ترتلّيانوس

 

دفاع عن التّوحيد

 

1- الفصول 1-10

 

حواش 

 

 

 

 

 

 

 

4

3

2

1

مقدّمة

 

دفاع عن التّوحيد

 

1 الدّعوة إلى إعادة النّظر في قضيّة النّصارى

   إن لم يسعْكم يا ولاة الامبراطوريّة الرّومانيّة النّظر علانية من علاء منزلتكم المرموقة على رأس الدّولة في قضيّة النّصارى والتّحقيق حولها أمام الجميع، إن كانت سلطتكم توْجل أو تخْجل من التّحرّي علنا وبتبصّر العدالة حول هذه القضيّة دون سواها، أخيرا وكما تمّ مؤخّرا إن كمّم اضطهاد هذه الملّة المشطّ فم الدّفاع في بعض المحاكمات المحلّيّة*، فاسمحوا على الأقلّ بأن تصل الحقيقة إلى مسامعكم من خلال رسالة خرساء لا ترافقها أيّة ضجّة. ليس لها ما ترتجي بخصوص قضيّتها فهي لا تعجَب من وضعها وتعلم أنّها تسير كغريبة في الدّنيا* ولا غرو أن تجد بين الغرباء أعداء، لكنّ لها في السّماوات أهلها ووطنها ورجاءها وحظوتها ومجدها؛ في انتظار ذلك لها رغبة واحدة: ألاّ تدان جهلا. فأيّ ضير على القوانين، ولها السّلطان المطلق في مجالها، من الاستماع إليها؟ أيزداد سلطانها حين تدين الحقيقة بدون سماعها؟ وإلاّ إن تدنها بدون سماعها فإذّاك ستستحقّ فضلا عن طابع الجور البغيض أن يُرتاب في تحيّزها لرفضها سماع ما لا تستطيع إدانته لو سمعته. نضع إذن نصب أعينكم هذا السّبب الأوّل لما في الكراهية تجاه اسم النّصارى من ظلم. والذّريعة نفسها، الّتي تبدو تبريرا لهذا الظّلم، وهي الجهل طبعا، تضاعفه وتدحضه؛ وهل أظلم من أن يكره النّاس ما يجهلون، حتّى لو استحقّ الكراهية فعلا؟ فإنّما تحقّ الكراهية متى عُلم أنّها تحقّ. أمّا في غياب العلم باستحقاقها، فبم يُستدلّ على عدل الكراهية الّذي يجب إثباته لا من الأمر الواقع، بل بالاقتناع الباطن؟ فعلا، إن كره النّاس لجهلهم بحقيقة ما يكرهون، ألا يمكن أن يكون ما يكرهون بهذا النّحو تحديدا ما يجب ألاّ يكرهوا؟ هكذا نبيّن بطلان كلا الموقفين انطلاقا من الآخر: أنّهم يجهلون في كرههم، ويكرهون ظلما في جهلهم. دليل جهلهم الّذي وإن فسّر ظلمهم يدينه أنّ كلّ من كانوا يكرهون سابقا لجهلهم بحقيقة ما يكرهون يكفّون عن كرههم فور زوال جهلهم؛ فهم يتحوّلون إلى نصارى عن اقتناع، ويكرهون مذّاك ما كانوا قبل تحوّلهم إليها، ويجاهرون بما كانوا يكرهون؛ وإنّهم ليدخلون في هذا الدّين بالأعداد الّتي يشيعها غيرهم. تتعالى الأصوات بأنّهم اندسّوا في المدينة، بأنّ النّصارى في الحقول والقرى المحصّنة والجزر، وترتفع الشّكاوى من دخول النّاس في هذا الدّين أفواجا من كلّ جنس وعمر وفئة بل وكلّ منزلة، كما لو كان ذلك ضررا فادحا. لكن لا يخطر ببالهم افتراض خير خفيّ فيه، لا يمكنهم تصوّره بنحو أقوم ولا يعجبهم تجريبه عن كثب. هنا فقط يثّاقل فضولهم الإنسانيّ؛ يحبّذون الجهل بينما يسعد غيرهم بالمعرفة؛ ولكم كان أناخرسيس* سيشنّع أكثر على هؤلاء الجاهلين الّذين يحكمون على العارفين، < كمن ينتقدون أهل الفنّ وهم يجهلونه>. يؤثرون الجهل، لكراهيتهم المسبقة؛ هكذا يحكمون مسبقا على ما يجهلون بأنّه بالصّورة الّتي يظنّون، ولو عرفوه لما أمكن أن يكرهوه، بينما الأوْلى بلا شكّ إن لم يُكتشف مسوّغ للكراهية، الكفّ فورا عن كراهية لا موجب لها. وإن اتّضح أنّ لها مبرّرا فلا داعي إذّاك لتخفيفها، بل فوق ذلك، يدعو شرف العدل نفسه إلى الاستمرار عليها. لكن قد يقال: "ليس أمر ما خيرا لمجرّد اجتذابه كثيرين: فكم من النّاس يغويهم الشّرّ < وكم منهم يستهويهم الضّلال! من ينكر ذلك؟> لكنّ ما هو شرّ حقّا لا يجرؤ المنجرّون إليه على الدّفاع عنه كخير. فقد ألقت الطّبيعة على كلّ شرّ ستارا من الخوف أو الخجل. لذا يرغب الأشرار في الاختفاء، ويتجنّبون الظّهور، ويضطربون إذا قُبض عليهم، وينكرون ما يُتّهمون به، وحتّى تحت التّعذيب لا يقرّون بسهولة ولا في كلّ الأحوال، ويأسفون بالتّأكيد عند إدانتهم: يقرّون في خفايا سرائرهم بأنّهم دُفعوا بشرّ أنفسهم ويعزون للقدر والبروج خطاياهم ولا يريدون الإقرار بأنّ ما يعلمونه شرّا هو من عند أنفسهم. فهل من شبه للنّصرانيّ بذلك؟ لا أحد يخجل أو يندم على شيء سوى أنّه لم يكن كذلك في وقت أبكر؛ إن أشير إليه افتخر وإن اتُّهم ما أنكر وإن استُجوب، بل ومن تلقاء نفسه، أقرّ وإن أدين شكر. فأيّ شرّ هذا الّذي لا يقترن بسمات الشّرّ المعتادة، من خوف وخجل وتنصّل وندم وحسرة؟ ماذا؟ أشرّ هذا الّذي يسعد المتّهم به؟ الّذي تهمته مُنية وعقابه نعمة؟ لا يجوز أن تصِم بالجنون ما ثبت أنّك تجهله.

2 انتفاء الأسس القانونيّة للأحكام الصّادرة ضدّهم

   ثمّ إن ثبت لديكم أنّنا شرّ المجرمين فلِم تعاملوننا بخلاف ما تعاملون أمثالنا، أعني المجرمين الآخرين، بينما يُفترض أن تلقى نفس الجريمة نفس المعاملة. إذا اتُّهم الآخرون بما نُتّهم به، يمكنهم، بأنفسهم أو بتوكيل غيرهم، إثبات براءتهم، يُمنحون حقّ الرّدّ ليجادلوا عن أنفسهم، إذ لا يجوز إطلاقا أن يدان متّهمون دون الدّفاع عنهم وسماع أقوالهم. النّصارى وحدهم يُمنعون كلّيّا من قول ما يبرّئهم ويعلي الحقّ ويقي القاضيَ مزلّة الظّلم، يُنتظر منهم فقط ما يكفل تأجيج الحقد العامّ: الاعتراف بالاسم لا إيضاح الجرم.

   والحال أنّكم، إن خُبّرتم عن مجرم ما لا يكفيكم اعترافه بالجرم، قتلا كان أو تعدّيا على الحرمات أو زنا بالمحارم أو خيانة للوطن لأقتصرَ على ما يُنسب إلينا- لإصدار الحكم، بل تفحصون الملابسات وطبيعة الفعل والعدد والزّمان والكيف والمكان والشّهود والشّركاء. أمّا عنّا، فلا شيء من هذا، بل المطلوب انتزاع اعترافنا بما يشاع عنّا باطلا: كم من ذبائح الأطفال ذاق كلّ منّا، وكم من جرائم الزّنا بالمحارم ارتكب تحت جنح الظّلام، وهل شهد جرمه طهاة أو كلاب؛ ولعمري أيّ مجد لحاكم يفضح واحدا منّا التهم مائة طفل! بل نجد التّحقيق ممنوعا أصلا في حالتنا؛ فعلا لمّا كان بلينيوس سيكندوس* يحكم إقليما، بعد إعدام عدد من النّصارى وتجريد آخرين من مراتبهم، استشار وقد أعيته الحيلة بشأن كثرتهم ترايانوس* الامبراطور يومذاك عمّا يفعل معهم والحال تلك، شارحا له أنّه فيما عدا إصرارهم على رفض تقديم القرابين، لم يجد بشأن عباداتهم سوى اجتماعاتهم في الأسحار لترتيل أناشيد تمجّد المسيح كإله والتزامهم الجماعيّ بنظام يحرّم قتل النّفس والزّنا وإيذاء الغير والخيانة وكلّ المنكرات. إذّاك ردّ ترايانوس* ينهاه قطعيّا عن تتبّع جماعتهم ويأمره في نفس الوقت إن أُحضروا إليه بمعاقبتهم*. فيا له من حكم شوّشته ضرورة غريبة: ينهى عن متابعتهم باعتبارهم غير مذنبين ويأمر بمعاقبتهم بصفتهم مجرمين. يتسامح ويشطّ في العقاب، يتغاضى ويحذّر! لِم تعرّض نفسك للمحاسبة؟ إن تُدن فلِم لا تحقّق في نفس الوقت؟ إن ترفض التّقصّي، فلم لا تغفر كذلك؟ هناك لملاحقة اللّصوص كتيبة معيّنة بالقرعة في كلّ إقليم، وكلّ فرد مجنّد لتتبّع الأعداء العموميّين والخونة، بل يطال التّحقيق شركاءهم والشّهود المتستّرين عليهم. عن النّصرانيّ وحده لا يجوز التّحقيق، لكن يجوز تقديمه للقضاء كما لو جُعل التّحقيق لهدف آخر سوى تقديم المشتبه فيهم للمحاكمة. هكذا تدينون من أحيل إليكم ولم يطلبه أحد للعدالة، وهو كما يبدو لي لم يستحقّ العقاب لأنّه مجرم بل لأنّه قُبض عليه دون أن يكون مطلوبا للعدالة. لكنّكم تتصرّفون إزاءنا خلافا للإجراءات القضائيّة في هذا أيضا: أنّكم تستخدمون التّعذيب مع الآخرين ليقرّوا بما ينكرون، ومع النّصارى وحدهم لينكروا، بينما المفروض، إن وُجد جرم، أن ننكر وتكرهونا بالتّعذيب على الإقرار. ولا ترون من داع للتّحقيق حول الجرائم بالاستجواب، بدعوى اقتناعكم، من مجرّد الاسم، أنّهم ارتكبوها، بينما لا تألون جهدا في حالة اعتراف قاتل بجرمه، ومع علمكم بطبيعة الجريمة، حتّى تنتزعوا منه تفاصيلها بالتّرتيب. والأدهى أنّكم وإن نسبتم لنا تلك الجرائم من مجرّد إقرارنا بالاسم، تحاولون ردّنا عنه بالتّعذيب حتّى ننفي بإنكار الاسم الجرائم المنسوبة إلينا بناء على اعترافنا به. لكن لا إخالكم تريدون أن نهلك مع ظنّكم بأنّا شرّ النّاس، فقد اعتدتم أن تقولوا للقاتل: "أنكرْ" وتأمروا بتقطيع أوصال منتهك الحرمات إن تمسّك بالإقرار؛ إن لم تعاملونا نفس المعاملة، فذلك أنّكم تقرّون ضمنيّا ببراءتنا إذ لا تريدون أن نتمسّك نحن الأبرياء بديننا وأنتم تعلمون أنّكم تنزلون عليه العقاب لا بمقتضى العدل بل لضرورات السّياسة*. يعترف الواحد منّا: "أنا نصرانيّ"؛ يعلن عمّا هو، وتريد أن تسمع منه ما ليس هو؛ أنتم الموكول إليكم إظهار الحقيقة تجتهدون لسماع الكذب منّا نحن فقط؛ يقول: "أقرّ بأنّي كما سألتَ، فلِم تلوي أطرافي خلافا لكلّ الأعراف؟ أعترف وتعذّبني: ماذا ستفعل إذن لو أنكرتُ؟" لمّا ينفي الآخرون بإصرار لا تصدّقونهم بسهولة، أمّا نحن فحالما ننكر تصدّقوننا. هذا الانحراف حريّ بأن يريبكم بوجود قوّة تعمل في الخفاء تدفعكم إلى التّصرّف بما يخالف الأصول، وطبيعة الحكم، بل والقوانين نفسها: فهي، إن لم أخطئ التّقدير، تأمر بالكشف عن المجرمين لا بإخفائهم، وتدعو إلى إدانة المعترفين بالجريمة لا الصّفح عنهم. ذاك ما توضّحه توصيات مجلس الشّيوخ*، ومراسيم الأباطرة؛ هذه الدّولة الّتي أنتم خدّامها سلطة مدنيّة لا استبداديّة. عند الطّغاة يسلّط التّعذيب فعلا كعقاب، أمّا عندكم فيخفَّف إلى وسيلة استنطاق فقط. فالتزموا بالقانون الّذي يقرّ التّعذيب حتّى حصول الاعتراف، وإن استُبق بالإقرار فلا داعي له، بل يجب إذّاك إفساح المجال لإصدار الحكم، ولا بدّ عندئذ من توقيع العقاب على الجاني كما يستحقّ لا إعفاؤه منه. إذ لا أحد يرغب في العفو عنه ولا يجوز أن يريد أحد ذلك؛ لذا لا يُكره أحد على الإنكار؛ تتّهم النّصرانيّ بكلّ الجرائم، بأنّه عدوّ الآلهة، والأباطرة، والقوانين، والأعراف، والطّبيعة بكاملها، وتكرهه على الإنكار لتغفر له ما لا تستطيع غفرانه له إن لم ينكر. أنت تتلاعب بالقوانين: تريد إذن أن ينكر ذنبه لتبرّئه، وتزيل بدون رضاه كلّ شبهة تتعلّق بماضيه؛ من أين أتى هذا الانحراف، ألاّ تعتبروه في اعترافه التّلقائيّ أجدر بالتّصديق ممّا هو في إنكاره القسريّ؟ أليس المجبر على الإنكار مرائيا في إنكاره ولا يلبث بعد عفو المحكمة رأسا أن يرتدّ نصرانيّا ضاحكا على عدائكم. وعليه ما دمتم تتّخذون إزاءنا في كلّ شيء إجراءات تخالف ما تعاملون به المجرمين الآخرين جاعلين كلّ همّكم تجريدنا من اسمنا، وسنتجرّد منه فعلا لو صنعنا ما يصنع غيرنا، يمكن أن تدركوا أنّ القضيّة لا تتعلّق هنا بجرم بل باسم تلاحقه باضطهادها قوّة مؤثّرة حاقدة هدفها أن يرفض النّاس أن يعلموا يقينا ما يعلمون يقينا أنّهم يجهلون. لذا يظنّون بنا أمورا لم تثبت أبدا، ويرفضون تقصّي الحقيقة مخافة أن يتبيّن بطلان ما آثروا تصديقه ليُدينوا ذلك الاسم الّذي تبغضه تلك القوّة المناوئة بناء على جرائم مفترضة غير مثبتة من مجرّد الإقرار به؛ نعذََّب إن أقررنا ونعاقَب إن أصررنا ويُصفح عنّا إن أنكرنا فإنّما على الاسم شُنّت الحرب. في نهاية الأمر لِم تدعون الواحد منّا بناء على لائحتكم بصفته نصرانيّا؟ لم لا تدعونه كذلك بصفته قاتلا؟ أو زانيا بالمحارم أو غير ذلك ممّا تظنّون بنا؟ بشأننا نحن فقط تُخجل أو تزعج تسمية الجرائم ذاتها عند الحكم. إن لم يكن اسم النّصرانيّ اسم أيّ جرم محدّد فمن الخطل حقّا أن ينحصر الجرم في اسمه.

3- تعود تلك الأحكام إلى كراهيتهم بناء على أفكار مسبقة

   ماذا؟ يبلغ بجلّ النّاس بغضهم الأعمى لهذا الاسم أنّهم حتّى وهم يدلون بشهادة لأحد بالخير، يشوبونها بالطّعن في اسمنا؛ يقول هذا: "أكرمْ بقيّوس سيّوس رجلا فاضلا، إلاّ أنّه مسيحيّ"؛ ويقول ذاك: "أكبرْ بلوقيوس تيتيوس رجلا حكيما لولا تحوّله فجأة إلى المسيحيّة"؛ ولا يتبادر لذهن أحد أنّ قيّوس فاضل ولوقيوس حكيم بالتّحديد لأنّه مسيحيّ، أو هو مسيحيّ بالتّحديد لأنّه حكيم وفاضل. يمدحون ما يعلمون ويشتمون ما يجهلون ويحاربون ما يعلمون بسبب ما يجهلون، والحال أنّ توسّم الخفيّ من الجليّ أحقّ من إدانة الجليّ مسبقا بناء على الخفيّ. وآخرون يستقبحون في من عرفوهم في الماضي قبل حمل هذا الاسم لئاما متقلّبين أخسّة ما يمدحون؛ "أيّة امرأة عابثة لعوب! وأيّ فتى لاه طروب! صارا نصارى"؛ هكذا أُعطي هذا الاسم عنوانا لعمليّة إصلاحهما. كثيرون أيضا من قايضوا مصالحهم وراحتهم بهذه الكراهية راضين بالأذى ما دام لا يوجد ببيتهم ما يكرهون؛ الزّوجة بعدما صارت عفيفة طلّقها زوجها الّذي لم يعد هناك ما يدعوه إلى الغيرة، والابن بعدما غدا برّا مطيعا حرمه من الميراث أبوه الّذي كان أمس صبورا، والعبد الّذي بات أمينا أبعده عن ناظريه سيّده الّذي كان أمس غفورا؛ كلّما أُصلح أحد بهذا الدّين سيء مَن حوله بصلاحه: فلا صلاح يوازن بغض النّصارى! إن بلغ بغض الاسم هذا المدى، فما ذنب الأسماء يا ترى؟ وبم تتّهم ألفاظ، إلاّ إن كان في لفظ الاسم ما يوحي بالهمجيّة أو الشّؤم أو السّوء أو الفحش؟ والحال أنّ اسم المسيحيّين مشتقّ من معنى المسح والادّهان*. ورغم أنّكم تنطقونه خطأ*، فما لكم حتّى باسمنا معرفة ثابتة، هو من الرّفق والسّماحة؛ لذا أنتم تكرهون في أناس أبرياء حتّى اسمهم البريء. لكنّ الملّة تُكره أساسا في اسم صاحبها. أيّة غرابة في أن تشتقّ شيعة من اسم مؤسّسها كنية لأتباعها؟ ألا يُدعى الفلاسفة بناء على أسماء مؤسّسي مذاهبهم أفلاطونيّين* وأبيقوريّين* وفيثاغوريّين*؟ أو نسبة إلى أماكن اجتماعاتهم ومجالسهم رواقيّين* وأكاديميّين*؟ أولا يشتقّ كذلك الأطبّاء اسمهم من إرسسْتراتوس* والنّحاة من أرسطراخوس* والطّهاة من أبيقيوس*؟ مع ذلك لا يسيء إلى أحد أن يجهر باسمه مع المذهب المنقول عن مؤسّسه؛ لا محالة إن أثبت أحد أنّ المعلّم سيّء والفرقة سيّئة، فقد أثبت كذلك أنّ الاسم سيّء وجدير بالكراهية انطلاقا من تجريم المؤسّس والأتباع؛ وقبل ذلك كان كره الاسم يقتضي تعرّف الملّة من مؤسّسها أو المؤسّس من ملّته. لكن هنا يُعمد دون اهتمام بالتّحقيق عنهما ودون التّعرّف عليهما إلى التّشهير بالاسم ومحاربته بلا هوادة؛ بكلمة واحدة تُدينون مسبقا ملّة تجهلونها ومعلّما تجهلونه لأنّهما يحملان اسما معيّنا، لا لثبوت جريمة عليهما.

4- رفض ترخيص المسيحيّة ظلم صارخ

   بعد هذه التّوطئة الّتي أردت التّنديد فيها بالظّلم الّذي يتضمّنه بغض الجمهور لنا، سأوجّه الآن مرافعتي إلى إثبات براءتنا، ولن أقتصر على تفنيد المطاعن المأخوذة علينا، بل سأردّها كذلك على ثالبينا ليعلم النّاس من ذلك أيضا أنّ النّصارى برءاء ممّا لا يجهلون وجوده فيهم هم بالأحرى، ويخجل في نفس الوقت من يتّهموننا، لا أقول اتّهام أشرار للأخيار، بل إن شاؤوا اتّهام بشر لبشر مثلهم. سنجيب بالتّفصيل على ما نتّهم به من جرائم شتّى يدّعون أنّنا نرتكبها سرّا بينما وجدناهم يرتكبونها جهرا، ويُنظر إلينا على أساسها كمجرمين وسخفاء أهل للعقاب والاستهزاء. لكن ما دمتم في نهاية الأمر، إن استوفت حقيقتنا كلّ الشّروط، تشهرون ضدّها سلطة القوانين زاعمين أنّه لا يجب اعتبار أيّ شيء بعدها وأنّ واجب الطّاعة ولو كرها مقدَّم على الحقيقة، سأبدأ بمحاجّتكم حول تلك القوانين بصفتكم حماتها. بدءا، لمّا تصرّحون بصرامة بموجب القانون: "وجودكم غير مرخّص"، وتأمرون بوضع حكمكم هذا موضع التّنفيذ بدون رجعة ولا رحمة، ترفعون من علاء سلطتكم شعار التّسلّط والجبروت، إن رفضتم ترخيص وجودنا لأنّ تلك مشيئتكم، لا لأنّ القانون قضى بحظره. إن كنتم ترفضون ترخيصه لأنّه لا يجب أن يرخَّص، فقطعا لا يجب أن يُسمح بما فيه الشّرّ ومن ثمّة يُحكم يقينا بترخيص ما فيه الخير؛ إن وجدتُ ما حظر قانونك صالحا، أليس واضحا على أساس ذلك الحكم أنّه لا يستطيع أن يحظر عليّ ما يحظر بصفة مشروعة إن كان فيه شرّ؟ إن أخطأ قانونك فذاك في اعتقادي لأنّه من وضع الإنسان فهو لم يُنزَّل من السّماء. أعجبٌ أن أمكن لإنسان أن يخطئ بسنّ قانون أو أن يعود إلى الحقّ بجبّه؟ ألم يعدّل اللّخدمونيّون* قوانين ليكرغوس* نفسه، مسبّبين بذلك لصاحبها من الألم ما دفعه إلى إماتة نفسه جوعا بمنأى عن النّاس؟ أوَلستم أنتم أنفسكم، بفضل التّجارب الّتي تنير ظلمات الأزمنة القديمة تقصّون وتقطّعون كلّ يوم في غابة القوانين البالية بفؤوس المراسيم والقرارات الامبراطوريّة الجديدة؟ ألم يلغ بالأمس سويروس* الّذي لايضاهي حزمه أحد بين الأباطرة القوانين البابيّة* النّخرة الّتي تجبر على تربية الأطفال قبل عقد القران وفق القانون اليوليويّ* بعدما هرمت تلك السّلطة؟ كذلك كانت توجد قوانين تبيح للدّائنين قطع المدينين إربا إن أدانهم القانون ثمّ ألغيت لاحقا هذه الوحشيّة بموافقة الجميع، وحُوّل عقاب الإعدام إلى وصمة خزي؛ وفي اللّجوء إلى بيع أملاك المدين بالمزاد تفضيل لتخضيب وجهه بدمه على إراقته*. كم يخفى عليكم من قوانين تحتاج إلى التّنقيح، فلا عمرها ولا شرف مشترعيها يمنحها صلاحيّتها بل عدالتها فقط! لذا لمّا يُتبيّن ظلمها تدان بصفة مشروعة، وإن كانت تدين. كيف نقول إنّها ظالمة؟ بل فوق ذلك، إن كانت تعاقب مجرّد اسم من حقّنا القول أيضا بأنّها خرقاء. فإن كانت تعاقب أفعالا، لِم تعاقب بناء على الاسم وحده أفعالا تثبتها لدى الآخرين بناء على الدّليل المادّيّ لا الاسم؟ أنا زان بالمحارم، فلِم لا يحقّقون في ذلك؟ أنا قاتل أطفال فلم لا ينتزعون منّي بالتّعذيب الإقرار بجرمي؟ قدحت في الذّات الامبراطوريّة أو جدّفت على الآلهة، فلم لا يُستمع إلى ما أدافع به عن نفسي؟ لا قانون يمنع بيان ما يحظره، فلا القاضي بمُنزِل عقابا عادلا إن لم يتحقّق من فعل المتّهم ما يمنعه القانون، ولا المواطن بممتثل للقوانين بالتزام إن كان يجهل ما الّذي تعاقب عليه. ولا قانونَ يستمدّ الاقتناع بعدالته من ذاته فقط، بل ممّن ينتظر امتثالهم له؛ وأيّ قانون مشبوه إن لم يقبل الفحص ومرجّحٌ فسادُه إن فُرض دون تعليل.

5- نبذة تاريخيّة عن موقف الأباطرة النّصارى مع الإشادة بالمتسامحين والتّنديد بالمتعنّتين

   للبحث في مسألة مصدر القوانين الّتي تعنينا هنا، نشير إلى وجود مرسوم قديم يقضي بألاّ يقرّ الامبراطور أيّ إله ما لم يصادق عليه مجلس الشّيوخ*؛ يعلم مرقس إيميليوس* ذلك بخصوص إلهه ألبُرنوس*؛ وهذا يؤيّد ما نذهب إليه من أنّ الألوهة عندكم مسألة تابعة لنظر البشر؛ إن لم يرقْ إله للإنسان فلن يكون إلها؛ ها هو الإنسان إذن بات هو الّذي يُرجى رضاه على الإله. لذا نجد أنّ تيبريوس* الّذي في عهده دخل اسم المسيحيّين العالم، لمّا أحيط علما من بلاد سورية فلسطين بالأحداث الّتي جلَت صحّة ألوهته، أحال المسألة إلى مجلس الشّيوخ*، مدليا هو الأوّل بموافقته، فرفض مجلس الشّيوخ* لأنّه لم يتحقّق بنفسه؛ تمسّك قيصر بموقفه مهدّدا بالويل متّهمي النّصارى. ارجعوا إلى سجلاّتكم تجدوا فيها أنّ نيرون* أوّل من شهر السّيف الامبراطوريّ وبمنتهى الوحشيّة ضدّ هذه الملّة الّتي ظهرت آنذاك تحديدا في رومية؛ لكنّا نعتزّ بأن يكون مثله مفتتح اضطهادنا. إذ يمكن لكلّ من يعرفه إدراك أنّ لا شيء يدينه نيرون* إلاّ وفيه خير ما. حاول كذلك دومتيانوس*، وفيه شيء من وحشيّة نيرون* لكنّه احتفظ معها بشيء من الإنسانيّة، فما لبث أن ارتدع بسهولة عمّا شرع فيه، بل وأعاد كذلك من أمر بنفيهم. هكذا كان دوما مضطهدونا: بغاة عتاة كفرة فجرة، اعتدتم أنتم أنفسكم إدانتهم ودأبتم على ردّ الاعتبار لمن حكموا عليهم*. لكن ضمن كلّ الأباطرة العقلاء منذ ذاك العصر حتّى امبراطورنا الحاليّ الإنسانيّ والرّبّانيّ، اذكروا أيّ مضطهد للنّصارى. بينما نستطيع أن نذكر منهم حاميا لنا إن رجعتم إلى رسالة مرقس أورليوس* الامبراطور الرّزين الرّصين، حيث يشهد بانتهاء الجفاف الّذي ضرب جيش جرمانية* بغيث يعود فضل الحصول عليه إلى صلوات جنود نصارى؛ ولئن لم يرفع العقاب عنهم جهرة، فقد أبطل مفعوله بنحو آخر علنا، بل مضيفا عقاب متّهميهم وبكلّ صرامة. فأيّ قوانين هي تلك الّتي لا يسلّطها ضدّنا غير البغاة القساة الكفرة الفجرة المكرة الخبل؟ الّتي أبطلها جزئيّا ترايانوس* برفضه إجراء التّحقيق حولنا، والّتي لم يطبّقها أباطرة كهدريانوس*، مستكشف كلّ غريب، ولا فسبسيانوس*، مضطهد اليهود، ولا بيوس* او فيروس*. في كلّ الأحوال أرجحُ أن يحكم باستئصال الأشرار الأخيارُ أعداؤهم، من أن يفعل ذلك حلفاؤهم.

6- الرّدّ على المشهّرين بهم لتركهم سنن السّلف بأنّ الرّومان أنفسهم تخلّوا عنها

   أودّ الآن أن يجيبني حماة قوانين ومؤسّسات الآباء الأمناءُ، الثّائرون لها من منتهكيها، عن مدى أمانتهم وامتثالهم لنواميس الألى، إن لم يحيدوا عن أيّ منها، إن لم يمرقوا على أيّ منها، إن لم يلغوا هذه الضّوابط الضّروريّة والمناسبة إلى أقصى درجة لأيّ منهج في الحياة. لماذا اختفت تلكم القوانين الّتي كانت تحدّ البذخ والمطامع؟ الّتي كانت تنهى عن إنفاق أكثر من مائة دانق على العشاء، وتقديم أكثر من دجاجة، وغير مسمّنة، والّتي رفتت من عضويّة مجلس الشّيوخ* أحد الأشراف لأنّه كان يملك عشرة أرطال من الفضّة باعتبارها علامة واضحة على مطامحه السّياسيّة، والّتي كانت تهدّ المسارح المشيدة لإفساد الأخلاق فور إنشائها، والّتي لم تكن تسمح باغتصاب شارات التّشريفات وكرم الأصل اعتباطا وبلا عقاب؟ اليوم أرى أنّه ينبغي أن يُطلق اسم مآدب المائة على تلك الّتي يُنفق فيها أكثر من مائة ألف درهم، ووأنّ الفضّة المستخرجة من المناجم تحوّل إلى أطباق لا فرق في ذلك بين أعضاء مجلس الشّيوخ والعبيد، حتّى من لم يزالوا تحت عفق السّياط؛ وأرى مسارح، لا مسرحا واحدا في الهواء الطّلق. فكيلا تفتر حتّى في الشّتاء تلك المتعة الخليعة ابتدع اللّخدمونيّون* قبل غيرهم تلك الكبابيد المقلنسة المقيتة لمشاهدة الألعاب؛ أرى كذلك أن لم يبق فرق يذكر في اللّباس بين السّيّدات والمومسات*. بخصوص النّساء اندثرت كذلك تشريعات الأجداد الّتي كانت تشجّع الاحتشام والاعتدال، أيّام كانت الواحدة منهنّ لا تعرف ذهبا سوى الخاتم الّذي نذرها به خطيبها قبل الزّواج، ويمتنعن عن الخمر حتّى أنّ ربّة بيت قتلها ذووها جوعا من قبل ذويها لفتحها مخزن النّبيذ، وأنّ متنيوس* قتل زوجته في عهد رومولوس* دون عقاب لأنّها مسّت الخمر. لذا كان عليهنّ أن يعرضن أفواههنّ لذويهنّ ليُعرف ذلك من أنفاسهنّ. أين اليوم تلك السّعادة الأسريّة الّتي أثمرتها أخلاق تلك الأيّام وبفضلها لم يسجّل أيّ بيت طلاقا طيلة حوالي ستّمائة سنة منذ إنشاء رومية؟ أمّا الآن فما من عضو بالمرأة إلاّ ومثقل بالذّهب، ولا فم إلاّ ويعبق بأبخرة الخمور، والطّلاق صار أمنية كما لو كان ثمرة الزّواج المرجوّة. أمّا التّشريعات الاحتياطيّة الّتي سنّها آباؤكم بشأن آلهتكم، فقد ألغيتموها يا أبرّ البنين: أزال القنصلان* بمصادقة مجلس الشّيوخ* الأب ليبر* مع طقوسه لا في رومية فقط بل في كلّ أرجاء إيطالية. وأبعد القنصلان بيسون* وغابينوس*، وما هما قطعا من النّصارى، سرابيس* وإيزيس* وهربقراطس* مع رفيقهم ذي رأس الكلب* من الكابتوليوم* ونبذاهم بذلك من مجمع الآلهة بعدما دمّرا هياكلهم أيضا للحدّ من مفاسد تلك الضّلالات المخزية وغير المجدية؛ لكنّكم أعدتموهم ورددتم لهم جلالهم بالكامل. فأين الاحترام وأين الإجلال الواجب للجدود؟ في الملبس والمأكل والتّربية والتّفكير، بل حتّى في اللّغة تخلّيتم عن سنّة السّلف؛ لا تكفّون عن الثّناء على الماضي وتتّبعون في حياتكم بدع العصر؛ يتّضح من كلّ ذلك أنّكم، بينما تتخلّون عن سنن السّلف الصّالحة، ترعون وتصونون تلك الّتي ما كان يجب حفظها وتفرّطون في الّتي كان يجب التّمسّك بها. حتّى أهمّ إرث لأسلافكم تودّون الظّهور كحفظته الأمناء وتتّهمون النّصارى خاصّة بانتهاكه، أعني التّفاني في عبادة الآلهة، وهو ما أخطأ السّلف بشأنه أشنع الخطإ، رغم إعادتكم بناء هياكل لسيرابيس* الّذي غدا رومانيّا، ورغم إلغائكم عربداتكم لباخوس* الّذي غدا طليانيّا، سأبيّن في محلّه أنّكم تزدرونه وتهملونه وتدمّرونه مستخفّين بسلطة الأجداد. وها أنا سأردّ الآن على تلك الشّائعة المغرضة عن جرائمنا السّرّيّة، لأفسح أمامي المجال للأمور العلنيّة.

7- تكذيب الإشاعات كزنا المحارم وتقديم الضّحايا البشريّة

    يقال عنّا إنّنا أسوأ المجرمين نقتل في طقوسنا طفلا ونقتات به، وبعد الوليمة نزني بالمحارم بعدما تقلب الشّموع كلاب هي بمثابة وسطاء الظّلام لإخفاء فواحشنا المنكرة. ذاك ما يشاع عنّا باستمرار، وما لم تكلّفوا أنفسكم على طول المدى عناء كشفه للعيان؛ بيّنوه إن كنتم تصدّقون به أو لا تصدّقوه إن لم تبيّنوه؛ فمن تعتيمكم على الأمر يستدلّ مبدئيّا على أنّ لا وجود لما لا تجرؤون كشفه بأنفسكم؛ وبمهمّة مخالفة تماما تأمرون الجلاّد في حالة النّصارى: حملهم على إنكار هويّتهم لا الإقرار بأفعالهم. يعود تاريخ هذه الملّة كما أشرنا آنفا إلى عصر تيبريوس*؛ بدأت الحقيقة ومعها كراهيتها، عوديت منذ ظهورها؛ صار كلّ من لا ينتمون إليها أعداء لها: اليهود بالأخصّ غلاّ، والجند بغيا، وحتّى خدمنا كما هو طبيعيّ. يوميّا نهاجَم، يوميّا يُغدر بنا، مرارا وتكرارا نباغَت في اجتماعاتنا وندواتنا. فمن وجد أبدا بهذا النّحو طفلا يصرخ وهو يذبح؟ من احتفظ للقاضي بأفواه أولئك السّعالى والأغوال* كما وجدها ملطّخة بدم الضّحايا؟ من عثر على أثر لرجس في الزّوجات المسيحيّات؟ من اكتشف مثل تلك الجرائم البشعة فتستّر عليها أو بلّغ عنها جارّا أمام الحاكم الجناة؟ إن كنّا نتخفّى باستمرار فمتى كُشف ما نأتي من جرائم؟ بل ممّن أمكن أن يُكشف؟ طبعا من غير المتّهمين أنفسهم وبحكم طبيعة دينهم أصلا، إذ يطالَبون بالقسم على كتمان أسراره؛ وإذا كانت الأسرار السّاموتراقيّة* والإليوسيّة* تبقى طيّ الكتمان، فكم ستثير تلك أكثر منها غضب النّاس حاضرا وغضب اللّه المستبقى ليوم آت. إن لم يكشفوا إذن أسرارهم، فلا بدّ أنّ أجانب عن ملّتهم وشوا بهم؛ ومن أين لأجانب العلم ما دامت ديانات الأسرار، حتّى الّتي جوهرها التّقوى، تستبعد الغرباء وتحتاط من الشّهود، إلاّ إن كانوا كفرة فهم أقلّ خوفا*؟ طبيعة الإشاعة معروفة للجميع. من أقوالكم أنّ "لا آفة أسرع من الشّائعة"*. لماذا تعدّ الإشاعة شرّا؟ ألسرعتها؟ ألأنّها غالبا تشهير؟ أم لأنّها زور؟ هي الّتي حتّى إن حملت نواة من الصّدق لا تخلو من الكذب، فتنقص وتزيد وتحوّر في الحقيقة. لماذا؟ لأنّ شرط وجودها هو ألاّ تستمرّ إلاّ إن كذبت، وتبقى طالما لم تثبت ما تزعم، فحالما تثبته ينتهي وجودها، كما لو أنّها أنجزت مهمّة الإخبار بإذاعة النّبإ، ومن ثمّ يؤخذ على أنّه خبر صحيح ويشار إليه كذلك. لا أحد يقول مثلا: "يقال: وقع كذا برومية" أو "يشاع أنّ فلانا اختير لولاية ذلك الإقليم"، بل :"ولّي فلان ذلك الإقليم" و"وقع برومية كذا". لا مجال للإشاعة الّتي هي اسم الظّنّيّ غير الثّابت حيثما يوجد المحقّق الثّابت؛ وهل يصدّق الإشاعة لعمري غير أخي الجهالة؟ العاقل الرّصين لا يصدّق ما ليس ثابتا؛ يمكن للجميع أن يروا أنّها، مهما بلغت رقعة انتشارها، ومهما بلغت من الوثوق، وُلدت حتما من مصدر واحد محدّد في آخر المطاف، تسلّلت منه زحفا في قنوات الألسن والآذان. هكذا يطغى العيب الّذي تحمله هذه البذرة البسيطة على كلّ جوانب الإشاعة، إلى درجة أنّ لا أحد يفكّر ما إذا كان هذا الفم الأوّل قد بذر كذبا، وهو ما يحصل كثيرا إمّا بروح الكراهية، أو للحكم بالشّبهة، أو لمجرّد حبّ الكذب غير المكتسب بل الفطريّ عند بعض النّاس. لكن لحسن الحظّ يكشف الزّمان كلّ الخفايا، كما تشهد بذلك حِكمكم وأمثالكم السّائرة*، بذلك قضت الطّبيعة الإلهيّة كيلا يظلّ شيء خافيا أبد الدّهر، حتّى ما لم تنشره الشّهرة. لا غرو إذن أن تكون الشّهرة الشّاهد الوحيد على جرائم النّصارى؛ ذاك هو الدّليل الوحيد الّذي تستشهدون به ضدّنا، والّذي لم يستطع حتّى اليوم إثبات ما أشاع عنّا فيما مضى ورسّخ في الأذهان بمرّ الزّمان.

8- سخف تلك الإشاعات

   لكي أحكّم الطّبيعة نفسها ضدّ من يرون تلك الإشاعات جديرة بالتّصديق، ها نحن نعرض عليكم جزاء تلكم الفعال: إنّها تعد بالحياة الأبديّة؛ صدّقوا ذلك مؤقّتا؛ أسألك عندئذ، أنت الّذي تؤمن بذلك، أتعطي مثل تلك الأهمّية لأن تصل إليها بهذا الوزر على ضميرك. تعال أغمد سيفك في هذا الطّفل الّذي ليس عدوّا لأحد ولا مذنبا بشيء، الّذي هو ابن الجميع، وإلاّ إن تركت لغيرك هذه المهمّة، فلتحضر فقط إلى جانب بشر يلفظ الأنفاس قبلما عاش، وانتظر أن تفارق بدنه روحه الغضّة، واجمع دمه الزّكيّ الجنيّ فأغمس فيه خبزك، وهنيئا خذ منه وطرك. ثمّ استلق أمام المائدة واحفظ مكانيْ أمّك وأختك حولها، تبيّنهما جيّدا حتّى لا تخطئ لمّا ينزل بفضل الكلاب ظلام اللّيل؛ فستكون ارتكبت جرما شنيعا إن لم تزن بمحارمك. وتعيش بعدما ولجت إلى هذه الحياة وحملت ختمها حياة أبديّة. أودّ أن تجيبني إن كانت الحياة الأبديّة تساوي هذا الثّمن؛ وإلاّ فلا ينبغي تصديق ذلك. وحتّى لو صدّقتَ أُنكر أن تكون لك فيه رغبة، وحتّى لو رغبتَ أنفي أن يكون بمقدورك فعله. فلِم تصدّق والحال تلك أن يكون بوسع الآخرين إتيانه، ما دمتم أنتم لا تستطيعون فعله؟ ولِم لا تستطيعون إن كان غيركم يستطيع؟ ما أظنّنا إلاّ من طينة مختلفة، فهل نحن من أشباه الكلاب* أو من الوحوش والأغوال*؟ ألدينا تشكيلة مختلفة من الأسنان، أننفرد بغرائز تدفعنا إلى الشّبق الحرام؟ ما دمتَ تصدّق هذه الأشياء عن بشر يمكن أن تفعلها أنت أيضا؛ أنت إنسان كالنّصرانيّ تماما؛ وما لا يمكن أن تفعله يجب ألاّ تصدّقه؛ فالنّصرانيّ إنسان مثلك. لكن قد يقال إنّ ذلك يُعرض ويُفرض عليهم وهم يجهلون؛ فعلا لم يكونوا يعلمون بما يؤكّد حول النّصارى، بينما كان المفروض أن يحقّقوا حوله بأنفسهم ويتثبّتوا منه باحتياط. عادة من يريدون الدّخول في ديانة ما، في اعتقادي، الحضور أوّلا عند الأب حافظ أسرارها لوصف ما يتعيّن جلبه. سيقول المعلّم إذّاك: "عليك بطفل ما زال غضّ الإهاب يجهل الموت ويبتسم تحت شفرة الموسى، وبخبز تثرده في دمه، وكذلك شمعدان وفوانيس وعدد من الكلاب ولُقَم لتنطّ لالتقافها فتوقع الشّموع؛ ويجب بالأخصّ أن تأتي مع أمّك وأختك". ماذا إذن لو لم تريدا مرافقتك، بل لو لم توجدا أصلا؟ ماذا عن النّصارى الّذين يعيشون فرادى بلا أقارب؟ لن يكون المريد نصرانيّا إذن، على ما أرى، ما لم يكن ابنا أو أخا. والآن ماذا لو أُعدّت لهم كلّ هذه الأشياء بغير علمهم؟ لا شكّ إذن أنّهم سيعلمونها بعدئذ ويرتضونها. أتراهم سيخافون العقاب إن بلّغوا عنها وهم إذّاك سيستحقّون حماية القانون بل وسيؤثرون الموت على العيش وتلك الجرائم تثقل ضمائرهم. هبهم جدلا يخافون الآن، فلم يتمادون في تلك الممارسات؟ فبيّن أنّ المرء لا يرضى بالاستمرار على وضعٍ ما كان يرضاه لنفسه لو كان يعلمه.

9- ردّ التّهم إلى الوثنيّين

     لأفنّد أكثر هذه الشّبهات عنّا، سأبيّن أنّها كانت تحصل بين ظهرانيكم، جزء منها خفية، وجزء علانية، وذاك على الأرجح ما جعلكم تصدّقون صدورها عنّا. كان الأطفال يقدَّمون ذبائح لساترنوس* في إفريقية* علنا حتّى ولاية تيبريوس* الّذي عرض كهنته أحياء مصلّبين على أشجار معبدهم الّتي ظلّلت تلك الجرائم، يشهد بذلك جيش أبينا* الّذي نفّذ هذه المهمّة لذلك الوالي. لكن ما زال مستمرّا في الخفاء حتّى اليوم ذلك الجرم الطّقوسيّ*؛ فليس النّصارى وحدهم من يستنكرون فعالكم ولا تُستأصل أيّة جريمة بصفة مستديمة، أو يغيّر إله ما تصرّفاته. ما كان ساترنوس* الّذي لم يعفّ عن بنيه أصلا، إلاّ سيتمادى لا شكّ في قتل أبناء غيره، والحال أنّ آباءهم أنفسهم كانوا يقدّمونهم له، ويستجيبون بطيب خاطر لطلبه ويلاطفون صغارهم كيلا يبكوا وهم يذبحونهم؛ شتّان مع ذلك بين قتل ذوي القربى وقتل غيرهم. في بلاد الغال يقدّم قرابينَ لمركوريوس* فتيانٌ أكبر سنّا؛ أعيدُ كذلك لمسرح أحداثها القصص الطّوريّة*؛ لكن حتّى في هذه المدينة الدّيّنة المأهولة بحفدة إينياس*، هناك تمثال ليوبتر* يغسلونه بالدّم البشريّ في الألعاب المقامة باسمه؛ قد تعترض بأنّه دم مصارع وحوش؛ أردّ: "أهو لذلك أرخص من دم إنسان آخر؟ أم تراه أنجس لأنّه لمجرم؟ هو في نهاية الأمر دم مسفوح في عمليّة قتل نفس بشريّة؛ فوايوبتر* النّصرانيّ ابن أبيك الأوحد في الوحشيّة! أمّا أنّ لا فرق في قتل الأطفال سواء تمّ بدافع طقوسيّ أو شخصيّ، وإن وُجد فرق لا محالة بين قتل القريب وغيره، فسأحكّم الشّعب في المسألة؛ كم بين هذه الوجوه المتألّبة حولنا المتعطّشة إلى دم النّصارى، وحتّى من بين الولاة الرّحماء بكم والقساة علينا، من سأحيلهم على ضمائرهم لقتلهم فلذات أكبادهم عند ميلادهم*. وإن وُجد فرق بخصوص طريقة القتل، فلا جرم أنّ كتمكم أنفاسهم في الماء أو تعريضكم إيّاهم للموت من البرد أو الجوع أو بين أنياب الكلاب أشدّ بطشا ووحشيّة؛ وأنّ الأكبر سنّا سيفضّل لا شكّ الموت بحدّ السّيف. أمّا عندنا فقتل النّفس محرّم إلى الأبد فلا يحلّ لدينا حتّى إسقاط الجنين من رحم أمّه، وهو لم يزل في طور التّكوين من الدّم؛ فما الإجهاض سوى تعجيل بالقتل ولا فرق في الحقيقة بين انتزاع نفس الوليد وإعدام كائن في طريقه إلى الميلاد. فإنسان أيضا من هو صائر إلى الإنسانيّة، كما أنّ كلّ ثمرة موجودة في بذرتها*. أمّا الاغتذاء بدم البشر وما إلى ذلك من أطعمة فظيعة فاقرؤوا في بعض المراجع، عند هيرودوت* في ظنّي، كيف كانت بعض الأمم تبرم مواثيق بشرب الدّم المفصود من ذراعي الطّرفين؛ ووقع أيّام كاتلينا* شيء مماثل؛ يقال أيضا إنّ ذوي الميّت عند بعض الشّعوب السّكيثيّة* يلتهمونه. لكن لم الذّهاب بعيدا وفي زمننا يفصد عبدة بلّونة* أفخاذهم فيجمعون حفنة من الدّم المعدّ لطقوسها ويقدّمونه عربونا لميثاقها. بل أين أولئك الّذين يتهافتون في عروض المصارعة على الحلبة ليجتنوا دم القتلى المجرمين وهو لا يزال طازجا يشخب من حناجرهم فيأخذونه بلهف لعلاج الصّرع؟ ومثلهم أولئك الّذين يتغذّون من الوحوش المقتولة في الحلبة ويشتهون لحوم الخنازير البرّيّة والأيائل؛ ذاك الخنزير ملطّخ بدم مصارعه المراق، وذاك الأيّل تمرّغ في دم المصارع؛ بل يتشهّى بعضكم كروش الدّببة وهي لا تزال متخمة بلحوم بشريّة، فلحم مغذّى من إنسان يفوح من ذلك الإنسان. أنتم الّذين تأكلون كلّ ذلك، كم من مآدب النّصارى رفضتم؟ وهل يصنع أقلّ ممّا ترموننا به أولئك الّذين يلتهمون بشهيّة الوحوش أعضاء بشريّة، لأنّهم ببساطة يأكلونهم أحياء؟ أم تراهم أقلّ تنجّسا بالدّم البشريّ لأنّهم يلعقون ما سيتستحيل دما؟ صحيح أنّهم لا يأكلون صبية بل فتية في سنّ البلوغ. فلتخجلوا بضلالكم منّا نحن النّصارى الّذين نحرّم أكل دم الحيوان، ولذا نستنكف عن الميتة والمنخنقة كيلا نترجّس بأيّ نحو بالدّم بما في ذلك ما انطوت عليه الأحشاء*. ثمّ إنّكم لامتحان النّصارى تقدّمون لهم نقانق حشيت دما وأنتم لا شكّ تعلمون يقينا أنّ ما تريدون أن تفتنوهم به محرّم عليهم؛ فكيف استقرّ في أذهانكم أن يستسيغ دمَ الإنسان أولئك الّذين تعلمون جيّدا أنّهم يقرفون دم الحيوان، إلاّ إن كنتم ربّما جرّبتموه ووجدتموه ألذّ مذاقا؟ بل ما كان أحراكم حقّا بإحضاره كالمذبح أو المبخرة فتتّخذوه معيارا لاختبار النّصارى؛ فتثبتوا أنّهم نصارى إن استساغوا الدّم البشريّ حتّى إن امتنعوا عن تقديم الذّبائح، أو تبرّئوهم إن استنكفوا عن تذوّقه كما في حال تقديم قرابين؛ ولن تعدموا دما بشريّا في غرف استنطاق سجونكم وساحات القصاص. أمّا زنا المحارم فمن يبزّ في ممارسته من علّمه لهم يوبتر نفسه*؟ يورد أكتسياس* أنّ الفرس كانوا يزنون بأمّهاتهم. لكنّ المقدونيّين أيضا مشتبه بهم بدليل أنّهم لمّا سمعوا أوّل مرّة مسرحيّة أوديب* تضاحكوا ساخرين من أسى البطل الّذي وقع بغير علم في الزّنا بأمّه، قائلين: "سخافات يونان! فلتنز على أمّك." بل حتّى في زماننا هذا، أقرّوا كم يتيح من فرص للزّنا بالمحارم بطريق الخطإ مجونكم المتفسّخ: أوّلا تتخلّون عن أبنائكم فتعرضونهم على المارّة لعلّ غريبا تأخذه بهم رحمة فيحملهم، أو تخرجونهم من كفالتكم ليتبنّاهم آباء أفضل حالا؛ لا بدّ إذّاك أن تضمحلّ يوما ذاكرة نسلكم الّذي فرّطتم فيه، مع وقوع الخطإ، فلا يلبثون أن يقعوا في مزلّة الزّنا بالمحارم، وتنتقل اللّطخة بتعاقب الأجيال. كذلك أينما كنتم، في حلّكم وترحالكم، بل وفي ما وراء البحار، الشّبق رفيقكم. فمن السّهل أن تجمع نُجعاته هنا أو هناك، في مراتعه المتناثرة في كلّ مكان، أبناء بآباء يجهلون أبوّتهم، فتلتقي بعض البذار المنتشرة بهذا النّحو عبر العلاقات البشريّة بذوي قرباها فتعمى عن تعرّف محارمها. أمّا نحن فوَقتْنا عفّتنا اليقظة الدّؤوب حدوث ذلك، وبقدر ما نصون أنفسنا عن الفواحش وكلّ علاقة خارج الزّواج، نحن بمأمن من أيّ زنا بمحارمنا عن طريق الخطإ؛ بل إنّ بعضنا في وضع أضمن للسّلامة إذ يدفعون كلّ احتمال لهذا الخطإ ببتوليّتهم فيظلّون وهم شيوخ أطفالا*. لو دقّقتم النّظر لوجدتم هذه المذامّ فيكم ورأيتم أنّ النّصارى منها برءاء. ولعمري إنّ العيون لتخبر بكلتا الحالتين. لكنّ نوعين من العمى يتظافران بسهولة ليتراءى لمن لا يرون ما هو موجود أنّهم يرون ما ليس له وجود؛ سأبيّن ذلك من خلال كلّ ما يلي؛ والآن سأتناول الأمور العلنيّة.

10- الآلهة الوثنيّة في الأصل بشر

    تقولون: "أنتم لا تعبدون الآلهة ولا تقدّمون القرابين للأباطرة؛" امتناعنا عن تقديم القرابين باسم آخرين ناتج عن نفس المبرّر الّذي ينهانا عن فعله من أجل أنفسنا وهو امتناعنا عن عبادة أولئك الآلهة. لهذا السّبب يُقبض علينا بتهمة انتهاك حرمة الآلهة والأباطرة: ذاك سببها الرّئيسيّ بل جوهرها، ونعترف بلا جدال بوجاهته، شرط ألاّ يكون الحكْم للظّنّ أو الظّلم فأحدهما يضيع الحقيقة والآخر ينبذها. فعلا نستنكف عن عبادة آلهتكم لعلمنا بأنّهم ليسوا آلهة؛ ما عليكم إذن إلاّ أن تطالبونا بإثبات أنّهم ليسوا آلهة ولا موجب بالتّالي لعبادتهم فإنّما تجب عبادتهم فقط لو كانوا آلهة بحقّ؛ وحينئذ يجب أن يعاقَب النّصارى ما دام قد ثبت أنّ من يأبون عبادتهم لإنكارهم ألوهيّتهم آلهة حقّا. تقولون: "لكنّهم آلهة في عرفنا". نرجع إلى عقلكم ونحكّمه بيننا: ليحكمْ علينا وليُدنّا إن استطاع تفنيد كون آلهتكم جميعا بشرا في الأصل. وإن لم يؤيّدنا هو أيضا فستقنعه وثائق الماضي الّتي خلّفوها وعُلمت منها أخبارهم، فهي تقدّم إلى يومنا هذا شهادة بالمدن الّتي ولدوا فيها، والبلاد الّتي تركوا فيها آثار أعمالهم، وأين شوهد دفنهم*. أفيجب أن أستعرضهم الآن واحدا واحدا، وهم ما هم كثرة وتنوّعا، جددا وقدامى، أعاجم ويونانا ورومانا وأغرابا، مستوردين ومولّدين، خواصّ ومشتركين، ذكرانا وإناثا، مدرا وحضرا، بحريّين وحربيّين؟ بل غير مجد في اعتقادي حتّى تتبّع ألقابهم، لجمعهم في موسوعة، لا لتعرفوهم بل لتتذكّروهم؛ فلا شكّ أنّكم نسيتم الكثير عنهم#؛ لا إله عندكم يتقدّم على ساترنوس*، فمنه انبثقت سلسلة أعظم وأشهر الآلهة؛ لذا فما يصحّ على الأصل ينطبق كذلك على النّسل. الحقيقة حول ساترنوس* حسب ما تخبرنا الكتب هو أنّ لا ديودورس* الإغريقيّ ولا ثالّوس* ولا كسّيوس سويروس* او كُرنليوس نيبوس* ولا أيّا من الباحثين في التّاريخ القديم أكّد شيئا آخر غير أنّه إنسان. أمّا إن أردنا الحجاج انطلاقا من الوقائع، فما إخالني أجد قطّ أفضل وأحقّ بالثّقة ممّا نجد عنه في إيطالية حيث أقام بعد بطولاته العديدة ومقامه بأتّيكة*، فنزل ضيفا على يانوس أو يانس* كما يريد السّاليّون*. فالرّبوة الّتي أقام عليها تسمّى ساترنيوس* والمدينة الّتي شادها تدعى إلى يومنا هذا ساترنية*؛ أخيرا صارت إيطالية بأكملها بعد تسميتها القديمة أُنترية* تدعى ساترنية*؛ وهو أوّل من اخترع الخطّ والرّسم وسكّ النّقود* ولهذا السّبب بالذّات يعدّ حامي بيت المال. لكن إذا كان ساترنوس* إنسانا فلا شكّ أنّه ولد من إنسان؛ وبما أنّه انحدر من إنسان، فما أتى قطعا من السّماوات والأرض؛ لكن لمّا كان أبواه مجهوليْن، كان سهلا أن يقال عنه إنّه ابن ذينك العنصرين اللّذين قد نبدو نحن أيضا كلّنا أبناءهما. من فعلا لا يدعو السّماء والأرض أباه وأمّه من باب الإجلال والإكرام أو جريا على عادة النّاس القول عمّن لا يعرفونهم أو من يظهرون بينهم فجأة إنّهم وقعوا من السّماء؟ من هنا قيل حيثما ظهر ساترنوس* بغتة إنّه هبط من السّماء؛ كذلك يدعو العامّة مغموري النّسب الّذين لا يعلمون لهم أصلا ثابتا أبناء الأرض*؛ وغنيّ عن الذّكر أنّ النّاس كانوا يعيشون إذّاك حياة خشونة بحيث كانوا يتأثّرون لمرأى أيّ رجل جديد عليهم كما لو كان إلها، ما دام النّاس اليوم، بعدما تحضّروا، يكرّسون أربابا من أقرّوا بدفنهم قبل أيّام في حداد رسميّ بأنّهم فناة*. كفى ما قلنا عن ساترنوس* على قلّته؛ وسنبيّن أنّ يوبتر* هو الآخر إنسان وابن إنسان وأنّ كلّ سلالته فناة كالبذرة الأصليّة.