ترنتيوس

 

الأعمال المسرحيّة

 

1- فتاة أندروس

 

حواش 

 

 

 

 

 

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

فتاة أندروس ( أو الأندريّة)

 

ملاحظة:  هذه أولى مسرحيّات ترنس، مثّلت في 166 ق.م. اقتبسها من مسرحيّة لمينندر* لقّحها بعناصر من مسرحيّة أخرى. تجمع العنصر الرّوائيّ ( تشابك قصّتي حبّ، لغز البطلة الذي يزيده ضبابيّة أنّنا نسمعها مرّة واحدة ولا نشاهدها...) والملهاويّ ( خداع العبد لسيّده، عقابه...).  تحدّثنا المسرحيّة عن فتاة (غلكريوم) أتت مع المومس* خريسيس من جزيرة أندروس* للإقامة في أثينة، وبقيت بعد موتها بدون سند سوى الشّابّ بنفيلوس الذي يحبّها لكنّ أباه يريد تزويجه من فيلومينة بنت خريمس والتي يحبّها خارينوس. ويعقّد الوضع حمل غلكريوم. يساعد داووس عبد سيمون بنفيلوس  بحيله وخدعه التي لسوء الحظّ تكاد توقع الشّابّين في ورطة لا مخرج منها. ثمّ تحدث مفاجأة ندع للقارئ لذّة اكتشافها.

 

الشّخصيّات

ملقي التّمهيد

سيمون  : شيخ، أب بنفيلوس.

صوصيا  : عبد سابق لسيمون معتوق.

داووس   : عبد سيمون.

ميسيس  : خادمة غلكريوم.

بنفيلوس : شابّ، ابن سيمون يحبّ غلكريوم.

خارينوس: شابّ، صديق بنفيلوس.

برّيا      : عبد خارينوس.

غلكريوم : فتاة أتت من جزيرة أندروس* مع المومس خريسيس.

خريمس : شيخ، صديق سيمون وأب فيلومينة خطيبة بنفيلوس.

كريتون  : ابن عمّ المومس خريسيس كفيلة غلكريوم.

درومون : عبد سيمون.

لسبية   : قابلة.

 

ملخّص لقيّوس سلبيقوس أبولينارس

   اغتصب بنفيلوس غلكريوم الّتي يُظَنّ خطأً أنّها أخت مومس أصيلة جزيرة أندروس*، ولمّا حملت وعدها بالزّواج. وكان أبوه قد خطب له ابنة خريمس، فلمّا اكتشف حبّه تظاهر بالإعداد لزواجه رغبة في معرفة نيّة ابنه. وفق نصيحة داووس لم يقاوم بنفيلوس. لكن لمّا رأى خريمس الصّبيّ الّذي ولدته غلكريوم ألغى الزّيجة وصرف صهره. ثمّ تبيّن أنّها ابنته فزوّجها لبنفيلوس والبنت الأخرى لخارينوس.

 

 

ملقي التّمهيد (1-27)

   لمّا وجّه الشّاعر همّته للكتابة، ظنّ أنّه سيتفرّغ لهذا العمل وحده، ليكتب مسرحيّات تنال رضى الجمهور. لكنّه يفهم الآن أنّ الأمر مختلف تماما. فهو ينفق جهدا كبيرا في كتابة تمهيدات، لا لعرض موضوعه بل للرّدّ على تخرّصات شاعر مغرض عتيق*. والآن انتبهوا جيّدا لما يعيبه عليه خصومه.

   ألّف مينندر* مسرحيّة بعنوان "الأندريّة"* وأخرى بعنوان "البيرنثيّة"*. من عرف جيّدا إحداهما صار يعرف الاثنتين: فهما لا تختلفان بالموضوع، لكنّه ألّفهما بإنشاء وأسلوب مختلفين. يعترف شاعرنا أنّه نقل من "البيرنثيّة"* إلى "الأندريّة"* مقاطع تناسب الغرض واستخدمها كما لو كانت منها. ينتقد أولئك الجماعة العمليّة زاعمين أنّ من غير المناسب خلط* المسرحيّات. أفيفعلون ذلك لإدراكهم أنّهم لا يدركون شيئا؟ فهم بمؤاخذته يؤاخذون نيويوس* وبلاوتوس* وإنّيوس* الّذين يتّخذهم مرجعا، والّذين يؤثر تقليد أسلوبهم الحرّ في النّقل على تقيّد أولئك بدقّة غامضة*. أدعوهم إلى ملازمة الهدوء مستقبلا والكفّ عن ثلبي كيلا أعرّفهم بعيوبهم.

   فاحفوا بنا وشاهدونا بهدوء، واطّلعوا على الحقيقة لتعرفوا إن بقي للشّاعر أمل في تأليف مسرحيّات مستقبلا تستحقّ أن تُعرَض عليكم، أو إن كان يجب بالأحرى استبعادها.

 

 

الفصل الأوّل

 

المشهد الأوّل* (28-171)

سيمون، صوصيا

سيمون  : ( مخاطبا عبيده) خذوا هذه الأشياء إلى الدّاخل: هيّا انصرفوا. صوصيا، تعال. أريد أن أقول لك بضع كلمات.

صوصيا  : اعتبرها قيلت. بلا ريب تريد أن نعتني جيّدا بهذه الأشياء.

سيمون  : بل هو أمر آخر.

صوصيا  : ما الذي تستطيع شطارتي أن تقدّم لك أكثر من هذا؟

سيمون  : لا حاجة إلى الشّطارة في ما أعدّ له، بل إلى صفتين عهدتهما فيك على الدّوام: الإخلاص والكتمان.

صوصيا  : أنتظر ما تطلب منّي.

سيمون  : مذ اشتريتك، وأنت في ميعة العمر، كانت خدمتك عندي كما تعلم يسيرة رفيقة. ثمّ من عبد جعلتك حرّا لأنّك كنت تخدمني بنفس حرّة. ودفعت لك أكبر مكافأة عندي.

صوصيا  : أحفظ في ذاكرتي كلّ ذلك.

سيمون  : وما أنا بمغيّر ما فعلت.

صوصيا  : يسرّني يا سيمون أن تستلطف شيئا فعلت أو أفعل، وأشكر لك حسن قبولك*. لكنّ كلامك هذا يزعجني قليلا: فهذا التّذكير بمثابة لوم موجّه إلى جاحد نعمة. فهلاّ أخبرتني بالأحرى وباختصار ماذا تريد منّي؟

سيمون  : سأفعل. أعلمك أوّلا بهذا الصّدد أنّ ما تَعُدّه زفافا ليس زفافا حقيقيّا.

صوصيا  : لِم تتظاهر بذلك إذن؟

سيمون  : ستسمع كلّ القصّة من أوّلها فتعرف أسلوب عيش ابني وخطّتي وما أريد منك فعله بهذا الصّدد. بعدما غادر الخدمة العسكريّة*، أتيح له أن يعيش حرّا- وكيف لنا قبل ذلك بمعرفته أو تعرّف طباعه قبل ذلك لمّا كان العمر والخوف والمعلّم يكبحونه؟

صوصيا  : الأمر فعلا كذلك.

سيمون  : خلافا لأغلبيّة الشّبّان الّذين يوجّهون عادة همّهم إلى إحدى الهوايات، كتربية الخيل أو كلاب الصّيد أو مصاحبة الفلاسفة، لم يكن هو يولي اهتماما خاصّا بأيّ منها أكثر من البقيّة، بل كان يهتمّ بها كلّها باعتدال. فكنت أفرح.

صوصيا  : لا ضير في ذلك، فمن المفيد جدّا في الحياة حسب رأيي تجنّب الإفراط.

سيمون  : كذا كان نهج حياته: تحمُّل كلّ المكاره بصبر، والتّفاني في خدمة من يعيش معهم، والاجتهاد في جلب ما يحبّون والامتناع عمّا يكرهون، وذلك ما يتيح للمرء أن يلقى الثّناء دون حسد، ويكوّن له أصدقاء.

صوصيا  : لقد نظّم حياته بحكمة. ففي زمننا تولّد المجاملةُ الصّداقةَ والحقيقةُ الكراهيةَ.

سيمون  : في الأثناء، ومنذ حوالي ثلاث سنوات، انتقلت امرأة من أندروس* للسّكنى هنا بجوارنا، مضطرّة بسبب فقرها وإهمال أقاربها، ذات حسن بديع  وفي ريعان العمر.

صوصيا  : أيْ! أخشى أن تحمل هذه الأندريّة* متاعب!

سيمون  : في البداية كانت تعيش بشرف، حياة تقشّف وكدح، كاسبة من غزل ونسج الصّوف كفاف يومها. لكن بعدما تقدّم لها عاشق، ملوّحا لها بالمال، ثمّ آخر، ونظرا لما في طبع كلّ البشر من عزوف عن العمل وميل للشّهوات، رضيت بهذا الوضع، ثمّ بدأت تتعيّش منه. وكما يحدث في عديد من الأحوال، حمل إليها عشّاقها يوما بالصّدفة ابني لمشاركتهم عشاءهم. في الحين قلت لنفسي: "وقع في الشّرك، صار مملوكها". كنت أشاهد في الصّباح خدمهم يتردّدون على البيت جيئة وذهابا، فأسأل: "لطفا يا غلام، قل لي أرجوك من كان البارحة مع خريسيس؟"- ذاك كان اسم الأندريّة*.

صوصيا  : فهمت.

سيمون  : فيجيبون: فدروس، أو كلينيا أو نقراطوس، إذ كان ثلاثتهم يعشقونها في نفس الوقت. "وبنفيلوس؟" "ماذا؟ دفع حصّته* وتعشّى." فأفرح. ثمّ أعيد السّؤال يوما آخر، فلا أجد شيئا يتعلّق ببنفيلوس. كنت والحال تلك أفكّر أنّه قدّم مثالا رائعا وعظيما على التّحكّم في النّفس. فمن يخالط أناسا من هذا النّوع ولا تتأثّر نفسه مع ذلك بهذه المغريات، يمكنك أن تعلم أنّه قادر على ضبط نهج حياته. كان ذلك يعجبني، وقد أجمع الكلّ على كلّ مدح وعلى تهنئتي بحظّي أن يكون لي ابن بمثل ذلك الخلق العظيم. ما الحاجة إلى الإطالة؟ أتاني خريمس من تلقاء نفسه، مدفوعا بهذه السّمعة الطّيّبة، يعرض إعطاء ابنته الوحيدة زوجة لابني، وبمهر معتبر. أعجبتني الفكرة فخطبتها. واليوم بالتّحديد موعد الزّفاف.

صوصيا  : وما يمنع أن يكون زفافا حقيقيّا؟

سيمون  : ستعلم. بعد أيّام قليلة من هذه الوقائع، ماتت جارتنا خريسيس.

صوصيا : خبر جيّد: أفرحتني. فقد خفت عليه من خريسيس هذه.

سيمون : ظلّ ابني يتردّد على بيتها كثيرا مع عشّاقها. فكان يعتني معهم بإعداد جنازتها. كان في كثير من الأحيان يبدو حزينا، وأكثر من مرّة رأيته يبكي. أكبرتُ فيه ذلك إذ كنت أفكّر: "إن كان يتأثّر لموتها إلى مثل هذا الحدّ بسبب علاقة بسيطة فماذا لو كان يحبّها؟ وماذا سيفعل من أجلي أنا والده؟" كنت أفكّر أنّ كلّ ذلك أدب نفس دمثة وطبع رقيق. لم أطيل عليك؟ ذهبت أنا نفسي إلى الجنازة إكراما له، غير مرتاب بعد بالمصيبة.

صوصيا  : أيّة مصيبة؟

سيمون  : ستعرف. سيرَ بالجثمان وسرنا. في الأثناء، بين النّسوة الحاضرات لمحتُ عرضاً فتاة ذات حسن...

صوصيا  : بديع كما أتصوّر.

سيمون  : ووجه متناسق ليس كمثله رواء وبهاء. ولأنّها بدت لي أشدّ تأثّرا من الأخريات وتفوقهنّ بحسنها الخفِر الكريم، دنوت من المشيّعات وسألت من هي فقلن إنّها أخت خريسيس. نغز ذلك فورا بقلبي، هذا إذن حلّ اللّغز، هوذا سرّ تلك الدّموع وذلك الوجد.

صوصيا  : كم أتوجّس خيفة ممّا أنت آت إليه.

سيمون  : في الأثناء كانت الجنازة تتقدّم ونحن نتبعها، حتّى وصلنا إلى القبر. فوضع الجثمان على المحرقة، وبكينا. بينما نحن كذلك، إذا بأختها تدنو من النّار دون أن تحتاط من الخطر. إذّاك وشى بنفيلوس الذّاوي من الأسى بهواه المكتوم بإتقان في خفايا فؤاده. هرع وأمسك الفتاة من فرعها قائلا: "حبيبتي غلكريوم، ماذا دهاك؟ لم تسعين إلى الهلاك؟" فتهاوت في حضنه باكية بنحو ينمّ عن علاقة حميمة، فاضحة حبّا بلغ درجة الألفة بينهما.

صوصيا  : ماذا تقول؟

سيمون  : عدت من هناك غاضبا، كاظما مضاضتي، إذ لم يكن هناك مبرّر كاف لتأنيبه. كان سيقول: "ماذا فعلت؟ فيم أجرمت أو أخطأت يا أبي؟ منعت امرأة من إلقاء نفسها في النّار." وهو لعمري مبرّر وجيه.

صوصيا  : تفكير سليم. فلو لمت من أنقذ حياة غيره، ماذا تفعل مع من يسبّب لغيره أذيّة أو سوءاً؟

سيمون  : من الغد جاءني خريمس مستنكرا فعلته الشّائنة، فقد علم أنّه يعاشر تلك الغريبة معاشرة الأزواج. فأنكرت التّهمة بإصرار، وأصرّ هو عليها. أخيرا بارحته بعدما ألغى وعده بإعطاء ابنته.

صوصيا  : ألم تدْع ابنك إذّاك؟

سيمون  : حتّى ذلك لم يكن مسوّغا كافيا لتأنيبه.

صوصيا  : كيف ذلك؟ قل أرجوك.

سيمون  : كان سيقول: "أنت الّذي رسمت حدّا لمجريات حياتي يا أبي. حان الوقت الّذي سيكون عليّ أن أعيش فيه على هوى غيري، فاسمح لي أن أعيش في الأثناء على هواي."

صوصيا  : أيّ مبرّر بقي لتأنيبه إذن؟

سيمون  : إن رفض، بسبب حبّه، الزّواج. فتلك منه غلطة تستوجب العقاب. وأنا الآن أحاول جاهدا أن أوفّر من خلال هذا الزّفاف الزّائف مبرّرا مشروعا لتقريعه في حال الرّفض، وفي نفس الوقت إن كانت لذلك اللّئيم داووس خطّة ما ليستخدمها الآن حيث لا يمكن أن تجرّ حيله أيّة متاعب. إذ إخاله سيسخّر كلّ طاقاته، ويستعمل كلّ الوسائل المتاحة، لإيذائي أنا أكثر ممّا يفعل لخدمة ابني.

صوصيا  : لِم ذلك؟

سيمون  : تسألني؟ خباثة نفسه ولؤم طبعه. وحقّ السّماء إن شعرت منه...لكن ما الدّاعي إلى الكلام؟ إن تمّ ما أريد فلم يبد بنفيلوس أيّة مماطلة، إذّاك يبقى خريمس الّذي يجب أن أبرّئه أمامه وآمل أن أوفّق في ذلك. أمّا مهمّتك فهي أن تموّه جيّدا هذا الزّفاف وتخوّف داووس وتراقب ابني ماذا يفعل وأيّ قرار يتّخذ بمعيّته.

صوصيا  : مفهوم. سأهتمّ بالمسألة.

سيمون  : لنذهب الآن إلى البيت. اسبقني وسأتبعك. ( ينصرف صوصيا)

 

المشهد الثّاني (172-205)

سيمون، داووس

سيمون  : ( مخاطبا نفسه) لا شكّ أنّ ابني يرفض الزّواج. فقد شعرت بأنّ الخوف استولى على داووس لمّا سمع بخبر الزّفاف. لكن هوذا يخرج.

داووس  : ( مخاطبا نفسه) كنت أتساءل باستغراب إن كان الأمر سيمرّ هكذا، وأخشى ما سيفضي إليه تغاضي سيّدي المتواصل، فحتّى بعدما سمع بأنّ والد الفتاة يرفض إعطاءها لابنه لم يوجّه كلمة لأيّ منّا ولا أبدى ضيقا.

سيمون  : ( مخاطبا نفسه وقد سمعه)  لكنّه سيفعل الآن، ولن يخلو ذلك من ضرر فادح لك!

داووس  : ( مخاطبا نفسه) هكذا أراد أن يخدعني بفرحة الغافل الكاذبة وطمأنينة الآمل الآمن، ويأخذني على غرّة فلا أجد متّسعا للتّفكير وإفشال الزّواج: حيلة بارعة!

سيمون  : ( مخاطبا نفسه) عمّ يتحدّث اللّئيم؟

داووس  : ( مخاطبا نفسه) إنّه سيّدي، لم أره أمامي.

سيمون  : داووس!

داووس  : نعم. ماذا؟

سيمون  : تعال.

داووس  : ( مخاطبا نفسه) ماذا يريد منّي؟

سيمون  : ماذا تقول؟

داووس  : بأيّ خصوص؟

سيمون  : تسألني؟ يشاع أنّ لابني خليلة.

داووس  : النّاس مهتمّون بذلك كما أرى.

سيمون  : أتجيبني عمّا سألتك أم لا؟

داووس  : نعم طبعا.

سيمون  : لكن السّعي إلى معرفة ذلك الآن سيكون تصرّف أب متسلّط. ما صنع قبل اليوم لا يعنيني. طالما سنحت له الفرصة، سمحت له بأن يقضي منها لبانته. لكنّ هذا اليوم يحمل له حياة جديدة ويتطلّب منه سلوكا مختلفا. لذا أطلب منك، أو- إن كان هذا أنسب- أترجّاك يا داووس أن يعود الآن إلى سواء السّبيل. لِم أطلب منك ذلك؟ لعلمي بأنّ العشّاق يجدون مشقّة في قبول الزّواج.

داووس  : ذلك ما يقال.

سيمون  : ثمّ إن اتّخذ المرء والحال تلك مرشدا مضلاّ في هذا الباب، فكثيرا ما يوجّه نفسه السّقيمة أصلا إلى الوجهة السّوءى.

داووس  : لا أفهم وحقّ هرقل*.

سيمون  : كلاّ؟ عجبا.

داووس  : كلاّ، فأنا داووس لا أوديب*.

سيمون  : تريد إذن أن أقول البقيّة بصراحة؟

داووس  : تماما.

سيمون  : إن شعرت اليوم أنّك تحاول تدبير حيلة ما لإحباط الزّفاف، أو تريد إبراز مدى شطارتك في هذا الباب، لآمرنّ بجلدك ونفيك إلى الطّاحونة حتّى الموت، متعهّدا ومقسما أنّي لو أخرجتك لأجرّنّ مكانك الرّحى. هل فهمت ذلك أم لم تفهمه بعد هو الآخر؟

داووس  : بل فهمت تماما، فأنت بهذا النّحو تكلّمت تصريحا لا تلميحا، أو مواربة وتلويحا.

سيمون  : أسهلُ عليّ التّلاعب بي في أيّ ميدان آخر منه في هذا.

داووس  : كلمات طيّبة والحقّ يقال.

سيمون  : أتسخر منّي؟ لكنّي أقول لك: إيّاك وأيّ عمل طائش، وإلاّ لا تقولنّ من بعد إنّي لم أنذرك، حذار. ( ينصرف)

 

المشهد الثّالث (206-227)

داووس

داووس  : ( مخاطبا نفسه) صدقا يا داووس، لا مجال للتّراخي أو التّهاون. فقدر ما فهمت الآن خطّة الشّيخ بخصوص الزّفاف، إن لم أتدبّر للأمر حيلة سيجرّ عليّ وعلى سيّدي أسوأ الويلات. لا أدري ماذا أصنع، أساعد بنفيلوس أو أنصاع للشّيخ. إن تخلّيت عن ذاك فإنّي أخشى على حياته، وإن أعنته فإنّي أخشى على نفسي من تهديدات هذا إذ من الصّعب أن أخدعه، فقد علم بخبر هذا الحبّ ثمّ إنّه يترصّدني، مضمرا لي شرّ الأنكال، مخافة أن أدبّر حيلة ما بخصوص الزّفاف. إن أحسّ منّي أيّة حركة فالويل لي، وإن عنّ له سيتّذرع بذلك ليرمي بي إلى الطّاحونة، سواء كان ذلك عدلا أو ظلما. إلى كلّ هذه المتاعب، تضاف أخرى: أنّ تلك الفتاة، سواء كانت زوجة بنفيلوس أو خليلته، حامل من صلبه. ومن الشّيّق الاستماع إلى خطّتهما الجسورة، فهي من وضع مجنونين لا عاشقين*: قرّرا تربية المولود أيّا كان، واختلقا خرافة مفادها أنّها مواطنة أتّيكيّة*: "كان قبل عدّة سنوات تاجر عجوز تحطّمت سفينته على سواحل جزيرة أندروس* فقضى نحبه. هناك لقي أب خريسيس ابنته الصّغيرة اليتيمة، ملقاة على الشّاطئ." أساطير. هذا وحقّ هرقل* ممّا لا يحتمل حدوثه في اعتقادي. ولقد أعجبتهما قصّتهما الخياليّة. لكن ها هي ميسيس تخرج من عندها. من جهتي يجب أن أذهب إلى القصبة* لمقابلة بنفيلوس كيلا يبغته أبوه وهو غير متفطّن للموقف.

 

المشهد الرّابع (228-235)

ميسيس

ميسيس : ( تخاطب شخصا بالدّاخل) كفى يا أرخليس فقد سمعتكِ: تأمرينني بإحضار لسبية. إنّها وحقّ بولكس* امرأة سكّيرة ورعناء ولا تستحقّ أن يُعهد إليها بامرأة في أوّل مخاض. أفسأجلبها مع ذلك؟ ( تخاطب نفسها) انظروا إلى إصرار تلك العجوز الغرور لأنّها نديمتها. أيّها الآلهة رحماكم، أعطوا سيّدتي أن تلد بسلام، وتلك المرأة أن تجرّب أخطاءها في أخريات بالأحرى. لكن ما لي أرى بنفيلوس في حالة يرثى لها؟ أخشى أن يكون حدث مكروه. سأنتظر لأعرف أيّة بليّة ستجلب لنا هذه البلبلة.

 

المشهد الخامس (236-300)

بنفيلوس، ميسيس

بنفيلوس: ( مخاطبا نفسه) أهذا عمل أو تفكير يليق ببشر؟ أهذا تصرّف يليق بأب؟

ميسيس : ( مخاطبة نفسها) ما الخبر ترى؟

بنفيلوس: ( مخاطبا نفسه) ماذا أدعو هذا بحقّ الآلهة، إن لم يكن نكاية؟ قرّر أن يزوّجني اليوم: أفما كان ينبغي أن أعلم بذلك من قبل؟ أما كان المفروض أن يخبرني به مسبقا؟

ميسيس: ( مخاطبة نفسها) يا للتّعاسة، أيّ كلام هذا الّذي أسمع؟

بنفيلوس: ماذا؟ خريمس الّذي رفض قبل إعطائي ابنته غيّر موقفه دون أن يرى تغييرا من جانبي. أتراه يجتهد بتصميم لينتزعني، يا لبؤسي، من غلكريوم. إن تمّ ذلك قُضي عليّ قضاء مبرما. أيوجد ترى إنسان أتعس أو أنكد حظّا منّي بحقّ الآلهة والبشر؟ أما من وسيلة لأفلت من مصاهرة خريمس؟ بكم من الوجوه أهانني وازدراني؟ كلّ شيء قُضي وانتهى. بعد ما صرفني، طلبني من جديد. لماذا، إن لم يكن للسّبب الّذي أرتاب به: أنّهم يربّون بنتا غير سويّة، ولعجزهم عن تصريفها لأحد، يأتون إليّ؟

ميسيس : يا لبؤسي، هذا الكلام يذيب مهجتي خوفا.

بنفيلوس: وماذا أقول هنا عن أبي؟ واحرّ قلبي، بكم من التّهاون يتصرّف* في شأن بمثل هذه الخطورة. قال لي وهو يمرّ بي قبل ساعة عند القصبة*: "عليك اليوم أن تتزوّج يا بنفيلوس فرُحْ إلى البيت واستعدّ." بدا لي كأنّه يقول: "رح بسرعة واشنق نفسك". بُهتّ، وهل كان بوسعي أن أنبس بكلمة؟ أو أتذرّع بأيّ عذر، ولو واه وزائف؟ خرست. لو سألني الآن أحد ماذا كنت سأفعل لو علمت بالأمر مسبقا، لأجبتُ أنّي كنت سأفعل غير ما فعلت. والآن في أيّ اتّجاه أتحرّك أوّلا؟ شواغل شتّى تشلّني إذ تتنازع نفسي: حبّي وعطفي عليها، هاجس هذا الزّواج، ثمّ الحياء من أبي الذي تجاوز دوما حتّى هذا اليوم عن كلّ نزواتي بسماحة، أفيُعقل أن أعارض رغبته؟ يا ويلتى! أنا في حيرة.

ميسيس : ( مخاطبة نفسها) يا لشقائي! أخشى ما ستؤول إليه هذه "الحيرة". لكن لا بدّ الآن وبأيّ ثمن أن يتحدّث بهذا وجها لوجه معها أو معي نيابة عنها. فما دام في حيرة، يمكن بدفعة طفيفة توجيهه إلى هنا أو إلى هناك.

بنفيلوس: من يتكلّم هنا؟ ميسيس، سلاما.

ميسيس : سلاما يا بنفيلوس.

بنفيلوس: ما أخبارها؟

ميسيس : تسألني؟ المسكينة تعاني آلام المخاض ويخضّها القلق، فاليوم هو الموعد المحدّد لزواجك. وهي تخاف أن تتخلّى عنها.

بنفيلوس: وهل يمكن أن أفكّر في ذلك؟ أو أسمح بأن تُخدع بسببي، والمسكينة استودعتني نفسها وحياتها كلّها وأنا أحبّها بكلّ كياني إلى درجة النّظر إليها كزوجة. أأسمح بأن تتغيّر تحت وطأة الفقر القاهرة نفسها الّتي أنشئت وربّيت* على الخير والعفّة؟ لن أفعل.

ميسيس : ما كنت سأخشى ذلك لو كان الأمر بيدك أنت فقط. لكن أتمنّى أن تستطيع الصّمود.

بنفيلوس: أتظنّينني خرعا بل وجاحدا ولئيما وقاسيا فلا العِشرة ولا المحبّة ولا المروءة تؤثّر فيّ أو تهيب بي أن أفي بوعدي؟

ميسيس : أعلم شيئا واحدا: أنّها أهل لتكون وفيّا لها.

بنفيلوس: وفيّا لها؟ ميسيس يا ميسيس، لا تزال كلمات خريسيس بخصوص غلكريوم منقوشة في فؤادي. دعتني وهي تحتضر فجئتها. أُبعدتنّ وبقينا لوحدنا. فبادرتني: "بنفيلوس العزيز، أنت ترى حسنها وعمرها. ولا يخفى عنك أنّهما لا يجديانها في صيانة عرضها ومالها. لذا أستحلفك بيميني وبإلهك الحامي*، أناشدك بمروءتك وبوحودتها، ألاّ تفارقها أو تتركها. لقد أحببتُك كأخ شقيق وهي قد جعلتْك دوما فوق الجميع وحابتك في كلّ شيء، وإنّي أعطيتك لها زوجا وصديقا وكفيلا وأبا وأكل لك بكلّ أملاكنا وأضعها في ذمامك." ثمّ أمسكت يدها فوضعتها في يدي، وفي الحال توخّاها حِمام المنون. لقد أُودِعتها وسأحافظ على الوديعة.

ميسيس : أرجو ذلك حقّا.

بنفيلوس: لكن أخبريني، لِم خرجتِ من عندها؟

ميسيس : لأحضر القابلة.

بنفيلوس: عجّلي إذن وإيّاك أن تقولي لها كلمة واحدة عن الزّفاف وإلاّ أضفتِ إلى سقمها...

ميسيس : مفهوم.

<<