القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّابع- تابع  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

7-19 في التّأويلات الرّامية إلى تقديم مبرّر لعبادة ساترنوس

   يقول: "يؤكّدون أنّ ساترنوس دأب على التهام كلّ ما يولد منه لأنّه إلى حيث ما كانت البذور مرجع البذور، وأنّ المدرة الّتي قُدّمت إليه ليلتهمها بدلا من يوبتر تعني، حسب قوله، أنّ الزّرائع كانت تُزرع بأيد بشريّة في الأصل قبل أن تكتشَف الحراثة." وجب القول إذّاك بأنّ ساترنوس هو الأرض لا البذور، فهي بنحو ما تلتهم ما أخرجت بما أنّ البذور المولودة منها تعود إليها لتحتضنها من جديد. أمّا ما يقال عن تلقّيه المدرة عوض يوبتر فما علاقته بمواراة البذرة في الثّرى بأيدي البشر؟ أَحيلَ دون التهامها كغيرها بمواراتها في الثّرى؟ فإنّ فحوى هذا الكلام هو أنّ من وضع المدرة رفع البذرة، كما انتُشل يوبتر من ساترنوس بتقديم* المدرة له حسب أقوالهم، لا أنّ مواراة البذرة في التّربة أتاحت التهامها بمزيد من النّهم. ثمّ إنّ يوبتر يكون بهذا النّحو البذرة لا سبب البذرة كما كان يقال عنه قبل قليل. لكن ماذا يفعل أناس لا يجدون في تأويلهم لسخافات ما يقولون بسداد.

   يقول كذلك: "له منجل بسبب الزّراعة". بينما لم تكن توجد قطعا زراعة أيّام حكمه، فهم يقولون إنّ عصره هو الأوّل تحديدا، حسب تأويل عالِمنا لتلك التّرّهات، لأنّ النّاس الأوائل كانوا يعيشون من الثّمرات الّتي كانت الأرض تخرجها تلقائيّا. فهل تلقّى المنجل ترى بعد فقدان الصّولجان ليغدو، بعد حياة الفراغ كملك في الأزمنة الأولى، أكثر جدّا واجتهادا في ظلّ مُلك ابنه.

   ثمّ يقول إنّ بعض الشّعوب دأبت على تقديم قرابين بشريّة من الأطفال كالقرطاجنّيّين بل وحتّى من الكبار كالغال* لأنّ الأفضل بين كلّ البذور الجنس البشريّ. عن هذا الضّلال الوحشيّ ما الحاجة إلى قول الكثير؟ لندرك ونحفظ بالأحرى أنّ هذه التّأويلات لا تصل بنا إلى الله الحقّ، إلى الجوهر الحيّ اللاّجسمانيّ الممتنع الفساد والّذي منه تُنال حياة النّعيم الأبديّ، بل تنحصر في حدود الأشياء الجسمانيّة الزّمانيّة المتغيّرة والفانية.

   يقول أيضا: "ما يقال في الأساطير عن خصي ساترنوس لأبيه كايلوس* يعني أنّ البذرة الإلهيّة توجد عند ساترنوس لا عند كايلوس." وذلك، حسب ما يستفاد من أقواله، لأنّ لا شيء ينشأ في السّماء من بذور. لكن هذا ساترنوسُ، إن يكن ابنَ كايلوس، ابناً ليوبتر: فهم يؤكّدون ولا ينفكّون يردّدون أنّ يوبتر هو السّماء. هكذا نرى أنّ تلك الأساطير الّتي ليس الحقّ مأتاها كثيرا ما يحطّم بعضها بعضا بدون أيّ مؤثّر خارجيّ.

   يخبرنا كذلك أنّه يدعى خرونوس* لأنّ ذلك يعني باليونانيّة الزّمان الّذي بدونه لا يمكن أن تؤتي البذور أُكلها حسب قوله. يقولون هذه الأمور وأخرى كثيرة عن ساترنوس، وكلّها تدور حول البذور. وبكلّ تلك القوّة كان ساترنوس سيكفي للبذور على الأقلّ: ففيم احتيج لتلك المهمّة إلى آلهة أخرى، سيما ليبر وليبرة، أي كيريس؟ فعنهما يقول مرّة أخرى بخصوص البذور أشياء كثيرة حتّى لكأنّه لم يقل شيئا عن ساترنوس.

 

7-20 في طقوس كيريس الإليوسيّة

   بين طقوس كيريس، تُذكر قبل سواها تلك الّتي تُجرى في إليوسية والّتي كانت تحظى عند الأثينيّين بصيت كبير. لم يؤوّل وارّون شيئا منها، اللّهمّ إلاّ ما يتعلّق بالقمح الّذي ابتكرته كيريس، وببروسربينةَ الّتي أضاعتها- لمّا خطفها أركوس. فهي على ما يذكر خصوبة البذور الّتي لغيابها في فصل معيّن ونشر الجدب في الأرض الكآبة والأسى نشأت فكرة أنّ بنت كيريس، أي الخصوبة الّتي تدعى بروسربينة اشتقاقا من proserpere ( طلع وزحف) خطفها أركوس وارتهنها في العالم السّفليّ، وهو حدث يُحتفل به بحداد عامّ؛ ولأنّ تلك الخصوبة تعود مجدّدا تنطلق البهجة بإعادة بروسربينة وتقام بالمناسبة احتفالات رسميّة*. ثمّ يقول إنّ أمورا كثيرة تُنقل في أسرارها تتعلّق حصرا بابتكار الثّمار.

 

7-21 في فجور الطّقوس المؤدّاة لليبر

   إذ نصل الآن إلى طقوس ليبر الّذي ولّوه على البذور السّائلة، وبالتّالي لا فقط على عصارات الفواكه الّتي تتبوّأ بينها الخمر مركز الصّدارة، بل وكذلك على بذور الحيوانات، يشقّ عليّ الحديث- بسبب طوله- عن مدى الاستهتار الّذي بلغته، وإن كان لا يشقّ عليّ بسبب غباوة عبدة الأوثان المنتفخة خيلاء. من بين وقائع أخرى أنا مضطرّ إلى إغفالها بسبب كثرتها، يذكر أنّ بعض الطّقوس كانت تؤدّى في إيطالية على الطّرقات بفجور متفلّت بلغ حدّ عبادة عورة الذّكران تكريما له، لا في السّتر على الأقلّ مراعاة لأدنى حدّ من الحياء، بل علنا وبعربدة مرحة خليعة. فقد كانوا أيّام أعياد ليبر يحملون ذلك العضو الفاحش منصوبا في عربة بإجلال عظيم، أوّلا على الطّرقات في الأرياف ثمّ إلى داخل المدينة. بل كانوا في مدينة لاونيوم يخصّصون لليبر شهرا كاملا يستخدم فيه الجميع كلاما في منتهى البذاءة إلى أن يُنقل ذلك العضو عبر ميدان المدينة ويستقرّ في موضعهز وكان لزاما أن تضع سيّدة محترمة على ذلك العضو النّابي إكليلا أمام الجمهور. بذلك النّحو المعيب كان يرام ترضّي الإله ليبر ليسبغ على ما يبدو بركاته على البذور، ويُبعد شرور السّحر عن الحقول، إلى درجة إجبار سيّدة على أن تفعل علنا ما لم يروا أن يُسمح به لمومس في المسرح إن وُجدت سيّدات بين المتفرّجين. هكذا لم يكونوا يظنّون ساترنوس يكفي بمفرده للبذور، حتّى يتاح للنّفس النّجسة أن تجد مناسبات لابتداع عديد الآلهة، وتُنبذ بعيدا عن الله الحقّ الأحد كما تستحقّ لرجسها، وتتعهّر في ظمإها إلى مزيد من الرّجس في عبادة آلهة زائفة متعدّدة، فتدعو هذه الممارسات المستهترة بالقداسة طقوسا مقدّسة* وتسلّم نفسها لزمر الشّياطين النّجسة تنتهكها وتدنّسها.

 

7-22 في نبتونوس وصلاقية وونيلية

   أما وقد جعلوا لنبتونوس قرينة صلاقية الّتي قالوا إنّها ماء البحر السّفليّ*، فيم ضمّوا إليه ونيلية بدون أيّ داع تستوجبه الطّقوس إلى استحضار كثرة من الشّياطين، سوى شهوة النّفس المنغمسة في عهرها. لكن ذره يقدّم لنا تفسير تلك العقيدة اللّدنّيّة الكريمة، ليمسكنا بإعطاء مبرّر وجيه عن هذه الانتقادات. يقول: "ونيلية هي الموجة الآتية إلى الشّاطئ، وصلاقية هي الموجة المرتدّة إلى خضمّ اليمّ." لماذا أُحدثت إلهتان والحال أنّ موجة واحدة ترِد وترتدّ؟ وإنّما هي تلك النّزوة الخرقاء اللاّهثة وراء آلهة متعدّدة. فلئن لم يستحلْ ماءين الماءُ الوارد والعائد، فإنّ هذه مناسبة للباطل تدعو شيطانين إلى تدنيس النّفس الّتي تذهب ولا تؤوب. أسألك يا وارّون، وإيّاكم يا من قرأتم تلك الكتابات لأناس بمثل ذلك العلم الموسوعيّ وتتباهون بأنّكم تعلّمتم شيئا عظيما، أوّلوا لنا هذا، لا أقول على هدي تلك الطّبيعة الأبديّة الثّابتة الّتي هي الله وحده، لكن على الأقلّ وفق نظريّتكم عن نفس العالم وأجزائه الّتي ترون أنّها الآلهة الحقيقيّة! فإنّ اتّخاذكم القسم من نفس العالم الّذي يتخلّل البحر إلها لكم تدعونه نبتونوس لأيسر تحمّله بلا شكّ. أهكذا تصير في عرفكم الموجة الآتية إلى الشّاطئ والموجة المرتدّة إلى اليمّ جزءين من العالم، وأقنومين من نفس العالم؟ من فيكم فقد الرّشد إلى درجة استساغة* هذا الهراء؟ لأيّ سبب شكّلتا إذن عندكم إلهتين سوى أنّ آباءكم الألبّة الأُرباء تدبّروا لا لتحكمكم آلهة متعدّدة في الحقيقة بل بالأحرى لتحتنككم تلك الشّياطين المتعدّدة الّتي تبهجها تلك الأباطيل والأضاليل؟ لكن لماذا لعمركم فقدت في تأويلكم هذا صلاقية تلك منطقة البحر السّفلى الّتي كانت فيها تخضع لبعلها؟ فبزعمكم أنّها الموجة المرتدّة حصرتموها في السّطح. أم تراها غضبت على بعلها لاتّخاذه ونيلية خليلة فأقصته من أعلى البحر*؟

 

7-23 في الأرض الّتي يؤكّد وارّون أنّها إلهة لأنّ نفس العالم الّتي يعدّها إلها تتخلّل كذلك هذا القسم الأسفل من جسده وتبثّ فيه طاقة إلهيّة

   واحدة لا شكّ هي الأرض الّتي نراها مليئة بأحيائها. لكن كيف يريدون أن تكون إلهة هذه الكتلة الضّخمة بين عناصر الكون والمنطقة السّفلى من العالم؟ ألخصوبتها؟ لماذا لا يكون البشر إذّاك أحقّ بالألوهة فهم يزيدون خصوبتها بالتّعهّد، بالحراثة طبعا لا بالتّعبّد*. يردّون أنّ جزء الرّوح الكونيّ الّذي يتخلّلها يخلع عليها الألوهة، كما لو لم تكن النّفس أجلى في البشر حيث لا يمكن أن يكون وجودها محلاّ للأخذ والرّدّ، ومع ذلك لا يُعدّ البشر آلهة، وأدعى للأسى أنّهم، بفعل خطإ يثير العجب والرّثاء* يركعون تعظيما وتعبّدا لهذه الأشياء الّتي ليست آلهة وهم يفضلونها.

   في الواقع يؤكّد وارّون نفسه في كتابه المذكور عن الآلهة المصطفاة وجود ثلاث مراتب للرّوح في الطّبيعة الكونيّة. تنتشر الأولى في كلّ أجزاء الجسم الحيّة الّتي لا تملك الحسّ وإنّما تملك الطّاقة الحيويّة فحسب: تسري تلك القوّة حسب قوله في العظام والأظافر والشّعر، كالأشجار الّتي في العالم تخلو من الحسّ وتنمو وبنمط خاصّ بها تحيا. والثّانية مرتبة النّفس الّتي تتضمّن حسّا: هذه القوّة تنفذ إلى العينين والأذنين والمنخرين والفم واللّمس. والثّالث أعلى مراتب النّفس الّتي يدعونها الفكر ويتبوّأ القمّة منها الإدراك. هذه القوّة تنعدم في كلّ الكائنات الفانية إلاّ الإنسان. يقول وارّون إنّ هذا الجزء يدعى في نفس العالم الله وفينا العقل. يقول إنّ في العالم كذلك حجارة وتربة نراها لا يسري فيها حسّ، كما هو الشّأن في عظام وأظافر الله؛ بينما الشّمس والقمر والنّجوم الّتي نرى وبها يرانا حواسّه، أمّا نفسه فالأثير الّذي تمتدّ طاقته إلى النّجوم فتجعلها آلهة، ولأنّها من خلالها تمتدّ إلى الأرض تجعلها إلهة هي تلّوس، ولأنّها تسري كذلك في البحر والمحيط، هما الإله نبتونوس.

   ليعد إذن ممّا يعدّه دينا طبيعيّا، حيث راح منهكا من الانعراجات والالتواءات ينشد الرّاحة#؛ ليعد، نعمْ ليعد إلى المدنيّ. هناك أستبقيه ريثما أناقش هذا الدّين. لا أقول بعد إن كانت التّربة والحجارة مماثلة لعظامنا وأظافرنا، إذ هي مثلها لا تملك الفكر ومثلها تفتقر إلى الحسّ. وإن قيل إنّ العظام والأظافر تملك الفكر لوجودها في الإنسان الّذي يملك الفكر، فإنّ من يزعم وجود تلك الآلهة في العالم لفي مثل خطل من يزعم العظام والأظافر فينا بشرا. لكن ربّما سيكون علينا أن نناقش هذه المسائل مع الفلاسفة، أمّا الآن فأريد الاكتفاء بالدّين المدنيّ. الحاصل على الأرجح أنّ عالمنا، وإن بدا كأنّه يودّ رفع هامته قليلا مشرئبّا إلى تلك الحرّيّة الخاصّة بالدّين الطّبيعيّ، وظلّ في كتابه مهتمّا ومفكّرا باهتمامه به، يلتفت حتّى من هناك إلى الآخر كيلا يُظنّ أنّ آباءه وقوما آخرين باطلا عبدوا تلّوس ونبتونوس. لكنّي أقول: لِم لا يجعل الأرضَ جزء الرّوح الكونيّ السّاري عبرها، ما دامت أرضا واحدة، إلهة واحدة، هي الّتي يدعوها تلّوس؟ إن يفعل، أين سيكون إذّاك أركوس، أخ يوبتر ونبتونوس، الّذي يدعونه ديس باتر؟ أين ستكون زوجته بروسربينة الّتي حسب رأي آخر أورده في كتبه لا تتمثّل في خصوبة الأرض بل في طبقتها السّفلى؟ إن يقولوا إنّ قبصة الرّوح الكونيّ إذ تسري في طبقة الأرض العليا تشكّل فيها الإله ديس باتر، بينما تشكّل في السّفلى بروسربينة، فإذّاك ماذا تكون تلّوس؟ إذ هو بهذا النّحو قسّم الكلّ الّذي كانت تشكّله إلى ذينك الإلهين، بحيث لم يعد بإمكانها كثالثة ثلاثة أن تجد ماذا ولا أين تكون. اللّهمّ إلاّ إن يقل أحد إنّ ذينك الإلهين أركوس وبروسربينة هما في نفس الوقت الإلهة الواحدة تلّوس؟ ما ثلاثة إذّاك المجموع بل واحدة أو اثنان*. ومع ذلك يزعمونها ثلاثة ويعبدونها كآلهة ثلاثة لها مذابحها ومعابدها وطقوسها وتماثيلها وكهنتها، ومن خلال هذه البهارج تزنى شياطينها النّجسة بالنّفس في هذه الضّلالات. ليجيبوا على هذا السّؤال: أيَّ قسم من الأرض تتخلّل قبصة الرّوح الكونيّ فتجعل منه الإله تلّومون؟ يقول: كلاّ، بل الأرض واحدة ومحلّ قوّة مزدوجة ذكريّة تنتج البذور وأنثويّة تتلقّاها وتغذّيها، فسمّي المبدأ الأنثويّ تلّوس والذّكريّ تلّومون. لماذا إذن يضيف الكهنة، كما يشير هو نفسه، إلهين آخرين فيجعلونها ألوهة رباعيّة: تلّوس وتلّومون وألتور وروسور*؟ أمّا تلّوس وتلّومون فقد سبق الحديث عنهما. فلِم ألتور؟ يقول: لأنّ كلّ ما يولد من الأرض يستمدّ القوت منها. ولِم روسور؟ يقول: لأنّ كلّ شيء يعود إليها من جديد.

 

7-24 في ألقاب تلّوس ومعانيها وأنّها وإن دلّت على عدّة أشياء لا تؤيّد بالضّرورة الظّنّ بأنّها لعدّة آلهة

   وجب إذن أن تكون للأرض الّتي هي في حدّ ذاتها واحدة، تبعا لهذه القوّة الرّباعيّة، أربعة ألقاب لا أربعة أرباب. فكما أنّ يوبتر بكلّ ألقابه واحد، ويونون بكلّ ألقابها واحدة، وإنّما تعني هذه الألقاب العديدة أنّ قوّة متعدّدة الوجوه توجد عند إله واحد أو إلهة واحدة، لا أنّ تعدّد الألقاب يؤول إلى تعدّد الآلهة. لكن حقّا كما تُملّ وتُقرف العواهرَ أحيانا كثرةُ الزّناة الّذين اجتلبنهم بإغراء الشّهوة، كذلك النّفس الّتي صارت في الحضيض وللأرواح النّجسة بغيّا، كما تستحبّ غالبا تمجّ كذلك أحيانا كثرة الآلهة الّتي تستسلم لها راضية بتدنيسها. فوارّون نفسه كأنّما لو أخجلته كثرة تلك الآلهة يحبّ أن تكون تلّوس إلهة واحدة فيكتب: "يقولون إنّها هي الأمّ الكبرى، والدّولاب الّذي عندها رمز لمحيط الأرض، والقلاع الّتي برأسها كناية عن المدائن وتصويرها جالسة إشارة إلى أنّ كلّ شيء يتحرّك حولها وهي ثابتة*. ويعني إلحاقهم بها كهنة الغالّ الخصيان لخدمتها أنّ على من تعوزهم البذور أن يتبعوا الأرض ففيها توجد كلّ البذور؛ وحسب أقواله يعلّم شطحهم الدّائب أمامها من يفلحون الأرض ألاّ يتوقّفوا عن العمل لحظة فثمّة دوما ما يفعلون، وقرقعة الصّنوج تورية عمّا يحدث في الأشغال الزّراعيّة من دويّ الأدوات إذ تُلقى للعمل وأيدي الفلاّحين ونحو ذلك، وهي من الصُّفر لأنّ القدماء كانوا يستخدمون الصّفر قبل اختراع الحديد. يقول كذلك إنّهم يقرنون إليها أسدا طليقا ووديعا ليُظهروا أنّه لا يوجد أيّ نوع من الأرض ناء وأحرش فاسد إلى الحدّ الّذي يجعل استصلاحه وزرعه غير مجد ولا مجز". ثمّ يضيف أنّ تعدّد الأسماء والكنى الّتي دعوها بها دفع إلى الظّنّ بأنّها كثرة من الآلهة. يقول: "يعتقدون أنّ تلّوس هي أوبس لأنّها تُستصلح بالعمل opus؛ والأمّ لأنّها ولود، والكبرى لأنّها تُعِدّ الغذاء؛ وبروسربينة لأنّ النّباتات تطلع زاحفة منها proserpere؛ ووستة لأنّها تكتسي uestiatur بالأعشاب؛ ويُرجعون إليها بنحو مماثل دون مجانبة الصّواب، والقول له، إلهات أخريات." إن كانت إذن إلهة واحدة، وما هي إن استفتينا الحقّ حتّى كذلك، فلِم انقسمت حينئذ إلى كثرة من الإلهات؟ فلتكن تلك أسماء متعدّدة لمسمّاة واحدة، لا كثرة من الإلهات بنفس ذلك العدد من التّسميات. لكنّ سلطة الأسلاف تضغط على وارّون وتجعله يتراجع عن هذا الرّأي لاحقا ويتذبذب فيضيف: "لا يتضارب مع هذه الأقوال رأي الجدود حول هؤلاء الإلهات اللاّئي اعتبروهنّ عدّة." عجبا كيف لا يتضارب والحال أنّ القول بإلهة واحدة ذات تسميات متعدّدة يخالف يقينا وجود إلهات متعدّدات؟ يقول: "كلّ ما هناك أنّ شيئا بعينه يمكن أن يكون واحدا وأن توجد فيه عدّة أشياء." حسنا، أسلّم بأنّا نجد في إنسان واحد عدّة أشياء، فهل نجد فيه بنفس النّحو عدّة أناس؟ وبأنّا بالمثل نجد في إلهة واحدة عدّة أشياء، فهل نجد فيها كذلك بنفس النّحو عدّة إلهات؟ لكن ذرهم كيفما يشاؤوا يقسّموا ويوحّدوا ويكثّروا ويفصّلوا ويشبّكوا*.

   تلك هي أسرار تلّوس والأمّ الكبرى الجليلةُ، حيث لا حديث عن غير البذور الفانية والأعمال الزّراعيّة. فهل يعد أحداً بالحياة الأبديّة كلّ ما يتعلّق بها وهذا ديدنه، من دواليب وقلاع وكهنة خصيان وشطح جنونيّ وقرع صنوج وتمثال أسد؟ أيخدم هذه الإلهة الكبرى كهنة الغالّ الخصيان للدّلالة على أنّ من يفتقرون إلى البذور مندوبون لالتماسها في الأرض، كما لو لم تجعلهم هذه الخدمة ذاتها خاوين بالأحرى من البذور! فليت شعري ما الصّحيح: أباتّباعهم هذه الإلهة يحصلون على البذور الّتي يفتقرون إليها أم يفتقدون بالأحرى البذور الّتي كانوا يملكون؟ أهذا ترى تفسير أم تشهير؟ ألا يلاحَظ أيّ فوز مبين حقّقت الشّياطين الماكرة الّتي لم تورّط نفسها جزافا بالوعد بشيء يعتدّ به من هذه الطّقوس وأمكنها أن تطلب تطوّعات بمثل تلك القسوة*.

   لو لم تكن الأرض في تصوّر أولئك النّاس إلهة لأعملوا فيها أيديهم كدحا لتُخرج لهم ثمراتها بدلا من إيذاء أنفسهم ليفقدوا بسببها بذرهم. لو لم تكن في تصوّرهم إلهة لخصّبتها أيديهم ولما فرضت على أحد أن يحيل نفسه بيده عقيما. رأينا قبلُ في طقوس ليبر كيف كانت سيّدة محترمة تضع إكليلا على ذكر يؤذي الحياء أمام الجمهور حيث يقف ربّما زوجها خجلا عرقان إن تك في النّاس بقيا من حياء، وكيف يُطلب من العروس أثناء حفل الزّفاف الجلوس فوق قضيب بريابوس. تلك مخاز هيّنة لا وزن لها إزاء هذا الفجور المفرط الوحشيّة أو الوحشيّة المفرطة الفجور حيث يُخدع بطقوس شيطانيّة كلا الجنسين فلا يهلك من جرحه أيّ منهما. هنا يخشى النّاس أذايا السّحر الملقاة في حقولهم ولا يخشون عمليّات البتر المجراة على أعضائهم. هنا يؤذى عفاف العروس بدون أن تفقد خصوبتها ولا بكارتها. هنا تُستأصل الذّكورة فلا يُحال المرء امرأة ولا هو يبقى رجلا.

 

7-25 أيَّ تأويل لخصي أتّيس وَجد علم الفلاسفة اليونان

   أمّا أتّيس المشهور فلم يذكره وارّون ولا بحث عن تأويل لخصي كاهن الأمّ الكبرى إحياء لذكرى حبّها له. لكنّ اليونان العلماء والحكماء لم يضنّوا بذلك السّرّ القدسيّ العظيم. يقول فرفوريوس الفيلسوف الشّهير إنّ أتّيس يرمز إلى الزّهر في الرّبيع حيث يكتسي أديم الأرض حلّة أبهى ممّا في بقيّة الفصول. وهو يُخصى لأنّ الزّهرة تموت قبل طلوع الثّمرة. هو إذن لم يقارن الإنسان نفسه ولا بديله الّذي يدعونه أتّيس بل خصيتيه بالزّهرة. لكن بفقدان تلك الزّهرة لا يتبع ثمر بل العقم بالأحرى. أيَّ شيء يبقى الخصيّ وأيُّ شيء يبقى له؟ أيّ معنى يكون له حسب رأيهم؟ إلى ماذا يؤول؟ أيّ تفسير يقدّمون للواقعة؟ أم تراهم بعدما راحت جهودهم عبثا فلم يكتشفوا أيّ معنى يحاولون إقناعنا بأنّ علينا بالأحرى الاعتقاد في ما أذاعت الشّهرة ونشرت الكتب حول خصي ذلك الرّجل؟ وما أخطأ كاتبنا وارّون في اشمئزازه من ذلك الموضوع فكره الحديث عنه: إذ ما خفى الأمر عن مثل ذلك العالم النّحرير.

 

7-26  في فجور طقوس الأمّ الكبرى

   كذلك عن مخنّثي الأمّ الكبرى الّذين يسامون كهنة في استخفاف بحياء كلّ الرّجال والنّساء، والّذين ما انفكّوا حتّى الأمس القريب يجوبون ميادين وشوارع قرطاج مدّهَني الشّعور مطرَّيي الوجوه بالمساحيق والذّرور، مرخيي الأطراف نسوانيّي الهيئة مبتزّين من أصحاب الدّكاكين ما يعيشون به حياتهم المنحلّة*، لم يشأ وارّون أن يقول شيئا ولا أذكر أنّي قرأت شيئا في أيّ موضع. أعوزه التّأويل واستنكف العقل وتعطّل الكلام. لقد فاقت أمّ الآلهة كلّ الآلهة بنيها لا بعظم قدرتها بل بشناعة جرمها. بهذا المسخ البشع لا تقارَن بشاعة يانوس: فهذا كان في تماثيله فقط يتّصف بالدّمامة، أمّا هي ففي طقوسها بالذّات تبرز بوحشيّة لا مثيل لها، هو اختصّ بزيادة أعضاء في الحجر بينما خاصّيتها هي حذف خصى من البشر. لا تفوق هذا القبح حتّى مخازي يوبتر على كثرتها ونكارتها: فهو بين مغامراته النّسائيّة الماجنة ملأ السّماء بفضيحة علاقته الشّاذّة بشابّ واحد، غنيميد، أمّا هي فبكلّ أولئك المأبونين المجاهرين بالفسق والعلنيّين دنّست الأرض وأهانت السّماء معا. ربّما يمكننا أن نقارن بها أو نقدّم عليها في هذا النّوع من الوحشيّة المفرطة الفجور ساترنوس الّذي يروى أنّه خصى أباه، لكنّ ما يمكن أن يحصل في أعياد ساترنوس هو قتل أناس بأيدي آخرين لا بتر أعضائهم بأيديهم؛ هو التهم بنيه كما يروي الشّعراء ويؤوّل ممثّلو اللاّهوت الطّبيعيّ ذلك كيفما شاؤوا: الأخبار تفيد بأنّه قتلهم لكنّ الرّومان لم يقبلوا تضحية القرطاجنّيّين له بأبنائهم، أمّا أمّ الآلهة الكبرى سيّئة الذّكر فأدخلت حتّى إلى المعابد الرّومانيّة خصيانا وحفظت هذه العادة الوحشيّة الّتي يُعتقد أنّها تعزّز قوى الرّومان بقطع خصى رجالهم*. وما هي إزاء هذا الجرم الشّنيع سرقات مركوريوس ودعارة فينوس ومفاسد ومخازي الآلهة الأخرى الّتي يمكننا استخراجها من الكتب لو لم تكن تمثَّل يوميّا غناء ورقصا في المسارح؟ ماذا تساوي أمام شرّ بذلك الحجم لا تضاهي إلاّ الأمّ العظمى عظمه؟ سيما وهي أخبار أتى بها الشّعراء على ما يقال، كما لو أتى الشّعراء كذلك بكونها مقبولة ومرتضاة لدى الآلهة. لتكن إذن سفاهة الشّعراء وشطحات خيالهم وراء غناء وكتابة تلك القصص، لكن هل دمجها في طقوس وعبادات الآلهة بطلبها وإلحافها هي ذاتها ذنب أحد سوى تلك الآلهة؟ كلاّ بل هو اعتراف تلك الشّياطين وانخداع أولئك الأشقياء المضَلّلين. أمّا عبادة أمّ الآلهة بما تستحقّ من تعظيم من خلال سيامة خصيان فواقعة لم يبتدعها الشّعراء، وما أشادوا بها بل أشاحوا عنها باشمئزاز. أينبغي لأحد أن ينذر نفسه ابتغاء عيشة راضية بعد الموت لهذه الآلهة المصطفاة الّتي لا يستطيع إن نذر لها نفسه أن يعيش عيشة كريمة قبل الموت، جرّاء خضوعه لترّهات مقيتة وعبوديّته لشياطين نجسة؟ يقول: "لكنّ كلّ هذه الأمور تحيل إلى العالم." فلينظر إن لم تكن تحيل بالأحرى إلى الرّوح النّجس*. لكن لِم لا يمكن أن يُحال إلى العالم ما يبيَّن وجوده في العالم؟ نحن أيضا نبحث عن روح يُقِرّ بالدّين الحقّ ولا يعبد العالم باعتباره إلهه، بل يشيد به بصفته صنع الله وإجلالا لله، ويعود طاهرا منقّى من أدران العالم إلى الله الّذي خلق العالم*.

 

7-27 في استنباطات ممثّلي اللاّهوت الطّبيعيّ الّذين لا يعبدون الألوهة الحقّة ولا بالشّعائر الّتي يجب أن تُعبد بها الألوهة الحقّة

   في الواقع نرى تلك الآلهة المصطفاة تكتسب شهرة أوسع من سواها، لكن لا لأنّ محامدها أضفت عليها هالة ساطعة، بل لأنّ قبائحها لم تبق في الخفاء. ومن ثمّة يبدو أحقّ بالتّصديق أنّها كانت بشرا كما أنبأتنا لا قصائد الشّعراء فقط بل كذلك أخبار المؤرّخين. فما يقول فرجيليوس عن ساترنوس الّذي "أتى أوّلا من قمّة الأولمب الأثيريّة فارّا من قوّة يوبتر الجبّارة ومنفيّا من مُلكه المفقود"*، وبقيّة فصول الحكاية، عرض بخصوصه إفهيميروس رواية تاريخيّة كاملة ترجمها إنّيوس إلى اللّغة اللاّتينيّة. وبما أنّ من كتبوا قبلنا باللّسان اليونانيّ أو اللاّتينيّ ضدّ هذا النّوع من الأخطاء قدّموا الكثير، لم أحبّ التّوقّف عنده. لمّا أنظر إلى تلك التّفسيرات الطّبيعيّة الّتي يحاول بها علماء حُذّ أن يحوّلوا هذه الممارسات البشريّة إلى أسرار إلهيّة، لا أرى أنّهم استطاعوا إرجاعها إلى غير أعمال زمانيّة وأرضيّة وطبيعة جسديّة معرّضة، وإن كانت غير منظورة، للتّحوّل، وما ذاك يقينا بالإله الحقّ. لكن لو تمّ ذلك على الأقلّ في إطار طقوس تتماشى دلالاتها مع الدّين، لكان مؤسفا لا محالة ألاّ يُعتلن ويعيَّن محلاّ لتلك العبادات الإله الحقّ، ومع ذلك سيبدو مقبولا ألاّ يقوم النّاس أو يؤمروا بقبائح ومخاز بتلك الشّناعة على الأقلّ. وما دامت عبادة جسم أو نفس مكان الإله الحقّ الّذي به وحده وبحلوله فيها تنال النّفس السّعادة إثما، فكم آثم عبادة تلك الآلهة بنحو لا يجلب لجسم ولا نفس عابدها الخلاص ولا حتّى الشّرف البشريّ. لذا لمّا يُعبد بهيكل وكاهن وذبيحة*، وهو ما لا يحقّ لغير الله الحقّ، عنصر من هذا العالم أو روح مخلوق، حتّى إن لم يكن نجسا وسيّئا، فذلك سوء لا لأنّ تلك الأشياء الّتي تمّت بها تلك العبادة سيّئة في ذاتها، بل لأنّها جُعلت ليُعبد بها وحده من تحقّ له تلك العبادة والطّاعة. فإن ادّعى أحد أنّه بتلك الأوثان المسيخة البليدة وبالقرابين البشريّة وبتكليل تلك الأعضاء الفاحشة وبالفجور المأجور وبتر الأعضاء واستلال الخصى وسيامة المخنّثين وبتلك الأعياد المقترنة بألعاب ملؤها الفحشاء والمنكر يعبد الله الحقّ الواحد الأحد، أي خالق كلّ نفس وكلّ جسم*، فهو يخطَأ لا بعبادة من لا تحقّ له العبادة، بل بعبادة من تحقّ له العبادة بنحو غير الّذي به تجب عبادته. أمّا من يعبد بمثل تلك الطّقوس، أي بأعمال معيبة وأثيمة، لا الإله الحقّ، خالق النّفس والجسم، بل خليقة حتّى إن لم تكن ذميمة، سواء كانت نفسا أو جسما أو نفسا وجسما معا، فهو يرتكب في جنَب الله خطيئة مضاعفة: بعبادة معبود غير الله، وبأداء عبادته بتلك الطّقوس الّتي لا يجوز أن يُعبد بها الله ولا معبود سواه. لكن إن بدا بيّنا بأيّة طريقة، أعني بأيّة طقوس معيبة وأثيمة، يعبدون، فربّما كان ما أو من يعبدون سيبقى غامضا لو لم يشهد تاريخهم بأنّ تلك الطّقوس المعيبة المخزية كانت تؤدّى لأرباب تطالب بها بصرامة رهيبة. بحيث لا يبقى مجال للشّكّ ويتّضح تماما أنّ هذا الدّين المدنيّ بكامله يدعو شياطين ماكرة وأرواحا نجسة إلى تقمّص هذه الصّور المتلبّدة، ومن خلالها إلى تملّك الأفئدة المتبلّدة.

 

7-28 في أنّ نظريّة وارّون اللاّهوتيّة غير متماسكة في أيّ جزء منها

   أيّة قيمة إذن لمحاولة وارّون، ذلك الرّجل العلاّمة الفهّامة، في تحليله البارع، إحالةَ وردَّ كلّ تلك الآلهة إلى السّماء والأرض؟ ببساطة لا يستطيع: فهي تنفلت من قبضته وترتكس وتتساقط وتتهاوى. يقول فعلا وهو على وشك الحديث عن إناثها، أعني الإلهات: "بما أنّ للآلهة، كما ذكرت في الكتاب الأوّل عن الأماكن، أصلين هما السّماء والأرض وبناء على ذلك دعي بعضها سماويّا وبعضها أرضيّا، وبما أنّا انطلقنا آنفا من السّماء عند حديثنا عن يانوس الّذي يؤكّد البعض أنّه السّماء والبعض أنّه العالم، كذلك سننطلق في حديثنا عن الإناث من تلّوس." أدرك بأيّ حرج يشعر ذلك الفكر الكبير. فإنّ مسوّغا معقولا يجرّه إلى اعتبار السّماء ما له صفة الفعل والأرض ما له صفة الانفعال، لذا ينسب إلى تلك الذّكورة وإلى هذه الأنوثة، ولا يلاحظ أنّ صانع الاثنتين هو بالأحرى من يضفي هاتين القوّتين*. لذا يؤوّل في كتابه الأسبق كذلك على هذا الأساس أسرار السّاموتراقيّين الشّهيرة، ويعد بعرض الأسرار غير المعروفة لمواطنيه كتابيّا وإرسال ذلك إليهم#. فعلا أدرك حسب قوله من عدّة قرائن فيها أنّ من التّماثيل ما يعني السّماء، أو الأرض، أو صور الأشياء الّتي يدعوها أفلاطون المُثل. وحسب تأويله، يعني يوبتر السّماء ويونون الأرض ومينرفة المُثُل: السّماء الّتي بفعلها والأرض الّتي منها والمثُل الّتي على نمطها يُصنع أيّ شيء. أنسى في قولي هذا أن أذكر أنّ أفلاطون ينسب إلى تلك المثل أهمّية كبرى، فبناء عليها لم توجِد السّماء فقط كلّ شيء، بل كذلك أوجِدت هي نفسها. أقول هنا إنّ ذلك الكاتب نسي في كتابه عن صفوة الآلهة نظريّته تلك عن الآلهة الثّلاثة الّتي جمع وأوعى فيها كلّ الأشياء حسب تصوّره. فقد نسب الآلهة الذّكور إلى السّماء، والإلهات إلى الأرض: وأدرج ضمنهنّ مينرفة الّتي كان قد وضعها قبل فوق السّماء؛ ثمّ إنّ الإله نبتونوس الّذي هو من الذّكور كائن في البحر الّذي يتبع الأرض أكثر من السّماء؛ أخيرا يجعل ديس باتر المدعوّ باليونانيّة بلوتون، الذّكر هو الآخر وأخاهما، إلها أرضيّا يمسك الطّبقة العليا من الأرض بينما تمسك السّفلى زوجتُه بروسربينة. كيف يحاولون إذن ردّ الآلهة إلى السّماء والإلهات إلى الأرض؟ أيّ تماسك، أيّ  ثبات، أيّة رصانة، أيّة دقّة في هذا التّحليل؟ لكنّ تلّوس تلك هي أصل الإلهات، الأمّ الكبرى الّتي تصطخب قربها عربدة أولئك المأبونين والخصيان وهم يقطّعون أجسامهم ويشطحون كالمخابيل. كيف يقولون إذن إنّ رأس الآلهة يانوس ورأس الإلهات تلّوس؟ فلا الضّلال هنا صنع رأسا واحدة ولا السّعُر هناك رأسا سليمة*. لماذا يجتهدون عبثا لردّ هذه الأباطيل إلى العالم؟ حتّى لو استطاعوا ذلك لن يعبد امرءٌ تقيٌّ بدلا من الله الحقّ العالمَ. ومع ذلك تبيّن لهم الحقيقة الجليّة أنّهم لا يستطيعون. ليردّوها بالأحرى إلى البشر الأموات والشّياطين الخبيثة ولن يبقى هناك إشكال.

 

7-29 في أنّ كلّ ما ردّه أنصار الدّين الطّبيعيّ إلى العالم وأجزائه كان يجب ردّه إلى الله الحقّ الواحد

   كلّ ما يردّونه، في شكل تفسيرات طبيعيّة عن تلك الآلهة تستند إلى نظريّتهم اللاّهوتيّة، إلى العالم، ننبّه إلى أنّه يُردّ بالأحرى ودون مخافة الوقوع في ظنون تنتهك القداسة إلى الإله الحقّ صانع العالم، خالق كلّ نفس وكلّ جسم، بهذا النّحو. نحن نعبد الله لا السّماء والأرض اللّتين يتألّف منهما هذا العالم كجزءيه، ولا النّفسَ أو النّفوسَ المبثوثة في كلّ الأحياء، بل الله الّذي خلق السّماء والأرض وكلّ ما تضمّان، والّذي خلق كلّ نفس سواء كانت تحيا بنحو ما خالية من الحسّ والفكر، أو كانت تحسّ أيضا، أو تفكّر فضلا عن ذلك.

 

7-30 في التّقوى الحقيقيّة الّتي تميّز الخالق من الخلائق، فلا تُعبد بدلا من الله الأحد آلهة بعدد أعماله

   لنبدأَ الآن في تخطّي أعمال الله الواحد الحقّ الّتي باعتبارعا خرقوا لأنفسهم، في محاولات طيّبة حسب تصوّرهم لتفسير طقوس* فاجرة أثيمة، آلهة متعدّدة وزائفة، أقول: نحن نعبد ذلك الإله الّذي قدّر بداية ونهاية وجود وحركة الكائنات الّتي خلق، الّذي يملك ويعلم ويصرّف علل الأشياء، الّذي أنشأ في البذور طاقتها الحيويّة، وبثّ في ما شاء من الأحياء النّفس النّاطقة الّتي تدعى العقل، الّذي منح الإنسان ملكة وعادة الكلام، وأنعم على ما شاء من النّفوس الإنسانيّة بموهبة النّبوءة ويُنبئ بواسطة ما شاء منها بما هو آت، ويدفع بما شاء منها الأسقام، الّذي يصرّف مبتدأ ومجرى ومنتهى الحروب كذلك كلّما لزم إصلاح وعقاب الجنس البشريّ، الّذي خلق ويحكم نار هذا العالم العاتية العنيفة كعامل معدّل في العالم الطّبيعيّ الفسيح، خالق ومصرّف مياه الكون قاطبة، الّذي جعل الشّمس أسطع الأنوار الجسمانيّة وأعطاها قوّة مناسبة وحركة خاصّة، الّذي لم يرفع حتّى عن العالم السّفليّ هيمنته وسلطانه، الّذي وضع بذور وأقوات الكائنات الفانية، جافّها ورطبها، في طبائع آتاها تلك القدرة خصّها بها، منشئ ومخصب الأرض*، المنعم بثمراتها على بشرها وحيواناتها، الّذي يعلم ويدبّر لا العلل الأصليّة فقط بل والتّابعة أيضا، الّذي جعل للقمر مقداره المناسب، الّذي يُعدّ للحركات المكانيّة مسارات في السّماء والأرض، الّذي خلق الأذهان البشريّة وأنعم عليها بمعرفة شتّى الفنون لمساعدة الحياة والطّبيعة، الّذي أنشأ الألفة بين الذّكر والأنثى لنشر النّسل، الّذي جاد على التّجمّعات البشريّة بنعمة النّار الأرضيّة لاستعمالها في المواقد والمشاعل للأغراض المنزليّة اليسيرة.

   تلك لعمري الأعمال الّتي اجتهد وارّون، ذلك الرّجل العلاّمة الفهّامة، لتوزيعها على الآلهة المنتقاة بواسطة تفسيرات طبيعيّة غريبة، سواء منها ما استمدّ من غيره أو ما استنبط بنفسه. وهي في الحقيقة صنع وعمل الله الواحد الحقّ، لكن إلهٍ بالمعنى الصّحيح: فهو حاضر كلّيّا في كلّ زمان ومكان ولا يحويه حيّز زمانيّ أو مكانيّ، ولا تشدّه قيود، ولا ينقسم إلى أيّة أجزاء، ولا يطرأ على أيّ جانب منه تغيير، يسع السّماء والأرض بقدرته الحاضرة حضورا مطلقا وليس في طبيعته عوز. يسيّر كلّ مخلوقاته متيحا لها إنتاج ومتابعة الحركات المناسبة؛ وما هي إيّاه رغم أنّها لا تستطيع أن تكون شيئا بدونه. ويقوم كذلك بأعمال عديدة بواسطة الأملاك، لكنّه من ذاته قصراً وحصرا يمنح الغبطة للأملاك؛ ويرسل أملاكه للنّاس لا محالة لبعض الأغراض لكنّه من ذاته لا من الأملاك يمنح الغبطة للنّاس كما يمنحها للأملاك. من هذا الإله الحقّ الأحد نرجو الحياة الأبديّة.

 

7-31 بأيّة مزايا خُصّ متّبعو الحقّ فضلا عمّا يغدق الله من نعم على النّاس كافّة

   إلى جانب النّعم الّتي يسبغها على الصّالحين والأشرار سويّا وفق نظام تسييره للكون الّذي تحدّثنا عنه أكثر من مرّة، أولانا بمظهر عظيم من حبّه العظيم الّذي خصّ به عباده الصّالحين. فنحن قاصرون عن حمده بالقدر الّذي يكافئ إنعامه علينا بالوجود والحياة ورؤية السّماء والأرض وامتلاك الإدراك والعقل الّذي به نلتمسه هو خالق كلّ هذه الخيرات، وهل تستطيع الأفئدة مهما بلغ ورعها والألسنة مهما بلغ عددها الادّعاء بأنّها تفي بما يجب له من الشّكر على آلائه، فحتّى وهو يرانا مثقَلين مبهَظين بالخطايا ومعرضين عن تأمّل نوره وقد أعمانا حبّ الظّلمات أي ظلم أنفسنا، لم يتخلّ قطّ عنّا وأرسل إلينا كلمته- ابنه الوحيد الّذي من ادّراعه لأجلنا الجسد، بحيث وُلد وتأثّر مثلنا، نعلم مدى تقدير الله للإنسان، والّذي افتدانا بتضحيته الفريدة من كلّ خطايانا-، وبنعمة روحه نشر في قلوبنا المحبّة متيحا لنا تخطّي كلّ المصاعب لنصل إلى الرّاحة الأبديّة وعذوبة تأمّله الّتي يقصر دون وصفها الكلِم.

 

7-32 في أنّ سرّ افتداء المسيح لم يُحجب أبدا في ما مضى وكُشف دوما بشتّى الصّيغ

   أُعلن سرّ الحياة الأبديّة ذلك منذ بدء الجنس البشريّ بواسطة الملائكة من خلال أمارات وشعائر ملائمة لأزمانها لمن كان مناسبا كشفها لهم. ثمّ إنّ الشّعب العبرانيّ جُمع في دولة لممارسة تلك الأسرار المقدّسة، حيث أنبئ، على ألسنة أنبياء بعضهم يعلمون والبعض يجهلون فحوى نبوءاتهم، بما سيحدث منذ مجيء المسيح إلى يومنا وما بعده؛ ثمّ شُتّت لاحقا ذلك الشّعب بين شتّى الشّعوب مصداقا لشهادة الكتاب المقدّس الّذي أنبئ فيه بالخلاص الأبديّ الآتي في المسيح. فما وحدها النّبوءات المفصح عنها بالأقوال، ولا فقط التّعاليم الخاصّة بنهج الحياة السّويّ المطابقةُ للتّقوى والخلق الكريم والمتضمّنةُ في تلك النّصوص، بل وكذلك الشّعائر والكهانة والخباء أو الهيكل والمذابح والقرابين والاحتفالات والأعياد وكلّ ما يتعلّق بتلك العبادات الواجبة لله والمدعوّة لاترية latreia باليونانيّة، أعلنت كلّها وأبانت عن الوقائع الّتي من أجل الحياة الأبديّة في المسيح الموعودة للمؤمنين نعتقد بأنّها تمّت ونراها تتمّ ونثق بأنّها لا بدّ أن تتمّ.

 

7-33 في أنّه أمكن بفضل الدّين المسيحيّ وحده فضح أباطيل الأرواح الماكرة الّتي تسعد بضلال البشر 

   من خلال هذا الدّين الواحد الحقّ إذن أمكن كشف أنّ آلهة الأمم شياطين نجسة، تحبّ، في صفة نفوس قضت أو في هيئة خلائق من هذا العالم، أن تُعدّ آلهة، وتبتهج في كبْرها ورجسها بالآثام والمخازي المقدّمة لها كأشراف ربّانيّة، وتبغض متاب النّفوس الإنسانيّة إلى الله الحقّ. ويخلّص الإنسانَ من سلطانها الدّميم الذّميم أن يؤمن بمن قدّم أبلغ مثال في التّواضع يتيح النّهوض لمن سقطوا في الحضيض بكبر يضاهيه. من هنا أتت لا فقط تلك الآلهة الّتي سبق لنا الحديث عنها مرارا، وأخرى وأخرى شبيهة من شتّى الأمم والبلدان، بل كذلك تلك الّتي نحن الآن بصددها، والّتي بصفتها صفوة الآلهة هي منها بمثابة مجلس شيوخ، وإن كانت في الواقع اصطفيت بناء على شهرة جرائمها لا على شرف فضائلها. يحاول وارّون تقديم تفسيرات طبيعيّة لطقوسها، ساعيا إلى إضفاء شرف على أشياء معيبة، ولكنّه لا يجد طريقة لعرضها بنحو مقنع ومتماسك، إذ ليست الأسباب الحقيقيّة لتلك الطّقوس ما يَعتقد أو بالأحرى ما يودّ أن يُعتقد. فحتّى لو لم يقدّمها هي وحدها وقدّم معها أيّة تعليلات أخرى من نفس القبيل لا صلة لها بالإله الحقّ والحياة الأبديّة اللّذين يجب التماسهما في الدّين الصّحيح، فإنّها بإعطاء مبرّر لتلك الطّقوس مستمدّ من الطّبيعة تلطّف نوعا ما الاستنكار الّذي أثاره أمر شائن أو لامعقول في تلك الطّقوس لم يُفهم سببه. حاول أن يفعل ذلك في بعض أساطير المسارح أو أسرار المعابد: لكنّه بهذا الصّدد لم يبرّر المسارح من خلال الشّبه بالمعابد، بل أدان بالأحرى المعابد من خلال شبهها بالمسارح. لكنّه حاول  بنحو ما أن يلطّف مشاعر الاستنكار أمام تلك الفظائع بتفسيرها باعتبارات طبيعيّة.

 

7-34 في كتب نوما بمبليوس الّتي أمر مجلس الشّيوخ بإحراقها كيلا تُعرف أسباب الطّقوس المدوّنة فيها

   لكنّا نجد خلافا لما أراد هذا العالم العلاّمة، وكما روى لنا هو نفسه، أنّ أسباب الطّقوس المقدّمة في كتب نوما بمبليوس لم يكن يمكن بحال تحمّلها ولم تُعتبر لائقة لا بأن يقرأها ويعرفها أهل الديّن، بل حتّى أن تبقى في شكلها الكتابيّ طيّ الخفاء. سأقول الآن ما وعدت في الكتاب الثّالث من هذا المؤلَّف بذكره في محلّه. فكما نقرأ عند وارّون في كتاب مجموعته المخصّص لعبادة الآلهة، يروى أنّ رجلا يدعى ترنتيوس كان يملك قطعة من الأرض في تلّ يانيكولوم، وأثناء مرور المكاري قرب قبر نوما بمبليوس وهو يجرّ المحراث أخرج من الأرض كتبه حيث دُوِّنت أسباب التّقاليد دينيّة الّتي وضعها، فحملها إلى القاضي الشّرعيّ في المدينة. لكنّه بعدما اطّلع على بداياتها، أحالها كشأن بالغ الأهمّية على مجلس الشّيوخ. هناك لمّا قرأ الشّيوخ المقدَّمون تلك الأسباب الّتي وُضعت بناء عليها الطّقوس المتّبعة، أيّد المجلس نوما الميّت، وأوعز الآباء المسجّلون بصفتهم أمناء على الدّين إلى القاضي الشّرعيّ بإحراقها*. ليتصوّر كلّ شخص ما يخطر بباله، بل ليقل أيّ أحد من أتباع ذلك الكفر الشّنيع ما يوحي إليه جدل أخرق بقوله. أمّا أنا فيكفيني التّنبيه إلى أنّه لم يكن يُرى من داع إلى أن يعرف أسبابَ الطّقوس الّتي دوّنها في الماضي الملك بمبليوس واضع الطّقوس الرّومانيّة لا الشّعبُ ولا مجلس الشّيوخ ولا حتّى الكهنة، وأنّ نوما بمبليوس نفسه توصّل بفضوله المحرّم إلى أسرار الشّياطين الّتي كتبها بيده لتكون لديه وثيقة تذكّره بها كلّما قرأها. لكن مع أنّه كان الملك ولا يخاف أحدا، لم يجرؤ على تعليمها لأحد ولا على التّخلّص منها بإعدامها أو تدميرها بطريقة ما. هكذا ما أراد ألاّ يعرفه أحد مخافة أن يعلّم النّاسَ ما يضرّهم، لكن خاف أن يمسّه بسوء فيثير غضب الشّياطين، أخفاه في ما تصوّره مخبأً حريزا دون أن يخطر بباله أنّ محراثا قد يقرب من قبره. لكن رغم أنّ مجلس الشّيوخ خشي أن يدين دين الجدود واضطرّ إلى تأييد نوما، رأى مع ذلك أنّ تلك الكتب ضارّة فلم يأمر بإعادة دفنها مخافة أن يبحث عنها الفضول البشريّ بتحرّق أكبر بعد انكشاف أمرها، لذا أمر بإزالة تلك الوثائق الخطيرة بالنّار. فقد باتوا يرون واجبا أداء تلك الطّقوس فبدا لهم أهون أن يخطئ المواطنون بجهل أسبابها من أن تهزّ الدّولةَ القلاقلُ بمعرفتها

 

7-35 في العرافة بالماء الّتي تمّ بها التّلاعب بعقل نوما من خلال رؤية صور نفر من الشّياطين

   ذلك أنّ نوما نفسه الّذي لم يكن يتلقّى أيّ نبيّ مرسل من الله ولا أيّ ملَك كريم اضطرّ إلى تعاطي العرافة بالماء hydromantia ليرى في الماء صور الآلهة، أو بتعبير أصحّ خزعبلات الشّياطين، ويعلم منها الطّقوس الواجب فرضها واتّباعها*. يقول وارّون إنّ هذا النّوع من العرافة استعير من الفُرْس، ويذكر أنّ نوما، وبعده الفيلسوف فيثاغور، استخدماه، ويخبرنا أنّه يتمّ فيه كذلك الاستنباء من سكّان العالم السّفليّ بتقديم دم لهم*، وأنّه يدعى باليونانيّة nekromanteia. وسواء دُعي العرافة بالماء أو استحضار الموتى، هو نفس الفنّ، ففيه يتمّ الاستنباء بواسطة رؤية الأموات. أمّا بأيّة فنون يتمّ ذلك فلينظروا هم أنفسهم. لا أريد القول إنّ هذه الفنون كانت حتّى في الدّول الوثنيّة إلى تاريخ مجيء مخلّصنا تحظرها القوانين عادة وتعاقب عليها بصرامة. كلاّ، لا أريد قول ذلك، فربّما كان مسموحا بتلك الممارسات. لكن من هذه الفنون في الواقع تعلّم بمبليوس تلك الطّقوس الّتي قدّم إجراءاتها وأخفى مبرّراتها- مظهرا بذلك خوفه هو بالذّات ممّا تعلّم- وقد أحرق مجلس الشّيوخ صحفه الّتي تكشف تلك الأسباب. ما شأني إذن وتأويل وارّون الّذي يقدّم أسبابا أخرى لتلك الطّقوس، تعاليل ملفّقة يدعوها طبيعيّة، لو كانت تلك الصّحف تضمّ مثلها لما أحرقوها قطعا، وإلاّ لأحرق آباء المجلس المسجّلون بالمثل كُتبَ وارّون الّتي أهداها للحبر الأعظم قيصر ونشرها. ولأنّ بمبليوس اجتلب، أو حمل معه بالأحرى، ماء لممارسة عرافته المائيّة، يشاع أنّه تزوّج جنّيّة المياه إيجيرية* كما يخبرنا وارّون في كتابه المذكور. هكذا دأب النّاس على ذرّ الأكاذيب على سيَر العظماء وتحويلها إلى أساطير.

   نرى إذن أنّ ذلك الملك الرّومانيّ المولع بالعرافة المائيّة تعلّم طقوسا يحتفظ بها الأحبار في كتبهم، وكذلك أسبابها الّتي لم يشأ أن يعلمها أحد سواه، لذلك جعل تلك التّفاسير تموت معه بوجه ما لمّا تدبّر لسحبها من معرفة النّاس ودفنها بالنّحو المذكور. إذن إمّا أنّ تلك الصّحف ضُمّنت رغباتٍ أملتها الشّياطين ذميمةً وضارّةً إلى حدّ يبدو عنده الدّين المدنيّ بكامله مَقيتا حتّى في عيون شيوخ المجلس الّذين قبلوا مخازي مخجلة لا تحصى في تلك الطّقوس؛ وإمّا أنّ كلّ تلك الآلهة المقدّمة فيها لم تكن سوى أناس أموات صارت كلّ الشّعوب الوثنيّة تقريبا، بتقادم العهد، تعتبرهم آلهة خالدة، بينما كانت الطّقوس مصدر متعة لتلك الشّياطين الّتي تنتحل لتُعبد شخصيّات أولئك الأموات الّذين أدخلت في أذهان النّاس أنّهم آلهة، ولا تنفكّ تدعمهم بزخارف المعجزات الزّائفة. لكن بعناية الله الحقّ الخفيّة، أُذن لها بأن تبوح لصديقها بمبليوس الّذي تمكّن من استمالتها بتلك الفنون الّتي بها تسنّت له العرافة المائيّة، لكن لم يُتح لها أن توحي إليه لمّا حان أجله بإحراقها بدلا من إخفائها كما ارتأى. وما استطاعت كذلك، لإبقائها مجهولة، أن تتصدّى للمحراث الّذي انتبشها ولا لقلم وارّون الّذي بفضله تناهى إلى علمنا خبر ما حدث بذلك الخصوص. فهي لا تستطيع فعل ما لم يؤذن لها بفعله لكنّ حكم الله العليّ العادلَ البعيد الغور أذن لها بأن تبتلي فقط أو تُخضِع وتخدع كذلك من استحقّوا ذلك بما عملوا جزاء وفاقا. لكن يمكن أن ندرك كم اعتُبِرت تلك الكتابات ضارّة أو بعيدة عن عبادة الألوهة الحقيقيّة من واقعة إيثار مجلس الشّيوخ إحراق ما أخفاه بمبليوس على خوف ما خافه فلم يجد الجرأة على فعل ذلك. ليطلبْ من هذه الطّقوس النّعيم الأبديَّ من لا يريد حياة تقوى في هذه الحياة الدّنيا، أمّا من لا يريد مخالطة الشّياطين الماكرة فلا يخافنّ شرّ الأباطيل الّتي تُعبد بها بل فليقرّ الدّين الحقّ الّذي تُفضح وتُهزم به.