ترتلّيانوس

 

دفاع عن التّوحيد

 

4- الفصول 38-50

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

 

4

3

2

1

مقدّمة

38- لا يجوز اعتبارهم حزبا فهم لا يفعلون ما تفعل الأحزاب

    كذلك وبشيء من الحلم، كان ينبغي ألاّ تُعدّ من الأحزاب المحظورة ملّتنا الّتي لم يصدر منها ما يُخشى من الأحزاب المحظورة. فإن لم يخطئ تقديري، تتمثّل الغاية من منع الفرق في رعاية الأمن العامّ كيلا تنقسم الدّولة إلى شيع متناحرة، فيسهل أن تشوّش صراعات الأهواء المتنافسة اجتماعات هيئات النّاخبين ومجالس الشّورى والنّدوات البلديّة ومؤتمرات الشّعب وحتّى العروض العامّة بينما أخذ البعض يتّخذون العنف مهنة وخدمة مأجورة. لكن في حالتنا نحن الفاترين عن الأمجاد أو المناصب، لا حاجة بنا مطلقا إلى الاشتراك في مثل تلك الاجتماعات، ولا شأن أبعد عن أذهاننا من الشّأن العامّ: نقرّ شأنا عامّا واحدا يعني الجميع، هو العالم. أمّا عروضكم فنتخلّى عنها سيما ونحن لا نعير أصولها المستمدّة كما نعلم من معتقداتكم الباطلة، والأغراضَ الّتي تتناولها أيّ اهتمام؛ في نظرنا، ليس في ما يقال أو يشاهَد أو يُسمع شيء في مثل جنون السّرك أو سفاهة المسرح أو وحشيّة الحلبة أو سخافة ألعاب القوى. فيم نسيء إليكم إن آثرنا عليها ملاذّ أخرى؟ إن رفضنا مشاهدة تلك الأنواع من التّسلية فالخسار، إن وُجد، علينا لا عليكم؛ إنّا نشجب مِتعكم، ومتعنا في المقابل لا تعجبكم؛ < ولئن أمكن للأبيقوريّين* أن يحدّدوا حقيقة للّذّة هي دعة النّفس>، فمشاغل الملّة النّصرانيّة أعظم.

39- اجتماعاتهم مثال للورع والإخاء

   سأعرض الآن مشاغل حزب النّصارى، فأدحض السّوء المفترى عليها وأبيّن أنّها حسنة إن كشفت لكم الحقيقة؛ نحن جسد يؤلّفه الشّعورُ بالانتماء المشترك لديننا ووحدةُ مذهبنا ورابطة رجائنا. نؤلّف عصبة وجمعيّة لنهجم كقوّة مسلّحة على الله بصلواتنا، وذاك عنف يرتضيه الله؛ نصلّي كذلك من أجل أباطرتنا ومن أجل أعوانهم ومفوّضيهم، وليستتبّ الأمن ويسود السّلام كلّ شيء وتُرجأ نهاية العالم. نجتمع لنذّكّر كتاب الله، كلّما أنذرتنا أو دعتنا إلى الادّكار آية من أحوال زماننا الحاضر؛ فنغذّي بكلام الله إيماننا، ونوطّد رجاءنا، ونعزّز ثقتنا، ونثبّت تمسّكنا بتعاليم ديننا. اجتماعنا فرصة كذلك للوعظ والمحاسبة بمقتضى الشّريعة الإلهيّة؛ إذ يكتسي الحكم على أعمالنا أهمّيّة كبرى لدى أناس يثقون بأنّ الله يراهم، وإنّه لإنذار شديد يسبق حكم الآخرة أن يُفصل أحدنا، إن أخطأ، عن المشاركة في الصّلاة والاجتماع وكلّ الشّعائر المقدّسة. يرأسنا في شعائرنا شيوخ مزكّون نالوا هذا الشّرف لا بالمال بل بشهادة الجميع بفضلهم؛ إذ لا دخل في الشّأن الإلهيّ للمال؛ حتّى إن وُجد لدينا صندوق فإنّه لم يُجمع من رسوم مفروضة كما لو كان في الدّين بيع وشراء؛ بل يتبرّع كلّ منّا بمبلغ بسيط شهريّ أو متى شاء، وفقط إن شاء، وفقط إن استطاع؛ فلا أحد مكره على الإسهام، بل يعطي كما نوى. تلك بمثابة ودائع التّقوى؛ فهي لا تُنفق على المأكل والمشرب وذميم القصوف، بل على إطعام ودفن المساكين، وعلى البنات والبنين الّذين بلا آباء ولا مال، والخدم المسنّين، وعلى من فقدوا كلّ مالهم، وعلى من هم في المناجم أو الجزر أو السّجون، إن كان ذلك بسبب انتمائهم إلى دين الله، إذ يصيرون في كفالة ملّتنا. لكنّ عمل البرّ هذا النّابع من المحبّة يصمنا عند البعض، فتراهم يقولون: "انظر كيف يحبّ بعضهم بعضا"، فهم بالعكس يكره بعضهم بعضا، أو "انظر استعدادهم للموت كلّ فدا الآخر"، فكلّ عندهم على أتمّ استعداد لقتل الآخر. ولتسمية بعضنا بعضا إخوانا يجنّ جنونهم، لا لسبب في ظنّي سوى أنّ كلّ تسميات القرابة عندهم تعني مودّة متصنّعة؛ لكنّا إخوانكم أنتم أيضا على شرع الطّبيعة أمّنا جميعا حتّى إن خلوتم من الإنسانيّة لأنّكم إخوة سيّئون. ولعمري ما أجدر أن يُدعى ويُعدّ إخوانا من يقرّون بأب واحد هو الله، وسُقوا من روح واحد، روح القداسة، ونزلوا من رحم واحد، رحم الجهالة، إلى نور واحد، نور الحقيقة. لكن قد تستخفّون بشرعيّة أخوّتنا لأنّ لا مسرحيّة تتغنّى بها، أو لأنّا إخوة في ملك الأسرة الّذي يقطع تقريبا عندكم آصرة الأخوّة. نظرا إلى هذه الوشائج الّتي توحّدنا قلبا وروحا، لا نتردّد قطّ في تقاسم ما في أيدينا من متاع الدّنيا، فكلّ شيء مشاع بيننا ما عدا أزواجنا. الشّراكة بيننا لاغية في هذا المجال الّذي فيه وحده يمارس المشاعيّة غيرنا، حيث لا يستحلّون فقط أزواج أصحابهم بل يهدون كذلك زوجاتهم بتساهل لأصحابهم على مذهب اثنين من حكمائكم الأقدمين، سقراط* اليونانيّ وكاتون* الرّومانيّ اللّذين أعارا لصديقيهما زوجتيهما إذ عقدا عليهما لتنجبا لهما في بيوت غيرهما. ولا أدري إن فعلتا مكرهتين حقّا؛ إذ لِم تحرصان على العفّة وقد فرّط فيها زوجاهما بتساهل! فأيّ مثال بليغ على حكمة أتّيكة* ورصانة رومية: قوّادان هما فيلسوفكم ورقيبكم. ما العجب إذن في أن تتجلّى تلك المحبّة في عشاءات مشتركة؟ إنّكم تهوّلون على عشاءاتنا البسيطة مستنكرين طابعها الإجراميّ، وواجدين فيها فضلا عن ذلك صورة من إسرافنا. نحن لا شكّ المقصودون إذن بقولة ديوجينس*: "أهل ميغارة* يأكلون كأنّهم يموتون غدا، ويبنون كأنّهم لا يموتون أبدا." لكن أسهل أن يرى المرء القذى في عين غيره من أن يرى الخشبة في عينه*. لقد خمّ الهواء من تجشّؤات وجهائكم من خطباء الشّعب وأعضاء مجالس العشائر والنّظّار البلديّين؛ ولا بدّ للسّاليّين* إن أعدّوا لمأدبة أن يستدينوا، ولا بدّ من كتبة وحسبة لإحصاء النّفقات في الاحتفالات بجبي عُشر هرقل*، ويعيَّن الأفضل بين الطّهاة لشعائر الأسرار الأباتوريّة* والدّيونيسيّة* والأتّيكيّة*، ولأدخنة وليمة سارابيس* يهبّ رجال الإطفاء مشمّرين؛ مع ذلك لا حديث لكم إلاّ عن مائدة النّصارى. عشاؤنا نحن يعرض في اسمه بالذّات غايته؛ فاسمه عند اليونان يعني المحبّة*؛ ومهما أُنفق عليه، فربحٌ هو الإنفاق باسم البرّ إن كنّا بتلك اللّقمة نساعد المعوزين، لا كما عندكم حيث يجتهد الطّفيليّون في الحصول على شرف مصادرة حرّيّتهم لقاء إشباع بطونهم وسط ذلّ الاكتداء، بل كما عند الله حيث يولى الوضعاء مزيدا من الاعتبار. إن كان مقصد الوليمة نبيلا فقياسا عليه احكموا على بقيّة جوانبها؛ وبما أنّها نابعة من فريضة دينيّة، لا يُسمح فيها بالاستخذاء ولا الاستعلاء. لا نمدّ أيدينا إلى الطّعام قبل توجيه صلاة إلى الله؛ ثمّ نأكل الرّماق ونشرب في حدود اللّياقة. نأكل كأناس يذكرون فرض عبادة الله حتّى آناء اللّيل ونتسامر كأناس يعلمون أنّ الله يسمعهم. بعد غسل أيدينا وإشعال الأضواء يُدعى كلّ فرد إلى وسط الحلقة ليرتّل للرّبّ أناشيد من الكتاب المقدّس أو ممّا جادت به قريحته؛ بذلك تُختبر كيفيّة شربه؛ وننهي عشاءنا بصلاة أخرى. ثمّ يتفرّق جمعنا، لا زمرا من المفسدين أو المتسكّعين أو العابثين المعربدين، بل حريصين على الاعتدال والأدب، دأب من اجتمعوا ليتغذّوا لا بطعام بل بالدّين. اجتماعنا بهذا النّحو مخالف للقانون إن كان فيه شبه بما يمنعه القانون، ويستحقّ العقاب إن شكا أحد ممّا يُشتكى منه عادة بخصوص الاجتماعات الحزبيّة. أيّ شخص اجتمعنا أبدا لإيذائه؟ في اجتا كما عند افتراقنا، نمتنع جماعيّا وفرديّا عن إيذاء أحد أو تكدير أحد؛ لمّا يجتمع الكرام الأخيار، لمّا يلتقي الأعفّة الأبرار، لا يجب أن يُدعوا حزبا بل مجلسا موقّرا.

40- ليسوا سبب كوارث الامبراطوريّة

   بالعكس يجدر إطلاق اسم الحزب على عصبة المتآمرين الحاقدين على أناس طيّبين، على المتعطّشين لدم الأبرياء المتذرّعين لتبرير حقدهم بتلك الدّعوى الباطلة: أنّهم يرون النّصارى سبب كلّ الكوارث العامّة وكلّ بلايا الشّعب < منذ ظهورهم>. إن فاض التّيبر* في رومية أو لم يغمر النّيل بمياهه الحقول، إن أمسكت السّماء ماءها أو مادت الأرض أو حلّت مجاعة أو انتشر وباء، فورا يعلو الهتاف: "النّصارى إلى الأسد"؛ ويحكم، أإلى أسد واحد كلّ هؤلاء؟ أخبروني أرجوكم، قبل تيبريوس* أي قبل مجيء المسيح كم من كوارث أهلكت الأرض والمدن*؟ نقرأ أنّ جزر هيرة* وأنافيس* وديلوس* ورودس* وقوس* اختفت في اللّجّة مع آلاف السّكّان. ويذكر أفلاطون* أنّ أرضا أوسع من إفريقية أو آسية هوت إلى قاع البحر الأطلنطيّ*؛ كذلك بلعت هزّة أرضيّة ماء بحر كورنتوس* واقتطعت قوّة الأمواج لوقانية* وأفردتها في شكل صقلّية: ما حلّت تلك الكوارث دون الإضرار بالسّكّان. أين كان إذّاك، لا أقول النّصارى مسفّهو آلهتكم، بل آلهتكم أنفسهم، يوم غمر الطّوفان الأرض كلّها أو، كما يرى أفلاطون*، سهولها فقط؟ إذ تشهد على أنّهم جاؤوا بعد ذلك الطّوفان المدن الّتي ولدوا أو ماتوا فيها والّتي شادوها فما كانت لتبقى قائمة إلى يومنا هذا لو لم تُشد بعد الكارثة. لم تكن فلسطين قد استقبلت بعد اليهود النّازحين إليها من مصر، ولا ضربت ملّة النّصارى فيها جذورها، لمّا التهمت نار نازلة من السّماء بلادي سدوم وعمورة* المحاذيتين لها، وإلى اليوم ما زالت تنبعث هناك من الأرض رائحة الحريق، وإن وُجدت على الأشجار ثمار فما هي إلاّ تهيّؤات للأبصار حالما تُلمس تنقلب رمادا. حتّى تسكية* وكمبانية* لم تكونا تشكوان بعد من النّصارى لمّا شبّت في وُلسينية* نار أمطرتها السّماء، وفي أهالي بومبيوم* نار هوت عليها من جبلها؛ كذلك لم يكن أحد بعد يعبد الله الحقّ برومية لمّا كان حنّبعل* يقدّر عدد قتلى الرّومان في كانّة* كائلا خواتمهم بالصّاع؛ وكان آباؤكم جميعا يعبدون آلهتكم كلّها لمّا احتلّ السّينيّون* الكابيتول*. وحسن أنّه كلّما وقع للمدن مكروه شمل نفس الدّمار المعابد والدّيار بحيث يمكنني تفنيد مزاعمكم بأنّه حصل بسبب تلك الآلهة، فهي أيضا راحت ضحيّته. على امتداد الأزمان استحقّ الجنس البشريّ عقاب الله؛ أوّلا لأنّه لم يسع إليه بالطّاعات، ولأنّه كلّما عرفه جزئيّا لم يلتمسه ليتّقيه، بل وخرق آلهة أخرى ليعبدها؛ ثمّ إنّه برفض البحث عن معلّم البراءة ديّان الذّنوب، انغمس في شتّى الرّذائل والخطايا. ولو التمس الله لعرفه إذ التمسه، ولأطاعه إذ عرفه، ولخبر فيه إذ عرفه رحمته لا نقمته؛ فليعرفْه الآن غاضبا كما كان في الماضي قبل ظهور اسم النّصارى. لِم لا يدرك أنّ الشّرور أيضا تأتيه ممّن لم يعلم أنّ منه الخيرات؟ هو مذنب في جنَب من جحد نعماه. مع ذلك إن نقارن الكوارث الماضية بالحاضرة نجد أخفّ تلك الّتي تحدث اليوم مذ منّ الله بالنّصارى على الأرض؛ فمنذ ذلك الوقت خفّفت تقواهم طغوى غيرهم في العالم، وبدأ يوجد شفعاء عند الله. أخيرا لمّا تنقطع عنكم أمطار الصّيف والشّتاء، ويبعث محصول الأرض على الانشغال، وأنتم منغمسون في القصف كلّ يوم، والحمّامات والحانات والمواخير تشتغل بدون انقطاع، تقدّمون إذّاك ليوبتر* ذبائح الاستسقاء، وتطلبون من الشّعب السّير حفاةً في موكبٍ إلى معبده، وتطلبون السّماء في الكابيتول*، وترتقبون المزن من تساقيف معابدكم، معرضين عن الله الحقّ والسّماء. أمّا نحن فنجأر، وقد جفّف الصّوم منّا العروق واعتصرنا التّنسّك عن كلّ مستلزمات العيش، وانقطعنا عن كلّ طيّبات الحياة، بضراعتنا إلى السّماء ملتفّين بالمسوح، ومتمرّغين بالرّماد، حتّى نثير بإلحافنا رأفة الله، فإذا فزنا برحمته حمدتم يوبتر* < وأغفلتم الله>!

41- فتلك الكوارث وُجدت دوما وهي نذير للمؤمنين وعقاب للكافرين

   أنتم إذن مسبّبو المضرّة للبشر، أنتم جالبو الكوارث العامّة، بإعراضكم عن الله لتعبدوا الأصنام؛ ولا غرو فأرجحُ أن يغضب عليكم من تركتم لا الّتي تعبدون. وإلاّ فإنّها ظالمة إن آذت بسبب النّصارى حتّى عبدتها الّذين كان يجب إعفاؤهم من العقاب الّذي استحقّه النّصارى. تقولون: "لكنّ هذا يُرَدّ أيضا على إلهكم إن كان يرضيه هو الآخر أن يتأذّى عبدته بسبب الكفرة". لتقبلوا أوّلا بحكمة تدبيره في خلقه، ولن تجدوا إذّاك في الأمر أيّ مأخذ؛ فإنّ من قضى منذ الأزل أن يصدر بعد نهاية العالم حكمه الأبديّ على البشر لا يتعجّل الفصل بينهم، الّذي هو نصّ حكمه فيهم، قبل نهاية العالم. في انتظار الموعد، يساوي في علاه بين كلّ البشر، موزّعا عليهم رحمته ونقمته؛ فقد شاء أن يشرك في نعمه جاحديه وفي بلاياه أولياءه، ليذيقنا جميعا في مجرى حياتنا المشترك لطفه وبأساءه. ولأنّا علمنا من لدنه هذه الحقائق نبغي رحمته ونخشى نقمته، بينما تستخفّون بكلتيهما؛ لذا كلّ أرزاء دنيانا هي من الله لنا إن مسّتنا إنذار وهي لكم عقاب. لا نتأذّى قطّ من تلك البلايا، فأوّلا لا شيء يهمّنا في حياتنا هذه سوى الخروج منها سريعا، ثمّ إن حلّت بنا ضرّاء تُعدّون أنتم مستحقّيها؛ لكن حتّى إن مسّنا الضّرّ لعيشنا معكم جنبا إلى جنب، نسعد أكثر بتعرّف نبوءات إلهيّة تدعّم حقّا إيماننا وثقتنا في رجائنا. بالمقابل إن كانت تلك البلايا تحلّ عليكم بسببنا من الآلهة الّتي تعبدون، فلِم تستمرّون في عبادتها وهي بمثل ذاك الجحود وذاك الظّلم، وكان أحقّ بها أن تساعدكم وتحميكم وسط عذاب النّصارى.

42- الرّدّ على تهمة عدم اندماجهم اجتماعيّا وقلّة جدواهم اقتصاديّا

      لكنّكم تطلبون عقابنا ببند اتّهام آخر، وتزعمون أنّا لا ننفع في شؤون الدّنيا؛ كيف يمكن أن يكون كذلك أناس يعيشون معكم جنبا إلى جنب، ويشاركونكم المأكل والملبس والسّكنى وكلّ مستلزمات الحياة؟ فما نحن بالبراهمة أو زهّاد الهنود المتنسّكين في الغابات والمنقطعين عن الحياة. نحن نذكر واجب الحمد لله ربّنا وبارينا فلا نرفض ثمرة أعماله، بل نأخذ منها باعتدال، دون تجاوز الحدّ ولا في غير الوجه الصّحيح؛ لذا لا نمتنع عن ارتياد القصبة*، ولا السّوق، ولا الحمّامات، ولا الحوانيت والمتاجر ولا المعامل، ولا الفنادق ولا الأسواق الموسميّة وشتّى المعاملات الأخرى، إذ نقطن معكم نفس العالم. نركب السّفن معكم، ومعكم أيضا نحارب* ونزرع الحقول ونتاجر، ونشترك معكم في شتّى الحرف، ونضع منتجاتنا لاستخدامكم؛ فلست أدري كيف نبدو لكم بلا نفع في شؤون حياتكم، ونحن بها ومنها نعيش*. صحيح أنّي لا أؤمّ احتفالاتك بعيدك، لكنّي وفي ذلك اليوم أيضا إنسان مثلك؛ صحيح أنّي لا أغتسل عند مطلع الفجر لأعياد ساترنوس* كيلا أفقد اللّيل والنّهار معا؛ لكنّي أغتسل في ساعة معقولة أنسب للصّحّة، تحفظ دمي وحرارتي، فقد أبرد وأشحب وأقع ميّتا إثر اغتسالي. ولا أجلس إلى المائدة في الشّارع في أعياد ليبر* كما اعتاد مصارعو الوحوش تناول عشاءهم الأخير، مع ذلك آكل من طعامك حيثما رحتُ. لا أشتري إكليلا أتوّج به رأسي؛ فقل فيم يعنيك كيف أستخدم الزّهور الّتي اشتريتها؟ أراها أبهى مفروطة ومفرّقة ومنسرحة؛ بل حتّى حين تُضفر في إكليل بأنوفنا نشمّ الإكليل، فلير من يشمّون بالشَّعر شأنهم. كذلك لا نؤمّ عروضكم ومهرجاناتكم، لكنّي أشتري ما يُعرض للبيع فيها إن طاب لي من المحالّ المختصّة؛ صحيح أنّا لا نشتري البخور لكن إن شكت منّا بلاد العرب فليعلم السّبئيّون أنّ ما يُستخدم من بضائعهم حنوطا لموتى النّصارى أكثر وأغلى ممّا يُحرق بخورا لآلهتكم. تقولون لا محالة إنّ مداخيل المعابد في تناقص كلّ يوم، فكم من النّاس يُلقون اليوم بنقود في صندوق العطايا؟ فعلا لا نكفي لمساعدة البشر وآلهتكم المتسوّلة معا، ولا نرى من واجبنا أن نعطي لغير من يستجدينا؛ فليمدّ يوبتر* لنا يده مستعطيا فيتلقّى إذّاك صدقاتنا، فإنّ شفقتنا تعطي في الشّوارع أكثر ممّا يعطي ورعكم في المعابد. "لكنّ ضرائب أخرى تتأذّى كذلك"؛ يكفي أنّ أخرى تشكرنا نحن النّصارى المسارعين إلى سداد ما علينا لأمانتنا فإنّا نستنكف عن غشّ غيرنا؛ بحيث إن عوّض هذا ما تفقد الخزينة العامّة جرّاء الغشّ والكذب في بياناتكم الجبائيّة، فمن اليسير إذّاك اعتبار النّقص الّذي تشكون منه في أحد البنود موازَنا بضمان دفعنا في البنود الأخرى.

43- لكنّهم لا يمارسون المهن المنافية للأخلاق الكريمة

    أعترف مع ذلك بصراحة أنّ البعض محقّون إن شكوا ربّما قلّة جدوى النّصارى في بعض الأنشطة؛ فما لهم أدنى خبرة بعمل القوّادين أو الغواة أو وسطاء البغاء أو القتلة المحترفين، أو المسمّمين، أو السّحرة، وكذلك الكهّان والعرّافين والمنجّمين. بل هو نفع ألاّ ننفع في تلك المجالات؛ مع هذا ما يأتِ من ضرر بمصالحكم من ملّتنا يعوّضه بالتّحقيق عوننا في مجالات أخرى؛ إذ بكَم تقدّرون خدمةَ لا أقول من يخرجون منكم الشّياطين، ولا أقول من يدعون الله من أجلكم، فقد لا تصدّقون بل أقول فقط من لا تخشون منهم شيئا؟

44- الولاة يظلمونهم فليس فيهم مجرمون

   لكنّ لا أحد في الواقع يرى تلك الخسارة الحقيقيّة والجسيمة للدّولة، ولا يعتبر ذلك الضّرر بالمجتمع لمّا ترتخصون نفوسنا نحن الأبرار، وتهدرون دماءنا نحن الأبرياء. نُشهد على ذلك وقائع جلسات محاكمكم، أنتم الّذين تشرفون يوميّا على محاكمة المساجين وبأحكامكم تزِنون لوائح أعمالهم؛ يمرّ أمامكم كلّ أنواع المجرمين بشتّى عرائض الاتّهام؛ فهل من قاتل بينهم أو نشّال أو منتهك حرمات أو هاتك أعراض أو سارق حمّامات سُجّل كمسيحيّ في نفس الوقت؟ أو حين تقدّمون للمحاكمة النّصارى بتلك الصّفة هل هناك بينهم من تسجَّل عليه جرائم مماثلة؟ كلاّ بل من ذويكم تغصّ السّجون دوما، من ذويم تتنفّس المناجم دوما، من ذويكم تسمَّن وحوش حلباتكم دوما، من ذويكم يوظّف المتعهّدون فِرق المجرمين لعروض المجالدة؛ لا مسيحيّ هناك إلاّ بصفته مسيحيّا، أو إن وُجد عليه ذنب آخر، فما هو بمسيحيّ بعد.

45- لأنّهم يتّقون الله ولأنّ الشّريعة أقدر من القوانين الوضعيّة على ردع البشر

   نحن وحدنا الأبرياء إذن؛ أوَعجبٌ أن يكون ذاك أمرا حتميّا، فإنّه حتميّ فعلا؛ من الله نفسه تعلّمنا البراءة، وعلى الوجه الأكمل نعلمها فمن المعلّم الأكمل تلقّيناها، ونرعاها بإخلاص فمن لدن خبير لا يُستخفّ به أُمرنا بها. أمّا أنتم فمن حكم البشر تعلّمتم البراءة، وسلطة البشر كذلك أمرتكم بها؛ فليس لكم إذن نظام كامل يفرض مهابته ويقودكم إلى البراءة الحقيقيّة؛ فإنّ قدرة حكمة الإنسان على تبيين ما هو خير حقّا كقدرة سلطته على الإلزام به، وتضليل الأولى في مثل سهولة تحدّي الثّانية. ولعمركم ما الأتمّ، أن يقال: "لا تقتلْ" أم: "لا تترك للغضب إلى نفسك سبيلا"؛ ما الأكمل، حظر الزّنا أم تحريم الشّهوة في اختلاجة الطّرف بمعزل عن النّاس؟ ما الأحكم، منع فعل السّوء أم حتّى كلمة السّوء أيضا؟ ما الأتقن، النّهي عن الإساءة أم حتّى عن ردّها أيضا؟ بل تعلمون كذلك أنّ الّتي تبدو من قوانينكم تنحو إلى البراءة استعيرت من الشّريعة الإلهيّة لكونها الأقدم، فقد تحدّثنا سابقا عن قدم عصر موسى. لكن ما مدى سلطان القوانين البشريّة والحال أنّ الإنسان كثيرا ما يفلت منها بالتّخفّي عنها عند ارتكاب جرائمه، وينتهكها أحيانا عن اختيار أو اضطرار؟ فكّروا كذلك في قصر مدّة أيّ عقاب عندكم فما هو بباق إلى ما بعد الموت؛ من هنا يستخفّ أبيقور* بكلّ عذاب وألم قائلا: "إن كان خفيفا فلا يُعتدّ به، وإن كان شديدا فما هو بدائم". الحقّ أنّا نحن الّذين يزننا إله بصير نحذر منه جزاء أبديّا، نسارع وحدنا إلى البراءة كما يُنتظر؛ ولإحاطة علمه واستحالة الاختفاء عنه وشدّة عذابه لا الطّويل بل السّرمديّ، نخشاه هو الّذي يجب أن يخشاه أيضا من يحكم، اللهَ لا الواليَ نخشى.

46- الرّدّ على من يعدّونهم فرقة فلسفيّة

   ثبتنا في اعتقادي أمام دعواكم علينا المطالبة بدم النّصارى؛ عرضنا وضعنا كاملا، وكيف يمكن إثبات أنّه فعلا كما قدّمناه، استنادا إلى مصداقيّة وقِدم الكتاب المقدّس، واعتراف قوى الشّرّ الرّوحيّة؛ فمن يدّعي نقض أقوالنا لا بالجعجعة اللّفظيّة بل بنفس الصّيغة الّتي توخّينا، المرتكزة على الحقيقة؟ لكن رغم ظهور حقيقتنا للجميع، ما زال المشكّكون أمام صلاح ديننا الّذي بات معروفا بالتّجربة ومن خلال تعامل النّاس معنا، يعتبرونه لا نهجا ربّانيّا بل نوعا من الفلسفة؛ فهو يشترك حسب أقوالهم مع الفلاسفة في الإقرار والمناداة بمُثل البراءة والبرّ والصّبر والاعتدال والعفّة. لماذا لا نساوى إذن بمن نقارَن بهم من حيث الأفكار في ترخيص مذهبنا وحصانته من العقاب؟ أو لِم لا يُدعون هم أيضا بصفتهم نظراءنا إلى نفس الفروض الّتي نتعرّض لرفض أدائها إلى الويلات؟ من أرغم فيلسوفا على تقديم ذبائح للآلهة أو القسم باسمها أو إخراج مصابيح في الظّهر لا طائل منها؟ بل إنّهم يسفّهون آلهتكم علنا ويهاجمون معتقداتكم في كتبهم وأنتم تشيدون بهم؛ ويُغلظ كثيرون منهم في نقد الحكّام فتؤيّدونهم، بل تكافئونهم بالتّماثيل والجرايات ولا تلقون بهم إلى الوحوش. لكن لذلك مبرّره: إذ يُدعوْن فلاسفة لا نصارى، واسم الفلاسفة هذا لا يطرد الشّياطين؛ ولا غرو فهم يعدّون الشّياطين في منزلة دون الآلهة مباشرة؛ سقراط* مثلا كثيرا ما كان يقول: "إن شاء شيطاني"؛ ولئن أبان في إنكاره آلهتكم أنّه علم شيئا من الحقيقة فإنّه أمر في آخر حياته بذبح فرّوج لأسكولابيوس* إكراما بلا شكّ لأبيه أبولّون* الّذي أعلن أنّ سقراط* أحكم النّاس*. فيا لتهوّر أبولّون* إذ شهد بالحكمة لرجل ينفي وجود الآلهة. بقدر ما تتعرّض الحقيقة إلى الكراهية، يصدُم المدافعُ عنها بصدق، بينما يُشرَّف بهذا الاسم العظيم عند مضطهديها من يحرّفها وينتحلها. بينما الفلاسفة، أولئك المضلّون المستهترون بالحقيقة، يدّعونها وهم يعادونها، ويفسدونها بادّعائها كأناس يطلبون المجد، يلتمسها النّصارى حتما ويقدّونها بنزاهة كأناس يحرصون على خلاصهم. لسنا بالتّالي سواء في العلم ولا في العمل كما تظنّون؛ بأيّ قول ثابت أجاب طاليس* سيّد الفلاسفة الطّبيعيّين كرويسوس* الّذي جاء يسأله في الرّبوبيّة فتهرّب مرّة تلو أخرى بعد انقضاء مهلة التّفكير؟ أيّ حرفيّ نصرانيّ يجد الله ويبيّنه وينسب له بحقّ كلّ ما يبحثون عنه بشأن الألوهيّة وإن زعم أفلاطون* أنّ اكتشاف صانع الكون غير يسير، وصعبٌ إن اكتُشف تفسيره للغير. أمّا إن فوضل بيننا في العفّة فإنّي أقرأ في حكم الأثينيّين على سقراط بندا يدينه كمفسد الشّباب؛ بينما لا يتّخذ المسيحيّ عن المرأة بدلا؛ تنبئنا أخبار الفلاسفة كيف كان ديوجين* يلتهب شهوة بين أحضان المومس فرينة*، وأسمع أنّ سبيوسبّوس* تلميذ أفلاطون قُتل بالزّنا؛ أمّا النّصرانيّ فيولد منذورا كرجل لزوجته فقط. وديمقريط* الّذي فقأ عينيه لأنّه كان لا يستطيع رؤية النّساء دون تشهّيهنّ ويتعذّب إن لم يظفر بهنّ بإصلاحه هذا يقرّ بعبوديّته لشهوته بينما لا يرى المسيحيّ المرأة بعينيه السّليمتين فهو بالرّوح أعمى عن الشّهوة. فإن جادلتُ في كرم الخلق فهذا ديوجين* يطأ بقدميه الموحلتين بُسُط أفلاطون* المليئة كِبْرا بكبْر من نوع آخر، أمّا النّصرانيّ فلا يتكبّر ويرتكب الإساءة حتّى إزاء الفقير. وإن حاججتُ حول التّواضع، فمعلوم طموح فيثاغور* عند الثّوريّين* وزينون* عند البريانيّين* إلى الرّياسة، أمّا النّصرانيّ فلا يطمح حتّى لمنصب ناظر بلديّ*. وإن نازعت حول دعة النّفس، فبعكس ليكرغوس* الّذي اختار إماتة نفسه جوعا لأنّ اللاّكونيّين* حوّروا قوانينه، يحمد النّصرانيّ حتّى وهو يدان؛ وأمّا إن قارنتُ بيننا في الأمانة، فمعروف لدى الجميع كيف أنكر أنكساغوراس* ما استودعه ضيوفه، بينما يُدعى النّصرانيّ أمينا* حتّى من خارج ملّته. وإن نازعت عن المروءة، فخلافا لأرسطو* الّذي دفع بنحو مخز صديقه هرمياس* إلى الهلكة لا يؤذي النّصرانيّ حتّى عدوّه. أرسطو* هذا عوض أن يعظ الإسكندر* كان يتملّقه بنحو مخز كأفلاطون* الّذي باع نفسه للحاكم ديونيسوس* من أجل بطنه. وأرستبّوس* في ردائه الأرجوانيّ وتحت مظاهر الوقار كان يعيش في المفاسد؛ وهيبياس* لقي حتفه وهو يخون مدينته؛ بينما لم يحاول أيّ نصرانيّ فعل ذلك ثأرا لإخوانه الّذين يبادون بكلّ ألوان الوحشيّة. قد يقول قائل إنّ من بيننا نحن أيضا من يحيدون عن نُظم شريعتنا، لكنّا إذّاك نكفّ عن اعتبارهم نصارى، بينما يظلّ الفلاسفة حتّى بعد تلك الفعال يتمتّعون باسم وشرف الحكمة عندكم. ما وجه الشّبه إذن بين الفيلسوف والنّصرانيّ؟ بين تابع يونان وتابع السّماء؟ بين من ديدنه الصّيت ومن ديدنه الحياة؟ بين من يعمل بالقول ومن يعمل بالفعل؟ بين من يبني ومن يهدم؟ < بين صديق وعدوّ الضّلال؟> بين مزوّر الحقيقة وصائنها؟ بين مختلسها وحارسها؟

47- تنديد بالازدواجيّة في التّعامل معهم ومع غيرهم. الفلاسفة استقوا حكمتهم من الكتاب المقدّس

   < الحقيقة إن لم يخطئ ظنّي سابقة على كلّ المذاهب>، ولقد أشرت إلى أنّ أقدميّة الكتاب المقدّس السّابق وضعه للنّاس تجعل من السّهل الاعتقاد بأنّه هو الكنز الّذي أتت منه كلّ حكمة لاحقة؛ ولولا حرصي على الحدّ من طول مقالي لتوسّعت في إثبات ذلك أيضا. من من الشّعراء وأدعياء الحكمة لم يستق قطّ من ينبوع الأنبياء؟ من هنا قطعا روى الفلاسفة ظمأ فكرهم، فبدوا بما استمدّوا منّا شبيهين بنا*؛ من هنا أيضا في اعتقادي استبعدت الفلسفةَ قوانينُ بعض الشّعوب، أعني سكّان طيبة* وإسبرطة وأرغوس*. فهم أناس يحاولون التّشبّه بنا، ولأنّهم مولعون بالشّهرة والخطابة فقط، كلّما وجدوا بفضل فضولهم شيئا هنا أو هناك في الكتاب المقدّس انتحلوه كعملهم الذّاتيّ، وهم لا يؤمنون بأنّه ربّانيّ ليمتنعوا عن تحريفه، ولا يفهمونه بقدر كاف إذ ظلّ غامضا إلى ذلك العصر، معتّما حتّى على اليهود الّذين كان يبدو خاصّا بهم*. فبقدر ما كانت الحقيقة بسيطة، كانت مماحكة البشر المعرضة عن الإيمان تتعثّر، فجرّتهم إلى خلط ظنّيّاتهم بما وجدوا فيه من اليقينيّات. فعلا لمّا وجدوا الله لم يتحدّثوا عنه كما وجدوه، بل راحوا يهاترون حول ذاته وصفاته وجوهره وحيّزه. فزعمه بعضهم لامادّيّا وآخرون مادّيّا، شأن الأفلاطونيّين والرّواقيّين*، والبعض ذا طبيعة ذرّيّة والآخرون ذا طبيعة عدديّة، على رأي أبيقور* وفيثاغور*، وادّعى غيرهم أنّه ذو جوهر ناريّ حسب ما تراءى لهيرقليط*، وأكّد الأفلاطونيّون* عنايته بالكون بينما ذهب الأبيقوريّون* إلى عطالته وغيابه عن شؤون البشر إن جاز التّعبير. جعله الرّواقيّون* خارج الكون، كالخزّاف يدير من الخارج كتلة العالم، وزعمه الأفلاطونيّون* داخل الكون كالرّبّان الّذي يسيّر من الدّاخل سفينته. واختلفوا حول الكون نفسه، إن كان قديما أو محدثا، فانيا أو أبديّا؛ وكذلك حول طبيعة النّفس، فزعمها البعض إلهيّة خالدة والآخرون قابلة للفساد؛ هكذا أدخل كلّ أو بدّل فيه على هواه. ولا عجب أن تحرّف بدع الفلاسفة الكتاب العتيق؛ فإنّ قوما من بذرتهم حرّفوا كذلك ديننا الأحدث مولدا بأفكارهم الظّنّيّة إلى أحكام فلسفيّة، فحادوا عن السّراط الواحد إلى سبل منحرفة متشعّبة ؛ نقول ذلك كيلا يبدو لأحد من تنوّع النّحل المعروف عن ديننا أنّا نشبه الفلاسفة ويحكم من هذا الاختلاف بقصور الحقيقة. لكنّا نسارع إلى إخطار المحرّفين عندنا بأنّ معيار الحقيقة ما أتى من المسيح ونقله أصحابه الّذين من الثّابت أنّ أصحاب البدع المختلفة متأخّرون عن عصرهم*. كلّ تلك المذاهب بنيت ضدّ الحقيقة على أساس الحقيقة نفسها، وذلك الزّيف من عمل أرواح الضّلال، هم الّذين دسّوا زورهم في هذا الدّين المنقذ، وأدخلوا إليه خرافات أرادوا بها، لشبهها بالحقيقة، هدم مصداقيّتها، أو اغتصابها، كيلا يرتئي أحد تصديق النّصارى لأنّهم ليسوا شعراء ولا فلاسفة، أو يرى الشّعراء والفلاسفة أحقّ بالتّصديق لأنّهم ليسوا نصارى. لذا يسخرون منّا إذ ننذر بأنّ الله سيحاسب البشر؛ فالشّعراء والفلاسفة أيضا يجعلون محكمة في العالم السّفليّ؛ وإن أنذرنا بجهنّم*، معين النّار الخفيّ الكائن تحت الأرض والمعدّ للعقاب، ضحكوا منّا، فلهم ما يشبهها في أساطيرهم: نهر من النّار في مملكة الأموات يدعونه بيريفليغيتون*. وإن ذكرنا الجنّة، محلّ النّعيم الّذي أعدّه الله لاستقبال أرواح الصّدّيقين، ويعصمه برزخ من نار عن معرفة عالمنا الأرضيّ، استأثرت بتصديقهم حقول إليزيون*. فأخبروني أرجوكم من أين أتت للفلاسفة والشّعراء هذه المفاهيم الشّبيهة بما لدينا؟ لم تأت من غير أسرارنا المقدّسة. لكن ما دامت قد أتت من أسرارنا المقدّسة، لكونها سابقة عليها، فالأصل أحقّ بالتّصديق من نسخهم المقلّدة الّتي تجد عندهم التّصديق؛ لو أتت من أخيلتهم، لعُدّت أسرارنا المقدّسة إذن نُسخا لما هو لاحق لها، وذلك محال يخالف الواقع. فالجسم لا يتبع ظلّه ولا الحقيقة صورتها أبدا. <<