ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

6- تأثيرات محتملة: كتّاب جيوبونيكا

 

حواش 

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 6- تأثيرات محتملة: كتّاب جيوبونيكا ( وهبياتريكا)

 

مقدّمة

   لم تذكر النّصوص اليونانيّة المحفوظة ماغون إلاّ في 4 مواضع من هبياتريكا ( علما بأنّ نصّ هيرقليس عن الحصر يكرّر نصّ أبسرتوس). لكنّها حفظت نصوصا لكسيوس ديونسيوس ولديوفانس تسمح بالتّعرّف على أفكاره إلى حدّ ما وهي غير كافية من حيث الكم ومخلوطة بأفكار غيره أو معدّلة لتوافق بيئة أخرى. تعود مجموعتا هبياتريكا وجيوبونيكا ( في صيغتها اليونانيّة) إلى ق 10، وهو عصر نهضة بيزنطيّة واكبته محاولة إحياء الثّقافة اليونانيّة، بجمع النّصوص القديمة ( من ذلك أيضا ديوان جمع فيه كفالاس قصائد من النّوع الفكه الخفيف مازجا مجموعات سابقة لمليغروس ح 90 ق م وفيليبوس التسّالونيكيّ ح 40 م وأغاطياس ح 570 ق م مع أشعار كنسيّة ونبوءات من معبد أبولّون وغلمانيّات لستراتون ق 2 م، ومع تبويب مثلهما حسب المواضيع لا الكتّاب). وقد جُمعت نصوص جيوبونيكا من كنّاش بيروتيوس الّذي حوّره كسيانوس باسّوس بدمج نصوص لديديموس خاصّة، مع إضافات كالأساطير الوثنيّة عن أصل بعض النّباتات ( ك11)، وفصل عن موسم غراسة البقول في القسطنطينيّة ( 12: 1).

   لكن بينما تبدو إسنادات هبّياتريكا جديرة بالثّقة ( لأنّ البيطرة ميدان تخصّصيّ عدد الكتّاب فيه محدود، وأنّ جلّ نصوص أبسرتوس جاءت في شكل رسائل أعاد هيرقليس غالبا صياغتها بتأنّق، وكذلك بعض نصوص بيلاغونيوس الّذي حُفظ مؤلّفه الأصليّتدعو إسنادات جيوبونيكا إلى الاحتراز. فقد نجد في نفس الفصل استشهادا بكاتب متأخّر عن الّذي ورد النّصّ باسمه ( كديديموس في فصول باسم ديوفانس 10: 11: 2، 10: 20: 3 و10: 76: 9 أو بكساموس 10: 84: 6 و13: 4: 9 أو فلورنتينوس 10: 37: 3-4، 10: 90: 3)، أضافه حتما أحد جامعي تلك النّصوص دون ورود ما يوضّح تلك الإضافات، ممّا يجعل صعبا معرفة الكاتب الحقيقيّ لبعض الفقرات، ولا بدّ للتّأكّد منه من مقارنة شتّى النّسخ. نقرأ في الفصل 10: 43 مثلا: "يُغرس العنّاب من قضبان مأخوذة من أواسط الشّجرة كما كتب ديديموس في فلاحته"، والفصل منسوب إلى وندانيوس السّابق لديديموس. وقد يحمل فصل اسم كاتب يرد كذلك في صلبه ( كما في 13: 8: 8 أو 16: 22: 1 و3). ويسهّل تشابه أسماء بعض الكتّاب كفرنتونوس وفلورنتينوس الخلط بينهم. وبين النّسخ اليونانيّة ( الّتي توجد بينها بعض الاختلافات) والتّرجمات ( الّتي اعتمدت على نسخ أقدم) اختلافات. ففصل ج 2: 44 لفلورنتينوس هو في ترجمة أسطات لديمقراطيس، وفقرة ج 2: 21: 1 من فصل لبارون لا يوجد كجلّ النّصوص المنسوبة إليه في مؤلّف وارّون وردت في النّسخة السّريانيّة بدون ذكره، وعند ابن العوّام باسم يونيوس. نرى كذلك عدّة اختلافات في الإسناد بين النّصّ اليونانيّ والتّرجمة اللاّتينيّة يعود قسم منها إلى إغفال الأخيرة إسنادات منها ما جاء بهذه الصّيغة: "لنفس الكاتب"، وهي التّالية: 1: 3 لأراتوس ( دلائل المطر)، 1: 7-8 لزرادشت ( متى يكون القمر تحت الأرض أو فوقها، ظهور الشّعرى)، 1: 9 لكونتليانوس ( ظهور وغيبوبة الكواكب)، 1: 14-15 لأفريكانوس ( البرَد، ضُمّ النّصّان ونُسبا إلى فلستراتوس)، 1:؛ 16 لأفريكانوس ( البرق)، 2: 2 لبارون ( العمّال)، 2: 5 ( النّباتات الدّالّة على الماء، لم يُذكر المؤلّف، وفي النّصّ اللاّتينيّ ضُمّ إلى الفصل السّابق وهو لبكساموس)، 2: 14 لديديموس ( وقت زراعة الحنطة)، 2: 31 لدمغرون ( الجريش)، 2: 37 لفلورنتينوس ( الفول، نُسب إلى ديديموس)، 2: 39 لفلورنتينوس ( التّرمس)، 4: 5 لتارنتينوس ( للحصول على عنب مبكّر)، 4: 15 بلا مؤلّف ( حفظ العنب، نُسب  إلى ديديموس)، 5: 9 لفلورنتينوس ( غراسة الكرم)، 5: 15 لفرنتونوس ( لا يُستحبّ خلط أنواع مختلفة من الكرم، نُسب إلى فلورنتينوس)، 5: 16 لسوتيون ( غراسة عدّة أنواع من الكرم دون خلطها)، 5: 42 لبارون ( علاج الكرمة المجروحة)، 5: 45 لديوفانس ( وقت قطاف العنب)، 5: 47 لليونتيوس ( معالجة العنب الحامض)، 6: 7-8 لفلورنتينوس ( أساليب التّقيير)، 6: 19 لديمقريطس ( معالجة السّلافة الحامضة)، 7: 13 لدمغرون ( معالجة الخمور لتعتيقها)، 7: 15 لسوتيون ( لمعرفة هل تعمّر الخمور)، 7: 20 لبمفيلوس ( للحصول على نبيذ عطر حلو)، 7: 34 لليونتيوس ( مشروبات مسكرة أخرى)، 8: 36-37 لسوتيون ( إعداد خلّ حلو أو ثقّيف)، 8: 39-40 لأبوليوس ( لجعل الخلّ حرّيفا، اختبار الخلّ هل خُلط بماء)، 8: 41 لديمقريطس ( مضاعفة حجم الخلّ)، 8: 42 لفيثاغور ( خلّ العنصل، نُسب إلى ديمقريطس)، 9: 14 لأفريكانوس ( الكرم الزّيتونيّ، نُسب إلى وارّون)، 9: 17 لديديموس ( تركيب الدّرّاق)، 9: 28 لديمقريطس ( حفظ السّفرجل)، 10: 41-42 لفلورنتينوس ( الكرز: غراسته وحفظ ثماره، أُسندا إلى بمفيلوس)، 10: 48 لديديموس ( وقاية شجر التّين من الدّود)، 10: 53 لأفريكانوس ( للحصول على تين أبيض وأحمر)، 10: 60-61 لديمقريطس ( لوز مكتوب، علاج شجرة اللّوز العقيم، نسبت النّسخة اللاّتينيّة 61 إلى نفس الكاتب ولم تذكر مؤلّف 60، أمّا 59 فكاتبه أفريكانوس)، 10: 72 لأنطوليوس ( غراسة الخرّوب، أُسند إلى "نفس الكاتب" أي ديديموس كاتب 71)، 10: 81 لبارون ( تعاهد النّبات)، 11: 3 لكونتليوس ( غراسة الغار)، 11: 7-9 لفلورنتينوس ( غراسة الآس وحفظ حبوبه وغراسة البقس، أُسندت إلى ديديموس)، 11: 28 لسوتيون ( الفول المصريّ/القرت)، 12: 2 لفلورنتينوس ( الجنائن)، 12: 3-4 ( الأرض والأزبال المناسبة للبقول)، 12: 5 لديمقريطس ( جنينة خضراء مزهرة)، 12: 8 لأبوليوس ( وقاية البقول والأشجار من الذّراريح)، 12: 11 لأفريكانوس ( الإضرار بالمبقل)، 12: 17 لبكساموس ( الكرنب)، 12: 40 لبكساموس ( الرّجلة)، 13: 10 لبكساموس ( النّمل)، 13: 16 لزرادشت ( الذّراريح#)، 14: 3 لأفريكانوس ( تثبيت الحمام)، 14: 4 لسوتيون ( حفظ الحمام من النّمس)، 14: 21 لأنطوليوس ( صيد الطّيور)، 15: 8 لليونتيوس ( وقاية النّحل من السّحر)، 17: 2 لفلورنتينوس ( البقر)، 17: 14 بلا مؤلّف ( الوقاية من كلّ الأمراض مع وصفة لديمقريطس، وإليه نسبت التّرجمة الفصل)، 18: 4-5 لأفريكانوس ( لتتبع الغنم، الكبش النّطّاح)، 18: 6 لديمقريطس ( معرفة لون الحمَل مسبقا)، 18: 8 لديديموس ( جزّ الغنم)، 19: 5 لإكسينوفون ( الأيائل)، 20: 2 لأُبّيانوس ( طُعم للسّمك). مع ذلك لا ينبغي أن نتصوّر أنّ الإسنادات وُزّعت عشوائيّا، وبوسعنا مثلا الوثوق بالفقرات الّتي وردت بالصّيغة التّالية: "يقول فلان". كذلك نرى أنّ بعض الفصول المنسوبة لديوفانس تطابق ما نسب إليه وإلى ماغون كتّاب لاتين، وأنّ استشهادين بفرجيليوس وردا فيها ( 2: 14: 3 لديديموس عن موسم بذر الحنطة والشّعير، 2: 18: 12 لأفريكانوس عن نقع البذور في الماء والنّطرون) يطابقان أبياتا من جيورجيكا ( 1: 208-211 و219-224 و1: 195، وكان كولوملاّ 2: 8 و10 قد ذكرهما له وكذلك بلينيوس 18: 46 (202) و45 (157)).

   لا شكّ أنّ نصوص المجموعتين تعتمد على مصادر أقدم: يكفي لنرى ذلك أن نقارن مثلا مواصفات الحيوانات المثلى الّتي وردت في جيوبونيكا ( وجلّها لفلورنتينوس) بالّتي قدّمها وارّون وكولوملاّ، وقد تردّد نقّاد في تحديد أيّ منهما مصدرها، ناسين أنّ نصوصهما ذاتها منقولة من مصدر يونانيّ- هو ماغون بالنّسبة للبقر كما أخبرنا كولوملاّ، وكذلك على وجه الاحتمال لبقيّة الحيوانات بسبب التّشابه الّذي أشرنا إليه بين عدّة جوانب من تلك المواصفات. ويُظهر عرض وجيز لأفكار كتّاب جيوبونيكا المختلفين تأثيرا متفاوتا لماغون في بعضهم. أمّا البياطرة فلقلّة المادّة المنسوبة إلى ماغون يبدو من الأفضل دراسة الموضوع في فصل خاصّ.

   أ وردت المصادر العربيّة أسماء بعض كتّاب المجموعتين ( ديمقراطيس، بقراط، بارون، أنطوليوس). لكن حتّى في تلك الحالة توجد اختلافات ( مثلا بين استشهادات ابن العوّام ببارون والنّصوص المنسوبة إليه في جيوبونيكا، أو نعت ابن العوّام أنطوليوس بالإفريقيّ ممّا يعيد إلى الذّهن أفريكانوس). ولم تذكر كتّابا كديديموس وديوفانس الّذي هو أحد مصادر بيروتيوس حسب فوتيوس، وتوجد نصوص باسمه في جيوبونيكا. وأوردت أسماء أخرى يصعب تحديد أصحابها بين كتّابهما. لذلك نفضّل دراسة الكتّاب اليونان المذكورين في كتب الفلاحة العربيّة على حدة، ومنهم كسينوس الّذي يوحي اسمه بكسيوس ديونسيوس وكسيانوس باسّوس.

6-1 ديمقريطوس/بولوس المنديسيّ

6-1-1 فلاحة ديمقريطس

   دفع اتّفاق ماغون في بعض الأفكار ( كتوجيه الكرم أو إنشاء النّحل) مع "ديمقريطس" الّذي وردت عدّة نصوص منسوبة إليه عند الكتّاب اللاّتين وفي جيوبونيكا وترجمات "الفلاحة الرّوميّة" وعند ابن حجّاج وابن العوّام وكتّاب آخرين إلى تأكيد تأثّره به، لأنّهم خلطوا بينه وبين الفيلسوف الذّرّيّ الّذي يوحي نصّا كولوملاّ 3: 12 و9: 14: 6 أنّه سابق له. لكنّ الدّراسات الحديثة بيّنت أنّ الكتابات المنسوبة إليه من تأليف بولوس المنديسيّ الّذي كتب في أوائل ق 2، بل قد يعود بعض ما جاء باسم "ديمقريطس" إلى فترة متأخّرة. مع ذلك تصوّر سبيرنتسا أنّ ماغون تأثّر ببولوس، وهو افتراض لا تؤيّده اعتبارات الزّمان وأمور أخرى.

6-1-2 "ديمقريطس" عند اللاّتين

   أدرجه وارّون ضمن من كتبوا أشياء متفرّقة حول مسائل شتّى في الفلاحة.

   بينما قدّم كولوملاّ عدّة آراء له: توجيه حقل الكروم 3: 12، معرفة جنس الجنين، 6: 28، إبقاء الحمام في برجه 8: 8: 7، توليد النّحل من جثّة ثور 9: 14: 6، تسييج الجنينة 11: 3: 4، وقاية الحبوب من الحشرات 11: 3: 61 بنقعها في عصارة المخلّدة، التّخلّص من الذّراريح ( 11: 3: 64). وهو في ذهنه الحكيم الأبديريّ ( 1: 1). تفطّن إلى أنّ كتاب "العمليّات" Cheirokmeta من وضع بولوس ( 7: 5: 17)، لكنّه نسب إليه كتابي "الفلاحة" Georgikon ( الّذي ذكره في 11: 3: 2) و"المتضادّات" Peri Antipathon ( الّذي استمدّ منه وصفة سحريّة 11: 3: 64)، بينما هما أيضا لبولوس الّذي قدّم وصفته لغراسة الخيار ( 11: 3: 53) ولم يدرجه في قائمة كتّاب الفلاحة المستمدّة من ديونسيوس ( الّذي كتب قبل نشر أعمال "ديمقريطس").

   وهو الأبديريّ أيضا في ذهن بلينيوس، كما نرى من عدّة قرائن، كتقديمه على ثيوفرستوس 15: 40 (138)، قصّة تأجير معاصر الزّيت 18: 48 (273-274)، قصّة أخرى ذكر فيها اسم أخيه 18: 78 (341)، تقديم بعض آرائه الفلكيّة 18: 74 (312). وقد نسب إليه Cheirokmeta ( 24: 102 (160)) ولم يذكر بولوس قطّ. وروى عنه أخبارا عجيبة كمعرفته بالدّلائل الّتي سمحت له بالتّكهّن بزيادة سعر الزّيت وجني مال طائل بتأجيره مسبقا كلّ معاصر الزّيت، وهي قصّة تُروى أيضا بين الرّومان عن الفيلسوف سكستيوس، ورواها قبله أرسطوطاليس عن طاليس: "السّياسة" 1: 11 1259أ. وقد نسب إليه عدّة أفكار ذات طابع سحريّ غالبا وترتكز على فكرة التّحابّ والتّضادّ الكونيّين. وقدّم بعضا منها: 2: 5 (14) الله، 7: 55 (189) العسل يعيد الحياة، 8: 22 (61) التّنّين، 10: 70 (137) طيور من دم الثّعبان، 11: 28 (80) الذّئاب، 13: 47 (131) الفصّة الشّجريّة غذاء للنّحل، 14: 4 (20) معرفته بكلّ الكروم اليونانيّة، 15: 40 (138) غراسة الغار، 17: 2 (23) توجيه الكرم والشّجر إلى الشّمال، 17: 11 (62) غراسة الآس، 18: 8 (47) التّرمس للقضاء على الحشائش، 18: 45 (159) عشبة المخلّدة لحفظ البذور، 18: 62 (231) و68 (273-274) و74 (312) و75 (321) و78 (341) آراء في الفلك والدّلائل، 20: 9 (19) و13 (28) و53 (49) خواصّ نباتات، 24: 99 (156) و30: 2 (9-10) تعلّمه الحكمة والطّبّ عن المجوس ووضعه كتابا عن الأعشاب مستمدّا منهم 25: 5 (13) وآخر عن الحرباء 28: 29 (112)، 28: 16 (58) رأيه في الجماع، 21: 36 (62) و24: 102 (160)، 25: 5 (14)، 26: 9 (19)، 27: 114 (141)، 28: 2 (7) و29 (112-118)، 29: 22 (72)، 32: 18 (49)، 37: 11 (34) و18 (69) و54 (146) و55 (160) و58 (160) و70 (185) نباتات وحيوانات وعقاقير وأحجار عجيبة ( مثلا: نبات يضيء باللّيل 21: 36 (62) وعشبة تسمح بإنجاب أبناء يجمعون الوسامة والصّلاح والسّعد 26: 9 (19) وأخرى تزيل الطّحال إن عُلّقت 3 أيّام 27: 114 (141)، وأبدى شكّه في بعض أقواله).

   استنكر أولوس جلّيوس تلك الأفكار كسخافات لا تليق بالحكيم الأبديريّ وضعها كتّاب باسمه لإلقاء هيبته على كتاباتهم ( اللّيالي الأتّيكيّة 10: 12) وروى ( 10: 17) كشيشرون أنّه أعمى عينيه كيلا تشغلاه عن تأمّلاته ( أمّا ترتلّيانوس فعلّل ذلك بخوفه من فتنة النّساء). ذكر ديوجينس نقلا على الأرجح عن سوتيون أنّه زار الهند والحبشة فضلا عن مصر وكلدة وفارس، وأنّه كان يعتزل في المقابر للتّفكير وأطال عمره أيّاما لئلاّ يحرم موته أخته من المشاركة في أحد المهرجانات. ولم يذكر بين 5 أسمياء له بولوس. وواصل سينسيوس وجرجي سنكلّوس التّقليد الّذي يجعله تلميذا لأستانس والمصريّين. وغريب خلط القدماء بين الرّجلين، فبولوس كما ذكرت سويداس من أتباع فيثاغور الّذي يختلف مذهبه عن نظريّة ديمقريطس الطّبيعيّة ولم يؤثّر فيها كما زعم ثراسيلوس وغلوكوس الرّجيونيّ، بل يبدو مناقضا لها بنزعته الرّوحانيّة الحريصة على خلاص النّفس وغير المكترثة بتركيب العالم المادّيّ كما أكّد أرسطوطاليس. قد يعود ذلك إلى التّوليف بين الفلسفات في العصر الهلّينستيّ رغم استفحال النّزعة المذهبيّة في نفس الوقت ( وهو تلفيق نجده أيضا في الأفكار المنسوبة إلى أنباذقليس في كتابي "الطّبيعة" الأيونيّ النّزعة و"التّطهّرات" الفيثاغوريّ، وفي ما نسب فلاسفة إسلاميّون إلى أرسطوطاليس من أفكار أفلاطونيّة محدثة). وإلى تأثّر كليهما بأفكار شرقيّة ( الّذي هو حقيقة أضاف إليها القدماء عناصر خياليّة)، وقبول فيثاغوريّة ذلك العصر لعناصر من فلسفة ديمقريطس كطبيعة النّفس النّاريّة ( أرسطوطاليس: النّفس 1: 2 5أ) الّتي قال بها كذلك هيرقليطس، أو التّولّد التّلقائيّ ( فرغم أهمّيّة مفهوم النّفس عند فيثاغور نسب إليه فرفوريوس في "حياة فيثاغور" 44 فكرة تولّد البشر وبقيّة الأحياء من تخمّر طين الأرض)، أو وحدة المادّة ( الّتي يتماشى معها كما مع فكرة تناسخ الأرواح الفيثاغوريّة التّطابق الجوهريّ بين الكائنات الّذي يشكّل فكرة محوريّة في مذهب بولوس). عموما اعتنق مفكّرو العصر الهلّينستيّ جانب الفيثاغوريّة الدّينيّ الطّقوسيّ أكثر من مضمونها الفلسفيّ الأصليّ.

6-1-3 ديمقريطس في جيوبونيكا وهبياتريكا

    في جيوبونيكا وردت النّصوص التّالية باسم "ديمقريطوس":

الفصول: 2: 6 البحث عن الماء، 2: 41 معالجة البقول لتسهيل طبخها، 4: 7 عنب بلا عجم، 4: 10 حفظ العنب من الدّبابير، 5: 4 توجيه الحقل، 5: 5 صلاحيّة الأراضي القريبة من البحار والأنهار لغراسة الكرم، 5: 35 معالجة الكروم العقيمة، 5: 43 التّكهّن بمحصول الخمر، 5: 50 مكافحة الحيوانات المتلفة للعنب، 6: 19 إزالة الحموضة من السّلافة، 7: 4 معالجة العنب إذا ابتلّ بالماء، 7: 8 اختبار لمعرفة الغشّ في السّلافة أو الخمر، 7: 27 معالجة النّبيذ إن سقط فيه حيوان، 7: 32 علاج الإدمان، 8: 32 إعداد نقيع للفواكه، 8: 41 مضاعفة كمّيّة الخلّ، 9: 12 منع سقوط الزّيتون، 9: 25 معالجة الزّيت إن سقط فيه فأر، 10: 5 معالجة النّخلة لإنتاج ثمر جيّد، 10: 14 معالجة الدّرّاق ليحمل نقوشا، 10: 15 أو للحصول على ثمر أحمر، 10: 25 حفظ الكمّثرى، 10: 27 تشكيل السّفرجل على صورة الحيوان، 10: 35 زيادة إنتاج الرّمّان، 10: 47 معالجة التّين لتحمل ثماره كتابة، 10: 51 إنضاج التّين المبكّر، 10: 60 للحصول على لوز فيه نقوش، 10: 67 لتيبيس أغصان الأشجار، 10: 73 تسمية الفواكه، 10: 79 معالجة الأشجار الذّاوية، 10: 80 وقاية الأشجار من الطّيور، 10: 89 وقاية الأشجار والزّروع من الماشية، 12: 6 لتكون الجنينة خضراء مزهرة، 13: 1 مكافحة الجراد، 13: 11 مكافحة البعوض، 14: 5 وقاية أبراج الحمام من الثّعابين، 14: 8 حضانة البيض الاصطناعيّة، 15: 9 إبادة الزّنابير، 17: 4 تقوية الثّيران، 17: 9 كيلا يجهدها العمل، 18: 6 معرفة جنس الجنين، 19: 4 جنس الأرنب، 19: 8 توقّي الخنازير البرّيّة، 20: 4 طعم لجلب الأسماك.

الفقرات: 1: 5: 2 الاستدلال على الجوّ من حالته يوم الانقلاب الشّتويّ، 1: 12 الدّلائل، 2: 14: 4 موسم البذار، 2: 42: 3 مكافحة الأعشاب الطّفيليّة، 5: 2: 19 خمر كرمة الدّرياق، 5: 45: 2 وقت جني العنب، 11: 5: 4 التّسييج، 11: 13: 2 تسمين الماشية، 11: 16: 2 غراسة شجر الأرز، 11: 18: 9 ريّ الورد، 13: 8: 5 ضدّ الثّعبان، 13: 9: 6 علاج اللّديغ، 13: 14: 9 إبعاد البقّ، 14: 9: 6 تغذية الصّيصان، 15: 2: 21 إنشاء النّحل من جثّة ثور، 15: 7: 6 الزّيت والعسل لتمديد العمر، 17: 14: 3 وقاية البقر من الأمراض، 19: 7 علاجات نباتيّة لأمراض الخنازير، 20: 6: 3 صيد الأسماك.

   في هبياتريكا نُسب إليه النّصّ 39: 3 الزّحار ( يطابق جزء منه كولوملاّ 6: 7: 2)، 85: 8 طرد البعوض ( نفس النّصّ ج 13: 11). وذُكر في نصّين لديديموس من ه 85-86 أحدهما عن إبعاد البقّ ( يطابق ج 13: 9: 6 من فصل باسم ديوفانس)، والآخر عن مكافحة الثّعبان ( يطابق اج 13: 8: 5 من فصل لفلورنتينوس).

6-1-4 ملاحظات

   نسبت مصادر لاتينيّة أو عربيّة إليه بعض الأفكار الّتي جاءت في المجموعتين وأخرى إلى غيره، ونسبت إليه أقوالا أخرى وردت فيهما باسم غيره. نلاحظ مثلا أنّ أرسطوطاليس أورد لديمقريطس الأبديريّ رأيا عن جنس الجنين غير الّذي في ج 18: 6 ( إذ ربطه بجهة الرّحم الّتي يتكوّن فيها وهي فكرة خاطئة وردت في نصوص طبّيّة رافديّة من عصر الكاشيّين في أواخر الألف 2، فنّدها سورانوس حسب قوله: "أمراض النّساء" 1: 45)، ولم يذكر فكرة إنشاء النّحل من جثّة عجل مع أنّه ناقش في "تاريخ الحيوان" و"تولّد الحيوان" شتّى الأفكار حول تولّد النّحل. وفي الفصل عن أسماء الفواكه تحدّث عن الحكماء الّذين كتبوا في الفلاحة- قبله طبعا ممّا يُضعف احتمال أن يكون الفصل للأبديريّ ( 10: 73: 1 epeide oi ta georgika prepsantes sophotatoi andre…).

   عدّة وصفات منسوبة إليه في جيوبونيكا ذات طابع سحريّ ( ج 10: 67، 19: 8، 2: 42: 3، 13: 8: 5، 13: 9: 6، 13: 14: 9)، أو تنمّ عن اهتمامات كالّتي نراها عند المشتغلين بالخيمياء ( إعطاء صفات عجيبة للفواكه من حيث اللّون والشّكل والتّركيب ج 4: 7، 10: 14 و15 و27 و47 و60) ونجدها عند كتّاب لاحقين وبالأخصّ أفريكانوس ( ج 10: 9 و16 و31 و66)، لكنّ فكرة تشكيل بعض الفواكه كالقثّاء واليقطين توجد أيضا عند ثيوفرستوس ( ت.ن. 7: 3: 5 وأ.ن. 5: 6: 4 و7) وبلينيوس 19: 23 (63) و19: 24 (70)، وكونتليوس 12: 19 والأندلسيّين- بينما يبدو أسلوب تخيّر شكل اليقطين بزرع بزور من العنق أو البطن حسب تفضيل الاستطالة أو الاستدارة طبيعيّا وقد أورده كولوملاّ ( 10: 381-385) وبلينيوس ( 19: 24 (72)) دون ذكر مصدره وبلاّديوس نقلا عن غ مرتياليس ( 4: 9: 9). ويشير بعض تلك النّصوص إلى بيئة مصريّة ( إلقاء ريشة أبي منجل على الحيّة 13: 8: 5، سقي الكرم بعصارة السّلفيون opon Kyrenaikon 4: 7: 3، إضافة النّطرون عند البذار 2: 41: 1)، ويدلّ على أنّ تلك الأفكار لبولوس لا لديمقريطس الأبديريّ.

   وتشير قرائن أخرى إلى بيئة غير مصر وتوحي بأنّها لكاتب آخر: مثلا ربط موسم الزّرع بالمطر والإشارة إلى فينيقية ( 2: 14: 4)، تأثير أمطار الرّبيع على جودة الخمر ( ج 5: 43: 3)، تأثير كثرة الأمطار في موسم الجني على العنب ( ج 7: 4: 1، في نفس الفصل تحدّث عن أسلوب اللّخدمونيّين لصنع النّبيذ، لكنّ بلينيوس نقل عنه 14: 4 (20) قوله بأنّه يعرف كلّ أنواع الكروم اليونانيّة)، الإشارة إلى ريح الغرب الآتية من قبل البحر ( 5: 4: 2)، تغذية الماشية بثمر الصّفصاف ( 11: 13: 2)، توقّي الخنازير البرّيّة ( 19: 8)، أرواد وهرقلية البنطيّة ( 2: 6: 9) وفي نفس الفصل تسمية السُّعد kypeiron عند "البعض" zerna ( 2: 6: 23 و32 وهي كلمة غير يونانيّة قد تكون بونيقيّة الأصل) وتأكيد توفّر الماء في واجهات الجبال الشّماليّة فالشّرقيّة والغربيّة ثمّ الجنوبيّة ( 6: 5: 2)، كذلك لا نرى لماذا ذكر كولوملاّ أنّه يفضّل التّوجيه إلى الشّمال بينما يؤكّد النّصّ المنسوب إليه أنّه مفضّل في البلدان الحارّة فقط، ولا كيف تفسَّر بعض التّكهّنات المنسوبة إليه في ج 1: 12 عن دلائل نزول البرَد والثّلج، وعموما يبدو المناخ الّذي تصفه جلّ نصوص جيوبونيكا مختلفا عن مناخ إقليم الإسكندريّة الجافّ ( حيث يبلغ متوسّط الأمطار 200 مم 60% منها في الكانونين، وتهيمن الرّياح الشّماليّة كامل السّنة بنسبة 64%- منها 13% ش ش و27% ش غ- لكنّها تهبّ أكثر في الرّبيع والصّيف: 72%، والجَمد ظاهرة نادرة، لكنّه شائع في سورية وآسية الصّغرى وكذلك في بلدان المغرب العربيّ ما عدا شريطا ساحليّا صغيرا في بعض النّواحي). ولا معنى للبحث عن الماء طيلة العصر الهلّينستيّ وفي واجهات الجبال الشّماليّة في مصر هبة النّيل ذات الظّروف شبه الصّحراويّة وحيث يتجمّع السّكّان على ضفافه، والمهمّ إيجاد وسائل لضخّه منه أفضل من الشّادوف. يصعب كذلك أن نتصوّر كيف يمكن لمزارع في مصر أن يوفّر لبقرته المريضة بالزّحار عساليج الزّنبوج والآس والمصطكى أو الضّرو حمية مع الدّواء ( ورق الرّمّان المتوفّر فيها). كانت مناطق على السّاحل الآسيويّ تابعة للبطالمة، الّذين خاضوا 4 حروب ضدّ السّلوقيّين للسّيطرة على جنوب سورية أو "الغور" ( ربّما بسبب فقر مصر إلى الخشب واهتمامهم بتطوير أسطول حربيّ وتجاريّ)، لكن لم تمتدّ ممتلكاتهم إلى هرقلية، وفي ق 2، أي في العصر الّذي كتب فيه بولوس، وصلت مصر درجة من الضّعف باتت فيه هي محلّ أطماع دول أخرى ( ففي 199 استعاد السّلوقيّ فلسطين الّتي كانت قد ضُمّت إلى مصر بعد معركة رفح في 235، وفي 191 اتّفق ملكا سورية ومقدونية على اقتسامها، لكنّ رومية باتت هي القوّة العظمى بعد انتصارها في الحرب البونيقيّة الثّانية). ثمّ إنّ تساوي واجهتي الجبال الشّرقيّة والغربيّة لا يصحّ على سواحل المتوسّط الآسيويّة.

   كذلك قد تكون بعض الأفكار لكتّاب من عصر لاحق، شأن الأفكار المنسوبة إليه في كتب الخيمياء كما بيّن برتلو: فمثلا ذكر بلينيوس أنّ فكرة حضانة البيض الاصطناعيّة ( الّتي نجدها في ج 14: 8) أسلوب مستحدث ( 10: 76 (154)) وقد نسبها ابن العوّام إلى قسطوس دون كسينوس الّذي كثيرا ما ذكره معه في قسم الدّواجن، كذلك يبدو أنّ وصفة الجارية العارية الّتي تُنسب بصيغة أو بأخرى إليه ( كولوملاّ 11: 3: 64، بلينيوس دون ذكره 17: 47 (266)، سوتيون ج 2: 42: 3) تعود بالأحرى إلى مطرودوروس السّقبسيّ صديق مثرداتس ( ق 1 ق م) الّذي نقل عنه بلينيوس أنّه رأى في كبّادوقية نساء يطفن بالحقل حافيات لإبعاد الآفات ( 28: 23 (78))، ونسبها ابن وحشيّة إلى كاماش النّهريّ! وتشبه إلى حدّ ما ممارسة في جنوب شرق آسية للاستمطار وصفها جيمس فريزر، تتمثّل في خروج نساء عاريات في اللّيل يُرقن ماء على تخوم القرية ( وهناك ما يشير إلى وجودها عند الكنعانيّين أيضا). ولا يمكن طبعا أن يكون حكيم أبديرة ولا بولوس صاحب الطّلسم المتمثّل في كتابة آدم على زوايا برج الحمام لوقايته من الحيّة ( 14: 5: 1 وذكره ابن العوّام 34: 1 دون نسبته إليه)، فهو بالتّحقيق لكاتب متأخّر. يوحي كذلك باستمرار الأفكار المنسوبة إليه في كتب الفلاحة في التّوسّع ( كالأفكار المنسوبة إليه في كتب الخيمياء كما بيّن برتلو) تطوّر الاستشهاد به من لا شيء عند وارّون إلى الحجم الّذي نجده عند بلينيوس وفي جيوبونيكا.

   أكّد فلّمانّ تأثّره بأرسطوطاليس وثيوفرستوس، لكن لا يبدو أنّ كتاباتهما في علم الأحياء كانت معروفة قبل ق 1 ق م. ولا تبدو أدلّته مقنعة: يرى مثلا أنّه من خلال ثيوفرستوس عرف ليوفانس وأندروتيون، لكنّ فكرة الأخير عن تبادل النّباتات مشاعر الحبّ والبغض توجد كذلك عند أنكساغوراس ( كما جاء مثلا في كتاب النّبات المنسوب إلى أرسطوطاليس)، وقد ذكر تحابّ الآس مع الزّيتون ( أ.ن. 3: 10: 4) لا مع الرّمّان كما نقل ابن العوّام عن "ديمقراطيس" ( هذا إن لم يكن مصدره قد خلط بينه وبين كاتب آخر)، وذكره بلينيوس ضمن مراجعه فلم يكن بولوس بحاجة إلى ثيوفرستوس لمعرفة أفكاره. كذلك لمّا ذكر "شكّ ديمقريطس وثيوفرستوس" في إمكانيّة غراسة الغار من قضبان ( 15: 40 (138)) لم ينقل حقّا رأي ثيوفرستوس الّذي لم يشكّ في ذلك ( ت.ن. 2: 1: 3) واتّفاقهما إذن غير ثابت. ويخالف زعمه معرفة كلّ أنواع الكروم اليونانيّة ( بلينيوس 14: 4 (20)) تأكيد ثيوفرستوس أنّه يوجد منها بقدر ما يوجد من أنواع الأرض ( ت.ن. 2: 5: 7). وبالغ فلّمانّ في تقييم تأثيره الّذي شمل لا كراتيفاس وبوسيدونيوس وأنكسيلاوس ويوبا وبكساموس وكلسوس وبمفيلوس وكونتليوس وأبوليوس وفلورنتينوس وأفريكانوس وديديموس فقط بل كذلك ديونسيوس وديوفانس. والحال أنّ ما نعلم عن ترجمة ديونسيوس لا يؤيّد ذلك، ولا كذلك النّصوص الّتي وردت لهما فهي لا تحمل كعدّة وصفات له طابعا سحريّا ( وبعض الوصفات الّتي نسبها ابن حجّاج وابن العوّام إليه واستدلّ بها فلّمانّ قد تكون لكتّاب آخرين كديوفانس الّذي لم يذكراه). كذلك قد يعود الشّبه بين بعض أفكار كاتون وأفكاره إلى استخدام مصادر مشتركة ( فيثاغوريّة مثلا فقد اتّصل كاتون بنيارخوس). أمّا تعاليم فرجيليوس عن أيّام الشّهر القمريّ المستمدّة حسب بلينيوس ( 18: 75 ( 321)) من "ديمقريطس" الّذي لم تُنشر مؤلّفاته إلاّ لاحقا فقد كانت منتشرة ( أراتوس، بوسيدونيوس، نيقيدوس).

6-1-4 بولوس وماغون

   يرجّح أنّ بولوس نقل عن كتّاب قدماء، قد يكون ماغون- السّابق له زمنيّا- أحدهم. يوحي فعلا بذلك تشابه بعض أفكارهما كتوجيه حقول الكروم نحو الشّمال ( كولوملاّ 3: 12، ج 5: 4) وإنشاء النّحل من جثّة ثور ( كولوملاّ 9: 14: 6، ج 15: 2: 21) وزراعة حبوب في لباب نباتات ( كولوملاّ 11: 3: 53، مقارنة مع غ مرتياليس 3: 3) وتسييج الجنائن ( كولوملاّ 11: 3: 4، ج 5: 44 لديوفانس، كذلك ج 11: 5: 4 ووجود نصوص لماغون في موسوعة مسّاحي الأراضي الرّومان تبيّن اهتمامه بمسائل الحدود بين الملكيّات) وحفظ الفواكه ( ج 10: 25 مقارنة بكولوملاّ 12: 46: 5-6) وبصفة عامّة الاهتمام بإعداد أو حفظ الأغذية ( ج 2: 41 مقارنة بكولوملاّ 12: 4) وبعض الاختبارات ( كنضج العنب للجني ج 5: 45)، وربّما كذلك النّباتات الطّفيليّة والنّباتات الدّالّة على الماء وأساليب البحث عن الماء، وكذلك، على افتراض صحّة ما نسب إليه ابن حجّاج وابن العوّام، طريقة زراعة حبوب بعض الأشجار والإنشاب واختبارات التّربة.

   يبدو هذا الاحتمال ضعيفا بسبب مشكلة اللّغة ( إذ لم يترجَم مؤلَّف ماغون إلاّ لاحقا)، لكنّه غير مستحيل.

1- فقد بدا لكولوملاّ أنّ منسياس الّذي كتب قبل ترجمة ماغون إلى اليونانيّة تبعه في تقديم وصفات لإعداد وحفظ الأغذية في الضّيعة. ومعنى هذا أنّ تأثير ماغون في أدب الفلاحة اليونانيّ سبق على الأرجح تلك التّرجمة.

2- تأثّر بولوس حسب فلّمانّ بمصادر شرقيّة كلدانيّة وفينيقيّة وعبرانيّة، ومن المعروف اهتمام اليونان بحكمة الشّرقيّين وذلك الخليط من العلم الطّبيعيّ والسّحر الّذي تتضمّنه كتاباته تحديدا، ولا يُستبعد أن يهتمّ بما له صلة بالعلم الطّبيعيّ أيّا كان مصدره. وقد اهتمّ كتّاب سابقون كأرسطوطاليس أو ثيوفرستوس بالأساليب الفلاحيّة في شتّى البلدان. وذكر بلينيوس ( 30: 2 (9)) أنّ "ديمقريطس" نقل عن المجوس وزار قبر الفينيقيّ دردانوس ( الّذي ذكره أرنوبيوس بين السّحرة: "ضدّ الأمم" 1: 52، وعدّه فلّمانّ درداع الّذي شُبّه به سليمان في الحكمة مل3 4: 31)- بحثا عن كتبه، وذلك يوحي بتأثّر بولوس بمصادر فينيقيّة، نظرا إلى الخلط بين الشّخصين ( بينما يشير دفن كتب مع الموتى وسرقتها من القبور إلى مصر بالأحرى). ولا يُضعف احتمالَ ذلك التّأثّر افتراض أنّه مصريّ، خاصّة بالنّظر إلى عصره.

3- كانت توجد جالية فينيقيّة في منديس منذ البداية اختلط بها اليونان، ممّا يسّر بلا شكّ تلاقح الأفكار؛ وحتّى قبل العصر الهلّينستيّ كانت توجد جاليات فينيقيّة في مصر كما في عدّة مدن من الامبراطوريّة الفارسيّة، ذكر منها هيرودوت جالية صوريّة في منف 2: 112، بل كانت توجد بها منذ أوائل المملكة الحديثة ( ق 14)، وقد أحبّ قدماء المصريّين الاطّلاع على كتابات غيرهم ونقلها إلى لغتهم، دون ترجمتها حرفيّا عادة، كما تبيّن عدّة مؤلّفات من عصر المملكة الحديثة؛ ومع أنّ التّأثير المصريّ في الثّقافة الفينيقيّة كان أهمّ وأسبق، هناك تأثير معاكس بيّنه علماء المصريّات مثلا في اللّغة والقصص والمعتقدات والتّقنيات. وكان هناك اتّصال بين اليونان وفينيقيّي الشّرق والغرب، من خلال وجود جاليات يونانيّة في قرطاج والمدن البونيقيّة الأخرى مثلا، والجوار في صقلّية وليبية الّتي كان جزءاها البونيقيّ واليونانيّ الّذي صار تابعا للبطالمة متماسّين. وجلبت مدينة الإسكندريّة منذ بداياتها أناسا من شتّى الجنسيّات، فضلا عن أهمّ جالياتها: اليونان والمصريّين واليهود والفرس.

4- اهتمّ البطالمة بإنشاء زراعات جديدة في مصر، وجلب نباتات كالقمح السّوريّ والفارسيّ والحمّص البيزنطيّ وتين خيوس وليدية والرّمّان والمشمش وأصناف العنب وثوم ليقية وكرنب رودس، ومع أنّ المصادر لم تذكر جلب أشجار أو بقول من إفريقية من المحتمل أنّهم جلبوا خيلا من ليبية وقرطاج وصقلّية واهتمّوا بالفلاحة البونيقيّة فضلا عن تجربة اليونان في بلادهم وفي مستوطناتهم الآسيويّة وقورنائية لشبه ظروفها النّسبيّ بمصر ( من حيث المناخ والتّضاريس والنّبات)، خاصّة أنّ علاقات تجاريّة قويّة كانت تجمعهم بهم ( يبيّنها مثلا سكّ بطليموس 1 سوتر عملة من الطّراز القرطاجنّيّ ووجود عدّة قطع من العملة البطلميّة في قرطاج، وصداقة فيلادلفوس مع قرطاج معروفة). وربّما جُلبت مؤلّفات كتّاب بونيقيّين إلى مكتبة الإسكندريّة الّتي كانت تسعى إلى الحصول على كلّ كتاب قيّم. فعلا كانت تضمّ إلى جانب الكتب اليونانيّة كتبا بالمصريّة والفينيقيّة والعبريّة حسب الدّكتور مصطفى العباديّ ( مكتبة الإسكندريّة القديمة، القاهرة 1977، كذلك E.A.Parsons: The Alexandrian Library, New York 1952)، ومن ذلك التّرجمة السّبعينيّة ( الّتي أعدّها في ق 3/2 ق م إسكندرانيّون على الأرجح لا شيوخ من يهود فلسطين كما أشاعت رسالة أرسطياس المنحولة). وروى جالينوس أنّ بطليموس1 كتب إلى كلّ ملوك الأرض لاستعارة كتب منهم واستنساخها. وذكر سنكلّوس أنّ فيلادلفوس أمر بترجمة كتب من اللاّتينيّة والمصريّة والكلدانيّة، و"الكلدانيّة" كلمة فضفاضة تعني على الأرجح ( كعبارة "الكتابة الأشوريّة" عند ثوكيديدس 4: 50) الآراميّة القريبة جدّا من البونيقيّة والّتي لعبت منذ ق 5 دور اللّغة الرّسميّة في الامبراطوريّة الفارسيّة ( منذ قورش ودارا الأوّل اللّذين ربّما واصلا تقليدا أشوريّا إن صدّقنا ما ورد في مل4 18: 26)، واستمرّ التّخاطب بها في الشّرق الأوسط بعد أن صارت اليونانيّة اللّغة الرّسميّة، وبها كُتبت أجزاء من سفري عزرا ( 4: 8-6: 18) ودانيال ( 2: 4ب-7: 28) وتلمودا بابل والقدس ومراسلات الجالية اليهوذيّة بجزيرة الفيلة ( إلفنتين) في ق 5-4، وعلى الأرجح كُتب المصدر الأصليّ لسفر أيّوب وتكلّم المسيح والحواريّون ( وفي العبريّة مثلا انتشر بعد السّبي الخطّ الآراميّ الّذي كان يدعى "الكتابة الأشوريّة"، وكثيرا ما تخلط المصادر المتأخّرة كالعهد الجديد أو كليلة ودمنة بينهما)- هذا فضلا عن ورود عدّة كلمات وتراكيب خاصّة بها في أسفار أخرى. فلم يكن النّقل وحتّى التّرجمة منها ومن الفينيقيّة أمرا صعبا- خاصّة مع وجود يهوذيّين في الإسكندريّة لا بدّ أنّ بينهم من كان يتقنها رغم تحوّل الأغلبيّة إلى اليونانيّة.

   ولم يكن ضروريّا أن يُترجم مؤلّف ماغون لتُعرف أفكاره إجمالا أو على الأقلّ أساليب الزّراعة البونيقيّة. وقد رجّحنا تأثّرا مماثلا عند كاتون الّذي لم يقرأه لكنّه رأى مزارع بونيقيّة، وربّما زار مانثون الّذي يبدو بولوس من أتباعه إفريقية. وقد تعود الأفكار المنسوبة إلى ديمقريطس إلى عدّة كتّاب منهم من كتب بعد ترجمة فلاحة ماغون. والكاتبان نقلا من ثقافة عصريهما، وربّما من روافد مشتركة. لذلك يبدو احتمال تأثّر بولوس بماغون أو بمصادر بونيقيّة واردا. وممّا يدعمه أنّ أفريكانوس الّذي نقل عنه في الخيمياء والفلاحة استمدّ منه على الأرجح طريقة لإرسال إشارات ناريّة مرمّزة منقولةً عن البونيقيّين، وصفها في "القلائد" في صيغة تبدو أقلّ تطوّرا من الّتي قدّمها قبله بأكثر من 3 قرون بوليبيوس المتأخّر عن بولوس بجيل أو أكثر ( انظر الحواشي)، فقد نُسب إلى ديمقريطس كتاب في فنّ الحرب Taktika والآليّات الثّقيلة ( الّتي طُوّرت بعد ق 5) هو أيضا من تأليفه حسب فلّمانّ.

تابع