ترتلّيانوس
دفاع عن
التّوحيد
5-
الفصول 84-50
|
||||||||||||||
48- تأكيد
البعث،
وقدرة الله
عليه
والآن إن
أكّد لنا
فيلسوف، كما
يقول
لابريوس* بناء
على
مذهب
فيثاغور*،
أنّ البغل
ينقلب
إنسانا والحيّة
امرأة، وعوّج
الحجج
لإثبات هذا
الرّأي
مسخّرا لذلك
قدراته
البلاغيّة،
أليس محتملا
أن يميل
الرّأي
العامّ إلى
تصديقه، وأن
يُقنع
النّاس كذلك
بتحريم لحوم
الحيوان على
هذا الأساس؟
أن يقتنع كلّ
بذلك، مخافة
أن يأكل دون
قصد، عند
تناول لحم
بقر، من بعض
جدوده
الأقدمين؟
لكن لمّا يعد
النّصرانيّ
ببعث
الإنسان
إنسانا،
ومعاد
قيّوسَ قيّوسَ،
يعنّفه الشّعب
ويطرده لا بصيحات
التّشنيع
وحدها بل قذفا
بالحجارة. إن
كان ثمّة داع
إلى عودة النّفوس
الإنسانيّة إلى
الأجسام،
فإنّه
يقتضي عودتها
إلى
الأجسام
ذاتها، فبذلك
تكون قد عادت فعلا،
أي صارت إلى
ذات ما كانت؟ فهي إن لم
تعد إلى ما
كانت قبل، أي
إلى تقمّص
جسم إنسانيّ
هو نفس الّذي
كانت فيه،
فلن تكون بعد
ذات ما كانت؛ <
وإن لم تعد
ذات ما كانت
فكيف يقال إنّها
عادت؟ فإمّا
تكون قد صارت
شيئا آخر ولن
تكون إذّاك
هي ذاتها،
وإمّا تبقى هي
هي وإذّاك لن
تحلّ في غير
الجسم الّذي
أتت منه>.
سنحتاج إلى
متّسع
من الوقت
ومصادر
متعدّدة إن
أردنا
التّلهّي
بمعرفة أيّ
حيوان بدا
لكلّ أنّه
سيتحوّل
إليه؛ لكن
أوْلى بنا التّركيز على
طرحنا
أنّ الأحقّ
بالتّصديق وبشأو
أن
يعاد من
الإنسان
إنسان، ومن
أيّ شخص شخص،
ولا شيء سوى
إنسان، بحيث
تُرجع
النّفس
بالصّفة
ذاتها إلى
الشّاكلة
البشريّة
ذاتها، حتّى إن
لم تكن بذات
الصّورة
تماما. وبما أنّ
غاية المعاد
الحساب، فلا
بدّ أن يُعرض
كلّ على الله
مثلما كان
لينال منه
جزاء
أعماله، إن
خيرا أو
شرّا؛ لذا
ستُبعث
الأجسام أيضا، إذ
لا يمكن أن
تحسّ النّفس
شيئا
بمفردها، بدون
سندها
المادّيّ،
أي الجسد،
وكذلك لأنّ
الأنفس لا
تستحقّ أن
تلاقي حساب خالقها
بدون الجسد
الّذي أتت
كلّ أعمالها
وهي بداخله.
لكن قد تقول:
كيف تُبعث
الأجساد وهي رميم؟ ألا
انظر إلى نفسك
أيّها
الإنسان
وستجد ما
يحملك على
التّصديق
بذلك؛ تفكّر
في ما كنت قبل
أن تأتي إلى
الوجود؛
عدما طبعا فلو
كنتَ شيئا ما لتذكّرته
حتما.
أنت الّذي
قبل أن تكون لم تك
شيئا،
وتُصار لا
شيء بعدما تنتهي
من
الوجود، لِم
لا يمكن أن
تُبعث
مجدّدا من
العدم بمشيئة
نفس الخالق
الّذي شاء
إيجادك من
عدم؟ أفي ذلك
عليك جديد؟
أنت الّذي لم
تكن موجودا
أوجدتَ،
وبعدما ينتهي
وجودك
ستعاد
إلى الوجود؛
اشرح لي كيف
أوجدت، وسلْ
إذّاك
كيف ستُعاد
إلى الوجود؛
فلا شكّ أنّ
إعادتك إلى
الوجود أيسر
ما دمت قد
وُجدت يوما،
إذ ما كان
صعبا كذلك جعلك ما
لم
تكن أبدا. هذا
في اعتقادي
تشكيك في
قدرة الله
الّذي أنشأ
جسد هذا
الكون
المترامي من
لا شيء، وبثّ
فيه من
الخواء
والعدم
الحياة
بالرّوح
الّذي
تستمدّ منه كلّ
الكائنات
الحياة وجعل
لنا فيه مثلا
يشهد ببعث
الإنسان.
الضّياء
يختفي كلّ
يوم ليسطع من
جديد،
ويخلفه
الظّلام
ليرتحل
بدوره في
تعاقب
مماثل،
والنّجوم تموت ثمّ
تحيى من
جديد،
والفصول تبدأ
مجدّدا من
حيث انتهت،
والثّمار
تنتهي ثمّ
تعود،
والبذور لا
تُنبت وتؤتي أُكلها
إلاّ بعد
انحلالها
وتفسّخها،
كلّ شيء يحفظ بالموت
بقاءَه،
كلّ شيء
بالموت يعود
إلى الحياة.
وأنت أيّها
الإنسان، حامل هذا
الاسم العظيم، لو
عرفت نفسك
مستوحيا
حتّى شعار
بيثية*، ملك كلّ
الخلائق المعدّة
للموت
والمعاد،
أتخالك تموت
صائرا إلى
الفناء؟
أينما تندثر ستقوم، وأيّا
كان العنصر
الّذي سيطحنك ويبتلعك ويلاشيك
ويحيلك
عدما،
فإنّه سيعيدك؛
فالعدم نفسه
ملك من كلّ
الأشياء
ملكه.
تسأل: ستستمرّ إذن
سنّة
الموت
والبعث بلا
نهاية؟ لو
قضى بذلك ربّ الكون
لكان عليك أن تمتثل
مرغما
لناموس
طبيعتك؛
لكنّه في
الحقيقة لم
يقض بغير ما
أنبأَنا به
مسبقا. فإنّ
حكمته الّتي
صاغت الكون
على نسق من
التّنوّع
بحيث تأتلف
كلّ الأشياء في
وحدة من
أضداد شتّى:
من الخلاء
والملاء، من
الحيّ
والجماد،
ممّا يدرَك
وما لا
يدرَك، من النّور
والظّلام،
من الحياة
نفسها
والموت، جعلَت
الدّهر
محكوما بهذه
السّنّة
الثّنائيّة
عينها، فهذه
الدّار
الأولى
الّتي نعمرها
منذ بدء
الخليقة
تسير، بحكم
طابعها الزّمنيّ، إلى
منتهاها، وستليها الأبديّة
الّتي نرتجي والّتي ما لها نهاية.
لمّا يأزف
إذن المنتهى
أو البرزخ
والحدّ الفاصل،
لتبدَّل
كذلك طبيعة
عالمنا
الفانية فتمدَّد
وترخى عليها
سدول
الأبديّة
كما قُدّر لها،
يومئذ يُبعث
النّاس جميعا
ليحاسَبوا
على ما عملوا
من خير وشرّ
في هذه
الحياة،
وينالوا إذّاك
جزاءهم على
امتداد
الأبديّة
اللاّنهائيّ. فلا
موت بعد
من جديد، ولا قيامة من
جديد،
بل سنظلّ
دوما كما نحن الآن،
بلا تغيير:
عبّاد الله
خالدين عند
الله على
الدّوام،
أُلبسوا الجوهر الخاصّ
بالأبديّة،
والكافرون
ومن لم
يخلصوا
دينهم لله في
عذاب النّار
خالدون، بالمِثل
ألبسوا
جرّاء
طبيعتها
الإلهيّة عدم
الفساد.
الفلاسفة
أيضا يعرفون
الفرق بين النّارين
الخفيّة
والعاديّة؛
فشتّان ما بين
النّار
المعدّة
لاستخدام
البشر والمعدّة
لحكم
الله، سواء نزلت
من
السّماء
صاعقةً أو صعدت
من الأرض عبر
قنن الجبال،
فهي لا تبيد
ما تحرق بل
تظلّ تفنيه
وترفؤه. لذا
تظلّ الجبال
تلتهب
باستمرار، ويظلّ
من رجمته
صاعقة
السّماء
قائما فلا
تحيله بعد
رمادا أيّة
نار؛ في ذلك
شهادة على
النّار
الخالدة،
ومثل للعقاب
المؤبّد
الّذي يغذّيه
باستمرار
حكم الله في
الخطأة؛
الجبال تحترق
وتظلّ
راسية، فما
بالك
بالمجرمين
وأعداء
الله؟ 49-
استسخاف
أفكارهم لا
يجيز
اضطهادهم
هذا ما
تدعونه عندنا
نحن فقط افتراضات
بلا
سند،
وعند
الفلاسفة
والشّعراء قمّة
العلم وغاية
الفهم؛ هم
حكماء ونحن
سفهاء، هم
يستحقّون
التّكريم
ونحن
السّخرية،
بل وأكثر من
ذلك العقاب.
فلتكن أفكارنا
أباطيل وافتراضات
حقّا: هي مع
ذلك ضروريّة؛
لتكن سخافات:
هي مع ذلك نافعة،
ما دامت تجبر من
يؤمنون
بها على
إصلاح
أنفسهم خوفا
من العذاب
الأبديّ
وأملا في
النّعيم
الأبديّ؛
لذا لا ينبغي
أن تُنعت
بالأباطيل
وتُعدّ
سخافات
أفكار من
المفيد
افتراض
صحّتها؛ لا
يجوز بأيّ اعتبار
إدانة ما ينفع
الإنسان*؛
لذلك فعندكم
أنتم الافتراض المفتقر
إلى سند، هذا الّذي يدين
ما ينفع
النّاس. بل
حتّى لو كانت
باطلة وسخيفة،
فلا ضرر منها
على أحد؛ هي
شبيهة
بمعتقدات
كثيرة أخرى
عندكم لا
تصدرون
عليها أيّ
عقاب،
أساطير وأباطيل بمنجى
من الاتّهام
والعقاب
لأنّ لا ضرر
منها؛ لكن
بنفس
الطّريقة،
إن شئتم
حقّا،
فاحكموا بأنّا
نستحقّ
السّخرية،
لا السّيوف
والنّيران
والصّلبان
والسّباع.
تلك
الوحشيّة
الغاشمة لا
يرقص ويقفز
مرحا* لها
العامّة
العمي فقط، بل
يفخر بها
كذلك بعض
منكم
يترضّون
العامّة بالظّلم،
كما لو لم تكن
لنا
الخِيَرة في
كلّ ما لديكم
من سلطان
علينا*. أنا
نصرانيّ
بمشيئتي لا
شكّ، لذا
ستدينني إن
شئتُ أن
أدان؛ لكن إن لم
يكن بوسعك أن
تفعل لي ما
تستطيع إلاّ
إن شئتُ، فما
تستطيع
إزائي تابع
لمشيئتي لا
لسلطانك. من
هنا فبسخف
يبتهج
الشّعب
بعذابنا، ونحن
فعلا
أحقّ منه
بالفرح
الّذي
يستأثر به
لأنّا نؤثر أن
تدينونا على
أن نعرض عن
الله؛
بالعكس يجب أن
يألم من
يبغضوننا لا
أن يفرحوا،
لأنّا نلنا
ما اخترنا. 50-
هم مثل أعلى
في التّضحية
من أجل
دينهم؛ تحدّي
الولاة وشجب
غوغائيّتهم تقول:
"لماذا تشكون
إذن من اضطهادنا،
إن كنتم
تريدون
معاناته،
بينما ينبغي
أن تحبّوا من
تتلقّون
منهم العذاب
الّذي تريدون؟"
صحيح
أنّا نحبّه
لكن كما في
الحرب الّتي
لا يعاني أحد
ويلاتها
بطيب خاطر،
لمّا يكون
عليه أن يخاف
على نفسه
ويعرّضها
للخطر. مع ذلك
يحارب بكلّ
قواه،
ويبتهج
بالانتصار
في المعركة
من كان يشكو
أهوال
المعركة،
لأنّه ينال
من ذلك مجدا
ومغنما؛ نحن
أيضا نخوض
معركة لمّا
ندعى إلى
المحاكم
لنناضل هناك
في سبيل الحقّ
مخاطرين
بحياتنا؛ وإنّما
النّصر نيل
ما حاربت من
أجله؛
ونصرنا نحن
مجده نيل رضى
الله وغنمه
الفوز
بالحياة
الأبديّة.
لكنّا نخسر
لا شكّ إن
حافظنا على
سلامتنا؛
هكذا إذن
ننتصر لمّا
نُقتل وننجو
لمّا نخسر؛
لكم اليوم أن
تهزؤوا منّا
وتدعونا
هواة الحطب
والعواميد إذ
تربطوننا
إلى عمود
وتحرقوننا على
كومة
من الحطب؛
تلك هيئة نصرنا،
ذاك زيّه الموشّى
بالسّعف، على
تلك
المركبة
ننتصب مظفّرين. لا عجب
والحال تلك
ألاّ نروق
للمغلوبين؛
ولا عجب أن
يتصوّرونا
يائسين ومسعورين؛
لكنّ ذاك
اليأس وذاك
السّعر
يرفعان
عاليا راية
الفضل عندكم
إن كانا في سبيل
المجد
والصّيت*. ترك
موقيوس* يده
في الهيكل بمحض
إرادته: فيا
لسموّ نفسه! وألقى
أنباذقليس*
بكلّ جسمه في
أتون إتنة* بكَتانة*:
فيا لثبات
جنانه!
وقدّمت
مؤسّسة قرطاج*
نفسها لنار
المحرقة ناجية
من زيجة
ثانية: فأيّ مجد لوفائها
وعفّتها!
وقبل
ريقولوس* أن
يُصلب جسمه
كيلا يعيش هو مقابل
عديد الأعداء، فيا
له من رجل
شجاع انتصر على
أعدائه حتّى
وهو أسير!
ولمّا كان
أنكسرخوس*
يُضرب حتّى
الموت بمدقّ
شعير، كان
يهيب بجلاّده:
"اضرب، اضرب
هيكل
أنكسرخوس*
فإنّك لا تضرب
أنكسرخوس*"، فيا
لعلوّ نفس
الفيلسوف
الّذي يمزح
حتّى على ميتته
الفظيعة. ولا حاجة
بي إلى ذكر من
حصلوا
بسيوفهم أو
بميتة أخرى ألطف
على الثّناء
والإشادة؛
إذ هؤلاء
أنتم فعلا
تقدّمون
الأكاليل في
سباق
التّعذيب.
وهناك مومس
أتّيكيّة*
بعدما أعيت
جلاّدها
قطعت لسانها
وبصقته في
وجه
الطّاغية
المستعر
غيظا، لتفقد
معه النّطق
فلا تقرّ
بشركائها في
المؤامرة
لقلبه حتّى
لو أرادت وقد
غلبها
التّعذيب. وزينون
الإيليّ*
لمّا سأله
ديونيسوس*
عمّا تقدّم
الفلسفة
فردّ: "تجاهل
الألم"، ظلّ
يعبّر بجلَده
تحت سياط
الطّاغية عن
رأيه حتّى
الموت؛ لا
شكّ كذلك أنّ
جلْد
اللاّكونيّين*
بعنف أمام
أقاربهم
المشجّعين
كان يمنح
الأسرة من مجد
الاحتمال
بقدر ما يريق
من دماء
أبنائها. فأيّ
مجد غال
رفيع، لأنّه
إنسانيّ،
ذاك الّذي لا
يُعَدّ
لاستخفافه
بالموت
وألوان
التّعذيب وهما
مسعورا ولا
اعتقادا
يائسا،
ويجوز له
تحمّل الآلام
من أجل الوطن
أو الدّولة
أو الصّداقة بينما
لا يجوز
تحمّلها في
سبيل الله. لكلّ
هؤلاء
تقيمون
تماثيل
وترسمون
صورا وتخطّون
مآثرهم
تخليدا
لذكرهم؛
واضح أنّكم
أنتم أيضا
تقدّمون قدر
ما تستطيعون
بهذه النّصب
نوعا من
البعث
للموتى؛
أمّا من يرجو
من الله البعث
الحقيقيّ،
إن تحمّل
الموت في
سبيل الله
فهو مجنون!
تمادوا إذن
أيّها
الولاة
الصّالحون، ستكونون
أفضل حقّا
عند الشّعب
إن ذبّحتم له النّصارى،
عذّبونا،
قطّعونا،
أدينونا، اسحقونا:
دليل
براءتنا هو
ظلمكم؛ لذا
يتحمّل الله
أن نتحمّل
تعذيبكم؛
وإنّكم في
حكمكم مؤخّرا
بإلقاء
مسيحيّة إلى
قوّاد بدل
الأسد* اعترفتم
بأنّ شيةً في
العفّة
تُعدّ عندنا
أفظع من أيّ
عقاب وأيّة
ميتة. في
نهاية الأمر
لا تجدي شيئا
قسوتكم مهما
تفنّنتم
فيها، فهي
فتنة لملّتنا؛
وعددنا
يزداد بقدر
ما تقطفون
رؤوسنا: فبذر
هو دم
النّصارى*.
كثيرون من
حكمائكم
يدعون إلى
تحمّل الألم
والموت،
كشيشرون* في
رسائله التّسكُلانيّة،
وسينيكا* في "نوائبه"،
كديوجين* أو
بيرّون* أو
كالّينيكوس*؛
لكنّ أقوالهم
لا تجد من
الأتباع مثل
النّصارى
الّذين يعلّمون
بالأفعال. هذا
الإصرار
الّذي
تعيبونه
علينا درس
بليغ؛ إذ من
لا تهزّه
رؤيته
وتحدوه إلى
البحث عن
جليّة أمرنا؟
ومن لم يدخل إذ بحث
عنها في
ديننا؟ ومن
لم يرغب إذ
دخل في
الاستشهاد
حتّى ينال نعمة
الله بالتّمام
ويفوز
بمغفرته
الكاملة
لقاء دمه؟ فبالشّهادة
يفتدي كلّ
ذنوبه؛ لذا
نشكركم هنا
على أحكامكم،
فكما هي
الحال في
تعارض
الأمور
الرّبّانيّة
والبشريّة،
لمّا
تدينوننا
يغفر الله
لنا. |