ترنتيوس

 

الأعمال المسرحيّة

 

4- فرميون

 

حواش 

 

 

 

 

 

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

 

فُرميون

 

 

تقديم : مقتبسة عن مسرحيّة لمينندر*، مثّلت سنة 161 ق.م. ولاقت نجاحا بسبب ما في بعض مشاهدها من تهريج ولأنّ ترنس اختار فيها شخصيّة الطّفيليّ المحبّبة، كما تشهد عندنا نوادر أشعب، وهي تطغى على بقيّة الشّخصيّات خلافا لمسرحيّاته الأخرى الأكثر توازنا. يذكّر فرميون باغناطون في "الخصيّ" ويشبه إلى حدّ ما شخصيّة الكدّاء في مقامات الهمذانيّ والحريريّ، وهو شخص يعيش على نفقة غيره بأساليب شتّى من تملّق وتحيّل وابتزاز. تحدّثنا عن شيخين أخوين، ديميفون وخريمس  سافرا وتركا ابنيهما الشّابّين، أنتيفون وفدريا تحت عهدة غيتا عبد ديميفون. فتعلّق الأوّل بفتاة فقيرة فقدت أمّها تدعى فنيوم، رفضت مرضعتها أن يقيم معها أيّة علاقة سوى الزّواج وهو يعلم أنّ أباه لن يرضى بتزويجه فتاة فقيرة لا مهر* لها. فدبّر له فرميون تقوم على استغلال قانون يونانيّ ( مذكور كذلك في مسرحيّة "الأخوان") ينصّ على أن يمهر أو يتزوّج اليتيمة أقرب أقاربها: ادّعى أمام محكمة أنّ أنتيفون قريبها ولم ينف هذا الدّعوى بالطّبع فتزوّجها، مكرها ظاهريّا حتّى لا يغضب أباه. أمّا فدريا فتعلّق بعازفة قيثارة يملكها تاجر الجواري دوريون لكنّه لا يملك مالا لشرائها منه. يعود الأبوان، فيحاول ديميفون إلغاء زواج أنتيفون لتزويجه من بنت لأخيه من امرأة أخرى كان يخفيها عن زوجته نوسستراتة، وكان سفره الأخير يهدف إلى جلبها من لمنوس* لتزويجها لكنّه علم هناك أنّها أتت مع أمّها قبل مجيئه بعدما طال انتظارهما له. لتدبّر المبلغ الذي فدريا بأمسّ الحاجة إليه لشراء الجارية قبل شار آخر وعد بإحضار ثمنها تظاهر فرميون بقبول الزّواج من فنيوم مقابل مهر* يقدّمه خريمس وهو ينوي إعادته إلى صاحبه والتّراجع في الصّفقة بعدما يحصل فدريا على مال وعد أصحاب له بإقراضه له بعد ثلاثة أيّام. ثمّ تحدث مفاجأة سيكتشفها القارئ بنفسه.

 

 

الشّخصيّات:

ملقي التّمهيد

ديميفون  : شيخ، أخ خريمس وأب أنتيفون.

خريمس  : شيخ، أب فدريا وزوج نوسستراتة.

أنتيفون   : شابّ، ابن ديميفون ونوسستراتة يحبّ فنيوم.

فدريا     : شابّ، ابن خريمس، يحبّ جارية يملكها داووس.

نوسستراتة: زوجة خريمس وأمّ فدريا. 

صفرونة  : مرضعة فنيوم.

هيجيون  : صديق ديميفون.

كراتينوس: صديق ديميفون.

كريتون  : صديق ديميفون.

فرميون  : طفيليّ كدّاء.

دوريون  : تاجر جوارٍ.

داووس  : عبد صديق غيتا.

غيتا     : عبد ديميفون.

تدور أحداث المسرحيّة في أثينة

 

ملخّص لقيوس سلبيقوس أبولينارس

   سافر ديميفوس أخ خريمس وترك في أثينة ابنه أنتيفون. كانت لخريمس في لمنوس* سرّا زوجة وبنت، وفي أثينة زوجة أخرى وابن متيّم بحبّ عازفة قيثارة. جاءت الأمّ من لمنوس إلى أثينة، وماتت، فاعتنت ابنتها وحدها، لأنّ خريمس كان في سفر، بإعداد المأتم. رآها بالمناسبة أنتيفون، فأحبّها وتزوّجها بمساعدة طفيليّ. غضب أبوه وخريمس عند عودتهما، ثمّ أعطيا للطّفيليّ ثلاثين مينة* ليتزوّجها. بتلك النّقود ابتيعت الجارية. احتفظ أنتيفون بزوجته بعدما تعرّفها عمّه.

 

ملقي التّمهيد (1-34)

    بعدما لم يستطع الشّاعر العتيق* إعاقة شاعرنا عن متابعة عمله وإحالته على البطالة، ها هو يسعى جاهدا بنمائمه إلى منعه من الكتابة. بهذا النّحو يمضي مردّدا أنّ مسرحيّاته السّابقة مهلهلة اللّغة ضعيفة الإنشاء، لأنّه ما كتب قطّ عن فتى مجنون يرى ظبية فارّة تلاحقها الكلاب وهي تبكي مستغيثة. ولو فهم صاحبنا أنّ مسرحيّته، الّتي نجحت فيما مضى وهي جديدة، نجحت بفضل المخرج أكثر من عمله الشّخصيّ، لانتقده بجسارة أقلّ بكثير ممّا يفعل الآن، ولأعجبته أكثر المسرحيّات الّتي ألّفها. والآن إن قال أحد أو فكّر: "لو لم ينتقده الشّاعر العتيق سابقا لما استطاع شاعرنا الجديد أن يجد تمهيدا يلقيه، إذ لم يجد من يهاجم"، سيُردّ عليه بأنّ سعفة الامتياز مركوزة وسط كلّ من يقرضون الشّعر في متناول الجميع، وهو قد جعل همّه إقصاءه عن عمله* وتجويعه، لذا أراد الرّدّ عليه لا مهاجمته. ولو ناقشه بكلمات طيّبة لسمع منه ما يستطيب. فليعلم أنّ هذه بضاعته ردّت* إليه. والآن سأكفّ عن الحديث عنه وإن لم يكفّ هو نفسه عن التّعرّض لي بالسّوء.

    انتبهوا حاضرا إلى ما أريد تبليغكم. أحمل لكم مسرحيّة جديدة يسمّيها اليونان "أبيديكازومينون" ويسمّيها اللاّتين "فورميون"، لأنّ الشّخصيّة الّتي تلعب الدّور الرّئيسيّ فيها طفيليّ يدعى فرميون، بتدبيره هو خصوصا ستتمّ أحداثها، إن أعان شاعرَنا حسنُ قبولكم. فاجتهدوا لمتابعة المسرحيّة في هدوء وصمت، كيلا يقع لنا مثل ما وقع يوم اضطرّت فرقتنا وسط الهرج والمرج إلى مغادرة الرّكح، الّذي ردّه إلينا اقتدار المخرج معضودا بعطفكم وحلمكم.

 

 

الفصل الأوّل

 

المشهد الأوّل (35-50)

داووس

داووس  : أتاني أمس صديقي الحميم وابن بلدي غيتا. كان قد استودعني في حساب له بضع دريهمات منذ أمد، فطلب أن أمدّه بها، ففعلت وها أنا أحملها إليه. أسمع أنّ ابن سيّده تزوّج وأظنّه سيأخذها منه هديّة. لكم في نسق الحياة من غبن، أن يكون على المعدمين دوما زيادة شيء إلى ثروة الموسرين. ما ادّخره المسكين دانقا دانقا حارما نفسه من شهواتها الفطريّة، ينتزعه ذاك منه دفعة واحدة غير مبال بما كلّف اكتسابه من مشقّة. فوق ذلك سيحتفل غيتا لمّا تلد سيّدته بهديّة أخرى، وبأخرى لمّا يحلّ عيد ميلاد الصّبيّ ثمّ عند تقديمه*. في الحقيقة ستأخذ الأمّ كلّ تلك الهدايا، فما الطّفل سوى ذريعة لتقديمها. لكن مهلا، أغيتا أرى؟

 

المشهد الثّاني (51-152)

غيتا، داووس

غيتا     : ( مخاكبا شخصا بالدّاخل وهو يخرج) إن طلبني رجل أصهب...

داووس  : هو ذا، لا تتعب نفسك.

غيتا     : واها، كنت أنوي الذّهاب للقائك، يا داووس.

داووس  : خذ، هذا مالك، جمعته لك. ستجد نفس المبلغ الّذي استودعتني.

غيتا     : لك حبّي وشكري، إذ لم تتوان عن طلبي.

داووس  : خصوصا نظرا إلى ما صارت الأخلاق اليوم، فقد آل بنا الأمر إلى أنّ من يردّ* شيئا لصاحبه يستحقّ عظيم الشّكر. لكن قل لي: لماذا أنت مغتمّ؟

غيتا     : أنا؟ أنت تجهل في أيّ خوف وأيّ  خطر نحن الآن.

داووس  : ما الخبر؟

غيتا     : سأعلمك فقط إن استطعت الكتمان.

داووس  : امتنع إن شئت يا غبيّ. أتخاف استيداع سرّك من خبرت أمانته في حفظ مالك حيث الخيانة مجزية؟

غيتا     : أصغ إذن.

داووس  : كلّي آذان مصغية.

غيتا     : قل لي يا داووس، أتعرف خريمس الأخ الأكبر لسيّدنا؟ 

داووس  : وكيف لا؟

غيتا     : وماذا عن ابنه فدريا؟

داووس  : كما أعرفك.

غيتا   : اتّفق أن سافر كلا الشّيخين، ذاك إلى لمنوس* وسيّدنا إلى قليقية* عند مضيّفه المعتاد، الّذي اجتذب الشّيخ برسائل يعده فيها بما لا يكاد ينقص عن جبل من الذّهب.

داووس  : هو الّذي له ثروة بذلك الحجم تفوق الحصر؟

غيتا     : دعك، كذلك طبعه.

داووس  : آه ليت لي مالا ممدودا!

غيتا     : لمّا ذهب الشّيخان، تركاني ناظرا على ابنيهما.

داووس  : حقّا يا غيتا أخذت على عاتقك مهمّة صعبة.

غيتا   : بالتّجربة صرت أعرف ذلك: أظنّ إلهي الحامي* تخلّى عنّي مغضبا منّي. بدأت أوّلا بمعارضتهما. ما الحاجة للإطالة؟ بينما ظللت وفيّا لسيّدي أتلفت ظهري.

داووس  : يخطر ببالي هذا المثل: "من الحمق الحرون تحت همز المنخاس".

غيتا     : من ثمّة أخذت أنفّذ كلّ مطالبهما وأستجيب لكلّ رغباتهما.

داووس  : تعرف التّكيّف مع نزعة الجمهور.

غيتا   : في البداية لم يفعل ابن سيّدي غلطا. لكنّ فدريا لقي فورا عازفة قيثارة شابّة شغفته حبّا. اتّضح أنّها أمة لتاجر جوار من أخسّ صنف. ولم يكن له مال يعطيه، فقد حرص الأبوان على ألاّ يتركا لهما شيئا. لذا لم يبق له سوى ملاحقتها بنظره، ومتابعتها، ومرافقتها بين البيت والمدرسة ذهابا وإيابا. وكنّا نحن لفراغنا نقدّم العون لفدريا. مقابل المدرسة حيث تتعلّم رأسا يوجد دكّان حلاّق: هناك اعتدنا انتظارها غالبا حتّى موعد عودتها من المدرسة إلى بيت سيّدها. ذات يوم، بينما نحن جلوس هناك، أقبل شابّ يبكي. عجبنا لأمره وسألناه ما الخبر، فأجاب: "حقّا ما بدا لي الفقر أبدا حتّى اليوم عبئا بمثل هذا الشّقاء وهذه المشقّة. قبل حين رأيت فتاة بالجوار تبكي بائسة أمَّها الميّتة المسجّاة أمامها، ولا محسن ولا صديق ولا جار لمساعدتها على إقامة المأتم، سوى عجوز فانية، فأثارت شفقتي، والفتاة نفسها غاية في الحسن." ما الجدوى من الإطالة؟ أثار شفقتنا جميعا. فانبرى أنتيفون في الحين: "ما قولكم لو نذهب لنراها؟" فردّ آخر: "أوافق. هيّا بنا. قدنا إليها، رجاءً." رحنا، وصلنا، رأينا*: فتاة حسناء، سيما وحسنها بلا أيّ تزويق وتطرية: شعر مهوّش، وقدم حافية، ومظهر مهمل، وعين دامعة، وهندام زريّ، فلولا ما في جمالها ذاته من قوّة وفتنة، لطمسته تلك المظاهر. لم يزد عاشق العازفة على القول: "جمال لا بأس به"، أمّا فتانا...

داووس  : أعرف: وقع في حبّها.

غيتا     : وما أدراك، انظر إلى أين آل به الأمر. من الغد ذهب رأسا إلى العجوز، وترجّاها أن تسمح له بمقابلتها. لكنّها أبت وقالت إنّه لا يليق به فعل ذلك، فهي مواطنة أتّيكيّة*، شريفة وسليلة أسرة شريفة، وإن كان يبتغيها للزّواج، فله أن يفعل بالطّريقة القانونيّة، وإلاّ فلا. صار الفتى في حيرة من أمره، بين رغبته في الزّواج بها وخوفه من أبيه الغائب.

داووس  : أما كان الأب سيغفر له إن عاد؟

غيتا     : يغفر له الزّواج من فتاة بدون مهر* ومن أسرة غير مرموقة؟ ما كان سيفعل أبدا.

داووس  : ماذا حصل في نهاية الأمر؟

غيتا     : ماذا حصل؟ هناك طفيليّ يدعى فُرميون، شخص جسور، ألا سحقه كلّ الآلهة!...

داووس  : ماذا فعل؟

غيتا     : أشار عليه بما سأقول: "هناك قانون يقضي بتزويج اليتيمات للأقربين من ذويهنّ، ويفرض في نفس الوقت على هؤلاء الزّواج منهنّ*. سأزعم أنّك قريبها وأرفع عليك دعوى زاعما أنّي صديق أبويها، وسنمثل أمام القضاة. من أبوها، من أمّها، ما صلة القرابة بينكما، سألفّق كلّ هذه التّفاصيل حسب ما أراه مناسبا وافيا بالمقصود. وبما أنّك سوف لا تعترض على تلك المزاعم، سأربح القضيّة بالتّحقيق. سيأتي أبوك لاحقا فيخاصمني، لكن ماذا يهمّني؟ ستكون قد صارت لنا."

داووس  : جرأة عجيبة!

غيتا     : أقنع الفتى، فعَلا، تقاضيا، خسرنا، تزوّجها*.

داووس  : ويحك، ماذا تقول؟

غيتا     : ما سمعتَ تماما.

داووس  : ويلك يا غيتا، ماذا سيحلّ بك؟

غيتا     : لا أدري وحقّ الآلهة. أعلم شيئا واحدا: أنّ علينا أن نتحمّل ما يحمل لنا القدر بطيب خاطر*.

داووس  : يعجبني منك ذلك، فذاك فعلا واجب الرّجل العاقل.

غيتا     : في نفسي أضع كلّ رجائي.

داووس  : مرحى!

غيتا     : أظنّني سأذهب إلى من يشفع لي عند سيّدي قائلا: "اعف عنه هذه المرّة أرجوك، فإن عاد إلى مثله لن أشفع فيه." ويكاد يضيف: "إذا انصرفت من عندك اقتله إن شئت".

داووس  : وماذا عن المرافق المدرسيّ، ماذا فعل بخصوص عازفة القيثارة؟ وكيف تسير أموره؟

غيتا     : هكذا، غير ممتازة.

داووس  : ربّما ليست له ممتلكات  كثيرة يعطيها؟

غيتا     : بل قل لا شيء سوى الأمل الصّرف.

داووس  : أعاد أبوه أم لا؟

غيتا     : لم يعد بعد.

داووس  : كيف؟ وشيخكم، متى تنتظرون مجيئه؟

غيتا     : لا أدري يقينا لكن سمعت السّاعة أنّ رسالة أتت من عنده وسلّمت إلى رجال الجمارك في الميناء. سأذهب لأطلبها.

داووس  : أتريد شيئا آخر يا غيتا؟

غيتا     : سلامتك. ( ملتفتا ومناديا) اسمع يا غلام. ألا يأتي أحد؟ أنت، خذ هذا وأعطه لدُركيوم*.

 

المشهد الثّالث (153-178)

أنتيفون، فدريا

أنتيفون : آل بي الأمر يا فدريا إلى حدّ أنّي صرت أفزع كلّما جال ببالي قدوم أبي الّذي يُفترَض أن يريد* لي الخير والسّداد. لولا طيشي لكنت أنتظره كما يجدر بي.

فدريا   : ما الخبر؟

أنتيفون : تسألني، وأنت تعلم فعلتي الجريئة؟ ليت فرميون لم يوح إليّ بتلك الفكرة ويدفعني في تحرّقي إلىما هو أصل بليّتي. لو لم أحتزها لتعذّبت بضعة أيّام ولما ظلّ هذا القلق يعتصر روحي كلّ يوم..

فدريا   : أفهمك.

أنتيفون : ..وأنا أنتظر متى يأتي من سيفرّق شملنا.

فدريا   : غيرك يشقى لأنّه خلو اليدين ممّا يحبّ، وأنت تألم لأنّك نلت منه إلى حدّ التّخمة*، فأنت في بحبوحة من الحبّ يا أنتيفون، وحياتك وحقّ هرقل* يبتغيها غيرك ويتمنّاها. وحقّ الآلهة لو سُمح لي بوصال من أحبّ طويلا لرضيت بالموت في المقابل. دع بقيّة الجوانب وانظر فقط ما أربح من حرماني الحاضر وأنت من هذا الطّفاح، ناهيك أنّك لقيت بدون عناء فتاة حرّة كريمة النّسب، واتزوّجتها بمحض اختيارك علنا ودون خوف على سمعتك. فما أسعد من هو مثلك ولا يعوزه سوى تحمّل مشكلتك بطيب خاطر! بماذا ستشعر لو كانت مشكلتك مع تاجر الجواري الّذي أتعامل معه؟ جلّنا إن لم أقل جلّنا على هذا الطّبع: نأسف على حالنا.

أنتيفون : بل بالعكس أنت يا فدريا تبدو لي الآن محظوظا، فلديك كامل القدرة على اتّخاذ أيّ قرار تريد من إمساك وحبّ وتسريح. أمّا أنا الشّقيّ فوقعت في مأزق لا أستطيع فيه إمساكا ولا تسريحا. لكن ماذا يجري هناك؟ أغيتا أرى، ذاك القادم جريا؟ هو عينه. يا لشقائي كم أنا خائف ممّا سيخبرني الآن*.

 

المشهد الرّابع (179-230)

غيتا، أنتيفون، فدريا

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) يا مصيبتك يا غيتا إن لم ترتئ الآن لنفسك رأيا بسرعة، فكم من البلايا توشك أن تلمّ بك فجأة وأنت غير مستعدّ لها. ولا أعلم لتفاديها سبيلا ولا منها مخرجا، إلاّ إن احتطت لنفسي منها بالحيلة أو إن قُيّض لي سيّد في منتهى البلادة والبلاهة، فمستحيل أن نخفي أطول فعلتنا المتهوّرة.

أنتيفون : ( مخاطبا فدريا) لِم يأتي نحونا وهو في انفعال شديد؟

غيتا    : ( مخاطبا نفسه) ليس لي سوى نزر من الوقت لتسوية المسألة: فسيّدي أتى.

أنتيفون : ( مخاطبا فدريا) ما خطبه يا ترى؟

غيتا    : ( مخاطبا نفسه) لمّا سيسمع بالخبر فأيّ بلسم سأجد لغضبه؟ أأتكلّم؟ سأهيجه. أأسكت؟ سأثيره. أأبرّئ نفسي؟ سأكون كمن يغسل آجرّة. يا لبؤسي! أخاف لا شكّ على نفسي، لكنّ أنتيفون هو الّذي يعذّب نفسي، له هو آلم، وعليه هو أخاف الآن، وهو الآن من يمسكني، لولاه لكنت رأيت لي حلاّ وثأرت لنفسي من غضب الشّيخ، فصررت ما وقعت عليه يدي وفررت فورا من هنا.

أنتيفون  : ( مخاطبا فدريا) لأيّة سرقة ولأيّ فرار يعدّ العدّة؟

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) لكن أين سأجد أنتيفون وفي أيّ طريق أنشده؟

فدريا    : ( مخاطبا أنتيفون) إنّه يسمّيك.

أنتيفون  : أنتظر من هذا الرّسول كارثة ما.

فدريا    : مهلا، أتعي ما تقول؟

غيتا     : ( مخاطبا نفسه) سأذهب إلى البيت مباشرة، فهو غالبا هناك.

فدريا    : لنناده.

أنتيفون  : ( بأعلى صوته) قف حالا.

غيتا     : كفاك أوامر، أيّا تكون.

أنتيفون  : غيتا!

غيتا     : أخيرا هوذا أمامي من كنت ألتمس.

أنتيفون  : قل ما تحمل أرجوك، وأوجز في كلمة إن أمكن.

غيتا     : سأفعل.

أنتيفون  : تكلّم.

غيتا     : قبل قليل في الميناء...

أنتيفون  : تقصد أنّ أ...

غيتا     : فهمتني.

أنتيفون  : يا ويلتى!

فدريا    : ويحك...

أنتيفون  : ماذا سأصنع؟

فدريا    : ( مخاطبا غيتا) ماذا تقول؟

غيتا     : رأيت أباه وعمّك.

أنتيفون  : يا لبؤسي أيّ حلّ سأجد لهذه الكارثة المفاجئة؟ إن أبت أقداري إلاّ أن تبعدني عنكِ يا فنيوم فلا رغبة لي قطّ في الحياة.

غيتا     : ما دامت الأمور كما هي يا أنتيفون حريّ بك إذن أن تتيقّظ وتتماسك أكثر فالحظّ يخدم الشّجعان*.

أنتيفون  : لا أتمالك نفسي.

غيتا     : والحال أنّك الآن بأمسّ الحاجة إلى ذلك يا أنتيفون. فإن أحسّ أبوك لديك أدنى خوف، سيفكّر أنّك اقترفت ذنبا ما.

فدريا    : صحيح.

أنتيفون  : لا أستطيع تغيير نفسي.

فدريا    : ماذا كنت ستفعل إذن لو كان عليك الآن إنجاز عمل أجسم؟

أنتيفون  : ما دمت لا أقدر على هذا فأنا أقلّ قدرة على ذاك.

غيتا     : لا تتعب نفسك معه يا فدريا فلا جدوى. لِم نضيع جهدنا سدى؟ فلأرحْ.

فدريا    : وأنا أيضا.

أنتيفون  : انتظرا أرجوكما. ماذا لو أتظاهر أمامه؟ ( مقطّبا وجهه) أيكفي هذا؟

غيتا     : أنت تمزح!

أنتيفون  : ( يغيّر التّكشيرة) تأمّلا وجهي. أما يكفي هكذا؟

غيتا     : كلاّ.

أنتيفون  : وهكذا؟

غيتا     : قاربت.

أنتيفون  : وهكذا؟

غيتا     : جيّد: حافظ على هذه الهيئة وأجبه قولا بقول، ومِثْلا بمثل ولا تدع أقواله القاسية وهو في سورة الغضبه تأخذ منك.

أنتيفون  : أعرف.

غيتا     : قل إنّك أكرهت قسرا بالقوّة.

فدريا    : قانونيّا، بمقتضى حكم.

غيتا     : أتفهم؟ لكن مهلا، من ذلكما الشّيخ الّذي أرى في آخر الشّارع؟ إنّه هو.

أنتيفون  : ( يهمّ بالذّهاب) لا أستطيع مواجهته.

غيتا     : أخ، ماذا تفعل؟ إلى أين ستروح يا أنتيفون؟ اسمعني وابق هنا.

أنتيفون  : أعرف نفسي وخطئي. أكِل لكما فنيوم وحياتي.( ينصرف)

فدريا    : ماذا سيحصل الآن يا غيتا؟

غيتا     : ستسمع الخصومة قريبا. سأُجلد معلّقا على خشبة إن لم يخطئ ظنّي. لكن يحسن بنا الآن يا فدريا أن نفعل ما أشرنا به السّاعة على أنتيفون.

فدريا    : دعني من "يحسن" ومرْني ماذا أفعل بالأحرى.

غيتا     : أتذكر مرافعتك قبل فترة في قضيّة كفّ الشّغب، أنّها قضيّة سهلة مربوحة حتما وممتازة؟

فدريا    : أذكر.

غيتا     : نحن الآن بحاجة إلى مثلها أو أحسن منها وأبرع إن أمكن.

فدريا    : سأفعل باذلا قصارى جهدي.

غيتا     : والآن تقدّمْ إليه أنت أوّلا، وسأبقى كامنا هنا كمدد احتياطيّ فيما لو أخفقتَ.

فدريا    : اتّفقنا.

 

 

<<