ترنتيوس

 

الأعمال المسرحيّة

 

4- فرميون

 

حواش 

 

 

 

 

 

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

 

 

الفصل الثّاني

 

المشهد الأوّل (231-314)

ديميفون، فدريا، غيتا

ديميفون : ( منفجرا ومخاطبا نفسه) هكذا إذن تزوّج أنتيفون بدون إذني. لم يخش سلطتي بل- دع السّلطة- حتّى ولا موجدتي. ولا استحى! يا للفعلة الوقاح! سحقا لك يا غيتا من نصيح!

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) بالكاد والحقّ يقال.

ديميفون : ( مخاطبا نفسه) ماذا سيقولان؟ أيّة ذريعة سيجدان؟ أحبّ حقّا معرفة ذلك.

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) لا تقلق سأجد: هات غيرها.

ديميفون : ( مخاطبا نفسه) أتراه سيقول: "فعلته غصبا عنّي، أرغمني عليه القانون". عذر معقول، أعترف.

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) هكذا تعجبني.

ديميفون : لكن أيجبرك القانون أيضا على تسليم القضيّة للخصم بعلمك ودون كلمة دفاع؟

فدريا    : ( مخاطبا غيتا بصوت خفيض) هذا يصعب تبريره.

غيتا     : ( رادّا بصوت خفيض) لا عليك، سأتدبّر الأمر.

ديميفون : ( مخاطبا نفسه) لا أدري ما سأفعل. صعقني هذا الحدث الّذي لم أتوقّعه ولا أستطيع تصديقه، فأنا مضطرب بنحو يجعلني عاجزا عن تركيز ذهني على التّفكير بمخرج. لذا لمّا تكون الأمور على أحسن ما يرام، إذّاك أكثر من أيّ وقت آخر يجب التّفكير بكيفيّة مواجهة الطّوارئ من غوائل وخسائر وأحكام بالنّفي*. ليضع العائد من سفر دوما في حسبانه ارتكاب ابنه خطأ ما أو موت زوجته أو مرض ابنته، معتبرا تلك أمورا عاديّة وواردة فلا يفاجأ بشيء منها. وما يقع خلافا لما تحسّب، ليعدّه كلّه مكاسب.

غيتا     : ( مخافتا) لا يمكن أن تصدّق يا فدريا كم أفوق سيّدي حكمة، فبخلافه فكّرت في كلّ المصائب الّتي قد تلحقني إن عاد: الحكم بأن أدير رحى الطّاحونة* أو أُضرب أو تقيَّد قدماي أو أُرسل للعمل في الرّيف، تحسّبت كلّ ذلك كيلا أفاجأ بشيء منه. وما يقع خلافا لما تحسّبت، سأعدّه كلّه مكاسب. لكن ماذا تنتظر لتذهب إلى الرّجل وتبتدره بكلام لطيف؟ ( يذهب فدريا)

ديميفون : ( مخاطبا نفسه) أرى فدريا ابن أخي آتيا للقائي.

فدريا    : سلاما يا عمّي.

ديميفون : سلاما. لكن أين أنتيفون؟

فدريا    : عدت بالسّلامة...

ديميفون : أشكرك، أجب على سؤالي.

فدريا    : هو بخير وموجود هنا. لكن هل تمّ كلّ شيء حسب رغبتك؟

ديميفون : ليت ذلك تمّ فعلا.

فدريا    : ما قصدك؟

ديميفون : تسألني يا فدريا؟ عقدتم هنا في غيابي زيجة ما أحسن وما أبهى!

فدريا    : أأنت الآن غاضب عليه بسببها؟

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) يا للنّزاهة الزّائفة!

ديميفون : أتريدني ألاّ أغضب عليه؟ بل إنّي أتحرّق لأراه أمامي ليعلم كيف بذنبه جعل منّي أنا الأب الرّفيق أغلظ الآباء.

فدريا    : لكنّه لم يفعل يا عمّي ما يستوجب غضبك.

ديميفون : كلّ أقوالهم متشابهة. كلّهم متّفقون: إن عرفتَ واحدا عرفتهم جميعا.

فدريا    : ليس الأمر كذلك...

ديميفون : يذنب هذا فيهبّ ذاك للدّفاع عنه، ولمّا يذنب ذاك يكون الأوّل مستعدّا لنجدته: يؤدّون خدمات متبادلة.

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) صوّر الشّيخ دون أن يعلم ترتيباتهما تماما.

ديميفون : الحقّ أنّك لم تقف معه يا فدريا لمنع حدوث ما حصل.

فدريا    : إن صحّ يا عمّي أنّ أنتيفون اقترف في حقّ نفسه ذنبا يمسّ بمالك أو بسمعتك فلا أدافع عنه كيلا يتحمّل تبعته. لكن إن نصب شخص داهية لشبابنا شراكه وغلبنا أذنبنا ذاك أم ذنب القضاة الّذين غالبا ما يأخذون من الغنيّ حسدا أو يعطون الفقير تعاطفا؟

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) لو لم أكن أعرف القضيّة لظننته يقول الحقيقة الخالصة.

ديميفون : وهل ثمّة قاض بوسعه معرفة أنّك على حقّ إن كنت لا تحاجّ عن نفسك بكلمة واحدة، كما فعل؟

فدريا    : أدّى الفتى الكريم واجبه: لكن بعدما مثل أمام القضاة لم يستطع إلقاء الدّفاع الّذي أعدّ، فقد عقد الحياء لسانه.

غيتا   : ( مخاطبا نفسه) مرحى! لكن ما يمنعني من الذّهاب إلى الشّيخ حالا؟ ( مخاطبا ديميفون وهو يتقدّم نحوه) سلاما يا سيّدي، يسرّني أن عدت إلينا بالسّلامة.

ديميفون : أهلا بالحارس الأمين، عماد أسرتنا، من استأمنت على ابني عند سفري.

غيتا     : منذ حين وأنا أسمعك تتّهمنا تجنّيا، وإيّاي بالأخصّ. إذ ماذا كنت تريدني أن أفعل لك في هذه القضيّة، والقوانين لا تسمح للعبد بالمرافعة ولا بالإدلاء بشهادته؟

ديميفون : دعك من هذا. هب أنّه "شابّ غرّ وجِلَ" كما يقول ذاك، و"أنّك عبد" كما قلت: أسلّم بذلك. لكن إن كانت اليتيمة قريبته، ما كان من الضّروريّ الزّواج بها فإنّما يفرض القانون أن تجهّزها بمهر* لتبحث عن زوج آخر. فلماذا آثر الزّواج بفتاة معدمة؟

غيتا     : لا سبب سوى أنّه لم يكن يملك مالا.

ديميفون : كان عليه أن يأخذ من مصدر ما.

غيتا     : من مصدر ما؟ ليس أسهل من قول ذلك.

ديميفون : آخر وسيلة، إن أعيته الحيلة، أن يقترض من مراب.

غيتا     : كلام جميل! كما لو كان أحد سيقرضه وأنت حيّ.

ديميفون : لا، لن أدع ذلك يحدث: مستحيل. أأقبل أن تبقى زوجته يوما واحدا؟ ما بالودادة ينال المرء شيئا. أريد أن يُريني أحد ذاك الرّجل أو أن يدلّني على مقرّ سكناه.

غيتا     : تقصد فرميون بدون شكّ؟

ديميفون : وليّ أمر تلك المرأة.

غيتا     : سأتدبّر الأمر، سيكون عندك فورا.

ديميفون : وأنتيفون، أين هو الآن؟

غيتا     : خارج البيت.

ديميفون : رح يا فدريا، ابحث عنه وائت به إليّ هنا.

فدريا    : أنا ذاهب إليه رأسا... هناك. ( ينصرف)

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) يقصد عند بنفيلة بطبيعة الحال.

ديميفون : وأنا سأعرّج على بيتي لأحيّي آلهة الدّار*. ومن هناك سأذهب إلى القصبة* وأدعو بعض أصحابي ليحضروا معي شهودا في هذه القضيّة، فلا أكون على غير أهبة عند مجيء فرميون. ( ينصرف)

 

المشهد الثّاني (315-347)

فرميون، غيتا

فرميون : تقول إذن إنّه ذهب من هنا خوفا من مجيء والده؟

غيتا     : تماما.

فرميون : وترك فنيوم لوحدها؟

غيتا     : نعم.

فرميون : وأنّ الشّيخ غاضب.

غيتا     : جدّا.

فرميون : إليك وحدك يا فرميون تؤول المستعصيات: أنت هرست وعليك أن تأكل الكلّ فاشدد مئزرك.

غيتا     : أرجوك.

فرميون : إن يطلب...

غيتا     : فيك كلّ رجائنا.

فرميون : هوذا المشكل: ماذا لو ردّها؟

غيتا     : أنت دفعته.

فرميون : لا أنكر.

غيتا     : ساعده.

فرميون : هات لي الشّيخ: كلّ الخطط مرسومة في ذهني.

غيتا     : ماذا ستصنع؟

فرميون : ماذا تريد أن أصنع غير ما يكفل بقاء فنيوم، وتخليص أنتيفون من هذه التّهمة وتحويل غضب أبيه كلّه إليّ؟

غيتا     : مرحى لك أيّها الرّجل الشّجاع والصّديق الصّدوق. لكن كثيرا ما يراودني خوف أن تُلقيك شجاعتك أخيرا في السّجن.

فرميون : ليست الأمور كما تتصوّر، فقد اختبرت قدراتي وتبيّنت لقدميّ الطّريق. كم من النّاس، أغرابا ومواطنين، تفتكرني ضربت حتّى الموت؟ بقدر ما أعرف المزيد أضيف إلى القائمة المزيد. قل لي أرجوك، هل سمعت أبدا برفع قضيّة أضرار ضدّي؟

غيتا     : ما سرّ ذلك؟

فرميون :  السّبب هو أنّا لا ننصب الشّراك لطيور تسبّب لنا ضررا كالنّسر والحدأة، بل للّتي لا تؤذينا. في هذه نجني شيئا، أمّا تلك فجدّنا فيها يثير السّخرية. بالنّسبة للآخرين يتمثّل الخطر في أنّ لديهم ما يمكن أخذه، أمّا أنا فيعلمون أنّ لا شيء عندي. قد تقول: "سيقتادونك إن أُدِنت إلى بيوتهم رقيقا"*. لكنّهم يأبون، محقّين في رأيي، إطعام رجل أكول، رافضين الرّدّ على الشّرّ بأكبر نعمة .

غيتا     : لن يستطيع حقّا ردّ جميلك قدر ما تستحقّ.

فرميون : بل الحقيقة هي أنّ لا أحد يستطيع ردّ جميل وليّه قدر ما يستحقّ. تراك تعيش على نفقته، تأتي من الحمّام محمّما مطيّبا دون دفع قسطك، ناعم البال، بينما تستنفده الشّواغل والنّفقات. بينما يأتيك ما يسرّك، يموت هو غيظا. أنت تضحك وتكون أوّل من يشرب وأوّل من يقبل إلى المائدة، فيُصفَّف أمامك عشاء محيّر*.

غيتا     : ماذا تقصد بهذه العبارة؟

فرميون : أقصد عشاء تحتار في ما تختار فيه بالأوْلى. لمّا تفكّر جيّدا كم كلّ ما تحظى به عذب مستطاب، ألا تعُدّ من يعِدّه لك وبدون مبالغة بمثابة إلهك الحامي*؟

غيتا     : ها هو الشّيخ يأتي. فكّر جيّدا في ما ستفعل. اللّقاء الأوّل هو الأشدّ.

 

المشهد الثّالث (348-440)

ديميفون، هيجيون، كراتينوس، كريتون، فرميون، غيتا

ديميفون : ( مخاطبا مرافقيه) هل سمعتم أبدا بإساءة أشنع من تلك التي لحقت بي؟ هلمّوا معي للشّهادة أرجوكم.

غيتا     : ( مخاطبا فرميون بصوت خفيض) إنّه غاضب.

فرميون : ( بصوت خفيض) لا عليك، سترى كيف أثيره. ( رافعا صوته) بحقّ الآلهة، أتقول إنّ ديميفون ينفي أن تكون فنيوم قريبته؟ أينفي ديميفون قرابتها؟

غيتا     : ( رافعا صوته) نعم، ينفي. 

فرميون : ويزعم أنّه لا يعرف أباها؟

غيتا     : ينفي.

ديميفون : ( مخاطبا مرافقيه) أظنّه الرّجل الّذي كنت أحدّثكم عنه. هلمّوا ورائي.

فرميون : أوينفي كذلك معرفة من كان استلفون؟

غيتا     : ينفي.

فرميون : لأنّ المسكينة تركها أبواها بدون مال، يُتجاهَل أبوها وتُزدرى. انظر ماذا يفعل الحرص.

غيتا     : ( يتظاهر بالاحتداد) إن ترم سيّدي مرّة أخرى باللّؤم، فلا تلومنّ إلاّ على نفسك!

ديميفون : ( مخاطبا مرافقيه، مستنكرا) يا للوقاحة! يأتي فوق ذلك ليتّهمني!

فرميون : لا مأخذ لي على الفتى إن كان لا يعرفه. كان رجلا مسنّا فقيرا يعيش من عمله، معتزلا في الرّيف لا يكاد يبرحه. هناك كان له من عند أبي حقل يزرعه. كثيرا ما حدّثني الشّيخ إذّاك عن إهمال قريبه له. مع ذلك أيّ رجل! أفضل من رأيت في حياتي.

غيتا     : ما رأيت أحدا إلاّ نفسك وإيّاه لتقول ذلك.

فرميون : رح في داهية! لو لم أكن أعتبره كذلك لما عرّضت نفسي إلى مثل هذه العداوة الوخيمة مع أسرتكم بسبب هذه الفتاة الّتي تُزدرى اليوم بنحو معيب.

غيتا     : ( بغضب متصنّع) أما زلت تغتاب سيّدي أيّها النّذل؟

فرميون : ما قلت إلاّ ما يستحقّ.

غيتا     : أتقول ذلك يا وجه السّجون؟

ديميفون : ( مناديا عبده) غيتا!

غيتا     : أيّها المستحلّ أموال النّاس والمتحيّل* على القوانين!

ديميفون : غيتا!

فرميون : ( بصوت خفيض) أجبه.

غيتا     : ( متظاهرا بالبحث) من المنادي، عفوا؟

ديميفون : دعك منه.

غيتا     : في غيابك يا سيّدي ما انفكّ اليوم يقذفك بالشّتائم الّتي هو، وحاشاك، من يستحقّها.

ديميفون : كفى! ( مخاطبا فرميون) وأنت يا فتى! أرجو من فضلك إن لم يكن في الأمر ما يضايقك أن تتكرّم بالإجابة على سؤالي: اشرح لي من ذاك الّذي تقول إنّه كان صديقك ويزعم أنّه من أقاربي.

فرميون : هكذا إذن تستجوبني كما لو لم تكن تعرفه.

ديميفون : تقول: أعرفه؟

فرميون : تماما.

ديميفون : وأنا أنفي: أنت المدّعي ذكّرني به.

فرميون : ويحك، أتدّعي أنّك لا تعرف ابن عمّك؟

ديميفون : أنت تغيظني. قل لي اسمه.

فرميون : اسمه؟ بالتّحقيق.

ديميفون : لِم تسكت إذن؟

فرميون : ( مغمغما) تبّا، نسيت الاسم وحقّ هرقل*.

ديميفون : ويحك ماذا تقول؟

فرميون : ( مخافتا) غيتا إن تذكر الاسم الّذي قلتُ سابقا فأسعفني. ( مخاطبا ديميفون) لا أقول: جئتَ تختبرني كما لو لم تكن تعرفه

ديميفون : أنا أختبرك كذلك؟

غيتا     : ( ملقّنا فرميون بصوت خفيض) استلفون.

فرميون : ثمّ لعمري ماذا يهمّ أن أقوله؟ هو استلفون.

ديميفون : قلتَ من؟

فرميون : أقول استلفون، وقد كنت تعرفه.

ديميفون : أؤكّد أنّي لا أعرفه ولا  كان لي قريب بهذا الاسم.

فرميون : حقّا؟ ألا تستحي من هؤلاء الجماعة؟ لكن لو ترك لك عشر وزنات* ميراثا...

ديميفون : حلّت بك نقمة الآلهة!

فرميون : لكنت أوّل من يذكر سلالتكم حتّى الجدّ وجدّ الجدّ ويسردها غيبا.

ديميفون : على حدّ زعمك، كنتُ سأقول إذن عند وصولي من هي قريبتي، فأعد ما قلتُ: قل من تلك القريبة.

غيتا     : ( مخاطبا ديميفون) رائع يا سيّدي. ( ملتفتا إلى فرميون) وأنت، احترس لنفسك.

فرميون : بيّنت ذلك بوضوح للقضاة الّذين كان عليّ توضيحه لهم. لو كان كلامي باطلا، فلِم لم يردّ ابنك عليّ؟

ديميفون : تحدّثني عن ابني؟ ذاك الّذي لا يمكن وصف حماقته بالقدر الّذي يستحقّ.

فرميون : فلتذهب أنت الحكيم ليعيد لك القضاة الحكم في القضيّة، فأنت تحكم هنا ولك وحدك يجوّز الحصول على حكمين في نفس القضيّة.

ديميفون : رغم أنّي تعرّضت إلى ضرر، مع ذلك بدلا من زجّ نفسي في متاهات قضيّة أو الاستماع إلى أقاويلك، لأفترضْ جدلا أنّها قريبتنا: خذ المينات الخمس* الّتي يفرض القانون تقديمها مهرا* لها وخذها معك.

فرميون : هاهاها، يا للرّجل الظّريف!

ديميفون : ما الأمر؟ أأطلب شططا؟ أكثير أن أحصل على ما هو حقّ لكلّ مواطن؟

فرميون : هكذا إذن حقّا، وكما لو كانت مومسا* تسرّيت بها، يفرض القانون ببساطة إعطاءها الثّمن ورميها؟ أم يأمر بالأحرى، حرصا على ألاّ تقبل* مواطنة من العوز ما يشينها، بتزويجها من أقرب ذويها لتعيش معه وحده العمر كلّه، وهو ما ترفضه؟

ديميفون : من أقرب ذويها، بلا جدال. أمّا نحن، فما علاقتنا بها؟ وبأيّ مبرّر؟

فرميون : يا للّجاجة! يقولون: "لا تقاض في ما قُضِي فيه."

ديميفون : لا أقاضي؟ بل لن أفتأ حتّى أنال مرادي.

فرميون : هراء.

ديميفون : كفى، سنرى.

فرميون : بعد كلّ هذا وذاك لا شأن لك بنا يا ديميفون: على ابنك أُصدر الحكم لا عليك، فقد تجاوزت سنّ الزّواج.

ديميفون : فكّر أنّه سيقول لك كلّ ما أقول، وإلاّ سأمنعه مع هذه الزّوجة من دخول بيتنا.

غيتا     : ( مخاطبا فرميون بصوت خفيض) هو في سورة الغضب.

فرميون : أحرى بك أن تفعل ذلك لنفسك.

ديميفون : هكذا أيّها التّعيس أنت مستعدّ لفعل كلّ شيء ضدّي؟

فرميون : ( مخاطبا غيتا بصوت خفيض) إنّه يخاف منّا رغم اجتهاده لإخفاء ذلك.

غيتا     : ( رادّا بصوت خفيض) حالف مشاريعك التّوفيق!

فرميون : لِم لا تتحمّل ما ينبغي تحمّله؟ أجدر بك أن تجعل منّا بتصرّفاتك صديقين.

ديميفون : أنا أطلب صداقة مثلك؟ بل أأرغب حتّى في رؤيتك أو سماعك؟

فرميون :  إن تفاهمت معها فستجد من تسلّي شيخوختك. راع سنّك يا رجل.

ديميفون : فلتسلّك أنت بالأحرى، خذها لك.

فرميون : هدّئ غضبك.

ديميفون : اسمع يا هذا، كفانا جدالا. إن لم تأخذ المرأة فورا، سأطردها. هأنذا أنذرتك يا فرميون.

فرميون : إن لمستها فسأرفع عليك قضيّة مفلفلة حسب الأصول. هأنذا أنذرتك يا ديميفون. ( مخاطبا غيتا بصوت خفيض) إن احتجت إليّ في شيء فستجدني بالبيت. ( ينصرف)

غيتا     : ( مخاطبا فرميون بصوت خفيض) مفهوم.

 

المشهد الرّابع (440-464) 

ديميفون، غيتا، كراتينوس، هيجيون، كريتون

ديميفون : ( مخاطبا نفسه) لكم سبّب لي ابني كدرا ورهقا إذ ورّطني وإيّاه في زيجته هذه. ثمّ هو لا يأتي لأراه فأعرف على الأقلّ ما يقول ويرى في المسألة. ( مخاطبا غيتا) رح وانظر هل عاد إلى البيت أم لا.

غيتا     : أنا ذاهب. ( ينصرف)

ديميفون : ( مخاطبا مرافقيه) أرأيتم في أيّة وضعيّة توجد القضيّة. ما العمل؟ قل لي يا هيجيون.

هيجيون  : أنا؟...أقترح كراتينوس، إن لم تر مانعا.

ديميفون : قل إذن يا كراتينوس.

كراتينوس: تريد منّي أنا؟...

ديميفون : نعم، منك أنت.

كراتينوس: أنا بودّي أن تفعل ما هو في مصلحتك. المسألة تبدو لي بهذه الصّورة: ما فعل ابنك في غيابك، من المعقول التّراجع فيه، وسوف تتوصّل إلى ذلك. هذا ما أرى.

ديميفون : فلتقل أنت رأيك يا هيجيون.

هيجيون : من جهتي أعتقد أنّه تكلّم كما ينبغي. الحقّ أنّ هناك من الآراء بقدر ما هناك من النّاس*: فلكلّ وجهة نظر. في ما يخصّني  يبدو لي غير ممكن فسخ ما أوجدته القوانين، وقبيحا بك السّعي وراءه.

ديميفون : وأنت يا كريتون، ما قولك؟

كريتون  : من جهتي، أرى من الضّروريّ التّداول أكثر حول الموضوع. فالمسألة من الأهمّيّة بمكان.

كراتينوس: أتريد منّا خدمة أخرى؟ ( يتسلّلون لواذا)

ديميفون : قمتم بالمطلوب على أحسن وجه. ( مخاطبا نفسه) أنا الآن أكثر حيرة ممّا كنت قبل حين.

غيتا     : ( يعود لاهثا) يقولون إنّه لم يعد بعد.

ديميفون : سأنتظر أخي، وأتبع ما يشير به عليّ. سأذهب إلى الميناء وأسأل عن موعد عودته. ( ينصرف)

غيتا     : أنا من ناحيتي سأبحث عن أنتيفون لأخبره بما جرى مؤخّرا هنا.

 

 

الفصل الثّالث

 

المشهد الأوّل (465-485)

أنتيفون، غيتا

أنتيفون  : ( مخاطبا نفسه) لعمري إنّك تستحقّ التّوبيخ أشكالا وألوانا يا أنتيفون على فعلتك الطّائشة. أهكذا تذهب تاركا للآخرين حماية حياتك*؟ أتظنّ الآخرين سيحرصون على مصلحتك أكثر منك أنت نفسك؟ كان عليك، مهما كانت بقيّة الأمور، أن تتفرّغ للعناية بوضع تلك الّتي هي الآن في بيتكم، كيلا يمسّها سوء بعدما خيّبتَ ثقتها فيك. فكلّ آمال وعُدد* المسكينة فيك أنت.

غيتا     : ونحن هنا فعلا ننحي عليك باللاّئمة يا سيّدي على غيابك الطّويل مذ بارحتنا.

أنتيفون  : عنك بالتّحديد كنت أبحث.

غيتا     : لكنّا لم نتخلّ لذلك السّبب عنك.

أنتيفون  : قل لي أرجوك ما وضع شؤوني وحظوظي؟ هل اشتمّ أبي شيئا؟

غيتا     : لا شيء بعد.

أنتيفون  : فيما عدا ذلك، هل ثمّة بصيص أمل؟

غيتا     : لا أدري.

أنتيفون  : آه.

غيتا     : مع ذلك لم يتوقّف فدريا عن بذل جهوده من أجلك.

أنتيفون  : ما هذه المرّة الأولى.

غيتا     : بدا فرميون مجدّدا، في هذه القضيّة كما في غيرها، أخا الجلّى.

أنتيفون  : ماذا فعل؟

غيتا     : أفحم تماما، بحجاجه، الشّيخ المغضب.

أنتيفون  : مرحى يا فرميون!

غيتا     : أنا من جهتي أسهمت طبعا قدر ما استطعت.

أنتيفون  : كلّكم أعزّاء على قلبي يا غيتا المحبوب.

غيتا     : مجريات الأمور على هذه الصّورة أوّليّا: الوضع مستقرّ حتّى الآن، وأبوك ينوي انتظار عمّك.

أنتيفون  : ولماذا عمّي بالذّات؟

غيتا     : يريد، على حدّ قوله، استشارته لاتّخاذ القرار المناسب بهذا الشّأن.

أنتيفون  : كم أخشى أن أرى الآن عمّي يصل إلينا بالسّلامة يا غيتا، فعلى رأيه يتوقّف مصيري كما أعلمتني: إمّا حياة وإلاّ فموت.

غيتا     : هذا فدريا قادما إليك.

أنتيفون  : أين هو؟

غيتا     : هو ذا يخرج من حلبته*.

 

المشهد الثّاني (485-533)

فدريا، دوريون، أنتيفون، غيتا

فدريا    : أرجوك يا دوريون أصغ إليّ.

دوريون : ما أنا بمصغ.

فدريا    : لحظة فقط.

دوريون : رجاء، دعني.

فدريا    : اسمع ما سأقول لك.

دوريون : لكنّي سئمت من سماع نفس الشّيء ألف مرّة.

فدريا    : لكنّي الآن سأقول لك ما تحبّ سماعه.

دوريون : تكلّم، أنا مصغ إليك.

فدريا    : ألا يمكنني الحصول منك على مهلة ثلاثة أيّام فقط؟ ( دوريون يشيح بوجهه) إلى أين أنت ذاهب؟

دوريون : وأنا الّذي كنت أعجب أن تأتي بجديد.

أنتيفون  : ( مخاطبا غيتا) تبّا! أخشى أن يكون تاجر الجواري...

غيتا     : ( مخاطبا أنتيفون) ...يحيك برأسه شيئا. لديّ نفس المخاوف.

فدريا    : ( مخاطبا دوريون) ألا تثق بي؟

دوريون : احزر.

فدريا    : فإن أعطيتك عهدا؟

دوريون : أعط. خزعبلات.

فدريا    : ستقول فيما بعد إنّ الدَّيْن الّذي أطلب منك كان بالنّسبة لك استثمارا مجزيا.

دوريون : هراء.

فدريا    : صدّقني، لن تندم ولن ترى منّي إلاّ ما يسرّك. وحقّ هرقل* لست أكذبك.

دوريون : تنويم.

فدريا    : جرّب، فما ذاك بالوقت الطّويل.

دوريون : تغنّي نفس الأغنية.

فدريا    : أنت لي قريب، وأب، وصديق، أنت...

دوريون : اهذر كما يطيب لك.

فدريا    : أتبلغ بك القسوة والرّعونة أنّ لا الرّحمة ولا التّوسّلات تستطيع تليينك قليلا!

دوريون : أيبلغ بك النّزق والسّفه أن تريد جرّي بأقوالك كالدّابّة وأخذ جاريتي زوجة مجّانا!

أنتيفون  : ( مخاطبا نفسه) أرثي لحاله.

فدريا    : أوّاه، قهرتني الوقائع!

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) كم يشبه كلاهما صاحبه!

فدريا    : ولمّا يكون فيه أنتيفون منشغلا بهمّ مماثل، إذّاك تحديدا تنزل بي هذه المصيبة!

أنتيفون  : ( مخاطبا فدريا بصوت مرتفع) أخ، ما الخطب يا فدريا؟

فدريا    : أنتيفون، يا أسعد إنسان!

أنتيفون  : أنا؟

فدريا    : أنت الذي في بيتك ما تحبّ! والّذي لم يقع لك أن تواجه مصيبة من هذا النّوع!  

أنتيفون  : في بيتي؟ بل أنا، كما يقال، أمسك الذّئب من أذنيه. فأنا لا أدري كيف أسرّحها ولا كيف أمسكها.

دوريون  : ( مشيرا إلى دوريون) وأنا معه في نفس الوضع.

أنتيفون  : تبّا! أخشى ألاّ تكون نخّاسا بقدر يسير! ( مخاطبا فدريا) ماذا فعل لك؟

فدريا    : هذا؟ ما يفعل أقسى النّاس وأقلّهم إنسانيّة: باع ريحانة قلبي بنفيلة.

أنتيفون  : ماذا؟ باعها؟

غيتا     : أتقول باعها؟

فدريا    : باعها.

دوريون : يا للفعلة النّكراء: يبيع جارية له اشتراها بحرّ ماله!

فدريا    : لا أستطيع الحصول منه على أن يرجئني ثلاثة أيّام ويلغي وعده مع الآخر، ريثما أحصل على النّقود الّتي وعدني بها أصحابي. ( مخاطبا دوريون) إن لم أعطك في ذلك الأجل، فلا تُنظرني بعده ساعة واحدة.

دوريون : تماد في إلحافك المزعج!

أنتيفون  : ما بطويلة لعمري المهلة الّتي يطلب: دوريون، استجب له أرجوك. وسيضاعف أجر معروفك.

دوريون : هذه مجرّد أقوال.

أنتيفون  : أيرضيك أن تحرم بنفيلة من هذه المدينة، موطنها؟ أوتستطيع بعدئذ تحمّل تفريق حبيبين؟

دوريون : لا أنا ولا أنت...

فدريا    : جزاك الآلهة بما تستحقّ.

دوريون : صبرتُ عليك، خلافا لمزاجي وعادتي، عدّة أشهر، وأنت تعد ولا تأتي بشيء وتتباكى. واليوم خلافا لتسويفاتك وجدت من يعطي ولا يتهمّع، فأفسحْ لمن هم أفضل.

أنتيفون  : ( مخاطبا فدريا) صحيح وحقّ هرقل*، إن لم تخنّي الذّاكرة، ألم تحدّدا من قبل يوما لتسليمه الثّمن؟

 فدريا   : حصل.

دوريون : وهل أنا أنكر ذلك؟

أنتيفون  : حسنا. هل مرّ الأجل؟

دوريون : كلاّ، الواقع أنّ هذا اليوم قبيل الموعد الذي ضربنا.

أنتيفون  : ألا تستحي من الإخلاف بوعدك؟

دوريون : أبدا، ما دام ذلك في مصلحتي.

غيتا     : يا للنّذالة!

فدريا    : دوريون، أيليق بك أن تتصرّف بهذا النّحو؟

دوريون : أنا هكذا، إن أعجبتك فلك أن تتعامل معي.

أنتيفون  : أهكذا تخدعه؟

دوريون : بل قل هو الّذي خدعني يا أنتيفون. إذ كان يعلم أنّي بتلك الصّفة بينما كنتُ أحسبه مختلفا. هو خدعني، أمّا أنا فلم أخالف في تعاملي معه ولا أخالف طبيعتي إطلاقا. مع ذلك سأتوخّى معك نظرا لمجرى الأمور مزيدا من التّيسير: وعد شاريها العسكريّ بإعطائي المال صباح غد، فإن تحمل لي الثّمن قبله يا فدريا فسأطبّق قانوني القاضي بأولويّة الأسبق في الدّفع. سلاما. ( ينصرف)

 

المشهد الثّالث (534-566)

فدريا، أنتيفون، غيتا

فدريا    : ما العمل؟ أين سأجد، أنا البائس الّذي أملك أقلّ من لا شيء، وبمثل هذه السّرعة وهذا النّحو الفجائيّ النّقود الّتي وُعدت بها وكنت، لو أمكنني الحصول منه على مهلة ثلاثة أيّام، سأحضرها له في ذلك الموعد؟

أنتيفون  : أنقبل يا غيتا أن يشقى هكذا، وهو السّاعة ساعدني بودّ كما أخبرتني؟ لم لا نحاول ردّ جميله ما دام بحاجة إلى المساعدة؟

غيتا     : ذلك في اعتقادي من الإنصاف.

أنتيفون  : حيّ إذن على العمل. أنت وحدك تستطيع إنقاذه.

غيتا     : ماذا أصنع؟

أنتيفون  : تجد المال.

غيتا     : بودّي، لكن من أين؟

أنتيفون  : أبي موجود هنا.

غيتا     : أعرف، لكن ماذا إذن؟

أنتيفون  : إنّ اللّبيب بالإشارة يفهم.

غيتا     : تعني؟...

أنتيفون  : تماما.

غيتا     : نصح جميل وحقّ هرقل**! هلاّ غربت من وجهي؟ أليس نصرا أن أخرج من ورطة زواجك دون أن يمسّني أذى، حتّى تأمرني، وأنا في وضع لا أُحسد عليه، بالبحث عن المتاعب من أجله؟

أنتيفون  : الحقَّ يقول.

فدريا    : ماذا؟ هل أنا بالنّسبة إليكما شخص غريب يا غيتا؟

غيتا     : حاشا أن أفكّر . لكن أيسير أن ينقم الشّيخ علينا كلّنا حتّى نستفزّه بفعلة أخرى فلا يبقى لاسترضائه أدنى مجال؟

فدريا    : أيرضيكما إذن أن يأخذها غيري من أمامي إلى مكان مجهول؟ طالما الأمر كذلك، وما دام ممكنا وأنا معكما فكلّماني وتأمّلاني مليّا.

أنتيفون  : لِم تقول ذلك؟ ماذا تنوي أن تفعل بنفسك؟ هيّا، قل.

فدريا    : أينما تؤخذ حبيبتي أتبعها يقينا أو أمت دونها.

غيتا     : وفّق الآلهة مسعاك. لكن على رسلك.

أنتيفون  : ( مخاطبا غيتا) انظر إن كان بوسعك أن تساعده بشيء.

غيتا     : بشيء؟ أيّ شيء؟

أنتيفون  : ابحث أرجوك، كيلا يفعل شيئا، كبيرا كان أم صغيرا، نندم عليه من بعد ولات ساعة مندم.

غيتا     : ها أنا أبحث...( بعد التّفكير) نجا كما أرى! لكن أخشى على نفسي مغبّة خطّتي.

أنتيفون  : لا تخف، نحن معك في السّرّاء والضّرّاء.

غيتا     : ( مخاطبا فدريا) كم تحتاج من النّقود؟

فدريا    : ثلاثين مينة*.

غيتا     : ثلاثين؟ ويحك! إنّها فاحشة الغلاء* يا فدريا.

فدريا    : بل رخيصة صدقا!

غيتا     : على أيّة حال لا عليك، سأجد لك المبلغ.

فدريا    : ما أحلاك! 

غيتا     : تنحّ عنّي.

أنتيفون  : هو بحاجة إلى المبلغ في أقرب وقت.

غيتا     : ستأخذه في أقرب وقت. لكنّي بحاجة إلى أن يقدّم لي فرميون العون لتنفيذ الخطّة.

فدريا    : هو تحت الطّلب. حمّلْه بلا وجل أيّ عبء يحملْ. هذا الشّخص صدقا للصّديق صديق.

غيتا     : فلنسرع إليه.

أنتيفون  : هل تحتاجان منّي أيّة خدمة أخرى؟

غيتا     : لا، لكن رح إلى البيت وواس تلك الّتي أعلم أنّها الآن قابعة داخله تكاد تموت من الخوف. ماذا تنتظر؟

أنتيفون  : ليس هناك ما أفعله بسرور مماثل! ( ينصرف)

فدريا    : بأيّة طريقة ستتدبّر الأمر؟

غيتا     : سأقول لك في الطّريق: فانصرف من هنا فورا.

<<