ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

8- تأثيرات محتملة: دراسة مواضيع في كتب ا لفلاحة

 

حواش 

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 8- تأثيرات محتملة: دراسة مواضيع في كتب الفلاحة

 

مقدّمة

   يصعب تتبّع تأثير ماغون على الكتّاب، لأنّهم لم يذكروا دوما مصادرهم، ولأنّ كلّ كاتب يتأثّر عادة بعدّة كتّاب سابقين، وقلّما يطغى تأثير واحد منهم إلى درجة إلغاء غيره. وهناك مقاربة أخرى لدراسة أثره: تقصّي العناصر الماغونيّة في ما كتب مختلف الكتّاب حول موضوع ما كإعداد وحفظ الأغذية، كما فعلنا عند دراسة الشّذرات الّتي وصلتنا، وكما سنحاول بخصوص مواضيع لا يبدو فيها تأثيره واضحا، كالنّحالة أو البيطرة أو النّباتات البرّيّة.

8-1 النّحالة

   أكّد وارّون أهمّية تربية الدّواجن والنّحل عند ماغون، واستشهد به كولوملاّّ بخصوص إنشاء النّحل من جثّة عجل والحدّ من عدد الزّنابير وجني العسل الّذي نسب بلينيوس رأيا مماثلا حوله إلى ديونسيوس، ووصف كذلك إعداد الشّمع البونيقيّ. ويبدو تأثير ماغون في نصوص أخرى لم يُذكر فيها. فقد استشهد مثلا كولوملاّ في قسم النّحالة ( ك9) عدّة مرّات بكلسوس ( 7) وهيجينوس ( 8) وفرجيليوس ( 9 ومرّات أخرى باسم "الشّاعر" أو بدون تسميته)، وأكّد أنّهم نقلوا تعاليم كتّاب قدماء ( 9: 2: 2)، وأنّ هيجينوس، الّذي استمدّ منه رزنامة أعمال النّحّال ( 9: 14) كما أشار ( 9: 14: 1 و18) "يتبع الكتّاب القدماء" ( 9: 13: 3) و"اليونان" ( مثلا في نفي نشوء ملوك النّحل من دود يوجد في نخاريب بطرف الشّهد كما أكّد كلسوس 9: 11: 5 المتأثّر، كما رأينا، بماغون). وتُبرز دراسة نصوص الكتّاب اللاّتين وكتّاب جيوبونيكا ( خاصّة فلورنتينوس ج 15: 2) عناصر تشير إلى ذلك التّأثير لكن يصعب طبعا إثباته، خاصّة أنّ ما كتب هيجينوس وكلسوس وقبلهما أرخلاوس ومنقراطس ونيقندر لم يصلنا، وأهمّ مرجع معروف- على الأقلّ منذ عصر وارّون- هو "تاريخ الحيوان"، الّذي يشكّ المختصّون في صحّة نسبة كُتُب منه إلى أرسطوطاليس، منها الكتاب 9 ( 8 في ترجمة ابن البطريق) حيث جاء فصل عن النّحل وطباعه ( 9: 40، يوافق مجمل ما كتب كذلك ابن سينا في الشّفاء: جملة الطّبيعيّات 1: 8: 1).

   وقد ذكروا الموقع المحبّذ للخليّة وتوجيهها وكيفيّة صنعها، وتصنيف النّحل و"ملوكه"، والنّباتات البرّيّة والبستانيّة المحبّذة لتغذيته والنّباتات الضّارّة وآفاته وأمراضه وعلاجاتها، واقتناءه وجني العسل لكن مع بعض الفروق.   

8-1-1 المنحل

   تتّفق تلك النّصوص حول:

- نصب الخليّة قرب المسكن ( وارّون 3: 16: 12 و15، كولوملاّ 9: 5: 2، بلاّديوس 1: 37: 1 وعنده وعند كولوملاّ "مسكن المالك" ممّا يوحي بإقامته في الضّيعة، وذلك ما طلب ماغون ولم يكن ممكنا في عصر كولوملاّ)، 

- توجيهها إلى الشّرق بحثا عن الدّفء ولوقايتها من المطر والرّيح ( و 3: 16: 12، ف 4: 9، ك 9: 5: 1 ومع تجنّب المكان الحارّ، ب 21: 47 (80)، فل 15: 2: 1، بلاّ 1: 35: 8)،

- عزلها عن الضّوضاء والصّدى وعن الرّوائح القويّة، والتّأكيد على نقاء النّحل وعلى ألاّ يقترب منه إلاّ الأطهار ( و 3: 16: 6 و12؛ ف 4: 49-50 و229؛ ك 9: 5: 1-2 و5-6، 9: 8: 11، 9: 14: 3 و15؛ ب 11: 21 (65) و11: 19 (61) و11: 15 (44)؛ فل؛ بلاّ 1: 37: 4-5، 4: 15: 4)، وقد رأينا إلحاح فلورنتينوس المتأثّر بديوفانس على الطّهارة وكذلك ماغون في إعداد الأطعمة، وتلك التّعليمات أيضا توافق أفكاره، بيد أنّ قرن النّحل بالطّهارة وبالعفّة منتشر في الأدب اليونانيّ وغيره، نجده مثلا في إحياء علوم الدّين للغزاليّ)، 

- الإشارة بتوفير ماء جار صاف عليه أحجار أو أخشاب يحطّ عليها النّحل ( و 3: 16: 12 و27؛ ف 4: 19-29؛ ك 9: 5: 3-5؛ فل 15: 2: 2-4، بلاّ 1: 37: 3).

   ومن الملفت أنّ فرجيليوس ( 4: 20) وكولوملاّ ( 9: 5: 4-5) أشارا بأن تظلّل المنحل نخلة أو زنبوجة oleaster فارعة ( جر 4: 20، فلاحة 9: 5: 4-5). فالنّخل نادر في أوروبة وحتّى في بلاد اليونان ( حيث لا يثمر وإن أثمر لا تصل ثمرته إلى النّضج حسب ت.ن. 3: 3: 5، ومن فينيقية، الّتي يرتبط بها اسمه في اليونانيّة، كانت أثينة تستورد التّمر كما ذكر هرمبّوس ح 420) بل وحتّى في بيثينية، وقد ذكر وارّون ( 2: 1: 27) وبلينيوس ( 13: 6 (26)) بعده بقرن أنّه لم يكن يوجد منه في أوروبة سوى أعداد قليلة ( كنخلة ديلوس المذكورة في الأوديسة 6: 162-163 أو أشجار قرب رومية كان يُستمدّ منها السّعف لتتويج القادة) نُقلت من الشّرق لكنّها غير مثمرة، إلاّ في إسبانية ( ومع قبوضة في ثمره حسب بلينيوس)، بينما كان يُغرس حسب ثيوفرستوس في ليبية ومصر وفينيقية وسورية ( ت.ن. 2: 6: 2)، ورودس وبابل وبلاد العرب وكريت وقبرص ( 2: 6: 3-9)، وحسب بلينيوس (13: 8 (38-50)) في سورية وليبية وإفريقية ومصر ويهوذا وكريت وقبرص وقيليقية. وفي إفريقية ربّما وُجد قبل استيطان الفينيقيّين كما توحي تسميته الأمازيغيّة غير السّاميّة الأصل ( تزديت). وحتّى الأنواع البرّيّة قليلة في أوروبة ( هناك نوع صغير أكّد ثيوفرستوس ت.ن. 2: 6: 2 وجوده في كريت وفي صقلّية الّتي ذكر فرجيليوس أيضا وجوده فيها: إنياذة 3: 705- وهو لا يناسب وصفه المذكور). والزّنبوج يميّز شمال إفريقية وإسبانية أكثر من أيّ مكان آخر كما يستفاد من سكولاكس وبلينيوس وابن العوّام ( رغم ورود عدّة إشارات إليه في ت.ن. 1: 14: 4، 2: 2: 11، 2: 3: 1، 3: 2: 1، 4: 13: 2، 5: 3: 3، 5: 4: 2، 5: 4: 4 و5: 7: 8، وبضعة نصوص في جيوبونيكا عن kotinon- 9: 1: 4 أسطورة أصل الزّيتون، 10: 86: 3 لبمفيلوس عن إنبات نوى الزّيتون زنبوجا بعكس الأشجار الأخرى- وagrias elaias- 9: 10: 7 علاج الزّيتون العقيم، 15: 4: 3 النّحل، 17: 17: 4 و17: 29: 2 البقر).

   كذلك أشار كولوملاّ ببناء سقف فوق الخلايا أو تغطيتها بظلّة مطليّة بالملاط البونيقيّ punicum lutum ( 9: 7: 4) لحمايتها من الحرارة والبرد والمطر ( أو ظلّة من الألياف والأوراق 9: 14: 14 كالّتي ذكرها فرجيليوس 4: 46، والمقصود على الأرجح الوزّال كما يستفاد من بلاّديوس 12: 8: 2، أو نبات كالّذي يدعى "الدّيس" في شمال تونس وهو غير نبات يدعى بنفس الاسم في مصر لعلّه الّذي ذكر ابن جلجل أنّه يدعى باللّطينيّة يُنكه iuncus، وهو cyperus articulatus)، وجعل بناء وراءها يتلقّى زخّ ريح الشّمال، أي البرد والمطر ( 9: 7: 1-4 وهي ممطرة في واجهة المتوسّط الجنوبيّة). وأشار بجعلها على قاعدة حجريّة مطليّة بملاط أملس لوقايتها من العظايا والثّعابين ( 14: 7: 1)، وحبّذ خلايا من الخفّاف suber لأنّه عازل حراريّ ( 9: 6: 1، وأشار في رزنامته باستخدامه إن وُجد على أرض الضّيعة لصنع منحل 11: 2: 90)، وهو شجر ينتشر خصوصا على سواحل شمال إفريقية وفي إسبانية والبرتغال ( ويوجد كذلك في إيطالية على ضفاف البحر التّرّينيّ بالأخصّ كما ذكر ثيوفرستوس 3: 17: 1، وأكّد بلينيوس أنّه يوجد في إسبانية وغلاطية وإفريقية وبيسيدية وقيليقية وأنّ منه نوعا رديئا يوجد في سردينية 16: 12 (32) وأنّه يُستخدم في مراسي السّفن وشباك الصّيد وسدّادات الأواني وأحذية النّساء الشّتويّة 16: 13 (34-35) دون ذكر ذلك الاستعمال هنا). وهو على الأرجح المقصود بما دعاه وارّون لحاء أو شجرا أجوف: arbore caua أو corticea ( 3: 16: 15-17)، وفرجيليوس corticibus cauatis ( 4: 33)، وبلينيوس ligno cauae arboris، e cortice ( 21: 47 (80))، لا جذع شجرة مجوّف ( كما يُرى في رسم على قبر مصريّ ولا يزال يُستخدم في بعض البلدان الإفريقيّة أو في عمان). ودعاه بلاّديوس باسمه ( cortex ex subere 1: 37: 6). ولخفّته مزيّة أخرى لم تذكرها كتب الفلاحة: سهولة نقل المنحل ( ونقله وارد في البلدان حيث يوجد فرق في موسم الإزهار بين الشّمال والجنوب، وقد ذكر وارّون ذلك بالنّسبة لجزر يونانيّة، وربّما كان المصريّون ينقلون مناحلهم من الجنوب حيث الإزهار أبكر نحو الدّلتا حتّى نهاية الموسم، أمّا في إفريقية فلا يوجد ما يشير إلى ذلك، وأساليب البناء الّتي وصفها كولوملاّ مثلا لا تسمح به). ومن الملفت أيضا أنّ ابن حجّاج ( باب النّحل) وابن العوّام ( 34: 6) أشارا بمناحل من خشب الأرز.  من المفيد بهذا الصّدد مقارنة المنحل كما صوّرته كتب الفلاحة بالخلايا المرسومة على الأنصاب النّذريّة القرطاجنّيّة.

8-1-2 وصف النّحل

   يوجد حسب تلك النّصوص 3 أنواع من النّحل و2 أو 3 من "الملوك" ( و 3: 16: 18 نقلا عن منقراطس، ف 4: 91-94؛ ك 9: 10: 2، فل 15: 2: 16). وتصنيف وارّون قريب من تصنيف "تاريخ الحيوان" الّذي  يفرّق بين سلالة صغيرة مستديرة ومختلفة اللّون هي النّحلة الكريمة وأخرى طويلة شبيهة بالزّنبور، وثالثة سوداء كبيرة عظيمة البطن دعاها السّارق، ورابعة هي الدّبّور الأكبر من البقيّة وهو بلا حمة وكسول ( تا.ح. 9: 4 و5: 22). ورغم أنّ كولوملاّ استشهد بأرسطوطاليس وذكر أنّ فرجيليوس تبعه ( 9: 3: 1-2)، تخالف أوصاف سلالاته ( 9: 3: 1-2) ذلك التّصنيف. ووصف فرجيليوس للنّحل ( 4: 88-102) يسترعي الانتباه: فهو أسود مرقّش بلون الذّهب أي مع خطوط أو بقع صفراء، وذلك لا ينطبق على النّحل الإيطاليّ Apis mellifera ligustica الّذي هو ذو لون أصفر ذهبيّ ولا على السّلالتين اليونانيّتين cecropia وmacedonica، ولا على الأناضوليّ anatolica "الأبيض" حسب بلينيوس 11: 19 (60) والّذي يسكن بيوتا من الطّين، ولا الكريتيّ adami الكبير الأصفر أو الدّاكن، ولا القبرصيّ cypria الأصفر الصّغير، ولا السّوريّ syriaca الأصفر المدبّب البطن، ولا المصريّ lamarckii ذي البطن الأصفر النّحاسيّ والّذي يسكن بيوتا من الأنابيب الطّينيّة أو ورق البرديّ مخروطيّة الشّكل، لكنّه قريب من الصّقلّيّ sicula الغامق مع بقع صفراء وإلى حدّ ما التّلّيّ intermissa والإيبريّ iberica الصّغيرين الدّاكنين والّلذين يحملان صفات وسطا بين الصّحراويّ sahariensis الأصفر والأوروبّيّ aifermell الأسود. والشّراسة الّتي صوّرها تنطبق على السّلالات التّلّيّة أكثر من الإيطاليّة الهادئة الطّباع وقليلة الميل إلى التّطريد، وكذلك تعايش عدد من "الملوك" في نفس الخليّة ( وارّون 3: 16: 18، كولوملاّ 9: 9: 6-7، 9: 15: 7)- والصّفتان الأخيرتان توجدان أيضا في النّحل المصريّ الّذي تعطي ملكته أحيانا أكثر من 100 ملكة). وقد رأى بعض الباحثين أنّ النّوع الثّاني الّذي ذكره كولوملاّ ولم يحبّذه، ولا فرجيليوس كذلك ( صغير ومستدير وبنّيّ اللّون وأشعر) يطابق النّوع التّلّيّ ( البونيقيّ). توحي إذن مواصفات النّحل باستخدام ترجمة ماغون أو ملخّصها.

8-1-3 النّباتات المفضّلة والنّباتات الضّارّة

   بالنّسبة للنّباتات المحبّذة مثلا ذكر:

- وارّون ح 20 برّيّة وبستانيّة ( 3: 16: 10-13)، 

- وفرجيليوس عددا مماثلا ( 4: 63، 112، 120-124، 131، 137، 141، 144-146)،

- وكولوملاّ ح 30 ( 9: 4: 2-6) مع تصنيفها إلى جبليّة ( صغيرة كالصّعتر والمردقوش، جنيبات كالإكليل والقضب واللّبلاب، وأشجار كالعنّاب واللّوز والدّرّاق والكمثرى، وعطريّات غابيّة كالبلّوط والمصطكى والبطم والأرز والزّيزفون) وسهليّة تنبت في الحقول ( كالبرْوق/ الحنّاء والنّرجس) أو في الجنائن ( كالزّنبق والخيريّ leukoion- أو المنثور بلغة أهل مصر حسب تفسير ابن البيطار لديسقريدس 3: 117- والورد البونيقيّ والقرنفل الأصفر والأرجوانيّ والزّنبق ذي الألق السّماويّ- أو العنصل المنحني أو كما فهم بلاّديوس 1: 37: 2 السّوسن أو سيف الغراب-candida lilia nec his sordiora leucoia tum Punicae rosae luteolaeque et Sarranae uiolae nec minus caelestis luminis hyacinthus وزعفران صقلّيّة وقيليقية).

- وبلينيوس أكثر من 15 نبتة بستانيّة سوى البرّيّة 21: 41 (70)،

- وفلورنتينوس الزّعتر thymon وزعتر البرّ thymbra والقضب kytisson والتّرنجان melisson،

- وبلاّديوس 27 نبتة شبيهة إلى حدّ ما مع نباتات كولوملاّ الّذي استشهد به مرارا في مؤلّفه وتصنيفها مثله إلى أعشاب وجنيبات وأشجار برّيّة وبستانيّة لكن مع اختلاف في تصنيف اثنتين منها ( 1: 37: 2).

   وقد ترد نفس النّبتة ( كالتّرنجان melisson باليونانيّة) بأسماء مختلفة عند الكتّاب اللاّتين ممّا يوحي باجتهادات مختلفة في التّرجمة من نصوص يونانيّة. ومن الملفت اقتران الكمّثرى بالزّعرور أو الخوخ البرّيّ عند فرجيليوس ( 4: 145) الّذي ذكر، وكذلك كولوملاّ وبلاّديوس، الكمّثرى بين مصادر العسل دون أرسطوطاليس وثيوفرستوس ووارّون وبلينيوس، وهي شجرة تناولها ماغون. هذا والنّحل يقطع في البحث عن الطّلع والرّحيق مسافات أبعد من مقاسات جنينة ( 2-3 كلم)، وإن كانت زيادة المسافة تُنقص كمّيّة الرّحيق بنقص عدد الخرجات وزيادة الاستهلاك أثناء الطّيران. وتوحي غراسة نباتات لتغذية النّحل- كما ذكر تا.ح. أيضا- ببلاد تقلّ فيها الغابات الطّبيعيّة كجلّ بلدان حوض المتوسّط؛ ويؤجّر النّحّالون اليوم في بعض البلدان مناحلهم لمالكي البساتين لتلقيح أشجارهم فبذلك يزيد إنتاج بعض أنواع التّفّاح مثلا 18 ضعفا، لكن لم يكن القدماء يعرفون تلك المزيّة الكبرى للنّحالة وإن لاحظوا اقتران عدد النّحل وكمّيّة العسل مع وفرة الزّعتر أو محصول الزّيتون ( تا.ح. 9: 40، فلورنتينوس ج 15: 2).

   وبالنّسبة للنّباتات الضّارّة ( خاصّة تلك الّتي تسبّب له الإسهال)،

- ذكر وارّون اللّوز ( ربّما لتبكيره في الإزهار كما أكّد هو وبلينيوس 16: 42 (103))، والقرانية وهي "شجرة جبليّة تكون بجبل لبنان وبغيره لها ثمر مثل الصّغير من التّفّاح إذا طاب ونضج احمرّ واصفرّ أيضا فيه حمضة في جوفه عجمة صلبة من جنس الزّعرور" ( ابن البيطار 1: 128) وأشار للإسهال بالبول ( 3: 16: 22)، وقد أشار هيجينوس أيضا نقلا عن القدماء ببول البقر والبشر لوقاية النّحل من الأمراض ( كولوملاّ 9: 13: 6)؛

- وذكر كولوملاّ 9: 13: 2 الفربيون tithymallus ( ويدعى تاكوت بالبربريّة واللّوبانة المغربيّة بلغة أهل مصر" حسب ابن البيطار 3: 78، ويدعى كذلك mecona وparalion حسب بلينيوس 20: 80 (210) وهو قريب من عشبة تفيد حلابتها ضدّ الهوامّ والسّموم ذكرها بلينيوس 5: (16)، 25: 38 (77) وأكّد أنّ يوبا النّوميديّ اكتشفها في جبال الأطلس وأطلق عليها اسم طبيبه، ونسبها ابن وحشيّة إلى بلاد إفريقية وذكر سمّيّتها، وربّما كذلك من البتوع الّذي ذكر ابن العوّام 29: 15 نقلا عن ابن سينا 6 أنواع منه أحدها الشّبرَم وأعطى اسمه في إفريقية وعند البربر ( تانغوت؟)، وهناك شبه بالتّسمية اليونانيّة الّتي فسّرها إيسيدوروس 17: 8: 77 بأنّها تعني شعر mallon الشّمس titana) وأشار بعلاجه مثلا بحبوب الرّمّان مفتّتة في الخمر ( 9: 13: 5، ونجاعة الرّمّان وخاصّة قشره في علاج الإسهال معروفة: كاتون 126، بلينيوس 23: 57 و60 (106 و112)، ديسقوريدس 1: 110، جيوبونيكا 8: 20 و16: 8 و17: 16، لاحتوائه على مادّة العفصين المستخدمة كذلك في دباغة الجلود كما ذكر مثلا بلينيوس 13: 34 (112)، وكان المصريّون القدماء يستخدمونه ضدّ الإسهال والدّيدان المعويّة، وذكر كلتا الفائدتين بلينيوس 23: 57 و58 (106 و108)، وجاء في الحديث الشّريف في مسند أحمد: كلوا الرّمّان بشحمه فإنّه دباغ للمعدة، كذلك ذكر ابن وحشيّة استخدام الرّمّان لإخراج "الحيتان الطّوال" أي الدّود الشّريطيّ من الجوف، وأشار ابن حجّاج بمداواة النّحل بالرّمّان والعفص مدقوقين ومخلوطين بالعسل)؛

- وذكر بلينيوس الخردل والقرانية 21: 61 (71) و21: 62 (72) موصيا بثمرة الغبيراء مسحوقة في العسل أو ببول إنسان أو بقر أو بحبوب رمّان منثورة في خمر، وسمّى أعشابا سمّيّة أخرى محلّيّة منها في غيتولية، أي إفريقية، عشبة الدّرياس thapsia، واسمها مشتقّ من Thapsus وهو اسم كانت مدينتان تحملانه قديما: واحدة في صقلّية أسّسها اليونانيّ لاميس حسب ثوكيديدس ( 6: 4) هي Magnisi حاليّا، وأخرى تقع في منطقة النّفوذ البونيقيّ وتعلمنا المصادر التّاريخيّة بوجودها في أواسط القرن 4 على الأقلّ وتذكر أنّ حنّبعل كان يملك مزرعة قربها، واكتُشفت في موقعها- راس ديماس- آثار مقبرة بونيقيّة  ( وتلك هي تسميتها باليونانيّة أمّا البونيقيّة فربّما كانت تشبه تفساح السّوريّة الّتي ذُكرت في مل3 4: 24 وأشار إليها كُرتيوس 10: 1: 19، وقد تكون الّتي ذُكرت بنفس الاسم في مل4 15: 16 في شمال فلسطين بالأحرى تفواح وفق السّبعينيّة أي التّفّاح بالعبريّة)، وإن كانت تلك العشبة الشّبيهة بالحلتيت أو القنّة وبالنّوع المدعوّ ferula communis توجد أيضا في جنوب أوروبّة وذكر ثيوفرستوس وجودها في أتّيكة وسمّيّتها ( ت.ن. 9: 20: 5)، وهي أنواع ( t.villosa, t.maxima, t.garganica)، والنّوع الإفريقيّ هو الأشدّ سمّيّة حسب بلينيوس ( 13: 43 (124-126)) الّذي عناه وذكر كذلك استخداماتها الطّبّيّة ( خاصّة كمصرّف للدّم، لعلاج الرّضوض مثلا، وذكر ثيوفرستوس أنّها مقيّئة ومسهلة  ومضرّة للماشية ت.ن.9 8: 3 و5، 9: 1 و5-6، 11: 2، 20: 3 وأشار بها ديوسقوريدس لتطويل غرلة الصّبيّ، وكسّيوس فليكس لصنع لزقة 3: 75 وعلاج آلام عرق النّسا 63: 4)؛

- وذكر فلورنتينوس الفربيون والخربق والدّرياس والأفسنتين وقرع البرّ ( 15: 2: 17) وأشار للإسهال بقشر الرّمّان مفتّتا في العسل؛

- كما ذكرها بلاّديوس ( 1: 37: 5) وقدّم وصفة للإسهال كعلاج بلينيوس ( 4: 15: 1 لكنّه ليس من مصادره).

   هناك فضلا عن الدّرياس وإلى حدّ ما الفربيون نباتات ذكرها كولوملاّ ( 9: 4: 2-7) تشير في رأينا إلى مصدر بونيقيّ بين مصادر هذه النّصوص:

- minor ilex ( أي على الأرجح وكما عند بلاّديوس 1: 37: 2 السّنديان الإفريقيّ الّذي ذكره بلينيوس 16: 12 (32) لا ulex، خاصّة أنّ فرجيليوس ذكر اتّخاذ النّحل أحيانا مأوى له تحت اللّحاء المجوّف، أي الخفّاف، أو في جذع سنديانة ilex نخر 2: 452-453، وكلتا الشّجرتين توجد في شمال إفريقية)،

- الصّنوبر pinus ( فهو على الأرجح المقصود لا الأفلوس الغاريّ tinus وقد صنّفهما بلاّديوس مع الأشجار بعكس كولوملاّ الّذي اعتبرهما من الجنيبات)،

- الأرز العطر odorata cedrus ( الّذي أشار فرجيليوس بإحراقه لطرد الثّعابين 3: 414-415 في وصفة تذكّر بما جاء عند بلينيوس عن خواصّ نشارته وثمره 24: 11 (19) وفي "ترياقات" نيقندر 52، وذكره بلاّديوس دون نعته 1: 37: 2)، فهو شجرة فينيقيةَ بلا منازع ومنه نوع ينبت في جبال الأطلس.

- الورد البونيقيّ punica وليس الجلّنار  balaustion( ديسقوريدس 1: 114، أي زهر الرّمّان البرّيّ أو المظّ كما يدعوه ابن وحشيّة) لأنّه عند كولوملاّ نبات بستانيّ ( وقد نعت بذلك وردا فرجيليوس: أناشيد الرّعاة 5: 17 وهوراتيوس: قصائد العيد المئويّ 4: 10: 4، والزّعفرانَ والدّمَ أوفيديوس: أيّام السّعود 5: 318 والتّحوّلات 2: 607 يعني "القاني"، لكنّ المقصود على الأرجح نوع قرطاجنّيّ من الورد). وقد أدرج كلّ الكتّاب اللاّتين الورد ضمن النّباتات الّتي يرتادها النّحل، ووصفه كولوملاّ مع بعض الزّهور المذكورة في الكتاب 10 ( كما أشار فلورنتينوس البيثينيّ والمتأثّر بديوفانس بغراسة زهور شبيهة ج 10: 1: 3 في جنينة الضّيعة للزّينة ولتغذية النّحل: الورد rodon والزّنبق krinon والبنفسج ion والزّعفران krokos)، ووصف بلينيوس الورد القورنائيّ بأنّه فوّاح الشّذا ويُتّخذ منه دهن طيّب ( كما أشار قبله ثيوفرستوس) وذكر أنّ إزهاره مبكّر في قرطاجنّة ( 21: 10 (19)). وهو غير الورد الفينيقيّ ( rosa phoenicia).

- القرنفل أو البنفسج الصّوريّ ( أو الأرجوانيّ؟) sarrana الّذي قد يشير إلى زهرة قانية كانت رمزا لدم أدونيس ( أو أفروديت/فينوس الّتي هبّت لإسعافه فجُرحت، وفي تسمية شقائق النّعمان أثر من تلك الأسطورة، سيما أنّه في 10: 287 مباشرة بعد الحديث عن أزهار فينوس وصف الورد بأنّه أسطع ألقا من أرجوان صور rosa mitescit sarrano clarior ostro.

- الوزّال (؟) spartum الّذي استبعده ( 9: 4: 7 لرداءة العسل المشتقّ منه، وبلينيوس كمصدر للشّمع 11: 8 (18)) والموجود خاصّة بإفريقية وإسبانية ( لكنّ أرسطوطاليس ذكره بين أغذية النّحل تا.ح. 9: 40 553ب).

8-1-3 آفات النّحل

   هناك اختلافات أيضا في قائمة آفات النّحل وأحيانا في تسمياتها اللاّتينيّة الّتي تبدو مستمدّة من نصّ يونانيّ.

   ذكر أرسطوطاليس "الدّودة الّتي تنسج العنكبوت وتفسد موم الشّهد وتولّد قريبا من الموم شيئا شبيها بالعنكبوت ويُمرض النّحل، وحيوانا آخر مثل الفراشة الّتي تطير حول السّراج وإذا تنفّست خرج منها شيء شبيه بغبار دقيق ولا يلسعه النّحل، وصنفا آخر يلسعه" و"قمل الأزهار" والدّبر sphes والقرقف aigithalos والخطّاف والوروار merops وضفادع النّقائع batrachos والبرّ ( أو الجرذون) phryne ( تا.ح. 8: 27 و9: 40).

  وأشار وارّون إلى الدّيدان uermiculi ( 3: 16: 17).

   واستفاض فرجيليوس، ممّا يبيّن أنّه استخدم مصدرا غير وارّون، فأشار إلى السّحالى الملوّنة lacerti والوروار meropes والطّيور الأخرى ( 4: 13-14)، والعظاية stellio والصّراصير blattae والزّنبور fucus والعثّ tinia والعنكبوت aranea ( 4: 239-250).

   وذكر كولوملاّ مستشهدا بفرجيليوس العظاية المسمومة uenatatus stellio والخنفساء scarabeus والعناكب aranea والعثّ tinia والفراشة papilio والصّرصور blatta والدّبّور crabro ودبابير كقمعة الدّوابّ oistroi ( 9: 14: 4)، والسّحالى lacertis والثّعابين anguibus ( 9: 7: 1).

   وذكر بلينيوس الدّبابير uespae والزّنابير crabrones والخطاطيف hirundines وبعض الطّيور الأخرى وضفادع الماء ranae وصوف الغنم الّذي قد تتلبّك فيه ( 11: 20 (61-62)) والعناكب aranei وفراشة الشّمع papilio والأرَض أو العثّ teredines الّذي ينشأ في خشب المنحلة ( 11: 21 (65)).

   وأشار فلورنتينوس إلى الحشرات الطّفيليّة ( الدّبابير والعناكب)، وإلى آكلات النّحل من الطّيور ( القراقف aegithalos والوروار meropes والخطاطيف chelidones) ومن الزّواحف ( العظايا saurai والسّحالى krokodeiloi- حسب معنى الكلمة الأصليّ الّذي ذكره مثلا هيرودوت في ك2 لا التّماسيح).

   وذكر بلاّديوس العظايا lacerti والصّراصير blattae والطّيور ( 1: 37: 4) وكذلك الدّود والعثّ والعناكب وفراش الشّمع ( 5: 7: 7) الّذي ينشأ دود من زبله ( 4: 15: 4) والزّنابير ( 9: 7) والقمعة ( 6: 10).

   واكتفى ابن حجّاج بقمّل النّحل وطير الشّقراق والخفّاش إذا رأى.

   توافق تلك الآفات جزئيّا أرسطوطاليس وتطابق بيئة شمال إفريقية ومصر وسورية أكثر من إيطالية واليونان. فهو لم يذكر العظايا والثّعابين ( وأكّد في محلّ آخر 8: 29 أنّ "في إيطالية جراذين لدغها مميت"، قصد العظاية stellio وهي غير سامّة)، وفي المقابل لم يذكر فرجيليوس وكولوملاّ ضفادع الماء ( لكنّ فرجيليوس أدرج ضفدع البرّ بين آفات الزّراعة 1: 184). وقد نستغربها لكنّها حقيقيّة. فمن آفات النّحل الّتي تلتهم العسل أو الشّمع أو النّحل نفسه: الحشرات ( كديدان الشّمع وفراشة دقيق البحر المتوسّط، وقمّل النّحل والنّمل والدّبابير وذئاب النّحل والصّراصير والخنافس وخنافس الجعران وفرس النّبيّ) والعناكب والزّواحف ( كالسّحالى والثّعابين) والبرمائيّات ( كضفادع الماء والطّين) والطّيور ( كالوروار والقرقف والخطّاف ونقّار الخشب وأبي الحنّاء) وكذلك الثّدييّات الّتي لم يذكرها أيّ كاتب ( كالفأر والجرذ والزّبابة والدّبّ): وقد تجد الفئران في الحبوب في مزرعة متكاملة ما يلهيها عن العسل، لكنّ الدّبّ خطر حقيقيّ على الضّياع القريبة من الجبال والغابات وكان يوجد في كلّ البلدان- وإلى عهد قريب في بعضها كلبنان- إلاّ إفريقية ( كما ذكر بلينيوس 8: 54 (131)، وربّما كان نادرا بالأحرى فقد وردت عبارة "دبّة ليبيّة" في الإنياذة 5: 37 و8: 368 وتوجد صور دببة على فسيفساء متحف باردو، إحداها من طبربة من أواخر ق 2 م رُسم فيها دبّان بين حيوانات معدّة للسّرك). وهناك أنواع من الوروار أو آكل النّحل، وحاليّا يوجد الصّنف merops apiaster بكثرة في شمال إفريقية وآسية الصّغرى حتّى إيران ويمرّ في هجرته بمصر وبلاد العرب وتوجد منه أعداد قليلة على سواحل المتوسّط الشّرقيّة، بينما يوجد بمصر على ضفّة النّيل آكل النّحل الصّغير m orientalis وكذلك النّوع الأزرق الخدّ m superciliosus كما يوجد نوع بينهما في اليمن على ساحل البحر الأحمر أبيض العنق m albicolli.

8-1-4 أمراض النّحل

   إلى جانب الإسهال ذكر الكتّاب مرض النّحل، وقد أشار إليه أرسطوطاليس ( تا.ح. 9: 40 626ب وذكر بخصوص آفات النّحل إلى جانب فراش الشّمع pyraustes حشرة تمرضه kleros) ووصفه فرجيليوس ( 4: 251-263): يبدو على النّحل "السّقام" و"يحول لونه" ويطرأ عليه "هزال فظيع"، وتراه يُخرج موتاه من الخليّة أو يتعلّق مترابطا بأرجله أمام بابها أو يقبع داخلها هامدا من الجوع والبرد محدثا طنينا متواصلا، وأورد كولوملاّ وصفا شبيها ( 9: 13: 7)، وبلينيوس آخر أوجز ( 11: 20: (63)). ويذكّر وصفه بمرض نوزيما الّذي ينتشر في المناطق المعتدلة الرّطبة في أواخر الشّتاء ويرافقه أحيانا إسهال، أو ربّما بالتّعفّن أو بعض أمراض العثّ الّتي يتّصف نحل شمال إفريقية بحساسيّة خاصّة إزاءها ( فمثلا أباد مرض العثّ الآسيويّ الأصل Varroa النّحل التّونسيّ تقريبا في الفترة 1978-1982، وقد وقّت فرجيليوس ببداية الرّبيع- خلافا لكولوملاّ- اللّجوء إلى أسلوب إنشاء النّحل من جثّة عجل 4: 305-307، ممّا يوحي بأنّ مرضا وبائيّا أباده في أواخر الشّتاء).

   ولا يُستبعد أن تصدر عن ماغون بعض العلاجات كالرّمّان مع نبيذ العنب المشمّس ( الّذي أشار به خاصّة كولوملاّ) والتّبخير بالحلبينة أو القنّة ( الّذي أشار به فرجيليوس 4: 264 وكولوملاّ 9: 13: 7 وكذلك عند إخراج الشّهد مع استخدام كانون فخّاريّ له طرف مستدقّ يوجَّه به الدّخان إلى داخل الخليّة 9: 15: 5 يشبه نوعا وصفه بكساموس للتّخلّص من الأخلاد بملء جحرها بالدّخان حتّى تختنق فتفرّ أو تموت ج 13: 7 وذكر كانونا لتبخير المنحل ج 16: 5 لكن دون وصفه، وأشار به أيضا بلاّديوس للتّطهير عند جني العسل 7: 7: 2). وتُنتج الحلبينة في "سورية" حسب بلينيوس ( 12: 86 (126)، واسمها اليونانيّ chalbane واللاّتينيّ galbanum فعلا من أصل ساميّ)، وكان الفينيقيّون يستعملونها بكثرة، ويجلبونها مع أنواع البخور الأخرى إلى بلاد اليونان حسب هيرودوت ( 3: 107 و110-111) الّذي ذكر التّبخير بها لإبعاد الثّعابين ( وأشار به لنفس الغرض ديوفانس ج 13: 9: 3، وفرجيليوس مع خشب الأرز 3: 414-415، وكولوملاّ 8: 5: 18، وبلينيوس 12: 40 (81) و86 (126)، وفلورنتينوس ج 13: 8: 2 و18: 2: 4 للهوامّ، وأفريكانوس ج 5: 48: 2، وبلاّديوس 1: 35: 11، وكتّاب عرب كابن الجزّار: اعتماد 3: 20، وذكره العهد العتيق: خر 30: 34، سيراخ 24: 21). 

8-1-5 البيئة الطّبيعيّة

   توحي إشارات أخرى إلى البيئة الجغرافيّة بشمال إفريقية. ذكر فرجيليوس مثلا أنّ الرّيح الشّرقيّة الجنوبيّة Eurus قد تفاجئ النّحل إن تأخّر في مرعاه في أواخر الصّيف فتبلّه أو تقذف به إلى البحر ( 4: 27-29)، وهي صورة تشبه ما أشار إليه وارّون ( 3: 16: 37 subito imbri..frigore subito مطر مباغت أو برد مفاجئ)، وكولوملاّ ( 9: 13: 11subitis imbribus aut turbinibus in siluis opprimatur تباغته في الغابة أمطار أو زوابع). وقد قدّموا وصفات لإنعاشه ( وارّون 3: 16: 37، كولوملاّ 9: 13: 4 نقلا عن هيجينوس الّذي اعتمد على "كتّاب قدماء"). يشير وصف فرجيليوس في رأينا إلى بيئة كساحل إفريقية الشّماليّ في أواخر آب، فتلك الرّيح الّتي "يحرق لفحها العنب كالنّار" في بيتيكة أيّام الصّيف ( حسب كولوملاّ 5: 5: 15 وبلاّديوس الّذي يدعوها Uulturnus 1: 6: 5 وهي نفس الرّيح كما ذكر كولوملاّ 5: 5: 15 و11: 2: 65)، قد تأتي في أواخر آب على ساحل تونس الشّماليّ محمّلة بالمطر من المناطق البحريّة الشّرقيّة، وتدفع إلى البحر شمال السّاحل، ويصحّ ذلك أيضا على ساحل صقلّية الشّماليّ، أمّا في بيتيكة وسواحل شمال إيطالية فتأتي من البحر وتدفع نحو البرّ (  كذلك تدفع السّفن في البحر الإيونيّ على الشّاطئ كما كتب فرجيليوس 2: 107-108)، وفي الواجهة الشّرقيّة للمتوسّط تدفع إلى البحر لكنّها لا تكون محمّلة بالمطر في تلك الفترة. ولم يكتب فرجيليوس اسم تلك الرّيح اعتباطا، فقد ذكرها أيضا مع المطر ودون اقتران ضروريّ كخطرين يهدّدان النّحل ( 4: 191-192)، وفي تصويره لأسلوب إنشاء النّحل من جثّة ثور- ورغم اتّخاذه مصر إطارا له- شبّه خشارم النّحل المتطايرة فوق الهيكل المجرّد من اللّحم بالودق النّازل من سحب الصّيف ( 4: 312-313). وذكر كولوملاّ هبوبها في إيطالية في بداية شباط وأواسط أيلول وتشرين2 ( 11: 2: 15، 65 و84) أمّا عند فرجيليوس فهي شتويّة في إيطالية ( 2: 339). والصّورة تعني وجود البحر ومرعى النّحل شمالا، وفعلا أشار بلاّديوس بغراسة نباتات له شمال الخليّة ( 1: 37: 3).

   وقد أكّد أرسطوطاليس، أهمّ مصدر يونانيّ معروف للكتّاب اللاّتين في باب النّحالة، أنّ "النّحل يستشعر اقتراب الجوّ الرّديء أو المطر، وعلامة ذلك أنّه لا يطير بعيدا بل حتّى والهواء صاف يبقى قريبا، فيعلم القوّام أنّه يتوقّع الجوّ الرّديء" ( تا.ح. 9: 40 627ب)، "وإذا أصابه ريح استتر بحجر يكون قبالة الرّيح" ( 626أ). وأكّد فرجيليوس أيضا أنّه يستشعر العاصفة فلا يبتعد عن الخليّة عند اقترابها ( 4: 191-192)، وهو حسّ يوجد عند بقيّة الحيوانات ( 1: 373-389، 398-423) مع أنّها لم تؤت مثله قبسا من العقل الإلهيّ ( 4: 220)، ممّا يجعل مباغتته وهو في المرعى مستبعدا، ولعلّ ذلك ما جعل وارّون يستدرك: "وقلّما يفوته ذلك" ( 3: 16: 37). وقد أكّد كذلك أراتوس الّذي يحمل النّشيد الأوّل تأثيره أنّ النّحل يعود من مراعيه عند اقتراب العاصفة ( الظّواهر 1028-1029). وذلك يوحي بأنّ صورة العاصفة الّتي تفاجئه مستمدّة من مصدر آخر قد يكون ماغون.

   ويشير إلى قرب المزرعة من البحر حديث فرجيليوس عن التجاء بعض النّحل إلى صخور الخفّان الإسفنجيّة pumicibus cauis ( 4: 44، لكنّه سمّى كذلك أماكن بعيدة عن البحر بين المواضع الّتي ذكرها في إيطالية)، وإشارة كولوملاّ باجتنابها ( 9: 5: 6)، وإلحاح كلّ الكتّاب على تجنيب النّحل رائحة السّراطين المشويّة ( لكن يمكن أن تكون نهريّة)، وذلك تحديدا وضع مزارع البونيقيّين ويوحي به أيضا استخدام ماء البحر لإعداد الشّمع البونيقيّ ( ب 21: 49 (83-84)). وهي في نفس الوقت قريبة من الجبال كما يوحي تحبيذ كولوملاّ إقامة الخليّة أسفل الوادي ليصعد النّحل فارغا ثمّ يعود من أعلى الجبل محمّلا بالرّحيق ( 9: 5: 1) وتأكيد كلّ الكتّاب على تجنّب الصّدى الآتي من الصّخور ( ف 4: 50) والوديان ( ك 9: 5: 6). وهذا أيضا ينطبق على المزارع البونيقيّة ( وتصوّر أبواب أخرى من أدب الفلاحة بيئة قريبة من البحر والجبل: مثلا رعي البقر في الشّتاء الكلأ قريبا من البحر وفي الصّيف في الجبال المشجرة: وارّون 2: 5: 11، كذلك 1: 6: 5، أو إشارة كولوملاّ باتّخاذ ضيعة على السّاحل لكن تبعد قليلا عن الشّاطئ، وورد في عدّة مواضع من كتب الفلاحة تحبيذ الضّياع القريبة من البحر، والمقامة على منحدرات الجبال والتّلال وهي فعلا مواقع مناسبة للكروم والزّيتون والأشجار عموما). 

8-1-6 مؤشّرات أخرى

   هناك أيضا عند وارّون ( 3: 16: 9) وفرجيليوس وكولوملاّ الصّور العسكريّة للنّحل وهي لا توجد في تا.ح. ولا حتّى في جيوبونيكا، ويمكن أن تصدر عن قائد، ومنها صورة الملك القائد العسكريّ ومجلس شيوخ المنحل الّذي قد يرفض، إن تصارع اثنان على المُلك وأزيل أكبرهما، الإذعان للملك الجديد ( كولوملاّ 9: 11: 2)، فهي قريبة من واقع قرطاج السّياسيّ كما يمكن أن يصوّره كاتب ذو خلفيّة عسكريّة بين ق 5 وق 3 ق م. ولئن اتّخذ فرجيليوس معارك النّحل لتصوير واقع إنسانيّ هو الحرب الأهليّة ( وقد يرمز ملكاه إلى أغسطس وأنطونيوس)، فذلك ليس غرض وارّون وكولوملاّ. وهناك صور عسكريّة في مواضع أخرى عند فرجيليوس وكولوملاّ خاصّة.

  وهناك سياسة جني العسل وحدّ عدد الزّنابير ( بلينيوس 11: 15 (38)، كولوملاّ 9: 15: 3-4)، وأداتا قطع الشّهد اللّتان وصفهما كولوملاّ مباشرة بعد هذه الفقرة، والبيئة الحارّة الّتي توحي بها إشارته بالجني قبل أن تشتدّ الحرارة، مع أنّ أحد موسمي الجني الخريف.

 

تابع