكفرة كمن يصطدم بالجبال من فرط العمى، ولا يريدون، وإن أوتوا عيونا، رؤية الأشياء، فلا يلاحظون أنّه يتعذّر أو يكاد أن نجد في كلّ أدبيّات الوثنيّين آلهة لم تكن في الأصل بشرا أولوا بعد موتهم أشرافا إلهيّة. لا أتوقّف عند تأكيد وارّون أنّ كلّ أرواح الموتى تُعَدّ آلهة عندهم، ويثبت ذلك بالطّقوس الّتي تؤدّى لكلّ الموتى تقريبا، ذاكرا من ضمنها الألعاب المقامة لهم كأعظم مظهر لتأليههم إذ لا تقام الألعاب عادة إلاّ لتكريم الآلهة. فهرمس نفسه، موضوعنا الرّاهن، في نفس الكتاب حيث يتنبّأ بالتّطوّرات الآتية قائلا ببالغ الأسى: "ستكون إذّاك تلك الأرض، مقرُّ الهياكل والمعابد المقدّسُ، مليئةً بالقبور والأموات"، يشهد أنّ آلهة مصر بشر فناة. إذ لمّا يذكر أنّ أجداده في ضلالهم حول مسألة الرّبوبيّة وكفرهم ولامبالاتهم بشعائر الدّين الرّبّانيّ ابتكروا فنّا لصنع الآلهة، يقول: "أضافوا إلى فنّهم ذاك قوّة مناسبة مستمدّة من طبيعة العالم ودمجوها به، ولعجزهم عن صنع نفوس راحوا يستحضرون أرواح الشّياطين فقمّصوها تلك الصّور المقدّسة والأسرار الرّبّانيّة وبذلك أتيح لتلك الأصنام أن تكتسب القدرة على الإحسان والإساءة سويّا." ثمّ يتابع قائلا لإثبات ذلك بأمثلة: "فجدّك يا إسكلابيوس، أوّل من ابتكر الطّبّ والّذي كُرّس له في جبل بليبية قرب ساحل التّماسيح معبد يثوي فيه شخصه الأرضيّ البشريّ، أي بدنه- فإنّ جزءه المتبقّي والأفضل، أو بالأحرى كيانه الكلّيّ إن كان الإنسان بكلّيّته في العقل المميّز لنمطه الوجوديّ عاد إلى السّماء- يقدّم حتّى اليوم ببركته الرّبّانيّة للمرضى من البشر مساعداته الّتي تُستحضر عادة بفنّ الطّبّ." لاحظ قوله إنّ ميّتا يُعبد كإله في المكان الّذي أقيم فيه قبر له، ضلالا وتضليلا لأنّه عاد إلى السّماء. ثمّ يردف قائلا: "ألا يساعد ويحفظ جدّي وسميّي هرمس الثّاوي في المدينة الّتي اشتُقّ اسمها منه، كلّ النّاس الآتين إليه من كلّ صوب؟" فهرمس الأكبر، أي مركوريوس، الّذي يقول إنّه جدّه، مدفون بهرموبوليس المدينة الّتي تحمل اسمه كما يروى. هوذا يؤكّد إذن أنّ إلهين، أسكلابيوس ومركوريوس، كانا من البشر. لكن حول أسكلابيوس يتّفق اليونان واللاّتين في ذلك، أمّا مركوريوس فكثيرون لا يرون أنّه كان إنسانا مع أنّ هذا الرّجل يشهد بأنّه جدّه: لكنّ ذاك شخص وهذا شخص آخر وإن كانا يُدعيان بنفس الاسم؛ وأنا لن أنازع هنا في ما إن كان ذاك شخصا غير هذا، لكنّا نرى أنّ ذاك أيضا مثل أسكلابيوس إنسان اتُّخذ إلها حسب شهادة رجل ذي شأن عظيم عند بني وطنه، أعني هرمس العظيم ثلاثا حفيده.

   ثمّ يواصل: "لكن أتعلم كم تسبغ علينا من النّعم إن رضيت، وكم تلحق بنا من المضارّ إن غضبت إيزيس زوجة أوزيريس؟" ثمّ ليبيّن وجود آلهة من هذا النّوع صنعها البشر بذلك الفنّ- قاصدا بذلك إفهامنا أنّ الشّياطين نشأت من نفوس أناس أموات بالفنّ الّذي ابتدعه البشر في ضلالهم وكفرهم وإعراضهم عن شعائر الدّين الرّبّانيّ تلبّست تماثيل كما يقول لعجز صانعي تلك الآلهة عن صنع إنشاء نفوس-، بعد قوله عن إيزيس كما ذكرت: "كم تلحق بنا من المضارّ إن غضبت"، تابع قائلا: "من السّهل فعلا أن تغضب الآلهة الأرضيّة المقيمة بين البشر نظرا لأنّ بشرا صنعوها وركّبوها من كلتا الطّبيعتين"، يقصد بذلك النّفس والجسم، فالشّيطان في مقام النّفس والتّمثال في مقام الجسم. ويقول أيضا: "تبعا لذلك أشهر المصريّون هذه الكائنات ذوات الأنفس والطّبيعة القدسيّة وعبدوا أرواحها، الّتي تستمدّ منها بتكريسها الحياة، في شتّى مدنهم، فعمروها في ظلّ قوانينها وسمّوها بأسمائها." من أين ترى هذه الشّكوى الباكية على أنّ أرض مصر، موطنَ الهياكل والمعابد المقدّسَ، ستمتلئ لاحقا بالقبور والأموات؟ لا شكّ أنّ الرّوح الغرور الّذي كان هرمس بوحيه يقول تلك الأقوال أُكرِه على الإقرار بأنّ تلك الأرض كانت حتّى في ذلك العصر مليئة بالقبور والأموات الّذين كان القوم يعبدونهم كآلهة. لكن كان يتكلّم بلسانه أسى الشّياطين المتألّمة من عقوباتها الوشيكة عند أضرحة الشّهداء الأبرار. ففي كثير من تلك المشاهد المقدّسة تعذَّب وتعترف وتُطرَد من أجسام النّاس الّتي تلبّستها*.

 

8-27 في طبيعة الشّرف الّذي يخلعه المسيحيّون على القدّيسين

   لكنّا لم نجعل لهؤلاء الشّهداء معابد وسدانات وطقوسا وقرابين، فما هم إلهَنا بل إلههم هو إلهنا. ونحن نكرّم لا محالة مقاماتهم كأناس من رجال الله الصّالحين جاهدوا في سبيل الحقّ حتّى موت أجسادهم، ليسطع الحقّ بعدما يزهق الباطل وتخسأ الضّلالات. فحتّى إن وُجد قبلهم أناس يفكّرون مثلهم، إلاّ أنّهم كانوا يكتمون آراءهم تقيّة. لكن من سمع يوما قسّا واقفا أمام المذبح المقام لتقديس وعبادة الله على رفات قدّيس من شهدائنا يقول في صلواته: "لك يا بطرس، أو بولس أو قبريانوس، أقدّم لك هذا القربان"، لمّا يقدَّم عند مقاماتهم لله الّذي سوّاهم بشرا وأنعم عليهم بالشّهادة وأشركهم مع ملائكته الأبرار في المجد السّماويّ، فيحدونا مجدهم إلى حمد الله على انتصاراتهم ويحضّنا إحياء ذكراهم على الاتّساء بهم للفوز بمثل أكاليلهم وأوسمتهم مستعينين بنفس الإله؟ ما يؤدّى إذن عند مقامات الشّهداء من مظاهر الإجلال والتّقديس مجرّد حلى توشّي تذكاراتهم، لا طقوس أو قرابين للموتى باعتبارهم آلهة*. كذلك من يحملون أطعمتهم إليها- وهو عمل لا يأتيه أفاضل المسيحيّين وفي كثير من البلدان لا توجد تلك العادة مطلقا- يضعونها ويصلّون ثمّ يأخذونها لأكلها مع ذويهم أو لتوزيعها على المحتاجين، يبتغون من ذلك مباركتها بكرامة الشّهداء باسم ربّ الشّهداء*. يعرف أنّ تلك ليست قرابين للقدّيسين من يعرف قربان المسيحيّين الأبرز المقدّم كذلك هناك. هكذا نحن لا نتعبّد لقدّيسينا بالأشراف الرّبّانيّة ولا بالآثام الإنسانيّة كشأنهم مع آلهتهم، ولا نقدّم لهم ذبائح ولا نحوّل مخازيهم إلى طقوس لتكريمهم.

   فليُعلمَ مثلا أيّ منكر قيل عن الإلهة المصريّة إيزيس قرينة أوزيريس وعن آبائها الّذين كانوا جميعا ملوكا كما نجد في الكتب*- وقد وجدت، لمّا كانت تقدّم قربانا لآبائها زرعا أخذت منه سنابل شعير قدّمتها لزوجها الملك ومستشاره مركوريوس، ولذلك عدّوها كيريس- وأودع لذاكرة الأجيال لا في كتابات الشّعراء بل في نصوص أسرارها المقدّسة، من قبيل المعلومات الّتي كشفها للإسكندر الكاهن ليون وكتبها لأمّه أولمبية،، ليقرأْ من شاؤوا واستطاعوا وليتذكّروا ما قرؤوا، وليروا من قِبَل أيّ نوع من النّاس وبخصوص أيّ نوع من النّاس اتُّخذوا آلهة أُنشئت تلك الطّقوس. فلا يجرُؤنّ على مقارنة من اتّخذوهم آلهة بأيّ وجه من الوجوه مع شهدائنا الأبرار الّذين لا نعدّهم مع ذلك آلهة. فعلا نحن لا نكرّس كهنة ولا نقدّم قرابين لقدّيسينا، فذاك لا يحقّ ولا يجب ولا يحلّ* ويجب لله الواحد دون سواه، ولا نستمتع من هنا بعرض جرائمهم وألعاب تعرّي أعوارهم، بينما هم يشيدون بمخازي آلهتهم، إن ارتكبت مثلها لمّا كانت بشرا، أو بما اختلقت الشّياطين الشّرّيرة من تسليات شائنة، إن لم تكن في ما مضى بشرا. لم يكن من هذا الصّنف من الشّياطين إلهُ سقراط، إن كان لسقراط إله؛ لكن ربّما ابتدع إلها من ذلك القبيل لرجل بريء غريب عن فنّ ابتداع الآلهة من أرادوا الإبداع في هذا الفنّ. لِم الإطالة؟ لا أحد على أدنى قدر من التّبصّر يشكّ في أنّه لا ينبغي أن تُعبد تلك الأرواح من أجل نعيم الحياة الآخرة. لكن قد يقولون إنّ الآلهة خيّرة كلّها يقينا، أمّا الشّياطين فمنها الخيّر والسّيّء، ويرون من واجبنا عبادة تلك الّتي يعدّونها خيّرة والّتي يمكننا الوصول بواسطتها إلى النّعيم الأبديّ. سنرى في الكتاب التّالي قيمة هذا الرّأي.