ترتلّيانوس

 

دفاع عن التّوحيد

 

2- الفصول 11-21

حواش 

 

 

 

 

 

 

 

4

3

2

1

مقدّمة

11- لا داعي لوجود تلك الآلهة، وإن رقّي أولئك الأفراد إلى مصافّ الآلهة فثمّة من هو أحقّ منهم بذلك

   وبما أنّكم، بالمثل، لعجزكم عن نفي كونهم بشرا، ذهبتم إلى القول بأنّهم صاروا آلهة بعد موتهم، سنتناول حججكم القاضية بذلك. لابدّ لكم بدءا أن تسلّموا بوجود إله أعلى ومانح للألوهيّة، جعل من أناس آلهة في الماضي؛ فما أمكنهم احتياز الرّبوبيّة الّتي لم يكونوا يملكونها بمحض قدراتهم ولا أمكن غيرهم إسنادها إليهم وهم أخلاء منها إن لم يكن بدوره يملكها على الوجه الأكمل. وإلاّ، إن لم يكن هناك من يحيل البشر آلهة، فمن لغو الحديث افتراض تحوّلهم إلى آلهة وقد استبعدتم الصّانع: إذ من البيّن أنّهم، لو كانوا يستطيعون التّحوّل من تلقاء أنفسهم لما كانوا بشرا قطّ وهم يمتلكون القدرة على المصير إلى وضع أفضل. إن افترضنا إذن وجود من يصنع الآلهة، فلأهتمّ بفحص علل صنع آلهة من البشر، ولا أجد لذلك مبرّرا إلاّ إن كان ذلك الإله الأعظم يبتغي له أعوانا ومساعدين على مهامّه الرّبّانيّة؛ أوّلا لا يليق بمقامه أن يحتاج إلى معونة آخر وفان فوق ذلك، بينما كان أجدر به منذ البدء، وهو يعلم رغبته اللاّحقة في عون فان، أن يصنع للغرض إلها بالأحرى. على أنّي لا أرى للعون مجالا: فبيّن أنّ كيان هذا العالم كلّه، سواء كان قديما على رأي فيثاغور* أو محدثا على رأي أفلاطون*، قد رُتّب منذ البدء بتدبير حكيم على نحو بديع من التّنسيق والنّظام والاتّساق؛ ولا يمكن أن يكون ناقصا من أنشأ كلّ الكائنات على ذاك النّحو من الكمال. وما كان لينتظر ساترنوس* ونسله؛ فما أفسل البشر إن لم يعتقدوا جازمين أنّ هذا الكون شهد منذ منشئه انثيال الأمطار من السّماء، وتلألؤ الأنجم وسطوع الأنوار وهزيم الرّعود؛ وأنّ يوبتر* نفسه الّذي تضعون في يده مجنّ البروق كان يقفقف منها جزعا؛ وأنّ خروج الثّمرات من تحت الثّرى تمّ قبل ليبر* وكيريس* ومينرفة* بل قبل نشأة أوّل إنسان، فما كان لشيء ممّا دبّر لتأمين معاش الإنسان وحفظ بقائه أن يُجلب بعدما عمر الإنسان الأرض. يقولون أخيرا إنّهم اكتشفوا حواليهم مستلزمات الحياة ولم ينشئوها؛ لكنّ ما يُكتشف وُجد من قبل، ومن ثمّة لا يعزى لمكتشفه بل لصانعه، فقد وُجد قبل اكتشافه. وإن استحقّ ليبر* الألوهيّة لتعليمه النّاس غراسة الكروم فما إخالكم أنصفتم لوكلّوس* أوّل من جلب الكرز من بلاد الجسر* إلى إيطالية، ولم يكرَّس مثله، كموجد ثمرة جديدة لكونه أوّل من دلّ النّاس عليه. وعليه، إن وُجد الكون منذ مبتداه متّسقا ومجهّزا بشتّى الأسباب الّتي تتيح أداء وظائفه، فلا داعي من هذه النّاحية لإلحاق الإنسانيّة بمصافّ الرّبوبيّة، فقد وُجدت من الأصل تلك القدرات والوظائف الّتي وزّعتموها على آلهتكم، وكانت ستوجد حتما حتّى لو لم تبتدعوهم. لكنّكم تلجؤون إلى حجّة أخرى، رادّين بأنّ منح الألوهيّة كان من قبيل مكافأة الاستحقاق؛ تقرّون ضمنيّا إذن كما أرى، بأنّ ذلك الإله مانح الألوهيّة يفوق عدلا كلّ من عداه، هو الّذي يوزّع مكافآت بهذا القدر بلا اعتباط ولا إسراف ولا لغير أهلها. أريد إذن أن تعرضوا، إن وُجدت، تلك المآثر الّتي رفعت أصحابها إلى علياء السّماء بدلا من غمسهم في غيابة التّرتار* الّذي تزعمونه على هواكم المعتقل المعدّ لعقاب العالم السّفليّ*. فهناك اعتدتم نقع عاقّي الآباء والزّناة بالأخوات والزّناة بالمحصنات وسباة الفتيات ومفسدي الغلمان والعتاة والقتلة واللّصوص والمكرة وكلّ من يشبهون أحد آلهتكم، إذ لا يمكنكم إثبات تنزّه أيّ منهم عن الجريمة أو الرّذيلة إلاّ إن نفيتم أنّه إنسان. لكنّكم لا تستطيعون نفي أنّهم كانوا بشرا فتلك صفات إضافيّة تمنع الاعتقاد بتحوّلهم لاحقا إلى آلهة؛ إن كنتم تحرصون على معاقبة تلك الفعال وكان كلّ شخص نزيه بينكم يرفض معاملة أو محادثة أو مخالطة الأشرار والفجّار، بينما شرّك ذلك الإله في جلال ربوبيّته أمثالهم، فلِم تُدينون من تعبدون نظراءهم؟ إنّ عدالتكم لوصمة في وجه السّماء: ألّهوا إذن أشراركم لتُرضوا آلهتكم فتكريس أمثالهم شرف لهم. لكن لأتغاضى عن مخازيهم، سأسلّم بأنّهم كانوا أمناء ونزهاء وصالحين؛ كم تركتم والحال تلك في غياهب العالم السّفليّ* من رجال يفوقونهم فضلا؟ أناسا في حكمة سقراط* أو عدل أرستيدس* أو حنكة ثيمستوكل* أو همّة الإسكندر* أو حظّ بولقراط* أو في غنى كرويسوس* أو بلاغة ديمسثينس*؟ مَن مِن آلهتكم أكثر حكمة ورصانة من كاتون* أو أعدل وأشدّ للحرب مراسا من شبيون*؟ من هو أعلى همّة من بُمبيوس* أو أسعد حظّا من سولاّ* أو أوسع ثراء من كراسّوس* أو أفصح لسانا من تولّيوس*؟ ما كان أحرى بربّكم ذاك التّريّث ليتّخذ من هؤلاء آلهة، هو العالم منذ النّشأة الأولى بالأفضلين أعمالا! لقد تعجّل في اعتقادي في إغلاق بوّابة السّماء، ولا شكّ أنّه اليوم يخجل إذ يسمع وشوشات أناس أفضل منهم في سدف العالم السّفليّ*.

12- أوثان لا تنفع ولا تضرّ

    أدع هذا الآن، لعلمي بأنّي لمّا أعرض ما هم سأكون بنفس الاستدلال قد بيّنت ما ليسوا هم؛ بشأن آلهتكم لا أرى ولا أسمع غير أسماء وقصص أناس بادوا منذ دهور، وأتبيّن طقوسا قائمة على أساطير. أمّا بشأن النّصب فلا أجد فيها سوى موادّ هي أخت الّتي تصنع منها الأواني والأدوات العاديّة، أو هي من تلك الأواني كما لو بدّل تكريسها للعبادة مصائرها وشكّلتها صوراً يد الفنّ بنحو مستهتر وأثيم  في عملها هذا، إلى درجة أنّا نحن المعذَّبين بسبب هذه الآلهة بالذّات نجد عزاء عن تعذيبكم لنا في كونها هي الأخرى عانت أثناء تشكيلها عذابا مماثلا. تعلّقون النّصارى على الأعمدة والصّلبان، فأيّ صنم لم يشكَّل من طينته أوّلا على ركيزة بشكل عمود أو صليب؟ كما ترون، يكرَّس جسد إلهكم أوّلا على عمود الصّلب. وإن كنتم تمزّقون بأظافركم* جنوب النّصارى مُزعا، فإنّكم تُعملون في سائر أعضاء آلهتكم، وبعنف أشدّ، الفؤوس والأزاميل، والمساحيج والمصاقل والمكاشط؛ نحن نضع على النّطع رؤوسنا، أمّا آلهتكم فبلا رؤوس أصلا، قبل أن تضعوا لها الرّصاص والملاط والدّسر. تُلقون بنا إلى السّباع؛ لكنّكم تلصقونها بليبر* وقُبيلة* وكيلستيس*. تحرقوننا بالنّار، وكذلك تُعملونها فيها وهي مادّة خامّ لم تشكّل؛ تحكمون بحبسنا في المناجم، ومن باطنها تتّخذون آلهتكم؛ تنفوننا في الجزر، وكم من إله ممّن تعبدون ولد أو مات في جزيرة؛ فإن كانت الألوهيّة تتمثّل في هاته المواصفات، فإنّ من تعاقبون ليُكرّسون آلهة، ويجب أن يعدّ تعذيبهم تأليها. لكنّ آلهتكم عديمة الإحساس كلّيّا بالإهانات والأنكال المقترنة بصنعها كمالا تحسّ عباداتكم؛ يا للأقوال الكفورة ويا للسّخريات الأثيمة! فلتصرّوا بأسنانكم ولترعدوا وتزبدوا! فأنتم أنفسكم تستحسنون رجلا كسينيكا* تحدّث عن عقائدكم الفاسدة بنحو أوفى وألذع. لذا إن ندعْ عبادة أصنامكم وأوثانكم الهامدة الباردة كأصحابها الأموات*، واّلتي تعشّش في جنباتها العقاعق والفئران والعناكب، أما كان العدول عن الخطإ بعد معرفته عملا يستحقّ الثّناء بدل العقاب؟ ثمّ أيمكن أن يبدو لأحد كأنّا نهين أشياء نجزم بألاّ وجود لها؟ فما لا يوجد لا يألم من أحد لأنّه عدم.

13- تساهل الرّومان في إسناد الألوهة. ذمّ الآلهة الوثنيّة

   قد تقولون: "لكنّهم عندنا آلهة"؛ فكيف إذن يُنظر إليكم بالعكس ككفرة خطأة فجرة تجاه تلك الآلهة؟ تؤمنون بوجودها وتهملونها، ترهبونها وتدمّرونها، تثأرون لها وتهزّئونها. تبيّنوا إن كنت أكذب: أوّلا يعبد كلّ منكم آلهة مختلفة ومن ثمّ تهينون الّتي لا تعبدون: لا يمكن اختيار أحدها دون إغاظة الآخر فلا انتقاء بلا استبعاد. أنتم إذن تزدرون الّتي تنبذون والّتي لا تخشون إغاظتها بإعراضكم عنها؛ ولا غرو، فكما ألمعنا أعلاه، كانت وضعيّة كلّ إله تتوقّف على فتوى مجلس الشّيوخ* فيه. وما كان ليعَدّ إلها من رفضه الإنسان إذ أبدى فيه رأيه، وبرفضه حكم عليه بالعدم. وعلى آلهتكم البيتيّة* الّتي تدعونها لارات* تمارسون سلطتكم كأرباب البيت، فترهنونها أو تبيعونها أو تعيدون تشكيلها إلى شتّى الأواني: محيلين ساترنوس* تارة إلى قدر، ومينرفة* طورا إلى كبشة، كلّما تآكل أو انكسر أيّ منها بطول تعبّدكم إليه، أو أحسّ أنّ الحاجة المنزليّة ربّ أقدس. كذلك تهينون آلهتكم العامّة، وفق قوانين الحقّ العامّ، فتضعونها في المزاد كرعيّة خاضعة للجزية. تقصدون الكابتول* كما تقصدون سوق الخضار: ومع نفس صيحة الدّلاّل، ونفس تراتيب المزاد، ونفس إجراءات التّقييد في سجلاّت المراقب*، تقتادون إلهكم المعدّ للبيع. لكنّ الحقول المثقلة بالخراج أبخس، ورؤوس البشر الخاضعة للجزية أقلّ قيمة عند تعداد السّكّان، فتلك الجبايات وصمات الأسر، أمّا آلهتكم فكلّما ارتفعت الضّريبة عليها زادت قداستها، بل كلّما زادت قداستها زادت ضريبتها. هكذا تردّ القداسة إلى مسألة ماليّة بحتة؛ ويلفّ الدّين بالحانات مستجديا؛ كذلك تطلبون ثمنا لوطء أرض المعبد والدّخول إلى الأقداس؛ لا سبيل لمعرفة الآلهة مجانا، فلها ثمن ككلّ ما يباع ويشترى. أيّ شيء تفعلون لتكريمها لا تصنعون لموتاكم مثله؟ مزارات متماثلة ومذابح متماثلة؛ نفس المقام ونفس البيانات المنقوشة على شواهد. للإله مثل ما للميّت: عمر وحرفة وشغل؛ فيم يختلف العشاء المعدّ ليوبتر* عن عشاء الموتى؟ والكوب الّذي تقدَّم فيه النّخب لآلهتكم عن ذاك المعدّ لشرب الموتى؟ أو سدنة الآلهة عن دفّان الموتى؟ فالسّادن يقدّم للموتى أيضا خدماته. لكنّكم مصيبون في إضفائكم أمجاد الألوهيّة على الأباطرة الأموات بعد تعظيمهم أحياء، فلا شكّ أنّ آلهتكم يرضون ذلك منكم، بل سيشكرونكم عليه، لأنّكم جعلتم أسيادهم نظراءهم. بل حين تعبدون في شخص لارنتية* بغيّا تبيع للعموم مفاتنها، ولو كانت على الأقلّ لاييس* أو فرينة* بين معبوداتكنّ من قبيل يونون* وكيريس* وديانة*، ولمّا تكرّسون سمعان السّاحر* إلها وتنحتون له تمثالا تكتبون عليه لقب الإله القدّوس، لمّا تجعلون أحد مماليك القصر الامبراطوريّ* ربّا له مكانه في مجمع الآلهة، ستنظر آلهتكم الأقدم عهدا، وإن لم تكن الأشرف معدنا، إلى ذلك كإهانة منكم، لمنحكم آخرين ما منحهم وحدهم القِدم.

14- الرّومان أنفسهم يروون مثالبها

   لا أريد هنا استعراض طقوسكم، ولا أذكر بأيّة عقليّة تقدّمون القرابين لآلهتكم، لمّا تنتقون للتّضحية المتردّية والجرباء، ولمّا تقتطعون من الزّكيّ السّمينِ الغثَّ، والرّؤوس والأظلاف الّتي تخصّصونها في بيوتكم للعبيد والكلاب، وعند إعطاء العشر المفروض لهرقل* لا تضعون منه الثّلث على مائدة النّذور؛ بل أشيد بحكمتكم في إنقاذكم من التّلف بعض مالكم. لكن إن أوجّه نظري إلى مدوّناتكم حيث تتعلّمون الحكمة والصّنائع الشّريفة، فماذا بهنّ من المضحكات! أجد الآلهة مجتمعين يختصمون مثل أزواج من المصارعين بسبب الطّرواديّين والآخيّين، وفينوس* كليمة بسهم بشريّ لأنّها أرادت انتشال ابنها أيناس* بعدما كاد ديوميدس* يقتله*. ومارس* كاد يهلك من حبسه في القيود ثلاثة عشر شهرا* ويوبتر* ينجو بفضل وحش من التّعرّض لعنف مماثل من بقيّة آلهة السّماء* ويبكي تارة مصير سربيدون* ويتذلّل طورا لأخته بنحو مخز ويذكر أنّه لم يحبّ مثلها عشيقاته السّابقات*. هل وُجد مذّاك شاعر لم يعمد مقتفيا آثار أميرهم* إلى وصم الآلهة بكلّ مخزية؟ هذا يحكم على أبولّون* برعي قطعان الملك أدْمِتوس*، وذاك يؤجّر أعمال نبتون* كبنّاء للملك لاوميدون*. بل من الشّعراء، وبنداروس* أعني، من أنشد بأنّ أسكولابيوس* حُكم عليه بصعقة جزاء رغبته المشطّة  في ممارسة الطّبّ بنحو ضارّ*. فيا ليوبتر* من شرّير إن كان البرق خاضعا لسلطانه، وما أقلّ برّه بحفيده، وما أشرسه مع حكيمنا. ما كان لأخبار كهذه أن تروى إن كانت صادقة ولا أن تفترى إن كانت باطلة عند أناس ديّنين؛ لم يعف شعراء المأساة والملهاة الآلهة من مثلبة، فما من مكروه ولا خطإ ببيت أحد إلاّ ويجعلونه من صنع أحد الآلهة. لا أتكلّم عن الفلاسفة، وأقتصر على سقراط* الّذي كان يقسم بالحوْر والتّيس والكلب نكاية بالآلهة! لكنّ سقراط* أدين لتسفيهه الآلهة؛ ولعمري إنّ الحقيقة مبغوضة بالأمس كما هي اليوم وفي كلّ زمان. لكنّ الأثينيّين ندموا على حكمهم لاحقا وأدانوا أعداء سقراط* وأقاموا له نصبا من الذّهب في المعبد وردّوا لسقراط* اعتباره بنقض عقوبته. ديوجين* أيضا قال في هرقل* كلاما ساخرا لا أذكره، بينما جلب الكلبيّ* الرّومانيّ ورّون* ثلاثمئة يوبترا* بدون رؤوس.

15- تنديد بقبائحها وبالألعاب الوحشيّة الّتي ينظّمها الرّومان على شرفهم

   بل تفنّنت أذهان آخرين في ذمّ الآلهة قصد إمتاعكم؛ انظروا إلى مُلح كتّاب كلنتولوس* وهستيليوس* اللّذين يضحكانكم بتمثيليّاتهما الهزليّة المصوغة في قالب حيل ومواقف مثيرة لا أدري أعلى المهرّجين أم على آلهتكم، عارضين أنوبيس* بمظهر الزّاني، والقمر* بمظهر الذّكور، وديانة* تُجلد، ووصيّة يوبتر* بعد موته تُلقى على مسامعكم بنحو مثير وثلاثة هراقل* عُجف نحّل مضحكين. لكن حتّى هذا الأدب التّهريجيّ السّاخر ينعت بنحو ما قبائحهم. هذا إله الشّمس* يبكي ولده الواقع من أعالي السّماء وسط ضحككم، وتلك قُبيلة* تتّقد شهوة على راع لا يبالي بهواها دون أن تردعكم مسكة من حياء، وتستمعون بدون اعتراض إلى المهرّجين ينشدون بنود وصيّة يوبتر* قبل موته وإلى راع* يحكم بين يونون* وفينوس* ومينرفة*. بل لمّا تضع صورة إلهكم رأسا بشعة ويمثّل جسم دنس أعدّه التّخنّث* لهذا الفنّ مينرفة* أو هرقل*، ألا تستباح حرمة الألوهيّة وتدنَّس قداستها وسط هتافاتكم؟ قد تكونون أكثر تُقًى على مدرّجات حلبة الصّراع حيث يرقص آلهتكم فوق الدّم البشريّ وفوق النّفايات المتبقّية من تنفيذ العقوبات مقدّمين للمجرمين مواضيع وحكايا، إن لم يتقمّص مجرمون غالبا آلهتكم أنفسهم. رأينا مرّة مشهد خصي أتّيس*، إلهكم البسّيننتيّ*، وشخصا يُحرق حيّا في دور هرقل*؛ وبين عروض الظّهر الوحشيّة ضحكنا على مركوريوس* يتفحّص بميسمه الموتى، ورأينا أخ يوبتر* يسحب جثث المصارعين بمطرقته*. من له باستقصاء كلّ هذه العروض بالتّفصيل لهذا الغرض؟ إن كانت تستهين بحرمة الألوهة وتمرّغ رفعتها فهي تعَدّ لا شكّ ازدراء للآلهة سواء عند من يقومون بها أو من لإمتاعهم يفعلون. لكن لتكن هذه مجرّد عروض للتّسلية؛ إن أضفتُ إلى ذلك ما تعترف به تماما ضمائر الجميع، أنّه داخل المعابد يدبَّر الزّنا، وبين المذابح تُعقد صفقات البغاء، وفي محاريب السّدنة والكهنة، بين البخور المتضوّع وتحت البيارق والأكاليل وحلل الأرجوان، تُشبع الشّهوة*، فلا أدري أمنكم أكثر أم من النّصارى تشكو آلهتكم؛ ومن بينكم أيضا يُقبَض دوما على ناهبي المعابد لا شكّ. فالنّصارى لا يعرفون معابدكم طول النّهار، وقد يسرقون منها لو كانوا يعبدونها هم أيضا. ماذا يعبد إذن من لا يعبدون تلك الآلهة؟ لقد بان أنّ من لا يعبدون الباطل يعبدون الحقّ وأنّهم لم يعودوا في الخطإ أولئك الّذين تخلّوا عنه بعدما عرفوه؛ فافهوا هذا أوّلا واستخبروا عن مجموع تعاليم ديننا، لكن لندحض قبل ذلك كلّ الأفكار الغالطة حوله.

16- ردّ على الرّسوم السّاخرة الّتي تستهدف المسيح

   ذلك أنّكم كالبعض توهّمتم إلهنا رأس حمار؛ أدخل في الأذهان تلك الظّنّة كرنليوس تاكيتوس*. في الكتاب الخامس من تاريخه استهلّ سرده لحرب اليهود بالحديث عن أصل هذا الشّعب، وفي تحليله لأصله واسمه ودينه يذكر أنّ اليهود خرجوا من مصر أو، حسب رأيه، أُطردوا منها إلى مجاهل صحراء بلاد العرب المعطشة، ولمّا أرهقهم الظّمأ أثناء رحلتهم رأوا صدفة حمرا وحشيّة فكّروا أنّها بعد المرعى ستطلب المشرب فاهتدوا بها إلى نبع أخذوا منه حاجتهم، فألّهوا رأس دابّة* شبيهة من باب الاعتراف بالجميل. من ثمّ افتُرض في اعتقادي أنّا لقربنا من الدّين اليهوديّ نعبد نفس الصّورة؛ لكنّ كرنليوس تاكيتوس* وإن كان أكبر مهذار بين الكذّابين*، يفيد في نفس تاريخه المذكور، بأنّ غنَيوس بُمبيوس* لمّا فتح أورشليم وزار الهيكل للاطّلاع على أسرار الدّيانة اليهوديّة لم يجد هناك أيّ تمثال. وواضح أنّ المعبود، إن كان يمثّل بصورة ما، لا مكان أفضل لعرضه من معبده، سيما أنّه لم يكن يُخشى عليه، مع سخف عبادته، من شهود أجانب، إذ كان يُسمح بالدّخول إليه للأحبار فقط، بينما يمنع الآخرين ستار مسدل من رؤية ما بداخله. أمّا أنتم فلن تنكروا أنّكم تعبدون كلّ أنواع الدّوابّ وخيلا بأكملها مع إلهتها إيبونة*، فربّما عيب علينا اقتصارنا بين عبدة كلّ البهائم، مستأنَسها ووحشيّها، على الحمير. كذلك من يحسبنا عبدة الصّليب هو معنا في تلك العبادة سواء: لمّا تعظَّم قطعة من الخشب يُنظر إلى شكلها وإن كانت من نفس المادّة فالعبرة بالصّورة إذ هي تجسّد الرّبّ ذاته؛ وماذا يميّز حقّا عن خشبة صليب فينوس الأتّيكيّة* وكيريس* الفاروسيّة* المعروضتين بدون صورة وتدا خشنا وخشبة لامشكّلة. كلّ قطعة خشب مثبّتة في الوضع القائم بمثابة صليب؛ نحن، إن صحّ أنّا نعبد صورة، نعبد إلها كاملا غير مبتور. وقد قلنا إنّ أصل آلهتكم مشتقّ بالتّشكيل من الصّليب. د أنّكم تعبدون كذلك آلهات النّصر* في نُصُب الانتصارات والصّليب في جوف تلك النّصب. يُجلّ دين الرّومان كلّ الشّارات الحربيّة، ويقسم بالشّارات بل يقدّمها على كلّ الآلهة. كلّ المنصّات الّتي تقام عليها التّماثيل في تلك الشّارات زخارف للصّلبان؛ وأستار تلك البيارق والبنود أردية للصّلبان؛ أثني على كياستكم إذ لم ترضوا بتمجيد صلبان عارية جرداء من كلّ تزويق. في نمط من التّفكير أقرب لا شكّ إلى الإنسانيّة وأكثر احتمالا، يحسب آخرون إلهنا الشّمس؛ إن يعدّونا ربّما من قبيل الفرس، فإنّا لا نعبد شمسا مرسومة على قطعة من الكتّان، فهي ذاتها ماثلة أمامنا في قبّتها. نشأ هذا الظّنّ على الأرجح من كوننا نولّي وجوهنا قِبل المشرق للصّلاة؛ لكنّ جلّكم أنتم أيضا يتوجّهون أحيانا، بدعوى عبادة آلهة السّماء، قِبل المشرق محرّكين شفاههم. كذلك، إن كنّا نخصّص يوم الشّمس* للبهجة فإنّما نفعل ذلك لسبب بعيد تماما عن عبادة الشّمس فنحن في واد وهم في واد، أولئك الّذين يخصّصون يوم ساترنوس* للقصف، خلافا لعادة اليهود الّتي يجهلونها. لكنّ خبرا عن إلهنا ذاع مؤخّرا في هذه المدينة، فحواه أنّ مجرما مأجورا للتّخلّص من البهائم# عرض رسما كتب عليه: "إله النّصارى من جنس حمار"*. كانت له أذنا حمار، وتحمل إحدى رجليه حافرا، ويمسك كتابا ويرتدي بردة؛ فضحكنا من التّسمية والصّورة. لكن كان يحرو أن يعبد هذا الإلهَ المزدوجَ أولئك الّذين قبلوا بأرباب دُمج في رأسها الكلب بالأسد، وفي قرونها التّيس بالكبش، تيوس بالجذوع وثعابين بالأرجل، مجنّحة الأقدام والظّهور. ناقشنا آنفا هذه الأمور بإسهاب كيلا ندع شائعة عنّا تمرّ بعلمنا دون الرّدّ عليها؛ وها نحن نتّجه حاضرا إلى عرض ديننا الحقّ فنبرّئ أنفسنا تماما من كلّ الفرى.

17- حقيقة إله النّصارى

   ربّنا إله واحد نحن له عابدون، هو من أنشأ بكلمته ودبّر بعنايته وقدّر بقدرته هذا الكون الرّحب بكلّ ما يحوي من عناصر وكائنات جسمانيّة وروحانيّة، وأبدعه من العدم ليكون حلية لجلاله، لذا أطلق اليونان على العالم اسم "كوسموس"*. لا تدركه الأبصار وإن تبدّى لها، ولا تبلغه الأفهام وإن تجلّى لها من خلال نعمته، ولا تطاله العقول وإن بان جلاله لألباب البشر: فهو الحقّ سبحانه؛ وإنّ ما يمكن أن يُرى ويُلمس ويُعقل هو دون الأعين الّتي تلتقطه والأيدي الّتي تلمسه والأذهان الّتي تتمثّله؛ أمّا ما هو لامتناه فلا يُدرَك إلاّ بذاته. ما يجعل الله قابلا للإدراك هو أنّه ممتنع عن الإدراك؛ هكذا تجلّيه قدرته العظيمة للبشر فهو لهم معلوم ومجهول معا؛ وهذا أسوأ جرم لأولئك الّذين يرفضون الإقرار بما لا يستطيعون جهله. أفتريدون أن نبيّنه لكم وهو جليّ في كلّ أعماله وآلائه الّتي تتعهّدنا وتحفظ بقاءنا وتسلّينا وحتّى تلك الّتي تملؤنا رهبة بل وبشهادة النّفس الّتي فينا؟ فمع احتجازها في سجن البدن وحصرها بتقاليد فاسدة، وإنهاكها باللّذّات والشّهوات، وإخضاعها لسلطان آلهة زائفة، لمّا تستفيق أخيرا من غشيتها كمن سكر أو نوم أو سقم ما وتستعيد بشيء من العسر صحّتها*، تسمّي الله باسمه المجرّد وحده، لأنّه اسمه الأوحد الحقّ الّذي يناسبه. "الله  العظيم"، "الله الودود"، "الله الكريم": بهذا يلهج كلّ لسان ويستشهده ويفوّض له أمره: "الله يرى"، "على الله متّكلي"، "على الله عوضي"؛ فأيّة شهادة من النّفس المجبولة على فطرة التّوحيد*! لا تولّي وهي تقول هذا نحو الكابتول* بل نحو السّماء؛ إذ يعلم أنّ فيها عرش الله الحيّ، ومنه هو، من هناك نزلت*.

18- مدح الكتاب المقدّس

    لكن لندرك بمزيد من الجلاء والرّسوخ ذاتَه ومشيئته وأحكامه، أعطانا إضافة إلى ذلك رسالاته ليمكن لمن شاء أن يبحث عنه، وإن بحث عنه أن يجده، وإن وجده أن يؤمن به، وإن آمن به أن يخدمه*. فمنذ بداية الخليقة بعث في العالمين رسلا أهّلتهم أمانتهم واستقامتهم لمعرفة الله وبيانه للنّاس، وأفاض عليهم روحه ليدْعوا إلى إله واحد، هو من أنشأ الأكوان وصنع الإنسان من صلصال، فهو برومثيوس* الحقيقيّ، ونظّم العالم مقدّرا لكلّ شيء مبتداه ومنتهاه. وأرسل كذلك آيات على جلاله الأمطارَ والنّيرانَ، وحدّد السبل لاستحقاق رضوانه، وعيّن جزاء من يجهلها ومن يخالفها ومن يستمسك بها، حتّى يحكم في نهاية الدّهر فيكافئ عباده البررة بالنّعيم الأبديّ، ويعاقب الكفرة بنار أبديّة كذلك لا يخبو لها أوار، يوم يبعث كلّ الموتى ويعيدهم نشأة أخرى ويحشرهم وازنا أعمالهم ليعيّن لكلّ أيّ الجزاءين استحقّ. نحن أيضا ضحكنا من كلّ ذلك فيما مضى؛ فنحن منكم: النّاس لا يولدون، بل يصيرون، نصارى. أولئك الّذين سمّيناهم دعاةً أنبياءٌ كُلّفوا بتبليغ الرّسالة. أقوالهم وخصالهم الّتي كانوا يدعون بها إلى الإيمان بالله محفوظة في كنوز الكتب، لكنّها كنوز غير مخفاة. لذا فإنّ بطليموس المكنيّ بفيلادلفوس*، ذلك الملك الواسع الاطّلاع على كلّ مجالات الأدب، ربّما لمنافسة بيسستراتوس* في جمع الكتب، ومن جملة الآثار الّتي استمدّت من قِدمها أو طرافتها شهرةً، وبتوجيه من ديمتروس الفاليريّ* أوثق علماء عصره الّذي كان قد استشاره، طلب من عند اليهود كتبا خاصّة بملّتهم موجودة لديهم وحدهم. فمنهم دوما بُعث الأنبياء وإليهم وجّهوا دعوتهم، باعتبارهم الشّعب اّلذي اجتباه الله بخدمته، بلا شكّ للنّعمة الّتي خصّ بها آباءه*؛ كان من ندعوهم اليوم يهودا يسمّون في الماضي عبرانيّين فكانت كتبهم وكلامهم بالعبريّة. ولئلاّ يتعذّر عليه فهمها قُدّم له اثنان وسبعون ترجمانا استنسخوا له كتب اليهود، أثنى الفيلسوف منيدموس* الضّامن لحسن التّدبّر في هذا الباب على اتّفاقهم في الرّأي؛ يؤكّد لكم ذلك أيضا أرسطايوس*. هكذا نقلت أقلامهم إلى اليونانيّة هذه الرّوائع بعد فتح مستغلقها؛ واليوم توجد مجموعة كتب بطليموس* معروضة مع الصّحف العبريّة الأصليّة في سرابيوم*. بل حتّى اليهود أنفسهم يقرؤونها هناك علنا: تلك حرّية يتمتّعون بها مقابل الجزية*، يذهب كافّتهم هناك كلّ سبت؛ من يستمعْ إليها يجدِ الله، ومن يجتهدْ لفهمها تحْدُه حتما إلى الإيمان.

19- قدم أسفار العهد العتيق

   تستمدّ هذه الكتابات إذن من قدمها السّحيق مصداقيّتها؛ عندكم أنتم أيضا شبه ما في ديننا: إرساء المعتقد على النّقل عبر الأزمان. ] فالإيغال في القدم يكفل مرجعيّة تلك الكتابات؛ أوّل نبيّ موسى الّذي استهلّ بذكر أخبار الماضي: تكوين العالم وانتشار الجنس البشريّ والطّوفان الّذي ما لبث أن حلّ به عقابا لظلم أهل تلك القرون، أبان بنبوّته ومعجزاته ما حدث حتّى عصره وأحوال ما سيأتي، فعنده عرض لتسلسل الأحقاب منذ البدء وإحصاء لتاريخ البشريّة؛ ومعلوم أنّه سبق بحوالي ثلاثمائة سنة أقدم رجل عندكم، وهو دانَووس* الّذي حلّ بأرغوس*. ويتقدّم على حرب طروادة بألف سنة، وهو من ثمّ سابق حتّى على ساترنوس* نفسه؛ فحسب تاريخ ثالّوس* حيث يروي لنا حرب الأشوريّين* وصراع ساترنوس* ملك التّيتان* مع يوبتر*، يستفاد أنّ الحرب سبقت بثلاثمائة واثنتين وعشرين سنة دمار طروادة؛ بواسطة موسى أيضا أرسل الله الشّريعة الخاصّة باليهود. ومن بعده بعث رسلا تترى هم أقدم عهدا من كتاباتكم. وآخرهم سبق بقليل أو عاصر على أقلّ تقدير كتّاب حكمتكم ومشرّعيكم الأوائل. فقد عاش زكريّا* في عهد قورش* وداريوس* وفي زمانه لم يجد طاليس* أمير علماء الطّبيعيّات قولا ثابتا يجيب به كرويسوس* حين سأله في الرّبوبيّة، وقد حيّرته بالتّحقيق أقوال الأنبياء. وقد تكهّن صولون* لهذا الملك بالذّات أنّ عليه ارتقاب نهاية حياته الطّويلة، تماما كما يفعل الأنبياء. ومن هنا يمكن أن نرى أنّ تشريعاتكم وعلومكم استقت من الشّريعة والتّعاليم الإلهيّة*؛ لا بدّ أن يكون السّابق هو البذرة؛ لذا لديكم بعض الأمور المطابقة لما لدينا أو القريبة منه. اقتبستم من حكمتنا فسمّيتم حبّها فلسفة*، ومن النّبوّة فدعوتم التّظاهر بها كهانة شعريّة. هكذا كلّما وجد رجالكم العظماء شيئا، لينقلوه عمدوا إلى تشويهه؛ كذلك يحدث أن تفسد الثّمار بعد خروجها من بذرتها. سأتوقّف عند قدم النّصوص الإلهيّة من أوجه عدّة لو لم تكف للحمل على الإيمان بها سلطتها المستمدّة من قوّة حقيقتها أكثر ممّا هي من مستمدّة من عتاقتها؛ وهل من تأييد لشهادتها أقوى من تحقّقها اليوميّ في العالم أجمع، إذ يتجاوب تتابع الدّول، وخراب المدن، ودمار الأمم، وتتابع الأحقاب مع ما أنبأت به منذ آلاف السّنين. فهي تنعش أملنا الّذي يثير سخريتكم، وتقوّي إيماننا الّذي تدعونه وهما؛ وإنّ صدق السّابق ليبرّر الإيمان باللاّحق؛ فقد تنبّأت نفس الأصوات بكليهما، وأشارت إلى كليهما نفس الكتب. لأنّ ما يبدو لنا منفصلا بين ماض وآت زمان واحد في عرفها؛ وهكذا فما بقي قد ثبت لدينا لأنّها تنبّأت به مع أمور تحقّقت فعلا وكانت آنذاك غيبا. لديكم أنتم أيضا السّيبلّة* وإن كانت تسمية الوحي الحقّ من الله الحقّ اغتُصبت لتعطى لكلّ منتحلي النّبوّة؛ فعرّافاتكم انتحلن الصّفة من الحقيقة زورا تماما مثل آلهتكم.*[ هكذا إذن، كلّ القرائن والموادّ، والأصول والتّصانيف والمصادر الّتي اختطّتها أقدم الأقلام عندكم، بل والأمم العديدة والمدن الشّهيرة بتاريخها الحافل، والجليلة بتراثها المتناقل، بل وكذلك ما في جوف أقدم مخطوطاتكم الشّاهدة على أخبار الماضي، بل أقول وبدون مبالغة، حتّى آلهتكم ومعابدكم وعرّافوكم ومقدّساتكم، كلّ ذلك يتفوّق عليه في القدم مصحف نبيّ واحد يوجد محفوظا فيه كنز الدّيانة اليهوديّة بأكملها، وبالتّالي ديانتنا نحن. إن سبق أن سمعت بموسى المشار إليه فإنّه معاصر إيناخوس* الأرغوسيّ*، وسبق بحوالي أربعمائة سنة < إلاّ سبعا> دانووس* وهو لديكم أقدم الأوّلين، وسبق بحوالي ألف عام هزيمة بريام*، بل أستطيع القول بأنّه يتقدّم بخمسمائة سنة إضافيّة هوميروس*، ولديّ من أتبع في ذلك. كذلك الأنبياء الآخرون، وإن تأخّروا على موسى، فأقربهم عهدا منّا لا يدركه الأوائل من بين علمائكم ومشرّعيكم ومؤرّخيكم. ليس عرض هذه الحقائق الممكن إثباتها بالتّسلسلات التّاريخيّة المقارنة أمرا صعبا بقدر ما هو ضخم، وليس شائكا بقدر ما هو طويل بالمقابل. إذ يقتضي إثباته فحص وثائق متعدّدة والدّخول في متاهات حسابيّة، ولا بدّ من كشف المستندات الّتي خلّفتها أقدم الأمم، المصريّين والكلدانيّين والفينيقيّين. ولا بدّ من الاستشهاد بمن أمدّنا بأخبارهم من مواطنيهم، كمانثون المصريّ* وبيروصوس الكلدانيّ* وكذلك حيرام الفينيقيّ* ملك صور وكذلك تابعيهم مندسيوس البطليموسيّ* ومينندر الأفسسيّ* وديمتروس الفاليريّ* والملك يوبا* وأبيون* وثالّوس*، ويوسفوس اليهوديّ* العمدة في أخبار قدامى اليهود لانتمائه إلى ملّتهم والّذي يؤيّدهم أو يخالفهم. لا بدّ كذلك من جمع مدوّنات اليونان والتّأريخ للأحداث لكشف تسلسل الوقائع الّذي به تتّضح تواريخ الحوليّات؛ لا بدّ والحال تلك من التّنقّل عبر كتب التّاريخ والأدب لكلّ الأمم؛ والحقّ أنّا قدّمنا لكم جزءا من الإثبات لمّا عرضنا ما يمكن بناء عليه إثبات تلك القضايا. لكن من الأفضل إرجاء ذلك النّقاش مخافة التّقصير في الإثبات إن تعجّلنا أو طول الاستطراد إن أسهبنا.

20- ذكر الكتاب المقدّس لأخبار الماضي والحاضر والآتي  

   والآن نقدّم مقابل ذلك الإرجاء شيئا إضافيّا جلال كتبنا إن لم نثبت مصدرها الرّبّانيّ من عتاقتها وإن كان قدمها محلّ شكّ لديكم. ولا حاجة إلى البحث طويلا أو في مكان آخر؛ فما تعلّمه ماثل أمامنا، < هذا الكون وما على الإنسان أن يعلم>؛ ما تعلّمنا ماثل للعيان: العالم والأحداث ومجريات الأحوال. كلّ ما يحدث أخبرت به مسبقا؛ كلّ ما يرى عُلم من قبل بالسّماع: ابتلاع الأراضي للمدن، وازدراد البحار للجزر، وتمزيق الحروب والفتن للأمم، وصراع الدّول مع الدّول، ودمار البلدان بالمجاعات والأوبئة وشتّى أنواع الكوارث وتزايد الوفيّات، وتغيّر الأحوال فيسفل أعلاها ويعلو الأسافل، وتناقص العدل وتزايد الجور، وفتور الاهتمام بالتّقاليد الحميدة، وتحوّل الفصول والعناصر عن أداء مهامّها، واضطراب نظام الطّبيعة بعجائب وخوارق، كلّ تلك البلايا مدوّنة مقدّما؛ بينما نعاني من ويلاتها يمكننا أن نقرأها وبينما نطّلع عليها تتحقّق بالتّجربة أمام أعيننا؛ وصدق النّبوّة هو في اعتقادي الشّهادة المثلى على مصدرها الإلهيّ. لذا عندنا كذلك إيمان راسخ بالأحداث الآتية كأمور أُثبتت بلا مجال للشّكّ، فقد تمّ التّنبّؤ بها مع الّتي نعيشها يوميّا؛ ذكرتها نفس النّبوءات وسجّلتها نفس الكتب، وألهمها نفس الرّوح: الزّمن واحد بالنّسبة للنّبوّة إذ تستشرف المستقبل. أمّا عند النّاس فيميَّز في مجرى الزّمان بين آت وحاضر، ويفرَّق من ثمّة بين حاضر وماض. ففيم نخطئ أسألكم، في الإيمان كذلك بالآتي وقد تعلّمنا الإيمان بالطّورين الآخرين؟

21- توضيح فكرة ألوهيّة المسيح

   لكن بما أنّا أشرنا إلى أنّ ملّتنا تدعمها أقدم نصوص اليهود وإن كانت حديثة نوعا ما إذ تعود إلى زمان تيبريوس*، كما يعلم الكثيرون ونقرّ نحن أيضا، فربّما يودّ البعض الخوض بهذا الصّدد في وضعيّتها زاعما أنّها تتستّر تحت مظلّة هذا الدّين العظيم والمرخّص بلا شكّ، لتخفي شيئا ممّا يُشتبه بها بنحو مشروع. سيما ونحن فضلا عن العمر لا نتّفق مع اليهود في تحريم الطّعام، ولا اختيار الأيّام المقدّسة، ولا السّمات المميّزة على الجسم ولا اسم مشترك كما يفترض بالتّحقيق إن كنّا نعبد نفس الإله. لكن بات اليوم معلوما حتّى للعامّة أنّ المسيح شخص حكم اليهود بصلبه فيبدو بسهولة لبعض أنّا نعبد بشرا؛ لكنّا لا نخجل بالمسيح بل يسرّنا أن نُعدّ من أتباعه ونُفتن باسمه ولا يخالف إيماننا بالله إيمانهم؛ لذا أرى عليّ أن أتحدّث بإيجاز عن ألوهة المسيح. في زمان بعيد كانت لليهود حظوة عند الله، أيّام استقامة وتقوى آبائهم الأوّلين: لذا ازدهروا كشعب كبير وأوتوا ملكا عظيما ونعمة واسعة، حتّى أنّ الله كلّمهم وربّاهم بوحيه وأمرهم بالعمل على نيل مرضاته وحذّرهم من ارتكاب ما يغضبه. لكنّ الزّهو بكرامة آبائهم دفعهم إلى الغيّ وحادوا عن سواء السّبيل إلى مسلك الكفر؛ حتّى إن لم يقرّوا هم أنفسهم بذلك فدمارهم الحاضر يثبته؛ فهم اليوم شتات مفرّقون يضربون في الأرض تائهين منفيّين عن أرضهم وسمائهم بدون ملك إنسانيّ أو ربّانيّ، ولا يُسمح لهم حتّى بوطء أرض آبائهم لزيارةٍ كما يحقّ لأجانب. لمّا كان أولئك النّذر يعظونهم، كانوا يردّدون عليهم باستمرار نفس النّبوءة: أنّ الله مجتبٍ في آخر الدّهر من كلّ أمّة وكلّ شعب وكلّ بلاد عبادا أتقى وأوفى بعهده، فمحوّل إليهم نعمة أوفى لاستعدادهم لدين أكمل. لذا أتى من بشّر الله من قبل بمقدمه لإصلاح ديانتهم وإنارتها، المسيح ابن الله؛ أُعلن عن مانح ومعلّم هذه النّعمة والدّيانة، نبراس وقائد الجنس البشريّ، ابن الله: لم يولد ليخجل من اسم الابن أو من بذرة أب. ما كان عليه أن يحمل خزي أب إلهيّ أنجبه زناً بأخته أو ابنته أو بمحصنة غريبة عنه، يحمل حراشف أو قرونا أو ريشا، أو عاشق يتحوّل إلى شذرات من التّبر كعاشق دناية*: تلك صفات بشريّة تنسبونها ليوبتر*. أمّا ابن الله، فليست له أمّ مسّها لتلده أيّ رجس؛ حتّى أمّه الظّاهريّة لم يمسسها بشر قبل حملها؛ لكن سأشرح أوّلا طبيعته، وبذلك يُفهم سرّ ميلاده. فسّرنا سابقا أنّ الله ذرأ هذا الكون كلّه بكلمته وحكمته وقدرته؛ عند حكمائكم أيضا هناك اتّفاق على اعتبار اللّوغوس*، أي الكلمة والعقل مجتمعين، منشئ الكون؛ فزينون* يرى فيه الصّانع الّذي خلق كلّ الكائنات بتدبير واتّساق؛ يسمّونه القدر والإله وروح يوبتر* والضّرورة الّتي في أصل كلّ الأشياء؛ يجمع كليانتس* كلّ هذه الصّفات في الرّوح الّذي يؤكّد أنّه يتخلّل الكون. ونحن بدورنا نحدّد للكلمة والعقل والقدرة الّتي فسّرنا أنّ الله خلق بها كلّ الكائنات جوهرا مناسبا روحيّا فيه تتضمّن الكلمة بالقول، ويمثل العقل بالتّدبير، وتحكم القدرة بالفعل*؛ ونقول إنّه صدر ككلمة عن الله وينشأ منه بهذا الكلام، فهو ابن الله، ونقول إنّه الله انطلاقا من الوحدة الجوهريّة بينهما، لأنّ الله أيضا روح. لمّا ينبعث الشّعاع من الشّمس، إن هو إلاّ جزء من الكيان الأصل؛ لكنّ الشّمس ماثلة في الشّعاع، لأنّ الشّعاع من الشّمس ولا يفرّقه عنها الجوهر بل هو امتداد لها، < كذلك فيض الرّوح عن الرّوح، والله من الله>، كتلألؤ النّور من النّور؛ الأصل المادّيّ يظلّ هو هو غير منقوص وإن اشتققت منه بالتّشكيل كثرة من العيّنات لخاصّيّته الهيولانيّة. ما انبثق من الله هو الله أيضا وابن الله: فهما واحد؛ هكذا صدر الرّوح من الرّوح والله من الله، هو آخر في الوضع لا في الطّبيعة، فهو لم ينفصل عن أصله بل فاض عنه*. ذاك الشّعاع من الله، كما بُشّر به في الماضي باستمرار*، نزل على عذراء فتشكّل في رحمها جسدا، وولد بشرا ممزوجا بعنصر الألوهة. ذاك الجسد الّذي تشكّل فيه الرّوح اغتذى وشبّ وتكلّم ونشر تعاليمه وأدّى العبادات وكان المسيح؛ تلقّوا هذه القصّة، فهي شبيهة بقصص عندكم*، وسنبيّن لكم كيفيّة إثبات حقيقة المسيح وأنّ من قدّموا عندكم قصصا منافسة صيغت على نفس المنوال أرادوا تدمير الحقيقة. كان اليهود هم أيضا يعلمون بمجيء المسيح هم الّذين تحدّث إليهم الأنبياء، بل ما زالوا حتّى اليوم ينتظرون مجيئه؛ وليس بيننا وبينهم خلاف أكبر من عدم تصديقهم بأنّه قد جاء؛ فقد أُعلن عن جيئتين له، أولاهما، وهي الّتي مرّت، في ضعة الوضع الإنسانيّ، والثّانية وهي وشيكة وتؤذن بقيام السّاعة في رفعة القدرة المتلقّاة من الآب وجلال الألوهيّة المتجلّية؛ ولأنّهم لم يدركوا الأولى، يظنّون الثّانية الّتي يرتجونها باعتبارها نصّت عليها النّبوّات بصفة أجلى وهي محطّ أملهم، هي الوحيدة. كان عقاب خطيئتهم العادل ألاّ يفقهوا السّابقة، ولو فقهوها لصدّقوا ولو صدّقوا لتبعوا الخلاص؛ وهم أنفسهم يقرؤون عندهم في الكتاب أنّهم سُلبوا العلم والفهم والبصر والسّمع. ولنظرهم إليه كمجرّد إنسان بناء على ضعة الجانب البشريّ فيه، اعتبروه ساحرا لمّا رأوا قدرته، فبكلمة يخرج الشّياطين ممّن بهم مسّ، ويعيد للكمه أبصارهم، ويبرئ البرص ويفكّ عقلة الكسيحين، بل وبكلمته يحيي الموتى، ويسخّر لخدمته العناصر، فيهدّئ الزّوابع ويمشي على الماء، مبيّنا بذلك أنّه الابن الّذي بشّر الله به قبل والّذي وُلد لخلاص الجميع، أي كلمة الله الّذي كان في البدء، الّذي هو أوّل الكائنات، والمقترن بالقدرة والعقل والمؤيَّد بالرّوح. لكنّ أكابر اليهود وأحبارهم غيظوا من تعاليمه الّتي دحضت مزاعمهم، سيما أنّ خلقا كثيرا توجّهوا إليه، حتّى أتوا به في النّهاية أمام بيلاطس البنطيّ*، والي سورية يومئذ من قبل الرّومان، وطالبوا بشدّة حتّى حصلوا منه على تسليمهم إيّاه لصلبه؛ وقد تنبّأ هو نفسه بما فعلوا؛ وما كان ذلك ليعني الكثير لولا أنّ أنبياء الماضي كانوا قد أعلنوا عنه. وحتّى وهو معلّق على الصّليب، أظهر عدّة آيات خاصّة بموته؛ فبتلقاء نفسه سلّم مع كلماته روحه، مستبقا عمل الجلاّد؛ في نفس اللّحظة احتجب ضياء النّهار والشّمسُ تتوسّط مدارها، فظنّ من لم يكن لهم علم بأنّ ذاك أيضا ممّا ذكرته النّبوءات عن المسيح أنّه كسوف؛ ولعدم فهم سببه أنكروه، وهو مع ذلك موثّق لديكم في سجلاّتكم*. بعدما أنزِل ودُفن، طوّق اليهود قبره بقوّة عسكريّة ضاربين حوله حراسة مشدّدة، مخافة أن ينقل حواريّوه جثمانه خلسة ويخدعوا الرّقباء، إذ كان قد أعلن قيامه من الموت في اليوم الثّالث. لكن في اليوم الثّالث انخسفت الأرض فجأة وانزاح الحجر الّذي كان يغلق ضريحه، فتفرّق الحرس مذعورين. ودون أن يظهر أيّ من حواريّيه، لم يجدوا في القبر شيئا سوى الأكفان. مع ذلك أشاع أكابر اليهود، الّذين كان همّهم ترويج دعوى عمل إجراميّ وصدّ الشّعب الخاضع لسلطتهم واستغلالهم عن الإيمان، أنّ تلاميذه رفعوا جثمانه؛ ذلك أنّه لم يظهر لعامّة النّاس، فما كانت الغاية أن يخلّص الكفرة من الضّلال، بل أن يوثّق بالمشقّة الإيمان المعدّ لثواب عظيم. لكنّه قضى أربعين يوما مع بعض حواريّيه في الجليل، وهي منطقة من يهوذا، يعلّمهم ما عليهم أن يعلّموا غيرهم؛ ثمّ بعد سيامتهم لنشر تعاليمه في الأرض*، رُفع إلى السّماء في ظلّة من الغمام، وهي حقيقة أثبت ممّا اعتاد روايته أمثال بروكولوس* عندكم عن رومولوس*. رفع كلّ هذه الأخبار عن المسيح بيلاطس*، الّذي صار هو نفسه نصرانيّا في سريرته، إلى تيبريوس* القيصر آنذاك؛ لكنّ القياصرة كانوا حتما سيصدّقون بالمسيح لو لم يكن القياصرة ضروريّين لهذا العالم وفتنه، أو لو أمكن أن يكون القياصرة نصارى أيضا. امتثل الحواريّون لأمر معلّمهم الرّبّانيّ منتشرين في الأرض، فذاقوا كثيرا من اضطهاد اليهود ثمّ وحشيّة نيرون* في رومية حيث بذروا الدّم النّصرانيّ بطيب خاطر لإيمانهم بالحقّّ. بيد أنّا سنبيّن لكم أنّ الّذين تعبدون أنفسهم أوفق شهود على المسيح، فإنّه لأوفى بالمقصود أن أستشهد لحملكم على تصديق النّصارى من بسببهم تحديدا لا تصدّقون النّصارى. هذه في انتظار ذلك خطّة عرضنا: نقدّم هذا التّصريح عن ملّتنا وتسميتها مع مؤسّسها؛ فلا يطلقْ أحد حولنا الشّائعات المغرضة، ولا يظنّ بنا أحد غير ما نقول، إذ لا يُعقل أن ينشر أحد أكاذيب عن دينه؛ فبزعمه عبادة إله غير الّذي يعبد ينكر الّذي يعبد ويحوّل إلى آخر تعظيمه وبتحويله عبادته يكفّ عن عبادة الّذي أنكر. نقول علانية، ونصرخ مدمَين ممزّقين تحت تعذيبكم: اللهَ نعبد بالمسيح؛ فلتعدّوه بشرا هو من به شاء الله أن يُعرف ويُعبد. أقول ردّا على اليهود، إنّهم هم أنفسهم تعلّموا عبادة الرّبّ بموسى، وعلى اليونان إنّ أرفيوس* في بيرية* وموساوس* في أثينة وميلمبوس* في أرغوس* وتروفُنيوس* في بيوتية* ربطوا النّاس بهم بطقوس مسارّة، وألاحظ كذلك لديكم أنتم المهيمنين على الأمم أنّ بمبليوس نوما* الّذي أثقل بمعتقدات فاسدة وطقوس شاقّة كاهل الرّومان كان إنسانا. قد يُفترض أنّ المسيح هو الآخر اختلق ألوهة، لا لترهيب أناس جفاة متوحّشين بكثرة من الآلهة يلزمهم التّزلّف إليها قصد تلطيف طباعهم شأن نوما*، بل لفتح عيون أناس متحضّرين وتحت تضليل مدنيّتهم بالذّات، للتّعرّف على الحقيقة*. ابحثوا إذن إن كانت ألوهيّة المسيح تلك صحيحة؛ إن كانت معرفتها < تصلح الإنسان وتدفعه إلى الخير>*، فلا بدّ إذّاك من التّخلّي عن الدّيانة الغالطة، سيما بعدما تبيّن كامل نسقها الّذي يتخفّى خلف أسماء وصور بشر، يعمل على زرع الإيمان بألوهيّتهم بتماثيل وأساطير خارقة وعرافات.