القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الخامس- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

5-23 في الحرب الّتي هُزم فيها ملك القوط رادغيسوس عابد الأصنام مع جيشه العرمرم في يوم واحد

  مع ذلك هم لا يذكرون فيشكرون المعجزة الّتي صنعها الله رحمة بهم في عصرنا الحاضر وفي عهد قريب، بل يبذلون قصارى جهدهم لطمرها عند كلّ النّاس، إن أمكن، في غياهب النّسيان. لمّا بات رادغيسوس ملك القوط المرابط في جيش عرمرم على مشارف المدينة يهدّد حياة الرّومان، دُحر في يوم واحد بسرعة مذهلة حتّى أنّ لا أحد من بين الرّومان قُتل بل ولا حتّى جُرح بينما فقد جيشه أكثر من مائة ألف وما لبث هو نفسه أن أُسر وقُتل جزاء وفاقا على جرائمه. ولو دخل ذلك الكافر مع جحافله الجرّارة الكافرة رومية حياةَ من كان سيُعفي؟ وحرمة أيّة مشاهد كان سيرعى؟ وفي شخص من كان سيتّقي الله؟ دم من كان سيحقن وعرض من كان سيودّ أن يُبقي سالما؟ في الحالة المقابلة أيّة هتافات كانوا سيرفعون نصرة لآلهتهم وأيّة شتائم كانوا سيكيلون لنا بدعوى أنّه غلب واستطاع تحقيق نصر بذلك الحجم لأنّه كان يترضّى ويستنصر الآلهة بتقديم الذّبائح لها يوميّا، وهو ما لم يكن الدّين المسيحيّ يسمح به للرّومان. فعلا لمّا بات على مقربة من تلك الأماكن حيث صُعق بآية من جلالة الرّبوبيّة وبينما كان صيته يزداد باستمرار في كلّ مكان، كان يقال لنا في قرطاج إنّ الوثنيّين يعتقدون ويشيعون ويفخرون أنّه بفضل حماية ورعاية آلهة صديقة يُهلّ لها يوميّا لا يمكن أبدا أن يُهزم ممّن لم يكونوا يؤدّون ولا يسمحون بأن يؤدّي أحد للآلهة الرّومانيّة تلك الطّقوس. وما كان الأشقياء يشكرون رحمة الله الّذي لمّا قرّر أن يعاقب بغزوة بربريّة فساد أخلاق الرّومان الجدير بعقاب أشدّ لطّف غضبه بسماحة متناهية: فشاء أوّلا أن تلحق به تلك الهزيمة المدهشة كيلا يُنسب أيّ مجد للأصنام الّتي كان معروفا أنّه يعبدها فيؤثّر ذلك في أفكار ضعاف العقول، ثمّ أن تُجتاح رومية من قِبل أولئك البرابرة الّذين حموا، خلافا لما جرت عليه العادة في كلّ الحروب السّابقة، اللاّجئين إلى الأماكن المقدّسة احتراما للدّين المسيحيّ، وأبدوا في نفس الوقت عداء لتلك الشّياطين ورجس طقوسها تكريما للدّين المسيحيّ حتّى لبدَوا كأنّهم يشنّون حربا عليها أضرى من حربهم على النّاس*. هكذا أوقع الرّبّ الحقّ ملك الكون عقابا رحيما بالرّومان وبيّن كذلك لعبدة الأصنام الّذين مُنوا بهزيمة لا تصدَّق ألاّ داعي لتلك الذّبائح لحفظ المصالح الدّنيويّة، فلا تدفع المحن الحاضرة من لا يجادلون بلجاجة بل يتأمّلون بلبابة إلى هجر الدّين الحنيف بل تزيدهم تعلّقا بالحياة الأبديّة فينتظروها بقلوب مطمئنّة.

 

5-24 في طبيعة سعادة الأباطرة المسيحيّين ومدى صحّتها

   لمّا ندعو من جهتنا بعض الأباطرة المسيحيّين سعداء felices لا ننعتهم بذلك لأنّهم حكموا فترة طويلة أو لأنّهم تركوا عند موتهم في دعة أبناءهم على رأس الدّولة أو لأنّهم دحروا أعداء الدّولة أو لأنّهم استطاعوا تفادي وقمع تمرّد المواطنين المناوئين لهم. هذه والمسرّات أو التّعزيات الأخرى في هذه الحياة البائسة استحقّ نيلها حتّى بعض عبدة الشّياطين والحال أنّهم لا ينتمون إلى ملكوت الله الّذي ينتمي إليه أولئك: وهذا من آثار رحمته كيلا ينشد المؤمنون بعيدا عن ملكوته تلك المسرّات والسّلاوى باعتبارها أعظم الخيرات. لكنّا ندعوهم سعداء إن حكموا بالعدل، ولم يمتلئوا وسط مديح المعظّمين وتزلّف المتذللّين غرورا بل تذكّروا باستمرار أنّهم بشر، وجعلوا سلطانهم في خدمة الجلالة الرّبّانيّة لنشر عبادة الله في الآفاق، واتّقوا وأحبّوا وعبدوا الله*، وإن أحبّوا ملكوته الّذي لا يخشون أن يكون لهم فيه شركاء، وإن كانوا بطيئي الانتقام سريعي الغفران، وينتقمون بداعي حكم وحماية الجمهوريّة لا لشفاء غلّهم من خصومهم ويغفرون لا لترك الظّلم بلا عقاب بل رجاء إصلاح المذنب، إن عوّضوا عن الشّدّة الّتي كثيرا ما يضطرّون إلى توخّيها بلطف سماحتهم وسخاء أنعمهم، وإن كانوا أكثر تعفّفا عن الخلاعة بقدر ما هي متاحة لهم أكثر، وآثروا التّحكّم في أهوائهم وشرور أنفسهم أكثر من التّحكّم في أيّة أمم، وفعلوا كلّ ذلك لا تعطّشا لمجد زائف بل حبّا للسّعادة الأبديّة، وإن لم يهملوا تقديم كفّارة عن خطاياهم لإلههم الحقّ قوامها الذّلّ له والتّوبة والتّهجّد. ندعو أولئك الأباطرة المسيحيّين سعداء منذ هذه الحياة رجاء أن يكونوا كذلك فعلا بعدها لمّا يأتي ما نرتجي.

 

5-25 في البركات الّتي منح الله الامبراطور المسيحيّ قسطنطين

   فإنّ الله البرّ، كيلا يدع من يظنّون من واجبهم عبادته من أجل الحياة الأبديّة يحسبون أنّ لا أحد يستطيع  بلوغ هذه المعالي واالسّلاطين الدّنيويّة إن لم يتضرّع إلى الشّياطين لأنّ هذه الأرواح ذات تأثير كبير في هذا المجال، أسبغ على الامبراطور قسطنطين الّذي كان لا يدعو الأصنام بل اللهَ الحقَّ وحده يعبد من نِعم الدّنيا ما لا يجول ببال أحد تمنّيه؛ فمنحه شرف تأسيس مدينة شريكة للامبراطوريّة الرّومانيّة، بمثابة بنت لرومية نفسها لكن خالية من أيّ معبد أو تمثال للأوثان؛ وحكم فترة طويلة وملك وحمى العالم الرّومانيّ أجمع كامبراطور أوحد؛ وكان مظفّرا في ما خاض وقاد من الحروب وموفّقا في الإطاحة بكلّ الطّغاة الّذين حاربهم؛ ومات بعدما بلغ من العمر عتيّا من المرض والهرم وترك الحكم لولديه. لكن في المقابل كيلا يعتنق أيّ امبراطور المسيحيّة لينال سعادة قسطنطين بينما يُفترض أن يكون كلّ إنسان مسيحيّا لأجل الحياة الأبديّة، توفّى يوفيانوس بأسرع من يوليانوس وشاء أن يُقتل قراتيانوس بسلاح طاغية، لكن ميتة ألطف بكثير من مصرع بمبيوس العظيم عابد الآلهة الرّومانيّة المزعومة: إذ لم يقيَّض لهذا أن يثأر له كاتون الّذي تركه كوريث له بنحو ما في الحرب الأهليّة بينما قُيّض لذاك، وإن لم تكن النّفوس التّقيّة تنشد مثل هذا العزاء، أن يثأر له ثيودوسيوس الّذي كان قد أشركه في الحكم مع أنّ له أخا صغيرا، لحرصه على أن يكون له شريك يثق به أكثر من نفوذ أكبر.*

 

5-26 في إيمان وتقوى الامبراطور تيودوسيوس

   لذلك لم يحفظ له العهد الواجب طيلة حياته فقط، بل كذلك بعد موته بطعنة قاتله مكسيموس آوى إليه كمسيحيّ حقيقيّ أخاه الصّغير في جزء الامبراطوريّة التّابع له وكلأه بمحبّة الأب، بينما كان بوسعه التّخلّص منه بدون مشقّة لأنّه أعزل من كلّ وسيلة لو كان حبّ توسيع نفوذه يُلهبه أكثر من حبّ الإحسان: لذلك آثر أن يحفظ له في كفالته شرفه الامبراطوريّ، وبحفاوته وإنعامه وفّر له جميل العزاء. ثمّ لمّا أجّج هذا النّجاح حقد مكسيموس فبات يُخشى شرّه، لم ينزلق وسط هواجسه الخانقة إلى ضروب الفضول الآثمة والمحرّمة، بل أرسل يسأل يوحنّا المترهّب في صحراء مصر، إذ علم بفضل ذيوع شهرته أنّ هذا العبد الصّالح أوتي ملَكة النّبوءة وتلقّى منه بشرى النّصر المحقّقة. إثر ذلك أردى الطّاغيةَ مكسيموس، وأعاد بالتّبجيل وبمنتهى اللّطف فالنتانيوس- وهو لا يزال غلاما- إلى حكم قسم الامبراطوريّة التّابع له والّذي كان قد أقصي منه. وبعد مصرعه إثر ذلك في كمين أو بعمليّة قتل أخرى أو بحادث، وبعدما سأل مجدّدا وتلقّى نبوءة عزّزت ثقته بالنّجاح، أردى الطّاغيةَ الآخر يوجينوس الّذي عيّن بصفة غير شرعيّة مكان الامبراطور، والّذي حارب جيشَه العتيد بالصّلاة أكثر ممّا فعل بالقتال. وقد روى لنا جنود شهدوا المعركة أنّ القنا كانت تُنتزع من أيديهم وتُقذف بعدما ثارت ريح هوجاء كانت تأخذ القنا بقوّة من الأيدي في صفوف ثيودوسيوس فتوجّهها بعنف نحو الأعداء وفضلا عن ذلك تعيد أسلحة هؤلاء إلى نحورهم. لذلك قال الشّاعر كلوديانوس، وإن لم يكن على دين المسيح، في مديح الامبراطور: "يا من يحبّك الله ويخدمك الأثير، وتهبّ إليك الرّياح مجتمعة على صوت أبواقك." ونُصر كذلك كما اعتقد وأعلن فأطاح تماثيل يوبتر المكرّسة له وضدّ مشيئته بطقوس غريبة، والمقامة في منطقة الألبش، ولمّا قال له عدّاؤوه على سبيل المزاح- وهو ما كان جوّ البهجة يسمح به- إنّهم يحبّون لو تصعقهم البروق في مجنّ تلك التّماثيل والّتي كانت من الذّهب، أعطاها لهم ضاحكا بمودّة. وإذ لجأ أبناء أعدائه الّذين ألقى بهم إتيّ الحرب في المعمعة بدون إيعازه إلى الكنيسة، مع أنّهم لم يكونوا قد صاروا بعد مسيحيّين، أراد بالمناسبة تحويلهم إلى المسيحيّة، وأحبّهم وفق تعاليم المحبّة المسيحيّة ولم يجرّدهم من أموالهم وزادهم أشرافا، ولم يسمح بعد انتصاره بإطلاق العنان للأحقاد الخاصّة ضدّ أيّ من أعدائه، وخلافا لكنّا وماريوس وسولاّ وأمثالهم الّذين لم يشاؤوا انتهاء ولا إنهاء الحروب الأهليّة آلمه اندلاعها أكثر ولم يشأ بعد إنهائها إيذاء أحد. وسط كلّ هذه الزّوابع ومنذ بداية حكمه لم ين بقوانين عادلة سمحاء عن مساعدة الكنيسة الّتي واجهت عددا من المحن، وكان المارق والنس الموالي لشيعة أريوس قد اضطهدها بشدّة، فكان يبهجه أن يكون عضوا بها أكثر من أن يحكم في الأرض. وقد أمر بإطاحة أصنام الأمم الوثنيّة إذ أدرك جيّدا أنّ طيّبات الحياة الدّنيا ليست بيد الشّياطين بل بيد الله الحقّ. كذلك هل هناك أروع من اتّضاعه الورع لمّا اضطرّ نزولا عند مطالب بعض حاشيته لمعاقبة جرم التّسالونيكيّين الخطير بعدما وعد بالصّفح عنه استجابة لشفاعة الأساقفة وتعرّض لذلك إلى عقاب الكنيسة فأعلن توبته بنحو مؤثّر جعل الشّعب يصلّي لأجله باكيا وهو يرى جلالة الامبراطور جاثيا أكثر ممّا خشي إثارة غضبه بجرمه*. وقد حمل معه هذه الأعمال الصّالحة وأخرى مماثلة يطول ذكرها من هذه الدّنيا الّتي هي بكلّ ما فيها من رفعة وعظمة بخار؛ أجر تلك الأعمال هو السّعادة الأبديّة الّتي يهبها الله لذوي التّقوى الصّادقة وحدهم، أمّا المعالي والذّخائر الأخرى في هذه الحياة فكالدّنيا نفسها، كالضّياء والهواء والأرض والماء والثّمر بل وجسم ونفس الإنسان والحسّ والفكر والحياة يهبها للصّالحين والأشرار سويّا، ومن ضمنها كذلك المُلك الّذي أيّا كان عظمه يوزّعه لتسيير هذا العالم الدّنيويّ.

   لذا أرى من واجبي الآن الرّدّ كذلك على من يحاولون، بعد تفنيدهم وإفحامهم بالأدلّة الدّامغة الّتي تبين أنّ الآلهة الزّائفة بكلّ عددها وعديدها لا تجدي نفعا لجلب الخيرات الدّنيويّة الّتي إليها وحدها يهفو خفاف العقول، أن يثبتوا لزوم عبادة تلك الآلهة لا لأجل المنفعة العاجلة بل لأجل الآجلة المرتجاة بعد الموت. فعلى أولئك الّذين يريدون حبّا لهذا العالم عبادة أباطيل ويشتكون من منعهم من هذه الأوهام الصّبيانيّة يبدجو لي أنّي أجبت بنحو كاف واف في هذه الكتب الخمسة. لمّا نُشرت الثّلاثة الأولى منها وبدأت تتداولها الأيدي، سمعت أنّ البعض يُعدّون ردّا كتابيّا عليها، ثمّ تناهى إليّ أنّهم فرغوا من كتابته، لكنّهم يرتقبون فرصة يمكنهم فيها نشره بدون خطر عليهم: وأنا أنذرهم ألاّ يتمنّوا أمرا ليس في صالحهم. إذ من السّهل أن يظهر بمظهر من ردّ من أبى لزوم الصّمت، وهل أهذر من الباطل؟ فما هو بمثل قوّة الحقّ لمجرّد قدرته إن شاء على أن يلعلع أكثر حتّى من الحقّ. لكن لينظروا كلّ الأمور بإمعان وإن لاحظوا عرضا، وهم يحكمون بدون تعصّب حزبيّ، ما يمكنهم لا أقول دحضه بل بالأحرى مناقشته بهرائهم السّفيه وبخفّة كالّتي في قصائد النّقد الهزليّة أو التّمثيليّات الإيمائيّة، ليكفّوا سخافاتهم ويؤثروا تقويم العقلاء على تقريظ السّفهاء لهم. إن كانوا حقّا ينتظرون فرصة لا لحرّيّة قول الحقّ بل لإباحة الثّلب فأوْلى لهم ألاّ ينالهم ما يقول تلّيوس عن شخص كان يدعى، لأنّه أبيح له أن يعمل السّيّئات، سعيدا: "يا للشّقيّ الّذي أبيح له فعل السّيّئات!"* لذلك فكلّ من يعدّ نفسه سعيدا لأنّه أبيح له الثّلب سيكون أسعد إن صار ذلك غير مباح له قطّ. والحال أنّ بإمكانه حتّى الآن، إن يدَع التّبجّح الفشوش جانبا ويجتهد للاستيضاح، أن يعارض ما يشاء ويسمع ممّن استوضحهم الرّدّ المناسب قدر مستطاعهم في نقاش ودّيّ بنزاهة وجدّ وصراحة.