ترنتيوس

 

الأعمال المسرحيّة

 

5- الحماة 

 

حواش 

 

 

 

 

 

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

الفصل الرّابع

 

المشهد الأوّل (516-576)

مرّينة، فيدبّوس

مرّينـة : ( مخاطبة نفسها) يا ويلتي، ماذا أصنع؟ إلى أين أتّجه؟ بم أجيب زوجي يا لبؤسي؟ أظنّه سمع استهلال الوليد، فقد هرع بغتة إلى ابنتنا دون أن ينبس بكلمة. إن علم بأنّها ولدت، لا أدري وحقّ بولكس* بماذا أبرّر إخفائي الأمر عليه. لكنّي سمعت الباب يصرّ. ما إخاله إلاّ خرج من عندها يقصدني. انتهيت.

فيدبّوس : ( مخاطبا نفسه) لمّا رأتني زوجتي أقصد ابنتنا خرجت. وها هي. ( لمرّينة) ماذا تقولين يا مرّينة؟ اسمعي، إيّاك أعني.

مرّينـة : إيّاي، يا زوجي؟

فيدبّوس : وهل أنا زوجك حقّا؟ هل تعتبرينني زوجا أو حتّى إنسانا؟ فلو كنت لديك يا امرأة أيّا منهما، لما جعلتِني بفعالك مسخرة بهذا النّحو.

مرّينـة : أيّة فعال؟

فيدبّوس : وتسألين فوق ذلك؟ ولدَت ابنتنا: لا تتكلّمين؟ ممّن؟

مرّينـة : أمعقول أن يسأل أب هذا السّؤال؟ تبّا، وممّن تظنّ أرجوك، إن لم يكن ممّن زوّجتها له؟

فيدبّوس : أنا واثق ممّا تقولين: وليس لأب والحقّ يقال أن يفكّر غير ذلك. لكن أعجب لماذا اجتهدتِ لإخفاء ولادتها عنّا جميعا سيما وقد ولدت بدون تعقيد وفي الأجل. أيّ عناد أن تؤثري موت الوليد الّذي تعلمين أنّه سيوثّق صداقتنا على أن تبقى مع زوجها خلافا لرغبتك. وأنا الّذي ظننتُ هذا ذنبَهما والأمر في يدك أنت.

مرّينـة : كم أنا تعيسة!

فيدبّوس : ليتني أراك حقّا كذلك! لكن يعود الآن إلى ذاكرتي ما قلتِ لي مرّة بهذا الشّأن لمّا قبلنا مصاهرته: إذ كنت تنفين أن يكون بوسعك تحمّل رؤية ابنتنا تتزوّج رجلا كان يعشق مومسا ويقضي اللّيل خارج البيت.

مرّينـة : ( مخاطبة نفسها) أفضّل أن يرتاب بأيّ سبب سوى السّبب الحقيقيّ.

فيدبّوس : عرفتُ قبلكِ بدهر أنّ له خليلة يا مرّينة. لكن لم أعتبر أنّ في ذلك عيبا بالنّسبة للشّباب فهو أمر فطريّ لدى كلّ الرّجال. ولن يلبث أن يكرهه هو أيضا وحقّ بولكس*. لكنّك لم تغيّري أبدا حتّى هذا اليوم موقفك الّذي أبديتِ يومذاك، وظللت تحاولين إبعاد ابنتنا عنه ولا تؤيّدين ما فعلتُ.

مرّينـة : أتظنّني، أنا والدتها، رعناء إلى درجة التّفكير بهذا النّحو لو كانت هذه الزّيجة في مصلحتنا؟

فيدبّوس : أتستطيعين أنتِ أن تري مسبقا أو تقدّري ما هو في صالحنا؟ ربّما سمعتِ أحدا يقول إنّه رآه يخرج من بيت خليلته أو يدخل عندها. ثمّ ماذا؟ إن فعل ذلك لماما وباحتشام، أليس ستره أقرب إلى الإنسانيّة من الاجتهاد لتعريف عِدانا به؟ بل لو استطاع أن ينتزع نفسه فجأة وبسرعة من امرأة جمعته بها عِشرة سنين، لما اعتبرته شخصيّا إنسانا ولا زوجا لابنتنا لي ثقة كافية فيه.

مرّينـة : دع الحديث عن هذا الشّابّ وأخطائي الّتي تزعم أرجوك. رح بالأحرى، وقابله على انفراد واسأله* إن كان يريدها أم لا. إن قال إنّه يريدها ردّها إليه أمّا إن كان لا يريدها فقد وُفّقت في الاحتياط لابنتي.

فيدبّوس : إن كان فعلا لا يريد وأحسستِ يا مرّيتة أنّ الخطأ من جانبه، فقد كنتُ حاضرا أنا الّذي تعود لي العناية بمصلحتها. لهذا أتّقد غضبا من إقدامك على فعل ذلك دون استشارتي. هذا وإنّي أحظر عليك أن تأخذي الطّفل إلى أيّ مكان تفكّرين به، ( مخاطبا نفسه) لكن ما أحمقني إذ أطلب منها الامتثال لي. سأدخل بالأحرى وأصدر تعليماتي للخدم ألاّ يدَعوا أحدا بأخذه من البيت. (يخرج)

مرّينـة : ( مخاطبة نفسها) لا أحسب هناك امرأة أتعس منّي وحقّ بولكس*. كيف سيأخذ المسألة إذن لو علم بالحقيقة؟ لا يفوتني ذلك وحقّ بولكس* وقد رأيته السّاعة يستشيط غضبا لما هو أهون. ولا أدري بأيّة طريقة يمكن أن يتغيّر رأيه. بقيت بين مصائبي العديدة واحدة لم تخطر على بالي: أن يُكرهني على تربية طفل مجهول الأب. فلسوء حظّنا لم تستطع ابنتنا لمّا دهمها مغتصبها تبيّن ملامحه في الظّلام ولا سلْبَه أيّ شيء يمكن به التّعرّف عليه. بل إنّه سلبها عنوة عند مبارحتها خاتما كانت تحمله بإصبعها. في نفس الوقت أخشى ألاّ يسع بنفيلوس كتمان ما قيل بيننا طويلا إن علم أنّا نربّي لقيطا منسوبا إليه.

 

المشهد الثّاني (577-606)

سُستراتة، بنفيلوس

سُستراتة: لا يخفى عليّ ظنّك يا ولدي، رغم حرصك على إخفائه، أنّي مذنبة وأنّ زوجتك غادرت بيتنا بسبب تصرّفاتي. لكن أقسم لك يا بنيّ- حفظني الآلهة وأتاني منك ما أتمنّى- أنّي لم أرتكب أبدا عمدا ما أستحقّ به جفوتك. كنتُ من قبل أثق بحبّك لي وها أنت ثبّتّ ثقتي. فقد روى لي أبوك بالبيت قبل حين كيف قدّمتني على حبّك. والآن في المقابل لا بدّ لي من ردّ مبرّتك لتعلم أنّي جعلت لك مكافأة على برّك. بنفيلوس يا ولدي، أظنّ هذا أنسب لسمعتي وسمعتكما: لقد قرّرت بمنتهى العزم الذّهاب من هنا للعيش في المزرعة مع أبيك كيلا يحول وجودي هنا أو يقف أيّ سبب آخر حاجزا دون عودة فيلومينة إلى بيتك.

بنفيلوس : عفوا يا أمّي، أيّ قرار هذا؟ أتضطرّك حماقتها إلى الهجرة من المدينة للسّكنى في الفلاة؟ لن تفعلي شيئا من ذلك يا أمّاه، ولن أسمح أن يتقوّل من يريد ثلبنا أنّكِ بسبب عنادي، لا سماحتك فعلتِ ذلك. ثمّ إنّي أرفض أن تفتقدي بسببي صواحبك وقريباتك وأيّام المهرجانات.

سُستراتة: لم تعد تلك المباهج وحقّ بولكس* تحمل لي أيّة مسرّة. طالما احتمل طور العمر ذلك، أخذت منها وسعي. ولقد تخمتُ من تلك الملاذّ، وهمّي الأكبر الآن ألاّ يعاكس طول عمري أحدا، أو يتمنّى موتي أحد. هنا أرى نفسي محلّ كراهية لا مبرّر لها. آن الأوان لأنسحب فأسحب بذلك، كما يبدو لي، وبالوجه الأمثل، من الجميع كلّ أسباب الموجدة، وأبرّئ ساحتي من هذه الظّنّة، وأجاري هوى من يجافيني. دعني أرجوك أفرّ نمائم النّاس في النّساء هنا.

بنفيلوس : كم أنا سعيد في كلّ شيء سوى هذا، إذ لي أمّ  كهذه وزوجة كتلك أيضا.

سُستراتة: بنفيلوس يا ولدي أرجوك، أما تصبّر نفسك على مكرهة مهما كانت؟ ما دامت بقيّة الأمور كما تروم، وأعتقد أنّها هي أيضا كذلك، أسْد لي هذا المعروف يا بنيّ: ردّها.

بنفيلوس : واشقوتي!

سُستراتة: وأنا أيضا ما أشقاني! فما آلم لما يجري أقلّ ممّا تألم يا ولدي.

 

المشهد الثّالث (607-622)

لاخيس، سُستراتة، بنفيلوس

لاخيس  : لقد سمعت، من موقفي هناك، حديثك معه يا زوجتي. إنّها لعين الحكمة أن تستطيعي حيثما دعت الحاجة تكييف نفسك بالأحداث، وحبّذا أن تبادري اليوم إلى ما قد تضطرّين إلى فعله غدا.

سُستراتة: ليكن وحقّ بولكس*.

لاخيس  : اذهبي الآن إذن إلى المزرعة: هناك ستتحمّلينني كما أتحمّلك.

سُستراتة: أرجو ذلك وحقّ كستور*.

لاخيس  : ادخلي إذن ورتّبي ما ستحملين معك من حوائج، كما قلت لك.

سُستراتة: سأفعل كما تأمر. ( تنصرف)

بنفيلوس : أبي!

لاخيس  : ماذا تريد يا بنفيلوس؟

بنفيلوس : أتذهب أمّي الآن؟ كلاّ، لن يكون.

لاخيس  : ماذا تقصد؟

بنفيلوس : أنا لم أقرّر بعد ما سأفعل بشأن زوجتي.

لاخيس  : كيف؟ وماذا تريد أن تفعل سوى ردّها؟

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) أودّ ذلك حقّا ولا أكاد أتمالك نفسي عنه، لكن لن أتراجع عن قراري. سأتبع ما فيه المصلحة. ( مخاطبا لاخيس) سيسود الوئام أكثر في ظنّي إن لم أردّها.

لاخيس  : لا تدري، والحقّ أنّك غير معنيّ في شيء بما ستفعل كلتاهما بعد انصراف والدتك. سنّنا مقيتة لدى الشّباب. من الحكمة أن نتنحّى من الطّريق. في النّهاية نحن الآن يا ولدي كشيخ وعجوز القصّة*. لكن مهلا، أرى فيدبّوس يخرج في أوانه. لندن منه.

 

المشهد الرّابع (623-726)

فيدبّوس، لاخيس، بنفيلوس

فيدبّوس : ( مخاطبا فيلومينة بالدّاخل) عليكِ أنتِ أيضا يا فيلومينة أنا غاضب وحقّ بولكس* غضبا شديدا، فلقد تصرّفتِ لعمري تصرّفا شائنا، وإن كان لك عذر في هذا المجال: فأمّك هي الّتي دفعتك. أمّا هي فلا عذر لها.

لاخيس  : ظهرتَ في الوقت المناسب يا فيدبّوس تماما.

فيدبّوس : ماذا وراءك؟

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) بماذا أجيبهما؟ وكيف أطلعهما على ذلك؟

لاخيس  : خبّر ابنتك أنّ سُستراتة ستنسحب الآن إلى المزرعة، فلا تخش أن تعود إلى البيت.

فيدبّوس : مهلا، ما أذنبتْ زوجتك قطّ في كلّ هذه القضيّة، بل زوجتي مرّينة هي أصل كلّ المشاكل.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) حصل تغيير.

فيدبّوس : هي مصدر ارتباكنا يا لاخيس.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) ما دمت لا أردّها، ليرتبكوا كما شاؤوا.

فيدبّوس : أودّ يا بنفيلوس، إن أمكن، أن تدوم مصاهرتنا أبد الدّهر. وإن كان لك رأي مختلف فخذ الطّفلّ.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) علم بولادتها. رحت في داهية.

لاخيس  : الطّفلّ؟ أيّ طفل؟

فيدبّوس : وُلد لنا حفيد قبل حين. لقد أُحضرت ابنتنا من بيتكم حبلى، وما علمت أنا نفسي بحملها قبل اليوم.

لاخيس : أيّة بشرى تزفّ وحقّ الآلهة! وافرحتاه بالمولود! أهنّئك على سلامتها! لكن أيّ نوع من النّساء تزوّجتَ يا رجل؟ وأيّة طباع جنونيّة أوتيتْ؟ كيف تكتمك الخبر طوال هذه المدّة؟ لا أستطيع حقّا أن أصف كم تبدو لي فعلتها شاذّة.

فيدبّوس : لا أستهجن فعلها أقلّ منك يا لاخيس.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) حتّى إن ظللت طويلا حائرا لم يعد لي الآن، وقد صار هذا اللّقيط لها تبيعا، من مجال للتّردّد.

لاخيس   : ( مخاطبا بنفيلوس) لم يعد لك الآن أن تفكّر في الأمر.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) هلكت.

لاخيس   : كم تمنّينا أن نرى اليوم الّذي ينشأ فيه منك من يناديك "أبي". وها قد أتى، فحمدا للآلهة.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) أصاب منّي مقتلا.

لاخيس  : ردّ زوجتك ولا تخالفني.

بنفيلوس : أبي لو كانت تريد أبناء لها منّي أو أن تبقى معي زوجة، أنا على يقين أنّها ما كانت ستحمل بدون علمي هذا الّذي أدرك اليوم أنّها كانت تخفيه. الآن، وأنا أحسّ بتغيّر مشاعرها نحوي، ولا أعتقد أن سيكون بيننا تفاهم مستقبلا، ماذا يحملني على ردّها؟

لاخيس  : لقد فعلتْ وهي فتاة غشيمة ما نصحتها به أمّها. وهل يدعو ذلك إلى العجب؟ أتظنّ بإمكانك أن تجد امرأة لم تذنب؟ أولا يخطئ الرّجال كذلك؟

فيدبّوس: تداولا في الأمر فيما بينكما يا لاخيس وأنت يا بنفيلوس إن كنتما تريدان تسريحها أو ردّها. أمّا ما تفعل زوجتي فليس بيدي. ولن أتصعّب معكما في كلتا الحالتين. لكن ماذا نفعل بالطّفلّ؟

لاخيس  : ما هذا السّؤال السّخيف؟ مهما يكن من أمر، ستردّ طبعا له ولده لنربّيه بوصفه ولدنا.

بنفيلوس : ( مدمدما) من لم يُعن به أبوه أصلا عليّ أنا أن أربّيه؟

لاخيس  : ( يسمع دمدمته) ماذا قلتَ؟ لا نربّيه إذن يا بنفيلوس؟ نتخلّى عنه بالأحرى، قل أرجوك؟ أيّ جنون هذا؟ حقّا لم أعد أستطيع السّكوت، أنت تجبرني على أن أقول بحضرته ما لا أريد قوله. أتظنّني على غير علم بدموعك؟ وما يسبّب لك كلّ ذاك العذاب؟ في البداية تذرّعتَ بأنّك لا تستطيع الاحتفاظ بزوجتك بالبيت بسبب أمّك، فوعدتْ بالرّحيل من البيت. والآن بعدما رأيت هذه التّعلّة تُسحب منك، وجدتَ غيرها لمجرّد كون الطّفلّ وُلد بغير علمك. تخطئ إن حسبتني أجهل ذلك. لتميلَ قليلا بقلبك إلى هنا أخيرا، كم من الوقت منحتك لتستمرّ في علاقتك بعشيقتك، آخذا على عاتقي بطيب خاطر إنفاقك عليها. ثمّ تدبّرت وترجّيتك أن تتزوّج، أفهمتك أن آن الأوان لذلك وتزوّجتَ فعلا بتشجيعي. فعلتَ ذلك امتثالا لي كما كان خليقا بك. وها أنت الآن وضعت في ذهنك العودة إلى مومسك، إنّك بخضوعك لها تقترف إساءة في حقّ زوجتك. إذ أراك عدت ثانية إلى حياتك السّابقة.

بنفيلوس : أنا؟

لاخيس  : أنت طبعا، وأنت ترتكب إساءة. تختلق مبرّرات زائفة لتنشئ خلافا مع زوجتك، وتعيش مع خليلتك بعدما أقصيت الشّاهدة على مجونك. وقد أحسّت زوجتك ذلك، وإلاّ فلأيّ سبب آخر غادرتك؟

فيدبّوس : ( مخاطبا نفسه) تخمينه في محلّه، المسألة حتما كذلك.

بنفيلوس : أقسم لك أنّ لا علاقة لي بشيء من ذلك.

لاخيس  : أفّ، أعد زوجتك أو قل لماذا لا ترغب فيها.

بنفيلوس : ليس الآن أوان ذلك.

لاخيس  : اقبل الطّفل إذن فهو لا ذنب له. وفيما بعد سأنظر في شأن أمّه.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) شقيّ أنا في كلّ الأحوال ولا أدري ماذا أصنع. أبي يضيّق عليّ الخناق، سأذهب من هنا، فبحضوري لا أقدّم الأمور ولو شيئا يسيرا. لا إخالهم يربّون الصّبيّ بدون إذني، سيما وحماتي حليفتي في هذا المجال. ( يخرج)

لاخيس  : أتفرّ ولا تعطيني جوابا واضحا؟ ( مخاطبا فيدبّوس) أيبدو لك بكامل وعيه؟ عفوا فيدبّوس: أعطني الطّفل سأربّيه بنفسي.

فيدبّوس : بكلّ سرور. يبدو لي أنّ زوجتي لم تفعل ما يثير الاستغراب باستيائها من الأمر. النّساء سريعات التّأثّر لا يتحمّلن هذه الأمور بسهولة. لذلك السّبب هي غاضبة. هي نفسها حدّثتني بذلك. حقّا لم أكن أودّ قول ذلك أمامك، ولا كنت أصدّقها في البداية. لكنّ الأمر الآن واضح: أرى أنّه عازف عن الزّواج تماما.

لاخيس  : ماذا أفعل إذن يا فيدبّوس؟ بماذا تشير عليّ؟  

فيدبّوس : ماذا تفعل؟ أرى أن نذهب أوّلا إلى تلك المومس فنترجّاها ونؤنّبها بشدّة ونهدّدها إن استمرّت في علاقتها به بعد اليوم.

لاخيس  : سأفعل كما تنصحني. ( مخاطبا عبدا له) اسمع يا غلام، اذهب جريا إلى جارتنا باخيس وادعها إلى المجيء هنا من طرفي. ( مخاطبا فيدبّوس) وأنت من جهتك يا فيدبّوس أرجوك أن تساعدني في هذه المسألة.

فيدبّوس : أقول لك يا لاخيس ما قلت منذ مدّة: أريد أن تدوم مصاهرتنا مدى الدّهر إن أمكن ذلك بأيّ وجه، وهو ما آمل أن يتمّ. لكن هل تريد منّي الحضور معك أثناء لقائكما؟

لاخيس  : بل اذهب وأحضر مرضعة للصّغير.

 

 

الفصل الخامس

 

المشهد الأوّل (727-767)

باخيس، لاخيس

باخيس  : ( مخاطبة نفسها) ما عبثا يطلبني لاخيس الآن لمقابلته وأظنّه وحقّ بولكس* يريد منّي ما أرتاب به.

لاخيس  : ( مخاطبا نفسه) عليّ الاحتياط لئلاّ أحصل منها بسبب غضبي على أقلّ ممّا أستطيع، أو أفعل أكثر ممّا يتّضح من بعد أنّه كان يكفي فعل أقلّ منه. لأذهب إليها. ( مخاطبا باخيس) سلاما يا باخيس.

باخيس  : سلاما يا لاخيس.

لاخيس  : لا أحسبك وحقّ بولكس* إلاّ تتساءلين بعجب لماذا أرسلت إليك الغلام لتخرجي لنا.

باخيس  : إنّي خائفة كذلك وحقّ بولكس*- إذ يجول ببالي من أنا- أن يضرّ بي اسم مهنتي، أمّا تصرّفاتي فأحتاط لها بسهولة.

لاخيس  : إن صدقتِني القول فلا خوف عليك منّي يا امرأة. لقد بلغتُ من العمر ما لا يحقّ معه التّجاوز عن أخطائي. لذا أحرص باحتراز على ألاّ أفعل شيئا بلا تروّ. إن كنت تأتين، أو بنيّتك أن تأتي، أعمالا صالحة يحسن فعلها، فسيكون ظلما أن ألحق بك بدون تبصّر إساءة لا تستحقّينها.

باخيس  : أشكر لك وحقّ كستور* هذه الضّمانات شكرا جزيلا، إذ لا يجديني أن يعتذر لي أحد بعد إساءته إليّ. فما الأمر؟

لاخيس  : أنت تستقبلين ابني بنفيلوس في بيتك.

باخيس  : عفوا؟

لاخيس  : لا تقاطعيني أرجوك. قبل أن يتزوّج قبلت علاقتكما. ( تهمّ بالرّدّ) انتظري: لم أقل بعد كلّ ما عندي. هو الآن متزوّج، فابحثي عن خدن آخر أوثق ما دام لديك وقت للتّفكير. فلن يظلّ دوما على هذه المشاعر، ولا أنت وحقّ بولكس* في هذا العمر.

باخيس  : من يقول ذلك؟

لاخيس  : حماته.

باخيس  : تزعم أنّي...؟

لاخيس  : أجل أنت: ولقد أخذت ابنتها، وأرادت خنق مولودها خفية لهذا السّبب.

باخيس  : لو كنت أعرف ضمانا أقدس من القسم لدعم ثقتكم بي لقدّمته لك يا لاخيس، لتتأكّد أنّي أبعدت بنفيلوس عنّي فور زواجه.

لاخيس  : هذا لطف منك. لكن أتدرين ما أريد منك فعله إن تفضّلت؟

باخيس  : ماذا تريد؟ قل.

لاخيس  : أن تدخلي إلى المرأتين هنا وتعاهديهما على مثل ما وعدتني. طمئني بالهما وبرّئي نفسك من التّهمة.

 باخيس  : سأفعل ما أعلم وحقّ بولكس* أنّ لا امرأة من هذه المهنة غيري تقبل فعله: مقابلة امرأة متزوّجة لمثل هذا الغرض. لكن لا أحبّ أن تُلصق بسمعة ابنك شبهة باطلة، ولا أن يبدو بغير حقّ نزقا لكما أنتما اللّذين لا يحسن ذلك بكما، فهو أهل لأن أخدمه قدر ما أستطيع.

لاخيس  : لقد جعلتني عذوبة كلامك ليّنا متسامحا نحوك. وفي الواقع ليستا وحدهما تعتقدان تلك الأمور، فأنا أيضا صدّقتها. والآن بعدما اكتشفت أنّك غير ما تصوّرنا احرصي على الاستمرار كما أنت، واستفيدي ما شئت من صداقتنا وإلاّ...سأتمالك نفسي كيلا تسمعي منّي كلاما حادّا. أنبّهك إلى شيء فقط: خير لك أن تجرّبيني وتري ما يمكن أن أفعل لك صديقا من أن تجرّبيني عدوّا.

 

المشهد الثّاني (768-798)

فيدبّوس، لاخيس، باخيس

فيدبّوس : ( يعود بالمرضعة) لن أسمح بأن يعوزك في بيتي شيء إلاّ وسأحضر ما تحتاجين غدقا. لكن لمّا تشبعين وترتوين، احرصي على أن يشبع الرّضيع بدوره.

لاخيس  : جاء صهرنا، كما أرى يحمل معه مرضعة للصّبيّ. فيدبّوس، باخيس تقسم أغلظ الأيمان...

فيدبّوس : أهي الّتي هناك؟

لاخيس  : نعم هي هنا.

فيدبّوس : هذه الفئة من النّساء وحقّ بولكس* لا يخشين الآلهة بل لا أظنّ الآلهة يراعونهنّ.

باخيس  : أنا مستعدّة لتسليمك جاريتيّ لتستجوبهما بنفسك عنّي مع ما تشاء من وسائل التّعذيب. المسألة هي أنّ عليّ التّدبّر لتعود لبنفيلوس زوجته: إن نجحت في ذلك فلن أندم على السّمعة الّتي سأنال بصفتي المومس الوحيدة الّتي فعلت ما تأبى فعله الأخريات.

لاخيس  : فيدبّوس، اكتشفنا أنّا أسأنا الظّنّ بزوجتينا في هذا الشّأن باطلا، فلنجرّب هذه المرأة من الآن. إن اكتشفتْ زوجتك أنّها اتّهمتها ظنّاً فلتدَع غضبها. أمّا إن كان ابني غاضبا لأنّ زوجته ولدت بدون علمه، فذاك أمر يسير، وسرعان ما سيزول غضبه.  إذ ليس في ذلك ما يبرّر انفصالهما حقّا.

فيدبّوس : أتمنّى ذلك وحقّ هرقل.

لاخيس  : سلها، هي أمامك، وستفعل ما يرضيك.

فيدبّوس : لماذا تقول لي هذا؟ ألم تسمع يا لاخيس بنفسك السّاعة رأيي بهذا الشّأن؟ أودّ فقط أن تطمئنا بالهما.

لاخيس  : باخيس، بحقّ بولكس*، أرجوك أن تفي بما وعدتني.

باخيس  : أتريد لهذا الغرض أن أدخل إليهما؟

لاخيس  : اذهبي، وطمئني بالهما، افعلي ما بوسعك لتصدّقاك.

باخيس  : أذهب، وإن أعلم وحقّ بولكس* أنّ مرآي اليوم سيزعجهما. فالزّوجة للمومس عدوّة إذا هجرها زوجها.

لاخيس  : لكنّهما ستكونان صديقتين لك لمّا تعرفان سبب قدومك.

فيدبّوس : أعدك أنّهما ستكونان صديقتيك لمّا تعلمان الحقيقة، إذ ستخلّصينهما من الخطإ ونفسك من الشّبهة.

باخيس  : يا ويلتاه، ويا خجلتاه من فيلومينة. ( مخاطبة جاريتيها) هيّا اتبعاني. ( تذهب)

لاخيس  : هل هناك أمر أحبّ لي ممّا أدرك أنّه سيحصل: ستصنع معروفا لا يكلّفها شيئا وستفيدني. فهي، إن صرفت بنفيلوس حقّا، تعلم أنّها ستنال بذلك شرفا وربحا ومجدا. ستكسب بجميلها عرفانه وصداقتنا معا.  

 

المشهد الثّالث (799-840)

برمينون، باخيس

برمينون : ( مخاطبا نفسه) إنّ سيّدي لا يبالي بعنائي وحقّ بولكس*، فقد أرسلني بلا طائل ولا موجب لأبقى هناك كامل النّهار أنتظر ذلك الغريب الميقونيّ* كلّيدميدس في القلعة. قضيت اليوم قاعدا كالأبله كلّما أتى أحد أدنو منه سائلا: "قل لي يا فتى أرجوك، أأنت من ميقونية*؟" فيردّ: "لا". "فهل تدعى كلّيدميدس؟" "لا." "فهل استضافك أحد هنا يدعى بنفيلوس؟" كان الجميع يردّون بالنّفي: ولا أظنّه موجودا أصلا. في النّهاية خجلت من نفسي وحقّ هرقل* فانصرفت. لكن ما لي أرى باخيس تخرج من بيت ختننا؟ ما القصّة ترى؟

باخيس  : برمينون، ظهرت في الأوان. اجر بسرعة إلى بنفيلوس.

برمينون : ولم ذلك؟

باخيس  : أخبرْه أنّي أطلب منه الحضور.

برمينون : إلى بيتك؟

باخيس  : بل إلى بيت فيلومينة.

برمينون : لأيّ غرض؟

باخيس  : كفّ عن السّؤال عمّا لا يعنيك.

برمينون : لا أقول له غير ذلك؟

باخيس  : بلى، قل له كذلك: إنّ مرّينة تعرّفت على أنّ ذاك الخاتم الّذي أهداني منذ فترة كان سابقا لابنتها. 

برمينون : مفهوم، هذا فقط؟

باخيس  : فقط: ليأت إلى هنا حالما تخبره. لكن ماذا تنتظر؟

برمينون : لا شيء لعمري، إنّما لا أجد لديّ طاقة، فقد أمضيت كامل اليوم في الرّكض والمشي. ( يخرج)

باخيس  : ( مخاطبة نفسها) أيّةَ فرحة حملتُ اليوم لحبيبي بنفيلوس بمجيئي! كم جلبت له من الفوائد! وكم أزلت عنه من المنغّصات! وأنا أعيد له ابنه الّذي كاد يهلك بفعله وفعلهما، وأردّ عليه زوجه الّتي لم يظنّ بوسعه الاحتفاظ بها بعد الّذي حدث، وبرّأته ممّا ظنّ به أبوه وفيدبّوس، وهذا الخاتم هو أصل كلّ تلك الاكتشافات. أذكر فعلا أنّه قبل حوالي عشرة أشهر لجأ إلى بيتي أوّل اللّيل لاهثا متعتعا بالخمر وفي يده ذلك الخاتم. خفت فورا وقلت: "حبيبي بنفيلوس أرجوك، لماذا أراك لاهثا؟ وأين لقيت هذا الخاتم؟" فتشاغل عن سؤالي بأشياء أخرى. بعدما رأيت منه ذلك بدأت أرتاب أكثر بأمر غير سويّ، وألحّ عليه ليخبرني. فاعترف لي بأنّه اغتصب فتاة لا يعرفها في الطّريق وأنّه انتزع منها الخاتم بينما كانت تقاومه. تعرّفت مرّينة السّاعة ذلك الخاتم الذي كنت أحمله في إصبعي وسألتني من أين أتاني. فرويت لها كلّ شيء. تبيّن ممّا أخبرتها أنّه هو الّذي اغتصب فيلومينة وأنّ الصّبيّ وُلد من صلبه. وأنا أسعد أن أتته بفضلي كلّ هذ المسرّة، مع أنّ ذلك لا يروق لبقيّة المومسات، فليس من مصلحتنا أن يسعد عشيق في زواجه. لكنّي وحقّ كستور* لن أجنح أبدا إلى الشّرّ طلبا للرّبح. طالما أتيح لي، نعمت به شابّا سخيّا ولطيفا ورقيقا. أعترف بأنّ زواجه الطّارئ كدّرني. وما أظنّني وحقّ بولكس* فعلت ما أستحقّ به ذلك الكدر. لكن عدلٌ أن نتحمّل بعض المكاره ممّن نلنا منه عديد النّعم.

 

المشهد الرّابع (840-880)

بنفيلوس، برمينون، باخيس

بنفيلوس : احتط يا عزيزي برمينون أرجوك، أن يكون ما حملتَ لي مؤكّدا بيّنا كيلا تلقي بي في فرحة زائفة أنعم بها لمدّة وجيزة.

برمينون : احتطت.

بنفيلوس : بالتّحقيق؟

برمينون : بالتّحقيق.

بنفيلوس : أنا عديل الآلهة إن صحّ ما تقول!

برمينون : ستكتشف صحّته.

بنفيلوس : انتظر أرجوك: أخاف أن أتصوّر شيئا وتعني شيئا آخر.

برمينون : أنتظر.

بنفيلوس : أظنّك أخبرتني أنّ مرّينة وجدت باخيس تحمل خاتمها.

برمينون : حصل.

بنفيلوس : ذاك الّذي أعطيتها قبل فترة. وأنّها أمرتك بإبلاغي ذلك. هل الأمر كذلك؟

برمينون : نعم هو كذلك، أقول وأكرّر.

بنفيلوس : من أسعد منّي وأوفر حظّا وأكمل بهجة؟ ماذا أعطيك لهذه البشرى؟ ماذا؟ ماذا؟ لا أدري.

برمينون : أنا أدري.

بنفيلوس : ماذا؟

برمينون : لا شيء على الإطلاق، إذ لا أرى ما الّذي يعجبك في هذا الخبر ولا فيّ أنا.

بنفيلوس : أأسمح لنفسي، وقد أعدتني من غياهب أركوس* إلى عالم النّور، أن أتركك تنصرف بدون حلوان؟ إنّك تحسبني إذن في منتهى اللّؤم! لكن هي ذي باخيس واقفة أمام الباب. أظنّها تنتظرني. سأدنو منها.

باخيس  : سلاما بنفيلوس.

بنفيلوس : باخيس، باخيس الحبيبة، منقذتي!

باخيس  : كلّ شيء على ما يرام فهنيئا لك.

بنفيلوس : بصنيعك تقنعينني بذلك. أنت على لطفك التّليد حتّى أنّ حلّك وترحالك وأقوالك، حيثما رحت، مصدر بهجة على الدّوام.

باخيس  : وأنت وحقّ كستور* على دماثة طبعك الأصيل، فليس بين الأحياء من هو ألطف منك.

بنفيلوس : هاهاها، أأنت الّتي تقولين ذلك؟

باخيس  : بنفيلوس أنت محقّ في حبّ زوجتك. لم أرها قطّ قبل اليوم لأعرفها. وقد بدت لي كريمة الخلق.

بنفيلوس : اصدقيني.

باخيس  : ما أكذبك وحقّ الآلهة يا بنفيلوس.

بنفيلوس : أخبريني، أذكرت شيئا من هذه الأمور لأبي؟

باخيس  : كلاّ.

بنفيلوس : ولا حاجة لإخباره. يحسن ألاّ تجري الأمور كما في المسرحيّات حيث يعلم الكلّ بكلّ شيء. هنا يعلم فقط من يحسن أن يُعلموا، أمّا من لا يحسن أن يعلموا فلن يعلموا ولن يُعلمهم أحد.

باخيس  : بل سأزيدك ما يقنعك بأنّ من السّهل إخفاء ذلك: أخبرتْ مرّينة فيدبّوس أنّها صدّقت قسمي ومن ثمّ برّأتك.

بنفيلوس : رائع، وآمل أن تجري الأمور بما نشتهي.

برمينون : سيّدي، أيمكن أن تعلمني أيّة محمدة فعلتُ اليوم، وما الّذي تخوضان فيه؟ 

بنفيلوس : لا يمكن.

برمينون : لكنّي أخمّن: فقد نزعتك من غياهب مملكة أركوس*...

بنفيلوس : لا تدري يا برمينون كم أفدتني اليوم ومن أيّة آلام انتشلتني.

برمينون : بل أدري، وما صنعت ذلك بدون علم.

بنفيلوس : أنا واثق من ذلك.

برمينون : أيترك برمينون فرصة للنّفع تمضي سبهللا؟

بنفيلوس : اتبعني إلى الدّاخل يا برمينون.

برمينون : ها أنا أتبعك. ( مخاطبا نفسه) لقد فعلت اليوم من الخير بدون علمي أكثر ممّا فعلت بعلمي إلى الآن.

قائد الفرقة: صفّقوا.