ترتلّيانوس

 

دفاع عن التّوحيد

 

3- الفصول 22-37

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

 

4

3

2

1

مقدّمة

 

22- الشّياطين أصل بلاء النّصارى

   نحن نقول فعلا بوجود جواهر روحيّة؛ وما اسمها بالجديد فالفلاسفة يعرفون الشّياطين وكان سقراط* نفسه ينتظر مشيئة  شيطانه*؛ كيف لا وشيطانه فيما يقال لازمه منذ الطّفولة ليصدّه عن الخير تماما؟ كلّ الشّعراء يعرفونها، وحتّى العامّة الجهلة كثيرا ما يلجؤون إليها في العزائم. بل إنّهم يستحضرون إبليس، أمير هذه الفئة المَريدة، عندما ينفثون أذاهم وأسحارهم، كما لو كانوا يدعونه عن إحساس غريزيّ به ثابت في قرارة أنفسهم؛ كذلك لم ينف أفلاطون* الملائكة؛ فضلا عن ذلك يشهد السّحرة على وجود كلتا الطّائفتين. لكن كيف انبثقت من الملائكة زمرة الشّياطين الغويّة، ضالّة بمحض إرادتها، ملعونة من الله مع زعماء جنسها ومع أميرها الّذي ذكرنا، ذاك ما نجد تفسيره في الكتب المقدّسة. سنكتفي الآن بعرض عملها؛ ألا وإنّ عملها هو تدمير الإنسان، فمنذ البداية شرعت أراوح الشّرّ في السّعي إلى هلاك الإنسان؛ هكذا تسلّط على أجسام البشر الأسقام والآفات المضنية، وعلى أرواحهم بلايا مفاجئة ومهلكة بقوّة عجيبة؛ ويساعدها على الوصول إلى كلا عنصري طبيعة الإنسان دقّة ولطافة جوهرها العجيبة. لتلك القوى الرّوحيّة قدرات فائقة، فمن حيث هي قوى لامرئيّة ولامحسوسة تظهر في مفعولها لا في فعلها، كما تفسد الرّيح الخبيثة الثّمار والزّروع وهي بعد في زهرتها، أو تخترمها وهي في بذرتها، أو تخدشها وقد أينعت، أو ينشر هواء سَموم لسبب خفيّ أنفاسه الموبوءة. بنفس النّزعة الخفيّة لنشر الأذى، تنفث الشّياطين والأملاك كذلك أوبئة في النّفس باثّة فيها دمارها بالأهواء المسعورة والانحرافات الذّميمة والشّهوات المتفلّتة والضّلالات المتنوّعة، وأقواها ذاك الّذي يزيّن تلك الأوثان لأذهان النّاس الخاضعة لسيطرته وتضليله فيتغذّى بالأطعمة المناسبة المقدّمة لتلك الأصنام من قتام ودم. وهل من غذاء أنسب لها من صدّ الإنسان عن التّفكّر في الله الحقّ وتوجيهه إلى الشّعوذات الزّائفة؟ سأعرض كيف تنجز أعمالها العجيبة. كلّ روح مجنّح؛ كذلك هي الأملاك والشّياطين؛ لذا توجد في لحظة في أيّ مكان؛ العالم كلّه مكان واحد عندها؛ وبنفس السّهولة تعرف ما يحدث في كلّ مكان وتنبئ به؛ فتؤخذ سرعتها خطأ على أنّها ألوهة، للجهل بجوهرها؛ وهي ترغب من حين لآخر في الظّهور كفاعلة لما تنبئ به؛ وهي أحيانا صانعة الشّرور فعلا أمّا الخيرات فليست قطّ من صنعها. بل إنّها تتخطّف تارة أحكام الله إذ يلقيها أنبياؤه وتختلسها طورا وهي تُتلى جهرة؛ وإذ تأخذ من هنا بهذا النّحو مقادير الله في العالم، تقلّد الألوهيّة وتنافسها. أمّا بأيّة براعة تصوغ في أقوال العرّافين كهاناتها المبهمة بأحداث المستقبل، فيعلمه أناس ككرويسوس* أو بيرّوس*؛ بهذا النّحو في الحقيقة أنبأت عرّافة دلفي* بطبخ سلحفاة مع لحم الضّأن* ففي نفس اللّحظة كان شيطانها قد انتقل إلى ليدية*. ولها من سكنى الجوّ وجوار الأفلاك وعشرة الغيوم قدرة على معرفة ما يوشك أن يقع في السّماء فتعد مثلا سائليها بالأمطار الّتي تستشعرها قبل نزولها. وقد ينال النّاسَ نفعُها مثلا في علاج الأمراض؛ ذاك أنّها تُحدث السّقم أوّلا، ثمّ تحضر أدوية غير معروفة أو ترياقات لتحدث معجزتها، ثمّ تكفّ أذاها عن العليل، فيُظنّ أنّها شفته. يم حديثي عن المهارات أو القدرات الأخرى لأرواح الضّلالة؟ استحضار الأشباح* وحمل الماء في غربال وجرّ السّفينة بزنّار وتجديد شباب اللّحى بلمسة، كلّ ذلك ليؤلّه النّاس الأوثان ويدَعوا البحث عن الله الحقّ.

23- وهي مع ذلك خاضعة لهم

   هذا وإن كان السّحرة يستحضرون الأشباح، ويبكّتون أرواح الموتى، ويُنطقون الأطفال بالعرافات*، ويصنعون الخوارق بشعوذاتهم الزّائفة، ويرسلون الرّؤى إلى الأنفس مستعينين بقدرة الأملاك والشّياطين، بل كثيرا ما أنطقوا بالكهانات الماعز والموائد، فما بالك بقوّة الشّرّ تلك لمّا تعمل بمحض إرادتها ولأغراضها الذّاتيّة مسخّرة كلّ طاقاتها بدل الاستجابة لأغراض الآخرين. لكن إن كانت الأملاك والشّياطين تصنع ما يصنع آلهتكم فأين إذن تفوّق الألوهيّة الّذي يفترض أنّه يجاوز بالتّأكيد كلّ قدرة؟ أوليس أشرف بمقام الألوهيّة افتراض أنّها هي الّتي حوّلت نفسها إلى آلهة، بصنع ما يبعث على الظّنّ بأنّها آلهة، من أنّ الآلهة تشبه الأملاك والشّياطين؟ اختلاف الأماكن هو الّذي يميّز في اعتقادي بين الطّائفتين، فتعتبرون في المعابد آلهة لا تعدّونها آلهة في مكان آخر، فيبدو ذاك الّذي يحلّق فوق المعابد متخبّطا في جنون غير الّذي يمرّ من سقوف البيوت المجاورة، وأنّ قوّة تعتسف في ذاك الّذي وُهصت خصيتاه غير المحتدمة في الّذي قطع بنفسه حنجرته؛ نتيجة ذاك الجنون واحدة، وسبب تلك الفورة المسعورة واحد.

   لكنّا حتّى الآن لم نقدّم سوى أقوال، وهو ذا الآن برهان قوامه الوقائع، من خلاله سنبيّن لكم أنّ الاسمين لمسمّى واحد. أحضروا هنا، أمام قضاتكم، أحدا مسّه طائف من الجنّ؛ بأمر أيّ مسيحيّ، سيتكلّم الرّوح الّذي يتملّكه معترفا بأنّه شيطان كما هو فعلا، لا ربّ كما يُدّعى زورا. أو فليؤتَ كذلك بواحد ممّن يزعمون حلول إله بهم، ممّن يتنشّقون إلههم إذ يتشمّمون روائح المذابح، من يعالَجون من هوسهم بالتّقيّؤ، وينطقون بكهاناتهم تحت تأثير الأدخنة. هذه نزلت عليها العذراء كيلستيس* واهبة الأمطار، وذاك استقرّ فيه أسكلابيوس* الهادي إلى كلّ دواء، مانح يوم آخر للمحتضرين سوكرديوس* وطناتيوس* وأسكلابديوتوس*. إن لم تقرّ للمسيحيّ، دون أن تجرؤ على الكذب، بأنّها شياطين، فاسفحوا على عين المكان دم ذلك المسيحيّ السّفيه. فهل من برهان أسطع من هذا العمل؟ وهل من دليل أصدق من هذا الإثبات؟ تلك هي الحقيقة مجرّدةً أمام الجميع، مؤيّدة بقوّتها الذّاتيّة، ولا مجال لأدنى ريبة؛ قد تقولون إنّ ما وقع سحر أو ما شابهه من الشّعوذات لو سمحت لكم بذلك أعينكم وآذانكم. لكن بم يمكنكم أن تواجهوا الحقيقة المتجلّية عارية؟ من جهة أخرى إن كان لآلهتكم وجود حقّا، فلم تدّعي كذبا أنّها شياطين؟ أتراها تفعل ذلك استجابة لنا؟ إذن فألوهيّتكم خاضعة للنّصارى، ولا يجوز أن يعدّ إلها من يمتثل لبشر، ولعدوّه بالأخصّ فذاك أخزى. وإن كانت من ناحية أخرى شياطين أو ملائكة، فلم تردّ بالتّصرّف كآلهة في مواطن أخرى؟  فكما أنّ الّتي تعدّونها آلهة لا تحبّ أن تدعى شياطين، لو كانت بحقّ آلهة، فيقينا لن تتخلّى بذاك النّحو عن جلالها، وكذلك ما كانت تلك الّتي تعلمونها رأسا شياطين لتجرؤ على التّصرّف في مواطن أخرى كآلهة لو كانت تلك حقّا آلهة انتحلت صفتها، إذ ستخاف لا شكّ استغلال هيبة كائنات أشرف حَريّة بأن تُخشى. ما بالألوهيّة إذن تلك الّتي تزعمون، إذ لو كانت كذلك حقّا لما انتحلت صفتها الشّياطين ولا أنكرتها آلهة في اعترافها؛ ما دام الطّرفان يتّفقان في الاعتراف بأنّها ليست آلهة، أقِرّوا إذن بأنّ الطّائفتين من جنس واحد أي شياطين. ابحثوا لكم إذن عن آلهة، فالّتي توهّمتموها آلهة بتّم تعلمون أنّها شياطين؛ بفضلنا لم تكشف لكم آلهتكم نفسها فقط أنّها لا هي ولا أيّة أخرى آلهة، بل ها أنتم تعلمون كذلك من هو الإله الحقّ، وهل هو ذلك الإله الأوحد الّذي نقرّ نحن النّصارى به والّذي يجب الإيمان به وعبادته كما تنصّ عقيدة النّصارى. سيقولون أيضا: من المسيح هذا وما قصّته؟ ماذا لو كان مجرّد إنسان عاديّ أو ساحرا، ماذا لو اختلس تلاميذه حقّا جثمانه من القبر بعد موته*، ماذا لو كان الآن في العالم السّفليّ لا في السّماء من حيث سيأتي فتزلزل الأرض وتميد وسط صريخ الجميع إلاّ النّصارى، بوصفه قدرة الله وروح الله وكلمة الله وحكمة الله وابن الله وذات الله. لتضحكْ معكم شياطينكم على ما تضحكون عليه؛ ولتنفِ عودة المسيح عند قيام السّاعة ليجزي كلّ الأنفس منذ الأزل بعد ردّ الجسد إليها؛ ولتدّع أمام محكمتكم إن شاءت أنّ ذاك الحساب آيل إلى مينوس* ورادمنتوس* حسب ما يرى أفلاطون باتّفاق مع الشّعراء. ولتنكر كذلك وصمة خزيها ولعنتها الأبديّة؛ لتنف أنّها أرواح نجسة، كما يمكن إدراكه من أغذيتها، دم الذّبائح وأدخنتها العكرة وحطب المحارق المخمّ، وألسنة عرّافيها الدّنسة، لتنكر أنّها مدانة بشرورها ليوم الدّينونة مع كلّ عبدتها وكلّ أعمالها. وكلّ ما لنا عليها من سلطان مستمدّ من تسمية المسيح وتذكيرها بما ينتظرها من عذاب الله بالمسيح الدّيّان؛ فلخشيتها المسيح في الله والله في المسيح، تستسلم صاغرة لعباد الله والمسيح. بلمسة ونفخة منّا تخرج بأمرنا مكرهة مكروبة من الأجساد، واجفة من تفكّر وتمثّل النّار الّتي هي واردتها يوم القيامة وخجلى بحضوركم. صدّقوها إذ تعترف بحقيقتها أمامكم أنتم الّذين تصدّقونها لمّا تكذبكم؛ لا أحد يكذب ليعيب نفسه بل ليمجّدها؛ من يقرّون بما يسيء إليهم أقرب إلى الصّدق ممّن ينفون ما ينسب إليهم طبقا لمصلحتهم. لطالما حدت شهادات آلهتكم تلك أناسا إلى التّنصّر؛ حتّى أنّا كثيرا ما اعتقدنا في الله بالمسيح من خلال تصديقنا لها؛ إنّها تؤجّج إيماننا في كتبنا، وتعزّز ثقتنا في رجائنا. على حدّ علمي تتزلّفون إليها أيضا بدم النّصارى؛ لذا ما كانت لترضى بخسارة خدّام يتعهّدونها بمثل تفانيكم، كيلا تطردوها إن تنصّرتم، لو أمكنها الكذب وهي تحت سيطرة نصرانيّ يريد إثبات الحقيقة لكم.

24- التّوحيد دين الفطرة، وأقرب إلى العقل من الشّرك

   اعترافها الكامل ذاك بأنّها ليست آلهة، وأنّ لا إله إلاّ الله الواحد الّذي نحن عباده كافٍ تماما لردّ تهمة انتهاكنا الدّين الرّومانيّ وبالأخصّ العموميّ؛ فبثبوت زيف ألوهيّتها ثبت زيف دينكم؛ وإن بان زيف دينكم لانتفاء آلهتكم، انتفت عنّا تهمة انتهاك الدّين. بالعكس سيرتدّ التّشنيع إليكم، أنتم الّذين بعبادتكم الباطل وصدوفكم عن الدّين الحقّ لله الحقّ، بل وفوق ذلك اضطهاده، تقترفون حقّا جرم الكفر الحقيقيّ. لو افترضنا الآن مجاراة لكم أنّها آلهة، ألا تسلّمون كما يرى عموم النّاس بوجود إله أعلى مقاما وأعظم قدرة، هو بمثابة ملك الكون كامل الجلال؛ بهذا النّحو ينصّب أغلب النّاس إلها أعلى، يريدون أن تكون السّلطة العليا والهيمنة لواحد وإن تقاسم أرباب متفرّقون مهامّ الألوهة، كما وصف أفلاطون* يوبتر* الأعظم في السّماء يحفّ به حشد الآلهة والشّياطين؛ لذا يجب إجلال وكلائه وولاته وأعوانه بالمثل. أيّ جرم مع ذلك يقترف من يخلص لقيصر عمله ويضع فيه كلّ أمله ولا يقرّ بالألوهيّة كما باسم الامبراطور لأيّ أمير، والحال أنّكم تحكمون بالإعدام على من يلفظ لقب قيصر أو يسمعه يقال لغير قيصر. ليعبد هذا الله، وذاك يوبتر*، وليرفع الآخر يديه إلى السّماء متوسّلا، وليمدّ الآخر باليدين نحو مذبح إلهة الذّمّة*، وليعُدّ هذا السّحب إذ يرفع رأسه متضرّعا، إن كان هذا رأيكم، وذاك تساقيف المعابد، ولينذر لربّه ذاك حياته والآخر تيسا. والآن احترسوا أن يصبّ في خانة الكفر إلغاؤكم حرّيّة المعتقد ومنعكم اختيار كلٍّ إلهَه، بحيث لا يحقّ لي أن أعبد من أشاء، بل يُفرض عليّ أن أعبد من لا أشاء؛ لا أحد، ولو كان إنسانا، يحبّ أن يُعبد كرها. حتّى المصريّون أحرار في عبادة الطّيور والبهائم وفق ديانتهم السّخيفة، ويحكمون بالإعدام على من يقتل أيّا منها.

   لكلّ بلاد ولكلّ مدينة إلهها؛ فلسورية عشتار* ولبلاد العرب ذو الشّرى* وللنّوريقيّين* بيلينوس* ولإفريقية كيلستيس* ولموريتانية* أماليكها. لقد أشرت، على ما أظنّ، إلى أقاليم رومانيّة ومع ذلك ليس لها آلهة الرّومان، بل آلهتها الخاصّة فهي لا تُعبد في روميّة أكثر من تلك الّتي يقرَّر تعظيمها في المدن الإيطاليّة الحرّة بمباركة سلطاتها البلديّة: فللكاسينيّين* دلونتيوس* وللنّارنيّين* ويسِديانوس* وللعسقُلونيّين* أنخارية* وللوُلسينيّين* نُرتية* وللأكُرِكُلانيّين* ولنتية* وللسُترينيّين* هُستية* وللفالسكيّين* إلهتهم الّتي لقّبوها بيونون* إكراما لأبيهم كورِس*. لكنّا وحدنا ممنوعون من اتّباع ديننا الخاصّ؛ فنحن نؤذي الرّومان ولا نعَدّ رومانا لأنّا لا نعبد إله الرّومان. حسنٌ أنّ إلهنا ربّ الجميع، وأنّا جميعا عبيده شئنا أم أبينا؛ لكن تحقّ في شرعكم عبادة أيّ إله سوى الله الحقّ، كما لو لم يكن إلهنا إله الجميع*.

25- نفي دور دين الرّومان في بناء امبراطوريّتهم

   يبدو لي أنّي أعطيت أدلّة كافية عن الألوهة الزّائفة والحقيقيّة، لمّا بيّنت كيف يستند استدلالي، لا إلى الجدل والمحاجّة فقط، بل إلى شهادات من تعدّونهم آلهة بالذّات، فلا حاجة إلى مزيد من النّقاش حول هذا الموضوع.

   لكن بما أنّه قد احتُجّ في هذا الباب بسلطة اسم الرّومان، لن أتجنّب الخوض في جدال يجرّني إليه زعم القائلين بأنّ الرّومان رقّاهم إلى مرتبتهم الرّفيعة كسادة الأرض كلّها تديّنهم الورع، وأنّها آلهة لا شكّ تلك الّتي يزدهر دون سواهم من يعبدونها دون سواهم. لا شكّ إذن أنّ الآلهة هي الّتي خصّت اسم الرّومان بذلك الشّرف مكافأة لهم؛ وسّع الامبراطوريّة الرّومانيّة إذن استركولوس* وموتونوس* ولارنتينة*؛ إذ لا إخال آلهة أجنبيّة أرادت أن تمنح بركتها وتأييدها لأغراب بدلا من شعبها وأعطت لغزاة نزحوا من وراء البحر وطنها الّذي فيه ولدت وترعرعت وذاع صيتها ودفنت. ربّما أحبّت قُبيلة* رومية كذكرى من شعب طروادة، أمّتها الّتي حمتها بهذا النّحو لا شكّ من أسلحة الآخيّين*، وتدبّرت لمجيء من سيثأرون لها ويُخضعون لسلطانهم بلاد اليونان قاهرة فريجية*. لذا قدّمت حتّى في عصرنا دليلا ساطعا على جلالها بعدما نُقلت إلى رومية، إثر وفاة مرقس أورليوس* في سرميوم* في اليوم السّادس عشر قبل غرّة نيسان* لمّا أقام كبير كهنتها في اليوم التّاسع قبل غرّة نيسان الشّعائر التّقليديّة من تقديم الدّم النّجس والخصي والخضد، طلبا للشّفاء للامبراطور الّذي كان قد قضى نحبه. فيا للمراسيل البطيئين والمخبرين الخاملين الّذين بذنبهم لم تعلم قُبيلة* بموت الامبراطور قبل حتّى لا يسخر النّصارى من إلهة مثلها. وما كان يوبتر* ليسمح بأن يطأ الرّومان كريت* مرتع طفولته، ناسيا كهف جبل إيدة* حيث ترعرع وصنوج كهنة أمّه النّحاسيّة، وشذا مرضعته*! أليس مقامه الأعلى بين كلّ الآلهة في مجمع الكابيتول*، ويفترَض من ثمّة أن تهيمن على العلم أجمع الأرض الّتي تضمّ رفاته؟ أوكانت يونون* ترضى بأن يدمّر ذرّيّة إينياس* الحاضرة البونيقيّة* الّتي أحبّتها بعد ساموس* أكثر من كلّ المدن؟ فعلى حدّ علمي "هنا كانت أسلحتها وهنا كانت مركبتها، وتلك المملكة باركتها الرّبّة وأرادت أن يمتدّ سلطانها على كلّ الأمم إن شاءت الأقدار". فيا لهوان زوجة يوبتر* العظيم وأخته كيف عجزت أمام مشيئة الأقدار! ولا غرو "فيوبتر نفسه خاضع للقدر"*. مع ذلك لم يجلّ الرّومان الأقدار الّتي منحتهم قرطاج رغم رغبة وقرار يونون* إجلالهم تلك البغيّ الذّئبة لارنتينة*. من الثّابت أنّ عديدا من آلهتكم كانوا ملوكا، وإن كان بمقدورهم بالتّالي أن يؤتوا المُلك من يشاؤون فممّن استمدّوا هم أنفسهم ملكهم يوم كانوا يحكمون بين النّاس؟ من كان ساترنوس* أو يوبتر* يعبدان؟ إلها من قبيل استركولوس* على الأرجح؛ لكن هاهم الرّومان من بعد سجّلوهما ضمن قائمة الآلهة الرّسميّة*. كذلك إن كان بعض أولئك الآلهة لم يحكموا سابقا، فقد كانوا حتما محكومين من قِبل آخرين لم يبدؤوا بعد في عبادتهم إذ لم يكونوا يعدّونهم آلهة بعد؛ إذن فقد كان منح الملك من صلاحيّات غيرهم، إذ سبق وجود حكّام بمدّة طويلة تسجيلهم ضمن الآلهة. < ثمّ لنسلّم أنّه بعد توسّع أحوال الرّومان تطوّر الدّين>؛ لكن ما أسخف أن يُنسب الفضل في رفعة شأن الرّومان إلى تديّنهم؛ والحال أنّ الدّين ازدهر عندهم بعد نشأة الامبراطوريّة أو السّيطرةعلى العالم؛ فلئن أنشأ نوما* تصوّرا خرافيّا للكون، ما كانت تلك الدّيانة تتضمّن بعد أصناما ولا معابد عند الرّومان. كانت ديانة ساذجة تشتمل على طقوس بسيطة بلا مجامع للآلهة تناطح السّماء، كلّ ما هنالك مذابح وقتيّة قوامها بضع مدرات معشبة وأقداح أو أوان من خزف ساموس* لا تفوح منها أيّة روائح ولا أثر لأيّ إله قطّ؛ فلم يكن الصّنّاع اليونان والتّسكان بعد قد غمروا رومية بالتّماثيل الّتي سخّروا في إبداعها خيالهم ومهاراتهم؛ لم يكن الرّومان ديّنين إذن قبل أن يصيروا عظاما، وبالتّالي لم يصيروا عظاما بسبب تديّنهم. بل كيف يجوز الزّعم أنّهم صاروا عظاما بسبب دينهم هم الّذين أتتْ عظمتهم من ضعف تديّنهم؟ فإنّما يُطلب كلّ مُلك وكلّ نفوذ بالحروب، ويوسَّع بالانتصارات، إن لم يخطئ ظنّي. فضلا عن ذلك تقوم الحروب والانتصارات على غزو المدن وتدميرها، ولا يتمّ ذلك بدون إيذاء الآلهة، فنفس الدّمار يحلّ بالأسوار والمعابد، ونفس المجازر تبيد المواطنين والكهنة، والنّهب يطال كلّ الثّروات لا فرق بين دينيّة ودنيويّة. لقد استباح الرّومان من حرمات الآلهة بقدر ما أقاموا من نُصب الظّفر، وحقّقوا من الانتصارات على الآلهة بقدر ما حقّقوا منها على الأمم، وسلبوا من الغنائم بقدر ما سبوا من تماثيل الآلهة الّتي لا تزال موجودة. هي إذن ترضى بأن يعبدها أعداؤها، وتهب ذاك "الملك اللامحدود*" لمن كان أوْلى أن تعاقب اعتداءهم لا أن تتملّقهم. لكن مع من لا يحسّون تظلّ الإساءة بلا عقاب والعبادة بلا نفع. حقّا، لا يمكن القول إذن بأنّ الفضل يعود إلى الدّين في بسط نفوذ قوم توسّعوا بانتهاك الدّين أو انتهكوه بتوسّعهم كما أشرنا، كذلك ما كان من دُمجت دولهم في الامبراطوريّة الرّومانيّة لمّا أضاعوا مُلكهم بلا أديان.

26- الله هو واهب الملك

   تبيّنوا إذن إن لم يكن واهب الملك بالأحرى ذاك الّذي له مُلك الأرض المحكومة والإنسان الّذي يحكمها، إن لم يكن مدبّر تعاقب الدّول على الأرض ومداول الأيّام بين النّاس ذاك الّذي كان قبل أن يكون أيّ زمان، وجعل الدّنيا جسدا للزّمان، إن لم يكن باسط الممالك وقابضها ذاك الّذي كان الجنس البشريّ خاضعا لحكمه يوم لم تكن توجد مدن وممالك. لم تخطئون؟ لقد وُجدت رومية بغاباتها قبل آلهتها وملكت قبل أن تشيد بنيان مجمع آلهتها المنيف. ومَلك قبل كهنتها البابليّون، وقبل مجلس الخمسة عشر* الميديّون* وقبل السّاليّين* المصريّون، وقبل كهنة لوبركوس* الأشوريّون وقبل كاهنات وستة* محاربات الأمازون*. ثمّ لو كانت أديان الرّومان هي الّتي أعطتهم الملك لما ملكت قبلهم مزدرية كلّ تلك الآلهة يهوذا الّتي أبديتم يوما إجلالكم لإلهها بتقديم ذبائح ولهيكلها بإهداء عطايا، ولشعبها بعقد اتّفاقيّات وما كنتم لتبسطوا عليه نفوذكم أبدا لو لم يجرم في الأزمنة الأخيرة ضدّ المسيح.

27- عودة إلى التّنديد بالشّياطين

    يكفينا ردّا على تهمة التّعدّي على حرمة الدّين والآلهة أنّا لا نُعَدّ أهنّا ما بيّنّا بطلانه أصلا؛ من ثمّ فلمّا نُدعى إلى تقديم الذّبائح لآلهتكم نرفض استجابة لضمائرنا وعلمنا اليقينيّ بمن تصل إليهم هذه العبادات تحت تأليه تماثيلَ سخيفٍ وتعظيم أسماءٍ بشريّة. على أنّ البعض يرون في موقفنا جنونا، فبينما يمكننا تقديم الذّبائح بمحضركم والانصراف بسلام مع الاحتفاظ بعقيدتنا في قرارة ضمائرنا، نؤثر العناد على سلامتنا. تشيرون علينا، كما أرى، بمداجاتكم، لكنّا نعلم من يقف وراء مقترحاتكم ويثير كلّ هذه الفتنة والبلبلة، وكيف يسعى جاهدا، تارة بنصائحه الماكرة وتارة بأخذنا بالبأساء، إلى زعزعة ثباتنا. إنّه بدون شكّ ذاك الرّوح الشّيطانيّ، عدوّنا بسبب سقوطه وحاسدنا على نعمة الله، الّذي يوغر علينا صدوركم موسوسا في الخفاء فيثير ضدّنا أذهانكم ويدفعكم إلى كلّ ما ذكرنا في بداية خطابنا، إلى الانحراف في حكمكم والظّلم في عنتكم. فعلى الرّغم من خضوع قوّة الشّياطين وما شابهها من الأرواح، تخلط أحيانا، شأن عبد السّوء، بالخوف التّمرّد وترغب في الإيقاع بمن تخشاهم فيما عدا ذلك؛ فالخوف أيضا ينشئ الكراهية. ثمّ إنّها كذلك، بحكم وضعها اليائس لإدانتها مسبقا، تجد في انتظار وقوع العقاب بها عزاء في الاستمتاع بمكرها البغيض؛ مع ذلك كلّما وقعت في قبضتنا تخضع صاغرة وترضى بهوانها وتمتثل عن قريب لمن تحاربهم من بعيد. ومثل المقاومين والمتمرّدين في مشاغل السّخرة أو السّجون أو المناجم أو ما شابهها من أنواع الحبس الجزائيّ تراها تتنطّع ضدّنا وهي تحت نفوذنا وتعلم يقينا أنّ ذلك لا يزيدها إلاّ ثبورا. فنتصدّى لها مضطرّين تصدّي النّدّ للنّدّ وندفع هجماتها بالتّمسّك بما تحاربنا بسببه ولا يكون نصرنا أتمّ ولا أسطع ممّا يكون حين نُدان على تمسّكنا بإيماننا.

28- استهتار الرّومان بآلهتهم، وتقديمهم السّلطة القائمة عليها

  لكن لمّا كان يبدو ظلما صارخا إرغام مواطنين أحرار على تقديم ذبائح، إذ يوصى بأن تؤدّي النّفس ذلك كبقيّة الطّاعات مختارة، سيبدو لا شكّ خطلا أن يكره أحد غيره على تعظيم آلهة يفترض أن يسترضيها بمحض إرادته ومن تلقاء نفسه، فيصادر بهذا الإكراه حقّه وحرّيّته في أن يقول: "لا رغبة لي في مرضاة يوبتر* وأنت من تكون؟ أنا راض بأن يغضب عليّ يانوس* ويقابلني بأيّ من وجهيه شاء لكن أنت ما شأنك؟" نفس تلك الأرواح كوّنت في أذهانكم فكرة إجبارنا على تقديم الذّبائح من أجل سلامة الامبراطور، وضرورة إجبارنا مفروضة عليكم كلزوم الاستشهاد علينا. يصل بنا هذا إلى ثاني بنود لائحة اتّهامنا، القدح في الذّات الامبراطوريّة المعظّمة، علما بأنّكم تُبدون تجاه قيصر خوفا أكبر ورهبة أحرّ من يوبتر* ربّ الأولمب* نفسه؛ وإنّكم في ذلك لعلى حقّ لو تعلمون؛ إذ من من الأحياء لا يفوق قدرةً أيّا من الأموات؟ بيد أنّكم لا تفعلون ذلك بوحي العقل بقدر ما تفعلونه مخافة قوّة ذات حضور فعليّ. في هذا الباب أيضا، ثبتت عليكم تهمة الاستهتار بآلهتكم فأنتم أشدّ خشية لسلطان البشر من سلطانها، ثمّ إنّكم أسرع إلى الحنث بقسمكم بها مجتمعة منكم إليه إذا حلفتم بربّ قيصر الحامي* بمفرده.

29- الآلهة الوثنيّة هي الّتي تحتاج إلى الإنسان لا العكس

    ليثبت أوّلا أنّ تلك الأوثان الّتي تقدَّم لها الذّبائح قادرة على منح السّلامة للأباطرة أو لأيّ إنسان فتدينونا إذّاك بجرم التّعدّي على الجلالة، أنّ الأملاك والشّياطين، تلك الجواهر الرّوحيّة الخبيثة، تصنع أيّ نفع، إن كانت هي الهلكى تحفظ، أو كانت هي المعدّة للعذاب تنقذ، إن كانت هي الميّتة كما تعلمون في قرارة ضمائركم تحمي الأحياء. لو كانت تفعل لحمتْ أوّلا تماثيلها وصورها ومعابدها الّتي يحافظ على أمنها في رأيي جند قيصر المتناوبون على حراستها، بل ما إخال موادّها إلاّ أتت من مناجم ومحاجر قيصر، ومعابدها كلّها يتوقّف بقاؤها على مشيئة قيصر. أخيرا خبرت آلهة كثيرة سخط قيصر؛ ويؤيّد قولي أنّه لا يفوته أيضا إن منحها رضاه أن يخصّها بشيء من حظوته وإنعامه؛ فكيف يكون لها هي الخاضعة لسلطان قيصر بل التّابعة له كلّيّا أدنى سلطان على سلامة قيصر، فتستطيع، كما تتوهّمون، أن تحفظها، هي المَدينة بسلامتها لقيصر بالأحرى؟ نحن إذن، على ما تقولون، نرتكب جريمة المسّ بجلالة أباطرتنا لأنّا لا نقرّ بخضوعهم لأشياء هي ملك لهم، لأنّا لا نأخذ مأخذ الهزل مسألة سلامتهم حتّى نحسبها في أيدٍ ثُبّتتْ بالرّصاص. لكنّكم أنتم الدّيّنين الّذين تنشدونها حيث لا توجد، تطلبونها ممّن لا يستطيع منحها، تاركين من هي بيده، بل فوق ذلك تضطهدون من يعلمون ممّن يلتمسونها، ويستطيعون كذلك نيلها إذ يعرفون كيف يطلبونها.

30- ردّ على تهمة القدح في الذّات الامبراطوريّة: النّصارى يجلّون قيصر داعين له الله لا الأوثان

   نحن فعلا نصلّي من أجل سلامة أباطرتنا لله السّرمديّ، الله الحقّ، الله الحيّ الّذي يؤثر الأباطرة أنفسهم رضاه على رضى كلّ ما سواه، فهم يعلمون من وهبهم المُلك، ويعلمون من وهبهم النّفس الّتي هم بها بشر. يدركون أنّه الإله الواحد الّذي هم تحت سلطانه وحده، والّذي يأتون بعده في المحلّ الثّاني مباشرة، قبل وفوق كلّ آلهتكم؛ كيف لا وهم فوق كلّ البشر الأحياء الّذين يتفوّقون لا شكّ على الأموات؟ يتفكّرون في مدى امتداد سلطانهم فيدركون عظمة الله الّذي لا يستطيعون شيئا ضدّه، ويعلمون أنّ لا حول لهم ولا قوّة إلاّ به؛ وإلاّ فليحارب الامبراطور السّماء وليجرّها في موكب نصره أسيرة، وليبعث إليها عسسا، وليفرض عليها الجِزى*: قطعاً لا يستطيع. فإنّما هو عظيم لأنّه دون السّماء مقاما؛ إن هو إلاّ بعض مُلك من له السّماء وكلّ الخلائق. به هو صار امبراطورا وبه هو استوى بشرا قبل أن يكون امبراطورا؛ منه استمدّ سلطانه ومنه استمدّ الرّوح. إليه نبتهل نحن النّصارى، مادّين أيدينا لأنّها بريئة من الآثام، حاسرين رؤوسنا لأنّنا لم نرتكب ما يخجلنا أن يراه، بدون وسيط لأنّا نصلّي من أعماق قلوبنا، داعينه دون انقطاع أن يمنح كلّ أباطرتنا حياة طويلة ومُلكا مستقرّا وقصرا آمنا وجيشا مظفّرا ومجلسا وفيّا وشعبا صادق الولاء وعالما تسوده الدّعة، باختصار كلّ ما يتمنّاه أيّ إنسان أو قيصر. لا يمكنني أن أطلب كلّ ذلك من غير الّذي أعلم أنّه يجيب دعائي، فهو وحده من يهبه، وأنا الجدير بالحصول عليه بصفتي عبده الّذي وحدي أعظّمه، وأستشهد نصرة لدينه، وأقدّم له ذبيحة سمينة كبيرة كما طلب: صلاة مرفوعة من جسم عفّ ونفس نقيّة وقلب سليم، لا حبيبات من البخور مقدار وقيّة أو أدنى، ودميعات من صمغ بلاد العرب، لا قطيرات من الخمر ولا دم ثور هزيل شبه نافق، وفوق كلّ تلك الأرجاس ضميرا نجسا؛ فواعجبا من كهنتكم الأراذل لمّا يعاينون القرابين لتزكيتها، لِم يفحصون أحشاء الأضاحي بدلا من قلوب المضحّين أنفسهم! فلتمزّقنا أظافركم* ونحن ضارعون إلى الله، ولتعلّقونا على الصّلبان، ولتلفح النّيران جلودنا، ولتقطع رقابنا سيوفكم، ولتنقضّ علينا وحوشكم: فشيمة النّصرانيّ المصلّي لربّه الاستعداد لكلّ تعذيب؛ فاصنعوا ما شئتم أيّها الولاة الأفاضل: أزهقوا روحا تدعو الله من أجل الامبراطور؛ ستكون الجريمة حيث توجد الحقيقة والتّفاني لله.

31- وفق تعاليم دينهم الّذي يأمر بطاعة أولي الأمر والدّعاء لهم بالصّلاح

   قد يظَنّ أنّا الآن نتملّق الامبراطور وندعو له رياء لتفادي بأسكم؛ هذا الخداع يفيد بالتّأكيد بما أنّكم تقبلون إعطاءنا فرصة لإثبات ما نقول؛ فانظر يا من تحسب سلامة قيصر لا تعنينا إلى أقوال الله، إلى كتبنا الّتي لا نخفيها، والّتي وضعتْها صدف عديدة بين أيدي غيرنا. ستعلم منها أنّا أُمرنا بأوفى وأوفر المحبّة، ودعاء الله حتّى من أجل أعدائنا وطلب نِعمه حتّى لمضطهدينا؛ ومن أكثر عداوة واضطهادا للنّصارى ممّن نتَّهم بالمسّ من جلالتهم؟ بل إنّ كتابنا يقول بالنّصّ البيّن الصّريح: "صلّوا من أجل الملوك وكلّ ذي منصب، لتقضوا حياة مطمئنّة ذات دعة"*؛ ذلك أنّ الامبراطوريّة إذا ارتجّت في جزء منها تزعزعت معه أعضاؤها الأخرى ورغم أنّا غرباء عن القلاقل سنكون نحن أيضا معرّضين بوجه ما للحدث.

32- دوام الامبراطوريّة يؤخّر نهاية العالم وأهوالها

   هناك دافع قويّ آخر لنصلّي من أجل أباطرتنا، بل كذلك من أجل كلّ موقع في الامبراطوريّة ومن أجل الشّؤون الرّومانيّة، هو علمنا بأنّ الانهيار العنيف الموشك أن يحلّ بجميع الأرض، ونهاية العالم المنذرة بخطوب رهيبة تؤخّرهما المهلة المتمثّلة في الامبراطوريّة الرّومانيّة؛ لذلك لا نحبّ أن نعيش تلك الويلات، وإذ ندعو لتأجيلها، نعمل على إدامة ملك الرّومان. بل ونقسم، لا بآلهة القياصرة الحامية بل بحياتهم فهي لدينا أعظم من كلّ تلك الآلهة؛ أوَتجهلون أنّ تلك الآلهة الخاصّة تدعى شياطين وجِنّة؟ نجلّ في الأباطرة حكم الله الّذي فضّلهم على العالمين. ونعلم أنّ فيهم ما أراده الله ولذا نريد بقاء ما أراده الله، وذلك عندنا ميثاق غليظ. أمّا الشّياطين، أعني آلهتهم الخاصّة، فقد اعتدنا دعوتها إلى الخروج من النّاس لا القسم* بها فهو يعني إسناد شرف الألوهة.

33- قيصر يستمدّ ملكه من الله، لكنّهم يرفضون تأليهه

     لكن لِم الإطالة حول ما يكنّ النّصارى من تعظيم وبرّ للامبراطور الّذي يجب أن نُجلّه لأنّ الله اختاره لنا، بل أقول بحقّ: هو قيصرنا نحن أكثر من سوانا، فإلهنا هو الّذي أقامه. لذا أعمل أكثر من أجل سلامته بصفته قيصري، لا فقط بالتماسها ممّن بيده أن يمنحها، أو طلبها بصفتي جديرا بنيلها، بل كذلك لأنّي بجعلي جلال الامبراطور دون جلال الله، أكِله بحظّ أوفى لرعاية الله الّذي أُخضعه له وحده؛ لكنّي أخضعه لمن لا أجعله له سميّا. كلاّ لن أقول إنّ الامبراطور إله، سواء لأنّي لا أعرف الكذب، أو لأنّي لا أجرؤ على الاستهزاء به، أو لأنّه هو نفسه لا يحبّ أن يدعى إلها. ما دام إنسانا، فمن صالحه أن يخفض لله جناح الذّلّ؛ كفاه مجدا أن يدعى امبراطورا؛ فإنّه لقب عظيم منحه الله له؛ ومن يزعمه إلها ينف أنّه امبراطور فما لم يكن إنسانا لا يكون امبراطورا. فليذكَََّر إذ يعتلي مركبته الفاخرة محتفلا بالنّصر بأنّه بشر، ولْيُهبْ به من خلف ظهره: "انظر وراءك وتذكّر أنّك بشر"؛ وإنّه ليزيد سروره أن يسطع مجده إلى درجة لزوم تذكيره ببشريّته؛ ويُنقص قدره أن يدعى إذّاك إلها لأنّ ذلك القول غير صادق؛ فما أعظم من يجب أن يهاب به ألاّ يعُدّ نفسه إلها.

34- يرفضون مخاطبته بما يوحي بألوهته

    لم يكن أغسطس* مؤسّس الامبراطوريّة نفسه يحبّ أبدا أن يدعى مولاي*، فذاك أيضا لقب لله، لا ضير عندي من أن أقول إنّ الامبراطور مولاي، لكن بالمعنى المتداول، وبشرط ألاّ أرغَم على القول بأنّه مولى بمثابة إله؛ أنا في الحقيقة إنسان حرّ إزاءه: ومولاي واحد، هو الله القدير الأبديّ، وهو مولاه أيضا. كيف لمن هو أب الوطن أن يكون مولاه؟ كلاّ بل البرّ أعذب من السّلطان تسمية؛ لذا نتحدّث عن آباء لا أرباب الأسرة. وهيهات أن يدعى الامبراطور إلها فذاك ما لا يمكن تصديقه من تملّق لا مخز فقط، بل كذلك بالغ الضّرر. أرأيتَ إن كان لك امبراطور فدعوت بهذه الصّفة غيره، ألا ترتكب في جنَب صاحبها الحقيقيّ إساءة كبرى لا تغتفر، يحرو حتّى بمن تدعوه بها أن يخشى مغبّتها؟ أخلصْ لله عبادتك إن شئتَ أن يرعى الامبراطورَ؛ كُفّ عن الاعتقاد في إله سواه، ولا تسمِّ إلها من هو بحاجة إلى الله. إن لم يستح المتملّق من كذبه بإطلاق لقب الألوهة على إنسان فليخفْ على الأقلّ سوء عقباه؛ فإنّ تسمية قيصر بالإله قبل طقوس التّأليه* مجلبة للشّؤم. < واعلم أنّك تريد وتجلب السّوء للامبراطور إذ تدعوه إلها في حياته، والحال أنّه لا ينال هذا الاسم إلاّ بعد موته.>

35- لا يشاركون في الاحتفالات المقامة له لاشتمالها على المنكر والنّفاق

   النّصارى إذن أعداء الوطن لأنّهم لا ينسبون للأباطرة، قولا بأفواههم، أمجادا باطلة وكاذبة وآثمة، ولأنّهم أناس صادقو الولاء يقيمون احتفالاتهم لهم في سرائرهم لا بمظاهر الاستهتار. إجلال عظيم حقّا أن تُحضروا مواقد ومتّكآت في ساحات المدينة، وتقصفوا في الطّريق العامّ، وتحوّلوا المدينة إلى حانة وتضمّخوا الأرض بالخمر وتتسابقوا زرافات إلى كلّ الإساءات والقبائح والشّهوات الخليعة! أيكون التّعبير عن الفرح العامّ بالخزي العامّ؟ أيليق بأعياد الأباطرة ما لا يليق ببقيّة الأيّام؟ أيُعقل ممّن يلتزمون بالنّظام احتراما لقيصر أن يتحلّلوا منه حبّا لقيصر، ويصير تفسّخ الأخلاق برّا، والخلاعة ولاء؟ ما أحقّنا بالإدانة! فعلا لِم نقيم الأفراح وندعو للقياصرة بعفّة ورزانة واستقامة؟ لم لا نظلّل في يوم الفرحة أبوابنا بالغار ونُبهت بفوانيسنا ضوء النّهار؟ لائق فعلا أن تُلبس بيتك، كما يقتضي جلال ذاك الاحتفال، ثوب مبغى جديد. مع ذلك، بخصوص هذا التّقديس لصنف الألوهة الثّاني، الّذي تتّهموننا نحن النّصارى بشأنه بانتهاك مقدّسات ثان بامتناعنا عن مشاركتكم في الأعياد القيصريّة بنحو أملاه عليكم نداء الشّهوة لا العقل الرّصين، ولا ترضاه الاستقامة ولا التّقوى ولا اللّياقة، أودّ إظهار حقيقتكم ومصداقيّة ولائكم، ليُرى هنا أيضا إن لم يكن ربّما شرّا من النّصارى من يرفضون اعتبارنا رومانا ويعدّوننا أعداء للحكّام الرّومان. أستشهد مواطني رومية أنفسهم، أشرافهم وشعبهم أصيل رباها السّبع، إن كانت اللّغة الرّومانيّة تُعفي أيّا من قياصرتها؛ يشهد بذلك نهر التّيبر* ومدارس مصارعة الوحوش. لو جعلت الطّبيعة صدورنا من مادّة شفّافة تري مكنون قلوبنا، لعلمنا من منكم لا يُظهر فؤادُه مرسوماً فيه مشهدَ قيصر تلو آخر يشرف على توزيع العطايا احتفالا بسلطته الجديدة، حتّى إن كان المعنيّون في تلك السّاعة يهتفون: "أطال يوبتر* عمرك من سني أعمارنا"؛ ذاك كلام لا يعرف المسيحيّ قوله ولا كذلك تمنّي مجيء قيصر جديد. قد تقول: "أولئك عوامّ"؛ هم فعلا عوامّ لكنّهم رومان وما من مشهّرين بالنّصارى أضرى من العوامّ. فالفئات الأخرى أصدق ولاء بقدر نفوذها؛ لا عِداء من مجلس الشّيوخ ولا فئة الفرسان ولا الجيش ولا حتّى البلاط. من أين أتى أضراب قسّيوس* ونيقر* وألبينوس*؟ من أين هم الّذين هاجموا قيصر بين شجيرتي غار*؟ من أين هم الّذين يمارسون الرّياضات ليشدّوا خناقه؟ من أين هم الّذين يقتحمون قصر الامبراطور بجسارة أكثر من سيجريوس* وبرثينيوس* ولفيفهم؟ من الرّومان إن لم يكذب ظنّي أي غير النّصارى. وما انفكّ كلّ أولئك حتّى انفجارِ عنفهم الغادر يقيمون الطّقوس لسلامة الامبراطور ويقسمون بإلهه الحامي*، بعض بالخارج وبعض بالدّاخل، وبالطّبع يسمّون النّصارى أعداء الدّولة. كنّ من يفتضح أمرهم يوميّا كشركاء في هذه الأعمال الإجراميّة أو مصفّقين لها، لقاطة القتلة المتبقّين بعد القطاف، يتفنّنون في تزيين أبوابهم بأغصان الغار الخضِرة المورقة، وملء ردهاتهم بأدخنة المصابيح العالية المتلألئة، ويتقاسمون ساحة المدينة لنصب سُرُر أنيقة وباذخة لا ليحتفلوا بالأعياد العامّة بل ليستظهروا أمانيهم الخاصّة في أعياد غيرهم، ويشيموا فيها مثلا وصورة لما يؤمّلون مغيّرين اسم الحاكم في سرائرهم. يؤدّي نفس الواجبات من يستشيرون المنجّمين والسّحرة والعرّافين بأصنافهم* لمعرفة أجل قيصر، وهي ممارسات تُعلّمها النّاسَ الشّياطينُ حرّمها الله ولذلكلا يلجأ إليها النّصارى حتّى لحاجاتهم الخاصّة. لكن من يحتاج إلى الاستعلام عن حياة قيصر إن لم يكن يضمر أو يتمنّى لها الأذى أو يأمل أو يرتقب شيئا بعدها؟ ما بهذه الذّهنيّة يُستخبر عن مصير موالٍ أعزّاء؛ وشتّان بين فضولِ قريبٍٍ قلقٍ وعبدٍ منطوٍ على سوء.

36- حبّهم للامبراطور غير صاخب لكنّه صادق

   إن كانت الأمور على هذه الصّورة، بحيث بان أنّ من يُدعون رومانا هم العدوّ، فلِم تنفون أن نكون رومانا ما دمتم تعدّوننا أعداء؟ لا يمكن ألاّ نكون رومانا مع كوننا أعداء إذ تبيّن أنّ الأعداء هم من يُدعون رومانا. لا يتمثّل البرّ والدّين والإخلاص الواجب للأباطرة في أدوار من هذا النّوع، يمكن أن تؤدّيها حتّى العداوة لتستتر بها خصوصا، بل في آداب السّلوك الّتي يأمرنا الله بإظهارها بصدق وتجاه الجميع. إذ لسنا مطالَبين بأعمال البرّ إزاء الأباطرة وحدهم؛ بل نعمل الخير لكلّ النّاس دون استثناء، فإلى أنفسنا نحسن نحن من لا نرجو من بشر جزاء ولا شكورا ولا نطمع في غير الله الدّيّان ومثيب الإحسان الّذي لا يفرّق بين النّاس. لذا نحن على نفس الاستعداد تجاه أباطرتنا وكلّ إخواننا في الإنسانيّة؛ إذ حرّم علينا أن نريد الشّرّ أو نصنع الشّرّ أو نقول الشّرّ أو نفكّر في الشّرّ لأيّ من البشر؛ وما لا يحلّ في حقّ الحاكم لا يحلّ في حقّ أحد سواه وما لا يباح في حقّ أحد ربّما أحقّ بالتّحريم في حقّ من أوتي من الله ذاك المقام العظيم.

37- لو انفصلوا عن الامبراطوريّة لانهارت فهم عمادها

   إن أُمرنا بمحبّة أعدائنا، كما ذكرنا أعلاه، فمن يحقّ لنا أن نكره؟ كذلك إن نُهينا عن ردّ المثل لمن آذانا، حتّى لا نكون بالفعل مثله، فمن يحقّ لنا أن نؤذي؟ إذ لا بدّ أن تُقرّوا لنا بذلك؛ فكم من الأنكال تذيقون النّصارى، شيئا من عندكم، وشيئا بمقتضى قوانينكم؟ وكم مرّة تجاوزكم العامّة المعادون لنا، مستندين إلى قانونهم الخاصّ، فراغوا علينا بالأحجار والنّار؟ لا يُعفون من بطشهم المعتسف كأعياد باخوس* حتّى أموات النّصارى فينتزعونهم من هجعة القبر وملاذ الموت، وقد تشوّهوا وتفسّخوا فيمزّقونهم ويقطّعون أشلاءهم. مع ذلك أيّ مأخذ لكم على أناس في مثل إخائنا، أيّة إساءة تردّون من أناس ثابتين على ودادتهم حتّى الموت، بينما تكفي ليلة واحدة للانتقام من أعدائنا ببضعة مشاعل، لو جاز عندنا ردّ الشّرّ كيلاً بكيل؛ لكن هيهات أن ينتقم إله ملّتنا بنار بشريّة، أو أن تتذمّر ممّا تلقى من البلوى. فلو أردنا الرّدّ لا كذوي تِرات مداجين بل وكأعداء سافرين، هل ستعوزنا تُرى قوّة العَدد أو العُدد؟ وهل يفوق المور* والمركومان* وحتّى الفرثيّون* أو أيّ شعب مستقرّ في بلاد واحدة ضمن حدوده مهما بلغ عدده أمّة منتشرة في الأرض بكاملها؟ رغم حداثة نشأتنا ملأنا جميع الأرض، وأرجاء الامبراطوريّة، من حواضر وجزر وقرى ومدن مستقلّة وحصون ومعسكرات ودوائر انتخابيّة وعمادات وحتّى القصر الامبراطوريّ ومجلس الشّيوخ* والقصبة*؛ لم نترك لكم سوى المعابد. < نستطيع عدّ جيوشكم: جماعتنا في إقليم واحد أكثر>؛ فلأيّة حرب لسنا مناسبين ومهيّئين، حتّى لو كنّا أقلّ عددا نحن الّذين نقبل بسرور قتلنا، لو لم يكن أحلّ للإنسان في ديننا أن يُقتل من أن يَقتل؟ كان يمكننا حتّى ونحن عزّل وغير متمرّدين بل مخالفون لكم فقط محاربتكم بالانفصال عنكم لا غير. فلو اعتزلناكم في مكان قصيّ ونحن بمثل هذه القوّة العدديّة لوصم بالتّحقيق سيطرتكم فقدانُ هذا الكم من المواطنين أيّا كانت صفتهم، ولكان اعتزالنا بمفرده عقابا لكم. إذن لفزعتم بالتّأكيد من وحدتكم، من الصّمت الرّائن والهمود المخيّم على الأرض حولكم، ولزم أن تبحثوا عمّن تحكمون؛ ولكان لكم من الأعداء أكثر ممّا بقي لكم من المواطنين. فأعداؤكم اليوم قلّة بسبب كثرة النّصارى، إذ لكم في المسيحيّين كلّ السّكّان تقريبا لكلّ المدن تقريبا؛ لكنّكم آثرتم تسميتنا أعداء الجنس البشريّ بدلا من أعداء الضّلال البشريّ. من ينقذكم إذّاك من أولئك الأعداء الخفيّين النّاشرين دمارهم في نفوسكم وأجسامكم، من يحميكم من غارات الشّياطين الّتي نصدّها عنكم دون جزاء ولا مقابل؟ سيكفينا ثأرا أن نترككم وحدكم نهبا للأرواح النّجسة. بدل التّفكير في مكافأتنا على هذه الخدمة الجليلة، واعتبارنا قوما لا غير مزعجين لكم فقط، بل ولازمين كذلك لكم، آثرتم عدّنا أعداء، ونحن لا جرم أعداء لكن لا للجنس البشريّ بل للضّلال البشريّ بالأحرى.