ترنتيوس

 

الأعمال المسرحيّة

 

5- الحماة 

 

حواش 

 

 

 

 

 

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

 

الفصل الثّاني

 

المشهد الأوّل (198-242)

لاخيس، سُستراتة

لاخيس  : بحقّ الآلهة والبشر، أيّ جنس هذا؟ وأيّة مؤامرة؟ ألا بدّ لكلّ النّساء بالتّساوي أن ينشدن نفس الأشياء ويكرهن نفس الأشياء، فلا تجد بينهنّ واحدة تشذّ في طباعها بشيء عن الأخريات. هكذا تجمع كلّ الحموات على بغض كنّاتهنّ، وهمّهنّ جميعا كذلك معاكسة أزواجهنّ وفيهنّ نفس العناد، ويبدو كأنّما تعلّمن كلّهنّ المكر من نفس المدرسة. وإن وُجدت تلك المدرسة فأنا أعلم يقينا أنّ زوجتي هي المعلّمة فيها.

سُستراتة: يا للنّكد! لا أدري لماذا تتّهمني هذه المرّة.

لاخيس  : كيف؟ لا تدرين؟

سُستراتة: كلاّ وحقّ الآلهة يا عزيزي لاخيس، منّت علينا مشيئتهم بقضاء العمر معا! 

لاخيس  : لا سمح الآلهة بمكروه!

سُستراتة: ستعلم بعد لحظة أنّك اتّهمتني باطلا.

لاخيس  : أعلم، اتّهمتك باطلا؟ وهل هناك ما يمكن أن يقال لك يناسب فعالك، أنت اّلتي تخزيننا، أنا وإيّاك وأسرتنا، وتُعدّين لابنك الأحزان، وتجعلين أصهارنا ينقلبون من أصحاب أعداء، هم الّذين عدّوه أهلا ليأتمنوه على ضنوهم، أنت وحدك تسبّبت بسفاهتك في هذه البلابل.

سُستراتة: أنا؟

لاخيس  : أجل يا امرأة. أنت تعدّينني جلمودا لا بشرا. أم هل تحسبينني، لتردّدي على الرّيف، أجهل كيف تقضون الحياة هنا؟ بل أعلم ما يجري هنا أفضل بكثير ممّا يجري هناك حيث أوجد غالبا، فكما تكونون بالبيت تكون سمعتي بالخارج. منذ مدّة في الواقع سمعت أنّ فيلومينة صارت تكرهك، ولا عجب، بل الأعجب ألاّ تفعل. لكن ما ظننت الأمر سيصل حدّ بغض الأسرة بأسرها. ولو علمت لبقيت بالأحرى هنا، وذهبتِ أنت إلى الخارج. انظري يا سُستراتة أيّ كدر سبّبت لي بلا مبرّر، فقد ذهبت للسّكنى في المزرعة لأخلي لك الجوّ وأعتني بأرضنا علّها توفّر ما يحتاجه تبذيرك وفراغك غير مدّخر جهدي، فوق ما هو معقول ومناسب لسنّي. فما كان أحجاك في المقابل أن تعتني بألاّ يحصل لي أيّ كدر.

سُستراتة: ما بفعلي ولا بذنبي حصل ذلك وحقّ بولكس*.

لاخيس  : بلى، وبكلّ تأكيد. بقيت وحدك هنا، فعليك وحدك يا سُستراتة تقع المسؤوليّة كاملة. كان عليك أن تهتمّي بما يجري هنا، بما أنّي أعفيتكم من بقيّة المشاغل. أليس من المخجل أن تنشئ عجوز عداوات مع فتاة؟ أم تزعمين ترى أنّ ذلك وقع بذنبها؟

سُستراتة: قطعا لا أقول شيئا من ذلك يا عزيزي لاخيس.

لاخيس  : أنا فرح وحقّ الآلهة لابننا. فأنا أعلم جيّدا أنّه لا يحصل أيّ أذى بغلطتك#.

سُستراتة: وما يدريك يا زوجي إن لم تتصنّع بغضي لتبقى مزيدا من الوقت مع أمّها.

لاخيس  : ماذا تقولين؟ ألا يكفي دليلا أنّ لا أحد أراد بالأمس الإذن لك بالدّخول لزيارتها؟

سُستراتة: في الواقع كانوا يقولون إنّها متعبة جدّا. لذلك لم يؤذن لي بالدّخول إليها.

لاخيس  : أعتقد أنّ سلوكك أكثر من أيّ شيء سواه هو مرضها، وهي لعمري على حقّ. ليس منكنّ من لا تريد لابنها الزّواج، وتختار الزّوجة الّتي ترتضيها، وبعد زواجهم بتشجيعكنّ يطلّقون زوجاتهم بتشجيعكنّ أيضا.

 

المشهد الثّاني (243-273)

فدريا، لاخيس، سُستراتة

فيدبّوس : ( مخاطبا فيلومينة بالدّاخل وهو يخرج) حتّى مع علمي يا فيلومينة أنّ من حقّي إجبارك على فعل ما آمرك، سأرضى بالتّنازل عنه امتثالا لحنان الأبوّة، ولن أعارض نزوتك.

لاخيس: ( مخاطبا نفسه) هوذا فيدبّوس في الوقت المناسب. سأعرف الآن منه حقيقة الأمر. ( مخاطبا فيدبّوس) فيدبّوس، أعلم أنّي منحاز لذويّ إلى مدى بعيد، لكن لا إلى الحدّ الّذي يفسد فيه تساهلي طباعهم. ولو أبديت من جهتك سعة صدر مماثلة للاءم ذلك أكثر مصلحتنا ومصلحتكم معا. لكن أرى أنّك تحت تأثيرهنّ.

فيدبّوس : حقّا؟ كيف ذلك يا لاخيس؟

لاخيس  : جئتك بالأمس بخصوص ابنتك وعدت حائرا كما أتيت. لا يحسن بك إن أردت أن تدوم مصاهرتنا إلى الأبد أن تكتم ما يسخطك. قل إن كنّا ارتكبنا غلطة وسنصلح ذات بيننا بتفنيدها أو الاعتذار عنها، وأنت نفسك الحكم. فإن كان سبب احتفاظكم بها أنّها مريضة، فأعتقد يا فيدبّوس أنّك تجرحني إن كنت تخاف ألاّ نعتني بها جيّدا في بيتنا. وحقّ الآلهة إنّي لا أقرّ لك وإن كنت أباها بأنّك أشدّ حرصا على سلامتها منّي. وذاك إكراما لولدي الّذي أدركت أنّه يعزّها أكثر من نفسه. ولا يخفى عليّ أنّه سيغتمّ كثيرا في اعتقادي إن علم بالوضع. لذا أبذل ما بوسعي لردّها إلى البيت قبل رجوعه.

فيدبّوس : لاخيس، أعرف لطفكم وعطفكم وأنا مقتنع بصحّة كلّ ما قلت لي، وأريد أن تصدّق أنّي أجهتد لإعادتها إليكم لو استطعت أن أفعل ذلك بأيّ نحو.

لاخيس  : وما الّذي يمنعك من فعله؟ أتؤاخذ زوجها على شيء؟

فيدبّوس : كلاّ. فبعدما اهتممت بالمسألة بجدّ، وبدأت أحاول إكراهها على العودة، أقسمت لي بأغلظ الأيمان أنّها لا تستطيع البقاء عندكم في غياب بنفيلوس. أعترف، وقد يكون هذا عيبا لدى الآخرين، أنّي ليّن العريكة بطبعي، لا أستطيع معاكسة ذويّ.

لاخيس  : ( مخاطبا زوجته) أسمعتِ يا سُستراتة؟

سُستراتة: واحسرتاه، ما أتعسني!

لاخيس  : ( مخاطبا فيدبّوس) أهذا قرارك الأخير؟

فيدبّوس : طبعا كما يبدو في الوقت الرّاهن. هل تريد شيئا آخر فعليّ أن أذهب الآن إلى القصبة*؟

لاخيس  : أذهب معك.

 

المشهد الثّالث (274-280)

سُستراتة

سُستراتة: وحقّ بولكس* إنّا جميعا على حدّ سواء بغيضات لدى الرّجال ظلما، بسبب قلّة منّا يجعلننا كلّنا نبدو جديرات بكلّ سوء. فإنّي وحقّ الآلهة بريئة ممّا يتّهمني به الآن زوجي. لكن ليس سهلا أن أثبت براءتي. إذ استقرّ في ذهنه أنّ كلّ الحموات جائرات، وحاشاني وحقّ بولكس*. فأنا لم أعدّها أبدا إلاّ  كابنتي ولا أدري لِم وقع لي هذا. على أيّة حال ما لي وحقّ بولكس* إلاّ انتظار موعد عودة ابني إلى البيت.

 

 

الفصل الثّالث

 

المشهد الأوّل (281-335)

بنفيلوس، برمينون، مرّينة

بنفيلوس : ( آتيا من الميناء) لا أظنّ أحدا أصابه من الحبّ أبدا مثل ما أصابني من الكُرب. واأسفاه ما أشقاني! أهذه الحياةَ أعفيتُ من الإتلاف؟ ألأجل هذا كنت وأنا في مأموريّة كتلك أتّقد شوقا إلى البيت؟ واحسرتاه! كم كان أجدى بي قضاء العمر في أيّ بلاد من العودة إلى هنا لأعلم للأسف بما آلت إليه الأمور. فنحن الّذين نواجه من أيّ مصدر مشقّة ما، كلّ وقت يمرّ قبل علمنا به ربح لنا.

برمينون : بهذا النّحو ستجد بصفة أسرع ما تتخلّص به من هذه الآلام. فلو لم تعد لكانت تلك الحزازات قد تفاقمت كثيرا. لكنّي واثق يا بنفيلوس أنّ كلتيهما ستراعيان عودتك. ستعرف الحقيقة، وتجلو سبب الخصام وتعيد بينهما الوئام. صدّقني: مجرّد تفاهات ما استقرّ في ذهنك أنّها أمور في منتهى الخطورة.

بنفيلوس : لِم تؤاسيني؟ أثمّة على الأرض من هو في مثل شقائي؟ قبل زواجي من هذه المرأة، كانت نفسي تهيم بغيرها. مع ذلك لم أجرؤ قطّ على رفض المرأة الّتي عرض عليّ أبي. والآن سهلٌ رغم تكتّمي تصوّر مدى ما شقيت بهذا الشّأن. وما كدت أنفصل عنها وأخلّص قلبي العالق* بها لأحوّله إلى هذه حتّى نشأ هذا الإشكال الجديد الّذي يفصلني عنها. أعتقد أنّي سأجد أمّي أو زوجتي المذنبة في هذا الخصوص.  فماذا يبقى لي بعد اكتشاف ذلك سوى أن أندب شقائي. فالبرّ يقتضيني يا برمينون تحمّل إساءات أمّي، ومن جهة أخرى أنا مدين بالجميل لزوجتي إذ تحمّلتني سابقا بكرم طبعها ولم تكشف قطّ في أيّة مناسبة إساءاتي الكثيرة. لكن لا بدّ يا برمينون أنّ أمرا خطيرا حصل ولّد بينهما هذه الشّحناء الّتي دامت طويلا.

برمينون : لا وحقّ هرقل*، بل تافها. لكن إن شئت تحرّي السّبب الحقيقيّ* فليست أحيانا أعظم الإساءات هي الّتي تنتج أعظم الحزازات*، فكثيرا ما يحدث في هذه الشّؤون أنّ ما لا يتأثّر به شخص يجعل من آخر غضوبٍ عدوّا لدودا*. كم يحمل الأطفال فيما بينهم لأتفه الأذايا من الشّحناء؟ لم ذلك؟ لضعف الفكر الّذي يحملون ويحكمهم. كذلك تانك المرأتان كالأطفال تقريبا خفيفتا التّفكير. فربّما أنشأت هذه العداوة بينهما كلمة واحدة.

بنفيلوس : اذهب يا برمينون إلى بيتي وأعلن عن مجيئي.

برمينون : ( يصيخ السّمع) استمع، ماذا يجري هنا؟

بنفيلوس : اسكت. أسمع هناك لغطا وجريا هنا وهناك.

برمينون : تعال بسرعة وادن من الباب. أنصتْ، هل سمعتَ؟

بنفيلوس : كفّ عن الكلام، لطفا. وحقّ يوبتر* سمعت هرجا ومرجا.

برمينون : تتكلّم بحرّيّة وتمنعني؟

مرّينــة: ( بالدّاخل) اسكتي أرجوك يا بنيّتي.

بنفيلوس : بدا لي أنّه صوت أمّ فيلومينة. يا ويلتاه!

برمينون : لماذا؟

بنفيلوس : قُضي عليّ.

برمينون : لماذا؟

بنفيلوس : لا أدري أيّ خطب عظيم تخفيان عليّ بالتّحقيق يا برمينون.

برمينون : قالتا إنّ زوجتك فيلومينة تخشى لا أدري ماذا: فلعلّه هو ما تخفيان.

بنفيلوس : يا ويلتي! لم لم تقل لي ذلك؟

برمينون : لأنّي لم يكن بإمكاني أن أقول لك كلّ شيء دفعة واحدة.

بنفيلوس : أيّ مرض هو؟

برمينون : لا أدري.

بنفيلوس : كيف، ألم يحضر أحد لها الطّبيب؟

برمينون : لا أدري.

بنفيلوس : ماذا أنتظر للدّخول لأعلم بسرعة ما هناك أيّا كان؟ بأيّة حال سأجدك معتلّة يا فيلومينة؟  ( يدخل)

برمينون : لا حاجة إلى اللّحاق به إلى الدّاخل، فإنّي أشعر أنّ لا رغبة لهم في رؤية أيّ منّا. بالأمس لم يشأ أحد إدخال سُستراتة. إن تفاقم صدفة مرضها، وهو ما لا أرجوه خاصّة من أجل سيّدي، سيزعمون في الحال أنّ عبد سُستراتة دخل يحمل معه شرّا نحسا زاد مرضها سوءا. ستُتّهم سيّدتي إذّاك ويلحقني أذى كبير.

 

المشهد الثّاني (336-360)

سُستراتة، برمينون، بنفيلوس

سُستراتة: ( مخاطبة نفسها) منذ فترة أسمع هنا هرجا ومرجا، واأسفى كم أخاف أن يتفاقم مرض فيلومينة. أدعوك يا أسكولابيوس* وأنتِ يا سالوس* ألاّ يقع شيء من ذلك. والآن لأذهب لزيارتها.

برمينون : مهلا يا سُستراتة!

سُستراتة: ماذا؟

برمينون : سيمنعونك مرّة أخرى من الدّخول إليها.

سُستراتة: برمينون، أكنتَ هنا منذ مدّة؟ يا ويلتى ماذا أصنع؟ ألا أعود زوجة ابني وهي بالقرب هنا مريضة؟

برمينون : لا تعودينها؟ بل ولا ترسلين أحدا لزيارتها. فإنّ من يحبّ شخصا يكرهه يرتكب حماقة مزدوجة: يبذل جهدا لا طائل منه ويسبّب إزعاجا للآخر. منذ لحظة دخل ابنك، فور وصوله، ليرى ما هناك.

سُستراتة: ماذا تقول؟ أجاء ابني؟

برمينون : نعم جاء.

سُستراتة: حمدا للآلهة. بهذا الخبر عادت لي الرّوح وزال من قلبي الكدر.

برمينون : لهذا السّبب خصوصا لا أريد أن تدخلي الآن. فإن انفثأت قليلا آلام فيلومينة، أعتقد أنّها ستروي له حالا على انفراد كلّ ما جدّ وولّد الموجدة بينكما. على أيّة حال ها هوذا يخرج، كم هوحزين!

سُستراتة: ( محيّية بنفيلوس) أي بنيّ!

بنفيلوس : أمّاه، أهلا بك.

سُستراتة: يسرّني رجوعك سالما. قل، هل شفيتْ فيلومينة؟

بنفيلوس : تحسّنتْ قليلا.

سُستراتة: حفظها الآلهة! لماذا تبكي إذن؟ ولماذا أراك حزينا؟

بنفيلوس : خير يا أمّاه.

سُستراتة: ما سبب هذا اللّغط؟ قل لي: هل عاودها الألم؟

بنفيلوس : هو ذاك.

سُستراتة: أيّ نوع من المرض هو؟

بنفيلوس : حمّى.

سُستراتة: يوميّا؟

بنفيلوس : كذا يقولون. عودي إلى البيت، لطفا يا أمّاه، وسأتبعك حالا.

سُستراتة: ليكن.

بنفيلوس : ( مخاطبا برمينون) أنت يا برمينون، اجر للقاء الغلمان وأعنهم على نقل الأحمال.

برمينون : لماذا؟ ألا يعرفون الطّريق إلى البيت من تلقاء أنفسهم؟

بنفيلوس : ألا تزال تنتظر؟ ( ينصرف برمينون)

 

المشهد الثّالث (361-414)

بنفيلوس

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) لا أدري كيف أجد بداية مناسبة أستهلّ بها سرد ما حدث لي على غفلة منّين سواء ما رأيت بعينيّ أو ما سمعت بأذنيّ وجعلني أفرّ بسرعة خارج البيت مذهولا. قبل حين دخلت في اندفاع وتوجّس ظانّا أنّي سأراها تعاني من مرض آخر، ورأيتها، فواحسرتاه! لمّا رأتني خادماتها قادما انفجرن كلّهنّ فورا مستبشرات: "أتى"، إذ فوجئن بمرآي. لكن أحسست فورا بتغيّر وجوههنّ لأنّ القدر شاء أن أصل في وقت غير مناسب بالمرّة. هبّت إحداهنّ في الحال تخبر بمجيئي. فتبعتها مباشرة مشتاقا لرؤية زوجتي. لمّا دلفت داخل غرفتها علمت فورا مرضها، ويا لهول ما علمت. لم تعطها المفاجأة متّسعا من الوقت للاختفاء، ولا كانت تستطيع الشّكوى بغير لسان حالها. ما إن رأيتها حتّى انفجرت: "يا للعار!" وغادرت فورا موجع القلب باكيا، مصعوقا من المشهد المذهل الفظيع. لحقتني أمّها وأنا على العتبة أهمّ بالخروج، وارتمت على ركبتي باكية تثير الرّثاء، فتأثّرت لها. كذا الأمر في اعتقادي: حسبما تتبدّى لنا الوقائع نكون عظام النّفوس أو صغارها#. بدأت تخاطبني بهذه الكلمات: "أي بنفيلوس العزيز، ها أنت ترى السّبب الّذي دفعها إلى مغادرة بيتك. لقد اغتصبها وهي بكر نذل لا ندري من يكون. وقد لجأت إلى هنا بعيدا عنك وعن الآخرين لتخفي ولادتها." لمّا أتذكّر توسّلاتها لا أتمالك نفسي عن البكاء. تابعت: "مهما يكن الاتّفاق أو البخت الّذي بعثك اليوم إلينا، نناشدك معا باسمها أن تستر رزيّتها وتكتمها على كلّ النّاس، إن كان ذلك عادلا ومشروعا. أي بنفيلوس العزيز، إن وجدت أبدا لديها قلبا يحمل لك الودّ، فهي الآن ترجوك في المقابل أن تسدي لها هذا المعروف اليسير. أمّا ردّها فلك أن تفعل ما يوافق مصلحتك. أنت وحدك تعلم بمخاضها وأنّها لم تحمل منك، إذ قيل لي إنّها عاشرتك معاشرة الأزواج بعد شهرين من زفافكما، وهذا هو الشّهر السّابع منذ دخولك بها، هذه الوقائع بمفردها تبيّن ما لك أن تعرفه. والآن يا بنفيلوس، أنا أرغب وأجتهد في أن تتمّ الولادة، إن أمكن، خفية عن أبيها، وعن كلّ الآخرين من باب أوْلى. لكن إن لم يمكن أن تتمّ دون أن يتفطّنوا إليها، فسأقول إنّه خديج. وأعلم أنّ لا أحد سيرتاب في تفسير سوى ما سيفكّر به النّاس، لأنّه قابل للتّصديق: أنّه من صلبك. وسنتخلّى عنه في الحين، وليس في ذلك ما يزعجك، وتكون قد سترت الإهانة الّتي وقعت على زوجتك المسكينة ظلما وعدوانا." وعدتها وبالطّبع سأحفظ العهد الّذي قطعت. أمّا ردّها، فلا أظنّه فعلا شريفا حقّا بأيّ وجه ولن أفعله، وإن شدّتني بقوّة إليها المحبّة والألفة. أبكي لمّا يجول بفكري ما ستكون حياتي ووحدتي. أيّها البخت لِم لا تصفى طويلا أبدا؟ لكنّ حبّي السّابق أكسبني تجربة بهذا الوضع، يومذاك تخلّيت عنه بتعقّل وسأبذل نفس الجهد في الموقف الرّاهن. لكن هذا برمينون يأتي مع الغلمان. لا داعي لأن يحضر مخاضها. له هو فقط بحت سابقا بأنّي لم مسّها أوّل زواجنا. أخشى إن سمع صياحها يتكرّر أن يفهم أنّها تتـمخّض. لا بدّ أن أقصيه من هنا إلى مكان ما ريثما تلد فيلومينة.

 

المشهد الرّابع (415-450)

برمينون، صوصيا، بنفيلوس

برمينون : تقول إنّ هذه الرّحلة كانت غير مريحة؟

صوصيا  : لا يمكن وحقّ هرقل* بالكلمات وصف ما في ركوب البحر من مشقّة يا برمينون. 

برمينون : صدقا؟

صوصيا  : يا بختك أنت الّذي لم تركب البحر أبدا، لا تدري أيّ شرّ تفاديت! فحتّى لو أغفلتُ بقيّة أهواله، فكّرْ فقط أنّي بقيت في السّفينة ثلاثين يوما أو أكثر أرقب الموت كلّ لحظة لسوء حالة الطّقس الّتي رافقتنا.

برمينون : فظيع.

صوصيا  : نعم، وحقّ الآلهة. باختصار لأن آبق أفضلُ عندي من العودة لو علمت أنّ عليّ أن أعود إلى هناك.

برمينون : ويحك يا صوصيا في الماضي كانت أتفه الأسباب تدفعك حقّا إلى فعل ما تهدّد بفعله. لكن ماذا؟ أرى بنفيلوس واقفا أمام الباب. ( للغلمان) هيّا ادخلوا. ( مخاطبا نفسه) سأدنو منه لعلّه يريد شيئا منّي. ( مخاطبا برمينون) سيّدي، ألا تزال واقفا هنا؟

بنفيلوس : نعم، وأنتظرك أنت بالتّحديد.

برمينون : ما حاجتك؟

بنفيلوس : أحتاج إلى طلعة سريعة إلى القلعة.

برمينون : ممّن؟

بنفيلوس : منك أنت.

برمينون : إلى القلعة، ولم ذلك؟

بنفيلوس : اذهب للقاء غريب من ميقونية* يدعى كلّيدميدس رافقني في سفري.

برمينون : ( مخاطبا نفسه) يا ويلتي، كأنّي به قد آلى على نفسه، إن عاد إلى البيت سالما ليدقّنّ بالمشي عظامي.

بنفيلوس : لماذا تنتظر؟

برمينون : ماذا تريد أن أقول له؟ أم أكتفي بمقابلته؟

بنفيلوس : بل أخبره أنّي لا أستطيع المجيء اليوم للموعد الّذي ضربت له فلا ينتظرْني بلا جدوى. هيّا طر.

برمينون : لكنّي لا أعرف وجه الرّجل.

بنفيلوس : سأصفه لك: ضخم، أحيمر، أشعث، أخضر العينين، غليظ، أغلف الوجه كالميّت.

برمينون : ( مخاطبا نفسه) سحقه الآلهة! ( مخاطبا بنفيلوس) وماذا لو لم يأت؟ أأنتظره حتّى المساء؟

بنفيلوس : ابق هناك. هيّا اجر.

برمينون : لا أستطيع، فأنا منهك. ( يذهب)

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) انصرفَ. ماذا أفعل يا لشقائي؟ لا أدري حقّا كيف أخفي ما رجتني مرّينة إخفاءه- مخاض ابنتها. أرثي حقّا لحالها. مع ذلك سأفعل ما بوسعي لأداء واجب البرّ، إذ يحسن بي اتّباع والدتي قبل حبّي. لكن مهلا، أرى فيدبّوس وأبي قادمين إلى هنا. لا أدري ماذا سأقول لهما.

 

المشهد الخامس (451-515)

لاخيس، فيدبّوس، بنفيلوس

لاخيس  : قلتَ لي السّاعة إنّها أخبرتك بأنّها تنتظر ابني؟

فيدبّوس : حصل.

لاخيس  : يقال إنّه وصل. فلتعد.

بنفيلوس : ( مخاطبا نفسه) لا أدري أيّة حجّة أقدّم لأبي لتبرير رفضي ردّها.

لاخيس  : من سمعته يتكلّم هنا؟

بنفيلوس : ( مواصلا) يجب أن أثبت على الدّرب الذي قرّرت اتّباعه.

لاخيس  : مهلا، ها هو المعنيّ نفسه.

بنفيلوس : سلاما يا أبي.

لاخيس  : سلاما يا ولدي.

فيدبّوس : سرّنا حقّا يا بنفيلوس أنّك وصلت، وبالإضافة- وهو الأهمّ- سالما معافى.

بنفيلوس : أنا واثق من ذلك.

لاخيس  : أوصلتَ لحينك؟

بنفيلوس : تماما.

لاخيس  : أخبرني، ماذا ترك لنا ابن العمّ فانيا؟

بنفيلوس : وحقّ هرقل* عاش الرّجل طوع شهوته طول حياته، ولا يترك من هم كذلك إرثا كبيرا، لكن يتركون لأنفسهم على شواهد قبورهم هذا التّأبين: "عاش، ما عاش، عيشة مستطابة".

لاخيس  : لمْ تجلب معك إذن أكثر من هذه الشّاهدة؟

بنفيلوس : مهما يكن ما ترك لنا، فهو لنا ربح.

لاخيس  : بل خسارة لعمري، فإنّي أفضّله حيّا وسالما*.

فيدبّوس : يمكنك التّمنّي دون خوف من العاقبة، إذ لن يعود أبدا. مع ذلك أعرف أيّ البديلين تحبّذ.

لاخيس  : اسمع يا بنيّ. بالأمس أمر حموك فيلومينة بالعودة إلى بيتنا. ( مخاطبا فيدبّوس) قل إنّك أمرتها.

فيدبّوس : دعك من نبش المسألة. أمرتُها.

لاخيس  : لكنّه الآن سيردّها.

فيدبّوس : بالتّأكيد.

بنفيلوس : أعلم كلّ شيء كما وقع. سمعت السّاعة فور وصولي.

لاخيس  : سحقا لأولئك الحسّاد الّذين يلتذّون بإذاعة هذه الأنباء.

بنفيلوس : من جهتي أعلم أنّي اجتهدت دوما في ألاّ أستحقّ منكم أيّة ملامة#. ولو أردت التّذكير الآن بمدى وفائي لها وودّي وسماحتي لاستطعت بالتّحقيق لو لم أكن أفضّل أن تعلم ذلك منها هي نفسها. فالنّحو الأمثل لتتأكّد من طباعي أن تشهد هي الّتي الآن تظلمني بإنصافي. أستشهد الآلهة أنّ هذه القطيعة لم تحصل بذنبي. لكن، بما أنّها ترى ممّا لا يليق بقدرها خفض جناحها لأمّي وتحمّل طباعها بتسامحها، ولا يمكن بحال إصلاح ذات بينهما، لا بدّ أن أفارق أمّي أو فيلومينة. لكنّ البرّ يدعوني بالأحرى إلى اتّباع ما يرضي أمّي.

لاخيس  : سرّني يا بنفيلوس ما سمعت منك، إذ أفهم أنّك قدّمت أمّك على كلّ اعتبار، لكن انتبه ألاّ يدفعك الغضب إلى الإصرار على الخطإ يا بنفيلوس.

بنفيلوس : أيّ غضب يمكن أن يدفعني الآن إلى ظلمها وأنا أعلم أنّها لم تفعل لي أبدا ما أكره وأذمّها عليه، بل كثيرا ما فعلت ما أحبّ وأحمدها عليه؟ إنّي أحبّها وأمدحها وأبتغيها بقوّة. فقد وجدت فيها بالتّجربة طباعا ومشاعر رائعة إزائي. وأتمنّى أن تقضي بقيّة العمر مع رجل أسعد منّي حظّا ما دامت الضّرورة تنتزعها منّي.

فيدبّوس : بيدك ألاّ يتمّ ذلك.

لاخيس  : إن كنت عاقلا، مُرها أن تعود.

بنفيلوس : ما هذا برأيي يا أبي. سأرعى مصالح أمّي. (ينصرف)

لاخيس  : إلى أين تذهب؟ انتظر، انتظر، أقول لك. إلى أين تذهب؟ ( لا يلتفت)

فيدبّوس : ما هذا العناد؟

لاخيس  : ألم أقل لك يا فيدبّوس إنّه سيستاء من هذا الأمر؟ لهذا السّبب كنت أترجّاك أن تردّ ابنتك.

فيدبّوس : ما حسبته وحقّ بولكس سيكون أرعن إلى هذا الحدّ. هل يفكّر أنّي الآن سأتوسّل إليه؟ إن كان يريد ردّ زوجته فله ذلك، وإلاّ، إن كان ينوي غير ذلك، فليردّ لنا المهر* وليرح.

لاخيس  : ها أنت بدورك تشتطّ في الغضب.

فيدبّوس : ( مخاطبا نفسه) عدتَ إلينا هنا وقد طرف المال عينك يا بنفيلوس!

لاخيس  : سسينتهي غضبه، حتّى وإن حقّ له أن يغضب.

فيدبّوس : لأنّ حفنة من النّقود أتتكم، صارت الأرض تضيق بكم من الغطرسة.

لاخيس  : أتريد مخاصمتي أنا أيضا؟

فيدبّوس : ليفكّرْ مليّا وليخبرْني اليوم إن كان يريدها أم لا، فتصير لغيره إن لم تكن له. ( ينصرف غاضبا)

لاخيس  : فيدبّوس تعال، اسمع بضع كلمات. ( مخاطبا نفسه)  ذهب. ما شأني أنا؟ ليتفاهما بينهما كيفما شاءا، ما دام ابني وهذا العنيد لا يطيعاني ولا يستمعان لما أقول. سأحمل هذا الخصام إلى زوجتي الّتي بتدبيرها وقع كلّ شيء وأصبّ عليها كلّ مرارتي.

 


<<