ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

2- شذرات من المؤلّفات اللاّتينيّة

 

حواش  

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

2-3-2 أنواع الأرض 1: 9: 7

   ( تحدّث عن أنواع الأرض وما يوافقها من زراعات 1: 9: 4-6، وأضاف:) يذكر ديوفانس بصواب أيّة علامات يمكن استخدامها لمعرفة هل تصلح أرض ما للزّراعة أم لا، مستمَدّة منها هي ذاتها أو ممّا ينبت فيها. منها هي: هل التّربة بيضاء أو سوداء، هل هي خفيفة تنحتّ بسهولة عند نبشها، ومن طبيعة غير ذروريّة ولا شديدة التّلزّز؛ وكذلك من نباتاتها الطّبيعيّة: هل هي فارعة وهل تحمل محصولا وفيرا من الغلّة الخاصّة بها.

ملاحظات:

1- قدّم معايير مماثلة لتقييم جودة التّربة ودون ذكر المصدر فرجيليوس ( 2: 226-258، فركها بين الأصابع 248-250، نباتاتها الطّبيعيّة 251-253 وكذلك 47-49، اللّون 255-256)، وكولوملاّ ( 2: 2 و3: 11 مع الحدّ من دلالة اللّون 2: 2: 16)، وبلينيوس ( الّذي شكّ فيها أيضا وحتّى في المعايير الأخرى 17: 3 (25-41): فالأرض المالحة مثلا رغم أنّها لا تواتي نموّ النّبات تمنع تكاثر الهوامّ، وتراقية خصبة ببردها أمّا إفريقية ومصر فبحرّهما، والأرض المحصبة في فيزانيوم كالدّسمة في بيتيكة تناسب الزّيتون تماما)، وبلاّديوس ( 1: 5: 2-4، مع نفي قيمة اللّون 1: 5: 2، 1: 6: 1)، وبيروتوس/أنطوليوس ( ج 2: 9-10)، وكتّاب الفلاحة العرب ( النّباتات الطّبيعيّة عند ابن وحشيّة وعند ابن حجّاج وابن العوّام ( 1: 6) نقلا عن أنطوليوس "الإفريقيّ" ( وكذلك عن يونيوس في 1: 0) وعند النّابلسيّ، اللّون والخصائص الفيزيائيّة كالتّلزّز أو التّخلخل والصّلابة أو الجصّيّة والثّقل أو الرّقّة حسب ابن وحشيّة وتشرّب المطر، وهو معيار نسبه ابن العوّام إلى ديمقراطيس وقسطوس 1: 0 و1: 6، "اللّمس والشّمّ والذّوق والنّظر" عند النّابلسيّ). نرى من هذا النّصّ وفصلي ديوفانس ج 2: 11 و5: 7 أنّ بعض اختبارات وتصنيفات الأرض في كتب الفلاحة تعود إلى ماغون.

2- يسمح اختبار الأرض بتحديد صلاحيّتها للزّراعة عموما أو لنوع معيّن من الزّراعات، وتحديد المسافة بين الأشجار وكيفيّة إفلاحها ( مثلا حسب كولوملاّ 2: 2 لا يناسب المحراث المستخدم في نوميدية ومصر أراضي إيطالية). #وتوجد أراض لا تصلح لأيّة زراعة ( بلينيوس 18: 49 (176)، ابن العوّام 1: 7)، لكنّ فساد الأرض في معظم الأحيان ليس مطلقا، فقد أكّد فرجيليوس مثلا أنّ كلّ نوع من الأرض تناسبه زراعة معيّنة ( 2: 177-225)، كما أكّد ابن وحشيّة ( في "طبائع الأرضين" و"عمل الأزبال الّتي تصلح بها الأرضون والمنابت والنّخل والشّجر") أنّ أنواعا فاسدة من الأرض توافق أنواعا معيّنة من الزّراعات ( توافق النّزّة مثلا الشّعير والحمّص والعدس والبندق دون الباقلاّء والحلبة)، وأنّه يمكن استصلاحها بعلاجات طبيعيّة، كالنّبش والتّزبيل والتّتبين وغراسة النّباتات المزيلة للحشائش وغسيل الأرض المالحة والمرّة بماء دجلة، وبالسّحر. #وذكر كثير من الفلاّحين أنّ الأرض المالحة توافق النّخل وكذلك الكرنب والقثّاء ( كما أشار ابن حجّاج مثلا أو ابن العوّام 1: 1). والنّباتات الطّبيعيّة تدلّ على مدى صلاحيّة الأرض للزّراعة، #وعلى توفّر الماء فيها ( كولوملاّ 2: 2) ولذلك تساعد في البحث عن الماء. 

2-3-3 اليد العاملة الزّراعيّة 1: 17: 3-7

   ( قسّم مستلزمات الضّيعة إلى أدوات ناطقة وشبه ناطقة وجامدة أي عمّال ومواش وآلات، والعمّال إلى عبيد وأحرار، وأضاف:) عمّا ينبغي أن يتوفّر فيهم، كتب كسّيوس ما يلي: يجب إعداد عمّال قادرين على تحمّل العمل لا تنقص سنّهم عن 22 سنة، فيهم استعداد للعمل الفلاحيّ. وهو ما يمكن أن نعلمه من تنفيذهم الأوامر بأعمال أخرى، وبسؤال الجدد منهم عن عملهم المعتاد عند سيّدهم السّابق. وينبغي ألاّ يكون العبيد وجلين ولا متطاولين. وأن يكون الرّؤساء متعلّمين وعلى قدر من السّماحة، لبابا، وأكبر سنّا من العمّال الّذين ذكرت. فأسهل أن يمتثلوا لهم من أن يمتثلوا لمن هم أدنى سنّا. وأن تكون الإمرة بالتّفضيل لمن لهم خبرة بشؤون الفلاحة. إذ لا يجب أن يصدروا الأوامر فقط، بل كذلك أن يعملوا حتّى يقلّد العمّال الرّئيس في العمل وأن يُرى أنّه يرأس بنحو مشروع لتفوّقه بالمعرفة. ولا ينبغي السّماح لهم بفرض أوامرهم بالسّوط بدلا من الكلام إن أتاح طبعا تحقيق نفس الغرض. ولا يجب جلب عدد كبير من نفس الأمّة: فمن ذلك بالأخصّ تأتي المشاحنات بين الخَدمة عادة. وينبغي جعل الرّؤساء أنشط في تنفيذ وإسناد الأعمال بالمكافآت، ليقتنوا ماشية خاصّة ويتزوّجوا من بين رفاقهم إماء ينجبون منهنّ أبناء. فبذلك يصيرون أكثر رسوخا وتعلّقا بالضّيعة. لذلك وبسبب هذه العلاقات الأسريّة فإنّ جماعات العبيد الّتي من أبيروس #أحسن سمعة وأغلى ثمنا. وينبغي استمالة الرّؤساء لحبّ النّفع بإبداء بعض مظاهر التّقدير لهم، وإخبار العمّال المتفوّقين على غيرهم كذلك بالأعمال المطلوبة فبذلك يرون أنّهم غير محتقرين ويحظون بشيء من الاعتبار عند سيّدهم. ونجعلهم أكثر حماسا في العمل بمعاملتهم بمزيد من الإكرام، أو إظهار مزيد من السّخاء لهم في المأكل والملبس، أو منحهم إجازة من العمل أو التّرخيص لهم بأن ترعى ماشيتهم في أرض الضّيعة، ومزايا من هذا القبيل، يكون فيها لمن آذاهم أمر أو توبيخ عزاء يعيد إليهم حسن استعدادهم وحبّ خير سيّدهم.

ملاحظات:

1- يتعلّق هذا النّصّ بالإطار الاجتماعيّ للفلاحة، ويطرح سؤالا عن مدى مطابقة ترجمة ديونسيوس للأصل. يدلّ استخدام الصّيغة غير المباشرة المعروفة في النّحو اللاّتينيّ على أنّ وارّون أورد في كلّ هذه الفقرة نصّه، بحرفه أو على الأقلّ بمعناه. لكن ليس كلّه بالضّرورة ترجمة حرفيّة لماغون، فقد أشار فيه إلى العبيد المقدونيّين ( 150000 بعد حرب 167، كما ذكر بوليبيوس 30: 15 وليويوس 45: 34: 5-) وأسنده إلى ديونسيوس الّذي ذكر أنّه أضاف إليه أقوالا من كتّاب يونان ( 1: 1: 10). توجد فعلا بعض الأفكار الّتي قدّمها عن سياسة العبيد بصيغة قريبة في "نواميس" أفلاطون و"سياسة" أرسطوطاليس و"التّدبير المنزليّ" المنسوب إليه. فقد نهيا مثلا ( نواميس 6 777، سياسة 7: 10 1330أ، تدبير 1344ب) عن استخدام عبيد من نفس الجنسيّة واللّسان لاجتناب الشّغب، وهي توصية قد تعكس تجربة إسبرطة الّتي كان عبيدها الهيلوت مسّينيّين وناطقين باليونانيّة #فشكّلوا بذلك وبكثرتهم خطرا كبيرا عليها، بينما كان عبيد أثينة من أمم شتّى فلم تكن هناك إمكانيّة للتّفاهم بينهم ( وهدفها عند ديونسيوس اجتناب الشّجار بينهم لا التّمرّد حتّى على مستوى الضّيعة). وبنفس القصد أشار أرسطوطاليس باستخدامهم في الرّيف بعيدا عن المدينة حيث يمكن أن يثير تجمّعهم قلاقل. وحبّذ ألاّ يكونوا خرعين ولا جرآء، وأشار بالمكافآت والعقاب وتحديد حصّة الطّعام واللّباس والرّاحة حسب الجدارة ( تدبير 1344ب)، وبتزويجهم ليزيد إنجاب الولد ولاءهم لسيّدهم. وهذه الفكرة أعادها وارّون عند تناول موضوع الرّعاة ( 2: 1: 26).

2- قد تكون الإشارة إلى العبيد المقدونيّين من وارّون الّذي يعرف المنطقة جيّدا، وبعض شخصيّات حواره في الكتاب 2 منها ( 2: 2: 1 و2: 5: 1)، وكان كثير من الرّومان في عصره يملكون أراضي فيها، منهم أتّيكوس ( نيبوس: "أتّيكوس" 13). وفي النّصّ وما سبقه عن تصنيف الأدوات تأثّر واضح بأرسطوطاليس.

3- يبدو لنا أنّ النّصّ يعكس ظروف الرّومان بداية من ق 2 ق م أكثر من ظروف الفلاحة البونيقيّة، وخاصّة كثرة العبيد الّتي يوحي بها والّتي دعت إليها حروبهم الخارجيّة منذ ق 3 ثمّ الدّاخليّة، ووفّرتها انتصاراتهم. كانت الخدمة العسكريّة مفروضة على كلّ المواطنين في سنّ الشّباب والكهولة، وظلّت فيالق اللّجيون الّتي كان يجنّدها القنصلان لمدّة سنة في الأصل 7 سنين في الخدمة في المتوسّط أيّام الحرب البونيقيّة الثّانية وبعضها أكثر من 9 سنين ( تاريخ توينبي 2: 71). فكان لا بدّ أن يقوم بأعمال الزّراعة عبيد من أسرى الحروب، من إفريقية وإسبانية وبلاد الغالّ واليونان والشّرق وحتّى من إيطالية، بدأ استخدامهم على نطاق واسع في الحرف أثناء الحرب البونيقيّة الثّانية ( بوليبيوس 10: 17: 9-) وفاقت أهمّيّتهم حتّى ما كانت عليه عند الأشوريّين، إذ تقدَّر نسبتهم من المجتمع الرّومانيّ في ق 1 ق م بالثّلث، وكان سوق ديلوس يبيع يوميّا ح 10000 جلّهم لإيطالية ( سترابون 14: 5: 2). #وقد اعتبرهم كولوملاّ ( 1: مقدّمة: 3) وبلينيوس ( 18: 7 (36)) سبب أزمة الفلاحة الإيطاليّة في عصرهما، وهي فكرة تلتقي مع التّحليل الماركسيّ الذي يرى أنّ توفّر العبيد للرّومان بأسعار بخسة ثبّط التّقدّم التّقنيّ في الزّراعة ( لكنّ استقدام أناس ذوي خبرات وتقاليد مختلفة أفادها، كبقيّة القطاعات، في مرحلة أولى على الأقلّ). وقد لا تبدو نسبتهم كبيرة بالمقارنة بإسبرطة حيث كان الهيلوت يفوقون عدد أسيادهم ( إكسينوفون: شؤون هلّينيّة 3: 3: 5 مثلا)، لكنّ الأمر يتعلّق في إسبرطة بآلاف من السّكّان لا ملايين كما في إيطالية. وحتّى في أثينة توحي عدّة نصوص بأنّ جلّ بل كلّ المواطنين كانوا في ق 4 يملكون عبيدا ( كما نرى مثلا من خطبة لليسياس 5: 5).

   في المقابل لم ينتصر القرطاجنّيّون في عدد مماثل من الحروب، أهمّ مصدر للعبيد فيما عدا التّناسل، ولا أسروا أعدادا مماثلة من الأعداء منذ ق 5 باستثناء معركتي أقريقنتة وسلينُنتة ومعارك ق 4 في صقلّية ومعارك حنّبعل الكبرى. ولا دعاهم إلى استخدام أعداد كبيرة من العبيد تجنيد المواطنين باستمرار، فقد استخدموا جيوشا من المرتزقة مع نواة بونيقيّة صغيرة. وعرف تاريخهم ثورات مرتزقة ( كالّتي اندلعت في 396 بعد تخلّي خيملكون عن اللّيبيّين والمرتزقة في صقلّيّة، والّتي تلت الحرب البونيقيّة الأولى وسحقها هملقار برقة وصوّرها بوليبيوس 1: 87، والقلاقل الّتي ذكرها ديودوروس 20: 13: 2، 20: 69: 5، 14: 77 :3)، ولم يعرف ثورات عبيد كالّتي واجهها الرّومان ( إترورية 196، أبولية 185، صقلّية 135-132 بتزامن مع ثورات في سينويسّة وأثينة وديلوس ومع ثورة أرسطونيقوس في آسية الصّغرى تقريبا 133-129، ثمّ 103-99، ثورة سبرتاكوس 73-71). ورأى البعض أنّهم كانوا يستخدمون عبيدا في البيوت خاصّة ( وذلك ما يوحي به أيضا، إن جاز القياس، العهد العتيق حيث يبدو العبد خادما في البيت أكثر ممّا هو عامل فلاحيّ أو صناعيّ)، ورأى رولّن ( 1731 Ch. Rollin) ورينييه ( 1823 L. Reygnier) أنّهم لم يكونوا يكلون الزّراعة إلى عبيد، وإلاّ لما كتب عنها لعبيد قادة في الجيش كماغون وهملقار، ودليلهما ضعيف فقد كتب إكسينوفون وكتّاب لاتين عن الفلاحة لملاّك يشغّلون عبيدا. ورأى آخرون في استخدام حنّبعل المرتزقة في المزاق لغراسة الزّيتون قبل الاشتباك مع شبيون ( أورليوس فكتور: كتاب القياصرة 37: 2) دليلا على أنّ عمّالا أحرارا كانوا يشتغلون في الزّراعة، ودليلهم أيضا ضعيف فالرّقّ في أتّيكة مثلا رغم أهمّيّته لم يلغ العمل الحرّ لحساب النّفس أو الغير. #ولا يوحي حجم البيوت في موقع كركوان باستخدام كثيف لعبيد في تلك المدينة الصّغيرة ( الّتي تضمّ ح 2000 نسمة وتعود إلى ق 6 وأُخليت في ق 3 ربّما إثر تدمير جيش ريقولوس ورغم غياب طابع زراعيّ واضح تعطي فكرة عن المجتمع في تلك المنطقة الرّيفيّة). كذلك يستبعد أنّهم اتّخذوا أقنانا من البربر لأنّ قرطاج ظلّت حتّى ق 5 تدفع جزية لرؤسائهم، وكانت علاقتها بهم كعلاقة اليونان في مستوطناتهم على سواحل آسية الصّغرى بسكّان الدّاخل قبل الإسكندر (مومّزن). #بالعكس أكّد بعض الكتّاب أنّهم كانوا يستخدمون أرقّاء في البيوت وفي الصّناعات وعلى السّفن وفي الحقول، وردّوا إلى ذلك عدم تطوّر الجانب الفنّيّ لصناعاتهم كالخزف مثلا بالمقارنة باليونان، والحال أنّ اليونان استخدموا في عدّة صناعات أرقّاء في ق 5-4، وأنّ الفلاحة البونيقيّة الّتي ربّما اعتمدت على نفس النّوع من العمالة المستخدمة في تلك الصّناعات كانت متطوّرة، وتفسير ذلك الأرجح اتّجاهُهم إلى التّصدير سيما إلى أسواق غرب المتوسّط الأقلّ تطلّبا من حيث الجودة ( من جهة أخرى لوحظ في بلاد الرّافدين أنّ العبيد كانوا يُستخدمون بقلّة في المهن الّتي تتطلّب مهارة). ولم يذكر ديودوروس في وصف ضياع الوطن القبليّ أثناء حملة أغاطقليس ( أواخر ق 4) بيوتا متواضعة إلى جانب بناءاتها الفخمة ممّا يوحي بأنّ اليد العاملة كانت تقطن أجنحة منها وهي إذن من الأرقّاء، لكنّ هذا مجرّد تخمين، والأدلّة هنا أيضا ضعيفة. الأرجح أنّهم استخدموا على مزارعهم عمّالا أحرارا من البربر وعبيدا بأعداد دون ما يوحي به نصّ وارّون. لذا ربّما كان النّصّ الأصليّ لماغون وحوّره ديونسيوس بما يوافق ظروف عصره مقتبسا من أرسطوطاليس بعض الأفكار ( بصفة غير مباشرة لأنّ مؤلّفاته لم تُنشر إلاّ لاحقا)، وكذلك وارّون ذو النّزعة الأرسطوطاليسيّة ( كما يذكر هو نفسه 2: 5: 13)، خاصّة أنّ الإشارة بعدم استخدام عبيد من نفس الأمّة لم ترد في كتب الفلاحة الأخرى، وأنّ بعض الأفكار الّتي يمكن أن تُنسب هنا إليه هي من "التّدبير" المشكوك فيه، إذ لم يذكره فيلوديمون القداريّ ( 110-35) معاصر وارّون والّذي ناقش في كتيّبه Peri Oikonomias أفكار الكتّاب السّابقين، بل ذكر إكسينوفون وثيوفرستوس.

4- نجد هنا فكرة اختيار الشّباب لعمل الفلاحة الّتي لم تَرد عند أرسطوطاليس. وذلك يدلّ على أنّ جزءا من النّصّ على الأقلّ من مصدر آخر. وقد أشارت بذلك كتب الفلاحة اللاّحقة مع تحديد أوصاف جسديّة ونفسيّة مطلوبة في مختلف أصناف العمّال. حبّذ كولوملاّ مثلا أن يكون الوكيل قد تمرّس منذ الصّغر بخشونة الرّيف وأعمال الفلاحة وتعلّمها ( 1: 8، 11: 1: 7) وكذلك العمّال. وفي فصل ج 2: 2 المنسوب إلى وارّون ( وبدون مؤلّف في التّرجمة اللاّتينيّة) عُدّ الأنسبَ لعمل الفلاحة الأحداث paides، المهيّئون للأعمال الشّاقّة والمستعدّون للاستفادة من خبرة ومهارات الكبار، وقُدّمت الأوصاف المطلوبة في الحرّاث وجمّاع العنب والبقّار والمعّاز. وقد أشار وارّون ( 1: 17: 3-7، 2: 10: 2-3) باختيار شباب وإيكال القيادة لمن هم أكبر سنّا وأوسع خبرة وذكر مواصفات المعّاز ( 2: 10: 3) دون بقيّة ما جاء في هذا النّصّ. بينما قدّم كولوملاّ أوصاف البقّار والحرّاث والمُعين والكرّام ( 1: 9) وفي موضع آخر ( 7: 6: 9) المعّاز وبصيغة شبيهة بما جاء عند وارّون وفصل ج 2: 2. فهل وارّون اسم جماعيّ للكتّاب اللاّتين، أم حدث خلط بينه وبين آخر، كماغون لتشابه الاسمين وامّحاء ذكرى أب الفلاحة تدريجيّا؟ #ومع أنّ فرجيليوس صوّر الفلاّح بنحو يوحي بأنّه يعمل على حقله بمفرده، وككهل يتعلّق أبناؤه برقبته ( 3: 523)، تحدّث هو أيضا في الرّيف عن "الشّباب الصّبور على الأعمال" ( 2: 472 patiens operum iuuentus). أشار كذلك باستخدام شبّان بلاّديوس ( 1: 6: 3)، وابن وحشيّة الّذي رأى "أن يكون الفلاّحون صبيانا وأحداثا وشبابا، فإنّهم أقوى على الأعمال وأنشط وأفرغ قلوبا وأبعد من الكسل. وذلك أنّ الصّبيان ومن فوقهم من السّنّ قليلا يخدمون الأكرة ويتعلّمون منهم بنشاط الحداثة وبسرعة حركة فيصلحون مسالك الماء في السّواقي ويصبرون على التّزبير وتقويم أغصان الشّجر وتسوية عمد الكروم والشّجر وساير النّبات، ( وأنّ) الصّبيّ إذا نشأ في الضّيعة مع الأكرة فكبر وقد عرف أمر الضّيعة خرج منه فلاّح فاره عالم" ( باب إصلاح الضّياع)، وابن حجّاج الّذي برّر ذلك "بأنّ الشّباب أقوى على إحناء الظّهور والأكتاف والمداومة على العمل وأطوع وأصحّ أبدانا وأدوم نشاطا وأصبر على العمل في البرد والحرّ وأحدّ أبصارا"، وحبّذ "أن يكون من يحفر باليلّ عريضا طويلا قويّا جسيما..." #ونقل ابن العوّام في هذا الباب باختصار عن الفلاحة النّبطيّة ويونيوس ( 10: 6). 

5- لا توحي بعض النّصوص بأنّ العمّال والوكيل عبيد، كما هو الشّأن عند كاتون ووارّون وكولوملاّ وبلينيوس. مثلا لم يذكر فرجيليوس العبيد أو ما يبيّن إن كان فلاّحوه مالكين أم لا، #ووضع رعاة بوكوليكا أوضح. واستخدم بلاّديوس كلمة "فلاّحين" rustici الّتي لا تسمح بمعرفة أسلوب الإنتاج ( 1: 6: 2). ولم يستخدم فلورنتينوس ( ج 2: 44) كلمة "عبيد" ويوحي طلبه من الوكيل ألاّ يشتغل لغير ربّ الضّيعة أنّه حرّ. وجاء نفس الطّلب في ترجمة أسطات ( لكن باسم "دمقراطيس الحكيم")، وكذلك عند ابن وحشيّة ( باب الوكلاء) الّذي لا يوحي استخدامه كلمة "استأجر" لوصف العلاقة بين العمّال وربّ الضّيعة في "باب إصلاح الأرض" بأنّهم أرقّاء، بينما توحي دعوته الوكيل إلى إطعام الفلاّحين 4 وجبات باليوم، وإشارته بتشغيل "الأطفال" بوضع شبيه بالقنانة، أو على الأقلّ بوجود بروليطاريا ريفيّة #( ذكر ليبنيوس هذا النّوع من علاقات الإنتاج في سورية في ق 4، إذ ميّز بين قرى تتبع سيّدا واحدا وأخرى عدّة ملاّك، أي فلاّحين أحرارا يعملون على أراضيهم بمفردهم أو مستعينين بأجراء). والظّاهر أنّ كتّاب الفلاحة فهموا كلمات "العمّال" و"المالك" و"الوكيل" كلّ حسب الظّروف السّائدة في مجتمعه. وأنّ فكرة سنّ العمّال المفضّلة حسب ديونسيوس ومواصفاتهم المثاليّة الّتي ذكر منها وارّون ما يخصّ المعّاز فقط من مصدر غير أرسطوطاليس: قد يكون ماغون الّذي قدّم مواصفات البقر المثاليّ وربّما مواصفات الحيوانات الأخرى كذلك.

6- تبدو لنا معاملة العبيد الّتي قدّمها وارّون نقلا عن ديونسيوس قاسية، لكنّها إنسانيّة بالمقارنة بممارسات العالم القديم #( الّتي تعدّ الإسبرطيّة أسوأها وبعضها- حسب ما نقل أفلوطرخوس في "حياة ليكرغوس" 28- كأعمال منظّمة "كو كلوكس كلان" مع الشّرعيّة) وحتّى بآراء الكتّاب القدماء. فقد دافع أفلاطون عن نظريّة الرّقّ الطّبيعيّ ( نواميس 6 777) وكذلك أرسطوطاليس الّذي أكّد أنّ الرّقّ ضرورة طبيعيّة، لأنّ الأدوات غير النّاطقة لا تتحرّك بمفردها امتثالا لمشيئتنا فلا الرّيشة تنقر أوتار القيثار ولا المكّوك ينتقل بين السّدى بدون يد تقودهما، ولا بدّ للإنسان إذن من أدوات حيّة إلى جانب الجامدة ( سياسة 1: 3-7 1254أ-1255ب، وتقسيم وارّون المذكور لأدوات الضّيعة مستوحى منه، بل إنّه أدرج العبيد مع الكلاب والبغال في الصّنف الثّالث من حيوانات الضّيعة الّذي يضمّ الحيوانات المساعدة 2: 1: 11). ورغم إقراره بوجود عبيد بالقانون لا بالطّبع ( مثل اليونان لأنّ استرقاقهم غير طبيعيّ) هاجم من يعدّون الرّقّ مؤسّسة اجتماعيّة تفرضها القوانين لا الطّبيعة، وقارن علاقة السّيّد بعبده والزّوج بزوجته والأب بابنه: والفرق أنّ العبد يفتقر إلى ملكة التّفكير العقليّ أمّا المرأة فتتوفّر لها لكن تعوزها السّلطة والولد لم تنضج فيه بعد ( س 1: 11). وعلّق على هسيودوس الّذي طلب ثورا أوّلا ( أعمال 405) بأنّ كلّ إنسان حرّ بحاجة إلى عبد والثّور عبد الفقير #( سياسة 1252ب، كما أشار إلى أنّ الفقير الّذي لا يملك عبيدا يضطرّ إلى تشغيل زوجته وأبنائه 1323أ). وبرّر الحرب لاسترقاق الأمم الّتي ترفض الدّور الّذي أسندته إليها الطّبيعة: الخضوع إلى اليونان ( 1: 5: 8). وقبله برّر أفلاطون ( نواميس 1: 626ب) وإكسينوفون ( تنشئة قورش 7: 5: 73) حقّ الغالبين في أملاك ونفوس المغلوبين. ورأى قريبه وتلميذه كلّستينس من حقّ اليونان استخدام الشّعوب "البربريّة" كالحيوانات والنّباتات ( أفلوطرخوس: "أخلاقيّات" 329 ب). وبعكس ديونسيوس، أشار أفلاطون ( ن 6 777-778) باستخدام الأمر فقط في مخاطبة العبيد وتأديبهم جسديّا إذا استحقّوا ونهى عن تأنيبهم كما لو كانوا أحرارا ( وخالفه أرسطوطاليس في الثّانية 1: 13 1260ب). كما كان إكسينوفون يكنّ كثيرا من الاحتقار للأرقّاء، خاصّة حرفيّي المدينة ( تدبير 13، نظام أثينة 1: 10- وهي نظرة الأثينيّين في عصره، حيث كانت توجد معامل كثيرة حول ميناء بيريوس معظم حرفيّيها من العبيد)؛ وحتّى المكافآت لهم مادّيّة صرفة وغذائيّة بالأخصّ، أمّا التّقدير فلا معنى له في حالهم.

   ولم تكن معاملة كاتون للعبيد أفضل، فقد ذكر أفلوطرخوس أنّه كان يضربهم بالسّوط لأدنى الهفوات ويخاف من اتّفاقهم ( كاتون 21: 2-4)، ولا يتّسم حديثه عنهم في فلاحته بالرّحمة، فقد أراد ألاّ تتاح لهم فرصة لارتكاب خطإ (4) وأشار ببيع المسنّ #والمسقام مع بقيّة الأدوات الّتي لم تعد صالحة ( 2: 7)- بل وفي آخر القائمة ربّما لأنّ الحيوانات والخردة تحتفظ ببقيا من قيمتها تجلب الشّراة أكثر منه- وذكر من يفرّ منهم ( 2: 2) وأنّ بعضهم يعملون مقرّنين في الأصفاد، ولا يبدي أيّ سخاء في طعامهم وشرابهم ( 56-59). مع ذلك ذكر أفلوطرخوس أنّه لبساطته كان يأكل معهم وكانت زوجته تربّي بنيهم مع بنيها ( كاتون 1: 9، 3: 2، 20: 5).

   لذلك يُظهر هنا ديونسيوس إنسانيّة نسبيّة يشاركه فيها وارّون- وإن كانت إشارته باستخدام أجراء mercenarii لا عبيد مملوكين في الأماكن الوبيئة 1: 17: 3 لارتفاع نسبة الوفيّات تعطي عنه صورة مختلفة- ونجدها أيضا عند كولوملاّ الّذي أشار بأن يكون المالك حازما لا قاسيا ( 1: 8، 11: 1: 25) وأن يذوق طعام العبيد ويتفقّد ملابسهم وأحذيتهم ويستمع إلى شكاواهم ويصغي أو يظهر الإصغاء إلى آرائهم ( كالقادة مع جنودهم) مع مراقبة المشاغبين منهم، وإعفاء الإماء الوالدات من العمل بل وعتقهنّ إن أنجبن 3 بنين ( 1: 8). ومزيدا منها عند فلورنتينوس المتأثّر في رأينا بديوفانس والّذي لا يدعو العمّال عبيدا ( ج 2: 44). يعني ذلك أنّ وارّون ربّما عدّل أقوال ديونسيوس في اتّجاه أرسطوطاليسيّ، أو أنّ تناقص أعداد العبيد من أسرى الحرب باستتباب السّلم الرّومانيّة أدّى إلى نظرة أرحم إلى العبيد #( وذلك يفسّر موقف كولوملاّ الّذي يذكّر بقانون Lex Papia Poppaea في عهد أغسطس لتشجيع الإنجاب)، بل كان بعض الفقراء في عهد الامبراطوريّة يتنازلون باختيارهم عن حرّيّتهم مفضّلين الرّقّ ( ديون البروسيّ فم الذّهب: خُطب 15: 22، وقدّم مركيانوس أساسا قانونيّا للعمليّة في مجموعة جستنيان 1: 5: 5). #مع ذلك نجد في الأدب القديم ملاحظات متناثرة مضادّة للرّقّ ( كما في مسرحيّة "إيون" لأوريبيدس حيث اعتُبر مخالفا لنظام الطّبيعة)، ودعوة إلى الرّفق بالعبيد منذ تعاليم شربّاك السّومريّة ( لا تضرب ابن الفلاّح فهو الّذي أقام لك التّلاع والرّصف 153) وبالأخصّ عند الرّواقيّين وفي الكتاب المقدّس. وقد قصرها العهد العتيق على "العبرانيّين" ( خر 21: 1-11 و20-21 و26-27، أحبار 19: 20-22، 25: 39-54، تثنية 15: 12-18)، متّخذا قصّة عبوديّة بني إسرائيل في مصر أساسا لها ( أحبار 25: 55، تثنية 24: 18 و22)، والظّاهر أنّ أمره بعتقهم بعد 6 سنوات من الخدمة لم ينفَّذ ( إرميا 34: 8-18)، وليس بيّنا إن كان العبيد المرافقون للعائدين من جلاء بابل حسب عزرا ( 2: 65) ونحميا ( 7: 67) "عبرانيّين" أم لا ( سيما أنّهم لم يُذكروا بين طبقات العائدين في التّلمود: قدوشين 4: 1-3، أمّا خدم اللاّويّين الّذين عناهم حزقيال 44: 7-9 فقد حُسبوا على حدة كما نرى من عزرا 2: 58 و8: 20 مثلا). والظّاهر أنّ كثيرا من الفقراء كانوا يبيعون أنفسهم بعد العودة ( نحميا 5: 5 و8 و10-11، أحبار 25: 39 إن اعتبرناه كسفر نحميا من ق 4-3). ونجد سياسة شبيهة بما رأينا في سفر الأمثال الّذي يوصي بالشّدّة مع العبد وعدم تأديبه بالكلام لأنّه "لا يفهم ولا يجيب" ( 29: 19 و21) وسفر ابن سيراخ غير القانونيّ الّذي ينصح بتوفير الخبز وحسن المعاملة ( لأنّه اكتُسب بالدّم ويُحتاج إليه)، مع العقاب الجسديّ بل التّنكيل للعبد الشّرّير ( 33: 25-33، 42: 5). حتّى الأنبياء رغم إدخال تيّار أخلاقيّ إلى الدّين الطّقوسيّ القديم وإدانة كثير من الأسقام الاجتماعيّة نظروا إلى الرّقّ كمعطى ثابت كما لاحظ دياكونوف، وربّما كان أقصى موقف في هذا الباب تأكيد إنسانيّة العبد ( أيّوب 13: 13، يوئيل 29: 2). وعمّمت المسيحيّة الدّعوة إلى الرّفق وأمرت في نفس الوقت العبيد بالطّاعة ( أفسس 6: 5-9، كولسّي 3: 22-25 و4: 1، تيمتاوس1 6: 1-3، فيلمون، بطرس1 2: 18-19). وتبدو قولة عمر بن الخطّاب الشّهيرة الّتي تؤكّد أصلانيّة الحرّيّة ( كما تُفهم عادة) غريبة في زمانه.

7- #على افتراض أنّ توصيات ديونسيوس ووارّون حول سياسة العمّال توافق موقف الكاتب القرطاجنّيّ وتعود إليه جزئيّا، لا يُستبعد أن تصدر عن القائد ماغون الّذي خلف هملكون في 396 وواجه ثورة المرتزقة واللّيبيّين الّذين تخلّى عنهم سلفه في صقلّية وانضمّ إليهم عمّال الفلاحة، وأخرى في 379، ولم يُبد قسوة كالّتي قمع بها هملقار ثورة مماثلة بعد الحرب البونيقيّة الأولى، وعاش في فترة شهدت فيها قرطاج تحوّلا اقتصاديّا وسياسيّا ودينيّا ( تعزيز سلطة الأرستقراطيّة، عبادة ديميترة)، وحالف شعوب صقلّيّة وجنوب إيطالية ضدّ ديونسيوس1 فكان في أعينهم محرّرا لا عدوّا، وأن يحظى باحترام الرّومان. وهذا مجرّد تخمين ( ربّما كان ملكا لا قائدا فقط).

 

تابع