ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

2- شذرات من المؤلّفات اللاّتينيّة

 

حواش 

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

2- شذرات من المؤلّفات اللاّتينيّة

2-1 موسوعة مسح الأراضي: إنذار "من كتب ماغون وفيقوية" 1: 350

   ( إنذار "من كتب ماغون وفيقوية" ( ex libris Magonis et Uegoiae auctorum) موجّه من النّبيّة الإترسكيّة فيقوية إلى أرنُّس ولتُمنوس جاء بدون نصّ لماغون في مجموعة Corpus Agrimensorum، وهي نصوص لمسّاحين رومان بين القرنين 1 ق م و6 م، كفرنتينوس وهيغينوس وفلاكّوس وبُلبوس وفاوستوس ووالريوس) اعلم أنّ البحر فُصل عن الجوّ. وإذ خصّ يوبتر نفسه بأرض إترورية قرّر وقضى أن تُمسح الأراضي وترسَّم حدودها. ولعلمه بجشع الإنسان وحبّه تملّك الأرض شاء أن تكون حدود كلّ أرض معروفة ثابتة. والّتي اتّخذها أيّ أحد وفي أيّ وقت يدفعه جشع هذا القرن الثّامن والأخير تقريبا، سيتعدّاها وينتهكها وينقلها أناس مكرا وزورا. لكن إن مسّ أحد حدّا أو نقله، زائدا إلى ملْكه الخاصّ منقصا من ملْك غيره، ستحلّ به اللّعنة جزاء جرمه. إن فعل ذلك عبيد سيُنزلهم سيّدهم إلى درجة أدنى. فإن فعلوا بعلمه، سيُنسف بيته فورا ويهلك ذووه جميعا. ستسلَّط على الجناة أسوأ العلل والقروح وتوهن أعضاءهم الأسقام. وستدكّ الأرضَ إذّاك الأعاصير والزّوابع والزّلازل، وستُفسد وتُهلك الغلّةَ الأمطارُ والبرَدُ، ويقضي عليها القيظ ويتلفها اليرقان، وتعصف بالشّعب نزاعات كثيرة. اعلمْ أنّ كلّ ذلك سيحدث لمّا تُرتكب تلك الجرائم. فلتجتنب الغشّ والزّور ولتع في قلبك تأديبا.

ملاحظات:

1- يتمثّل معظم ما بقي من كتابات الإترسكيّين في ألواح نذريّة وشواهد قبور ومعابد يصعب تأويلها لأنّ لغتهم لا تشبه لغات أخرى. وقد أكّد هيرودوت أنّهم نزحوا من آسية الصّغرى، لكنّ أصلهم مختلَف فيه. وتظهر تأثيرات شرقيّة فيهم تعود خاصّة إلى ق 7، مثلا في كتابتهم بحروف مشتقّة من الفينيقيّة واليونانيّة من اليمين إلى اليسار، ورزنامتهم ( الّتي حفظها يوحنّا اللّيديّ في نسخة يونانيّة منقولة عن ترجمة لاتينيّة أقدم) وبعض المنتجات الّتي كانو يقتنونها من مصوغ ومنتجات عاجيّة وبيض نعام، وفي قبورهم ولوح من ق 5 يخصّص محلاّ لعشتار في معبد كيرة، وفي العرافة والتّنجيم والأساطير: تذكّر مثلا أسطورة طاجيس الّذي خرج من الأرض ليعلّم النّاس بأسطورة ونّاس الّذي خرج من البحر فعلّم البشر وعاد إلى الأعماق حسب برعشّا، واعتقادهم في دورات تبلغ ح 10 ق ( الّذي أشار إليه أيضا سرفيوس في شرح بوكوليكا 9: 46 وشاركهم فيه الرّومان كما نرى عند كنسورينوس 17: 5 وفي النّبوءات السّيبلّيّة 4: 47) بما ورد مثلا في الفلاحة النّبطيّة منسوبا إلى علماء كلدانيّين، ناهيك عن الأعداد ذات الدّلالة في عقائدهم. حالفوا الفينيقيّين ( ثوكيديدس 1: 13، سياسة أرسطوطاليس 3: 5 1280أ) لإيقاف توسّع اليونان في غرب المتوسّط، مثلا في معركة ألالية ضدّ الفوكيّين ح 540. كان لهم أدب دينيّ وتاريخيّ ومسرحي ( كنسورينوس: يوم الميلاد، وارّون: في اللّغة اللاّتينيّة 5: 9، بلينيوس 36: 19 (93)). الإنذار مأخوذ من ترجمة لعرافة الإترسكيّين ( Disciplina Etrusca) وضعها ح 91 ق م تركويتيوس برسكوس ( Tarquitius Priscus)، وهو عرّاف ذكره وارّون ( Tarquenna 1: 2: 27)، ومن تلك الكتب آيات الأشجار ( Ostentarium Arborarium، مكروبيوس 3: 20: 3)، وهذا النّوع من العرافة ازدهر أيضا عند الفينيقيّين.

2- توافق نهاية ق 8 بتقويمهم ح 88 ق م ( والقرن لا يساوي عندهم 100 س، وهو في النّبوءات السّيبلّيّة 100-110 س). ويعكس النّصّ ردّ كبار الملاّك الإترسكيّين على دعوات بعض الأحزاب الرّومانيّة المنادية بالإصلاح الزّراعيّ ( دروسوس بعد غراكوس وساترنينوس) إلى إعادة تقسيم الأرض والحدّ من الملكيّات الكبرى، وحُوّر لاحقا كما يرى من الجملة الأخيرة الشّبيهة بما جاء في سفر الأمثال ( 24: 32) لكنّه مستمَدّ من مصادر أقدم. ويدلّ وجود مقتطفات من كتب ماغون وفيقوية في مجموعة مسح الأراضي حُفظ منها هذا الإنذار فقط على اهتمام ماغون بترسيم حدود الأرض، ويوحي اقترانه بفيقوية بقدمه ( لا نعلم إلى أيّ عصر كانت نبوءاتها تُرَدّ لكنّ الكتب السّيبلّيّة تعود حسب الرّومان إلى عصر نوما ق 8)، وبأنّه كان يحظى باحترام كبير جعل المحافظين يستخدمونه سلاحا في المعركة الإيديولوجيّة كما استخدمه لاحقا بلينيوس ( 18: 7: (35)) لمهاجمة الملكيّات الكبرى والدّفاع عن المتوسّطة والصّغرى.

3- تؤكّد كلّ الحضارات القائمة على الزّراعة على حرمة الحدود: روى برعشّا البابليّ مثلا أنّ الإله إيا ( Aon) علّم البشر مع الفلاحة وإنشاء المدن وضع التّخوم، وتروي ألواح السّومريّين أنّ نزاعا اندلع بين مدينتي أُمّا ولجش حكم فيه ملك كيش ( الّذي بسط نفوذه على المدن السّومريّة في أواسط الألف 3) وأقام بينهما حجرا منقوشا كيلا يتكرّر النّزاع، وقد عُثر على نصّ لعنة رُسم على صوّة بابليّة، وفي المتحف البريطانيّ حجر كان حدّا لحقل اشتراه أحد موظّفي القصر الملكيّ على الأرجح في ق 11. والحدّ بالفينيقيّة "تخم" كما في الأكّديّة أو العربيّة، ومعناه الأصليّ الحكم والشّرعة والمرسوم ( وللحدّ في العربيّة معنى شبيه). وأكّد المصريّ أمنموفت ( الّذي كان موظّفا كبيرا في دائرة الفلاحة وتسجيل الأراضي أيّام المملكة الحديثة) على قدسيّة حدود الأرض الزّراعيّة ( تعليم 7: 12-15 (126-127))، وكانت فيضانات النّيل تمحوها أحيانا، وربّما اقترنت نشأة قيس الأراضي في مصر بتلك الظّاهرة ( انظر هيرودوت 2: 109، وشذرة 299 لديمقريطس حيث أكّد أنّه فاق في الهندسة الحبّالين المصريّين Arpedonaptai وربّما قصد بالأحرى فلكيّين وربّما كانت من وضع الإسكندرانيّين كما رجّح ديلس). وجاء نفس النّهي عن إزاحة الحدود في سفر الأمثال ( 22: 28 و23: 10 وبعبارة شبيهة) وفي أيّوب ( 24: 2)، وفي سفري الأحبار ( 19: 35-37) والتّثنية ( 19: 14، 27: 17) مع أنّ لا معنى للحدود في عصرهما الافتراضيّ ( سني التّيه)، فضلا عن تناقضه مع الدّعوة في نفس الوقت إلى استيطان أرض الميعاد وطرد سكّانها، كما شجب هوشع ( 5: 10) نقل التّخوم. وحسب تك 23: 17 كان "الحثّيّون" يغرسون أشجارا على حدود حقولهم في فلسطين، لكنّ الرّواية- الّتي تنتمي إلى الجزء الكهنوتيّ المتأخّر من قصّة إبراهيم- لاتاريخيّة. ويرعى التّخوم إله في الأساطير اليونانيّة ( زيوس حسب أفلاطون: النّواميس) والرّومانيّة ( يوبتر أو ترمينوس)، وقتل رومولوس أخاه لعبوره حفيرا في أسطورة تأسيس رومية الّتي تذكّر بقتل اليونانيّ أوينيوس ابنه تكسيس لاجتيازه حدّا. وكان النّاس في إيطالية حتّى عصر النّهضة يضعون تحت رأس الميّت أحجارا إن اعترف قبل موته بأنّه نقل صوى حدود الحقول، وهي ممارسة منعها في ق 16 الكردينال باليوتّي (Paleotti Gabriele ) في المرسوم ( Episcopale Boniensis Civitatis)، وتذكّر بدفاع الميّت عن نفسه أمام محكمة أوزيريس حسب كتاب الموتى: "إنّي لم أُنقص مقياس الأرض". وقد أشار كتّاب الفلاحة باجتناب النّزاعات العقاريّة: فقدّم وارّون أساليب شتّى لتسييج الأرض ( 1: 14-15)، ونهى كولوملاّ بعد صاصرنا ( الإترسكيّ) عن تأجير المزرعة ( 1: 7)، وكذلك بلاّديوس ( خاصّة للجار، مالكا كان أو مكاريا، ولو قطعة صغيرة منها 1: 6: 6). ولا بدّ أنّ نزاعات وُجدت بين البونيقيّين الّذين كانوا يستغلّون رقعة صغيرة في ظلّ الملكيّة الخاصّة للأرض ( كولوملاّ 1: 1: 18، بلينيوس 18: 7 (35))، ويسيّجون جنائنهم ( أبّيانوس: شؤون بونيقيّة 117، ديوفانس ج 5: 44).

4- المسّاحون ( gromatici/agrimensores) قائسون ومقسّمون ومحجّرون ( mensores, diuisores, finitores). ويشارك مسح الأراضي الفلاحة في اهتمامات كتحديد وتسييج الأرض وحساب محيطها ومساحتها. وربّما كانت فقرات ماغون الّتي تضمّنتها في الأصل مجموعة مسح الأراضي تتناول مواضيع من ذلك القبيل. وقد انفرد كولوملاّ الّذي يبدو أكثر الكتّاب اللاّتين تأثّرا به بحساب مساحة الحقل وعدد الغروس لشتّى الأشكال الهندسيّة البسيطة ( 5: 2-3)، بينما اكتفى وارّون ( 1: 12) وبلينيوس ( 18: 3 (9)) وبلاّديوس ( 2: 12) بعرض وحدات قيس المساحة، ولم يرد شيء تقريبا عن الموضوع في جيوبونيكا والفلاحة النّبطيّة والمؤلّفات اللاّحقة.

2-2 شيشرون: مؤلّف ماغون "في الخطيب" 1: 48 (249)

   ( مرقس تُلّيوس كيكرو أو شيشرون 106-43 ق م من أبرز رجال الدّولة وأدباء ق 1 ق م. كتب خطبا وحوارات كالخطيب 55-54 والجمهوريّة 54-51 وطبيعة الآلهة 45 والمساجلات التّسكلانيّة 45. يتناول حواره هذا متطلّبات فنّ الخطابة: يرى كراسّوس أنّ الخطيب بحاجة إلى عدّة معارف من بلاغة وحقوق وعلوم سياسيّة، ويردّ أنطونيوس أنّه يصعب تحصيلها وأنّها غير لازمة، فالمهمّ القدرة على الإقناع الّتي أساسها الفصاحة وهي إلى السّليقة أقرب منها إلى الصّنعة. فالخطيب يحتاج بالأحرى إلى الحسّ السّليم والمعلومات العامّة المشتركة لا التّفصيليّة التّخصّصيّة. ويضرب مثلا على ذلك المعارف الفلاحيّة قائلا:) من منّا لا يحقّ له أن يزور أرضه أو يتفقّد فلاحته لمعاينة المحصول أو لمجرّد المتعة؟ مع ذلك لا يوجد أحد بلا بصر ولا فطنة إلى درجة الجهل تماما بموسم أو طريقة البذار والحصاد وكسح الأشجار والكروم. أفكلّما رغب أحدنا في تفقّد ضيعته أو توصية متصرّفه أو إصدار أوامره إلى وكيله بشأن إفلاح أرضه، لزم أن يتعلّم كلّ ما في كتب ماغون القرطاجنّيّ؟ أم يمكننا بالأحرى الاكتفاء بثقافتنا العامّة في هذا الباب؟ لِم لا يمكننا بالمثل أن نتعلّم من الحقّ المدنيّ، سيما إذا تمرّسنا بالمرافعات والأعمال التّجاريّة وشؤون السّياسة، ما يكفي فقط لكيلا نبدو في وطننا كالأجانب والأغراب؟

ملاحظات:

1- هذا المقطع شهادة على شعبيّة مؤلّف ماغون في العصر الافتراضيّ للحوار ( ح 90 ق م) لمّا كانت توجد ترجمته اللاّتينيّة فقط، بينما انتشرت في عصر كتابته ( 54) ترجمته اليونانيّة، إذ كان كبار الملاّك من قبيل شخصيّات الحوار يعرفون اليونانيّة ويستخدمون على ضياعهم وكلاء يونانا غالبا، لكن لا نخال شيشرون وضع على لسان أنطونيوس كلاما عن ترجمة لم تصدر بعد.

2- قدّم الكاتب ضمنيّا ماغون على أنّه خبير الفلاحة بلا منازع ومؤلّفه عمدة أرباب الضّياع. لم يذكر كاتون الّذي كتب قبل ترجمة موسوعته، ولا ديمقريطس الّذي انتشرت الكتب المنسوبة إليه بعد قرن، ولا إكسينوفون الّذي ترجم هو نفسه كتابه في تدبير الضّياع والّذي يرى مثل أنطونيوس أنّ الفلاحة بسيطة تتطلّب من ربّ الضّيعة القدرة على إدارة العمّال أكثر من المعارف الفنّيّة إذ بوسعه أن يستمدّها من المالك السّابق وجيرانه وتجاربه ( كما ذكر أيضا وارّون 1: 18: 7، 1: 19: 2). شيشرون أيضا يرى أنّ تقلّبات الطّقس تؤثّر أكثر من العلم والعمل: "لا يتحكّم في الفلاحة التّدبّر ولا العمل، بل أمور يتعذّر التّنبّؤ بها كالرّياح والأنواء" ( ضدّ ورّيس 3: 227).

3- ترتبط وجهة نظر أنطونيوس بنظام الفلاحة عند الرّومان في ق 1 ق م حيث كان جزء متزايد من الأرض بحوزة ملاّك يسكنون المدينة ويشغّلون على ضياعهم عبيدا تحت إمرة وكلاء ومراقبين ماليّين، ولا داعي إذن إلى تعلّم الجانب التّقنيّ، وبذلك يمكنهم التّفرّغ لأنشطة تليق بالحرّ كالسّياسة، وهي ظروف شبيهة بالّتي وصفها إكسينوفون أو أرسطوطاليس الّذي أكّد أنّ السّيّد لا يحتاج إلى معرفة كيف تنفَّذ الأعمال اليدويّة عموما وإنّما كيف يحمل العبيد على تنفيذها بل تحطّ معرفتها من قدره ( سياسة 1: 7 1255ب، 3: 4 1277أ). وقد انتقد كولوملاّ الأقرب من سواه إلى ماغون تلك النّظرة، وردّ على من يعزو ضعف الإنتاج إلى العوامل المناخيّة أو رداءة الأرض أو إجهادها لطول فلحها، مؤكّدا أنّ الفلاحة لم تبق كما كانت أيّام إكسينوفون (11: 1: 6) وأنّ نجاحها رهن المعرفة والإنفاق وحضور المالك ( 1: 1-2) وأنّها كالحرف الأخرى بحاجة إلى تعليم جدّيّ ( 1: مقدّمة: 4، 11: 1: 9-10) مستغربا ألاّ يرى فيها وحدها معلّمين ولا متعلّمين مع أنّها أقرب إلى الحكمة من أيّة صنعة أخرى، واستقبح ككاتون أن يتعلّم المالك الفلاحة من وكيله ( 1: 2، 11: 1: 4). وأكّد أهمّيّة تعليم الفلاّحين الأساليب المتطوّرة الّتي كانوا رغم خبرتهم المستمدّة من الآباء يجهلونها فرجيليوس الّذي أشار إلى جهلهم ( 3: 40 وإن كان يوجد أكثر من تأويل لقوله ignarosque..uiae agrestis) ودعاهم إلى تعلّم الأساليب الخاصّة بكلّ شجرة ( 2: 35-38) والتّخلّي عن ممارسات الآباء ( 3: 137- وقبله أكّد وارّون أيضا ضعف إنتاجيّة تقنيّات الآباء 1: 7: 2) وبلينيوس الّذي أراد أن يجعل في متناولهم شتّى المعارف الّتي جمعها في موسوعته ( 1: مقدّمة: 6، 18: 56 (206)، 25: 3 (16)) شاجبا حرص بعض العلماء على الاحتفاظ بمعلوماتهم كأسرار ( 25: 1: (1)) لإضفاء هالة من الوقار على أنفسهم، كما لو كانوا سيفقدون ما يعلّمون غيرهم ( 25: 3 (16)). ويبدو كأنّ شيشرون هنا يجهل اختلاف الأساليب الزّراعيّة بين البلدان ومناطق البلاد الواحدة وبين الفلاّحين وكتّاب الفلاحة، لكنّ نصوصا أخرى تبيّن معرفة أدقّ بالفلاحة ( في الشّيخوخة 15: 51-17: 61).

4- يناقض نصّ شيشرون هذا- إلى حدّ ما- تأكيده أنّ حبّ الرّبح التّجاريّ دفع القرطاجنّيّين إلى إهمال فنّي الفلاحة والحرب ( الجمهوريّة 2: 7)، وربّما قصد تركيزهم على التّجارة وأراد أيضا تبرير تدمير قرطاج وكورنثوس، والتّدليل على صحّة رأيه عن مزايا موقع رومية وسرعة فساد المدن الّتي تقام على البحر ( بسبب الاتّصال المستمرّ مع الأجانب الّذي يفسد لسان الأهالي وتقاليدهم، وانتشار البذخ واللّهو)- وهو رأي مبالغ فيه وقد رأى هو نفسه أنّه لا ينطبق على كورنثوس فقط بل على كامل بلاد اليونان. وفي النّصوص القديمة اختلافات حول حالة الفلاحة في قرطاج وحتّى في إيطالية لا تعود فقط إلى الفوارق الزّمنيّة.

2-3 مقتطفات من "فلاحة" وارّون

2-3-1 مؤلَّف ماغون 1: 1: 7-11

   ( أعلن في بداية مؤلّفه لزوجته أنّه جمع لها في شكل حوار ما ينبغي أن تعلم حول الفلاحة، وقدّم لها قائمة المراجع:) الّذين كتبوا باليونانيّة أشياء متفرّقة عن هذه المسألة أو تلك أكثر من خمسين. وهؤلاء من يمكنك الرّجوع إليهم إن أردت الاستقصاء عن مسألة ما: هيرون الصّقلّيّ وأتّالوس (و)فيلوميتور، ومن الفلاسفة ديمقريطس الطّبيعيّ وإكسينوفون السّقراطيّ وأرسطوطاليس وثيوفرستوس المشّاءان وأرخيطاس الفيثاغوريّ، وكذلك أمفيلوخوس الأثينيّ وأنكسيبوليس الطّاسوسيّ وأبولّودوروس اللّمنوسيّ وأرسطوفانس الملّوسيّ وأنطيقونوس القوميّ وأغاطقليس الخيوسيّ وأبلّونيوس البرغاميّ وأرسطندروس الأثينيّ وباخيوس الملطيّ وبيون الصّوليّ وخيرستيوس وخيرياس الأثينيّان وديودوروس الفرينيّ وديون الكولوفونيّ وديوفانس النّيقيّ وأفيجينس الرّودسيّ وأفاغون الطّاسوسيّ، والأفرونيوسيّان- الأثينيّ والأمفيبوليسيّ- وهيجسياس المارونيتيّ والمينندران- الفرينيّ والهرقليّ- ونيقسيوس المارونيتيّ وفيثيون الرّودسيّ؛ ومن بين الآخرين الّذين لم يأتني نبأ موطنهم أندروتيون وإسخريون وأرسطومينس وأثينغوراس وقراطس وداديس وديونسيوس وأوفيتون وأوفريون وأوبولوس وليسيماخوس ومَنسياس ومنستراتوس وبلنتيفانس وفرسيس وثيوفيلوس. كلّ الّذين ذكرت كتبوا نثرا، لكنّ البعض نظموا نفس الأشياء شعرا مثل هسيودوس الأسكريّ ومنقراطس الأفسسيّ. ويفوق هؤلاء شهرة ماغونُ القرطاجنّيُّ الّذي ضمّ معلومات شتّى في 28 كتابا باللّغة البونيقيّة، ترجمها كسّيوس ديونيسيوس الأوتيكيّ إلى اللّغة اليونانيّة في 20 كتابا أهداها للوالي praetor سكستيليوس، وفي تلك الكتب أضاف أشياء غير قليلة non pauca من مؤلّفات الكتّاب الّذين ذكرت، وبالعكس حذف من كتب ماغون مقدار 8 كتب. لخّص هذه الكتب ذاتها ديوفانس في بيثينية وأهداها للملك ديوتاروس. وبصفة أوجز أحاول عرض الموضوع في ثلاثة كتب، واحد عن فلاحة الأرض والثّاني عن تربية الماشية والثّالث عن الدّواجن، مستبعدا من هذا الكتاب الأمور الّتي لا أرى لها صلة بإفلاح الأرض.

ملاحظات:

1- كتب أكثر من 50 كاتبا يونانيّا في الفلاحة، أشياء متفرّقة حول مسائل شتّى، لا بصفة مركّزة وشاملة، أضاف ديونسيوس أفكارا منهم إلى ترجمته. يعني ذلك أنّ وارّون استمدّ منه القائمة وأنّ ماغون لم يتأثّر بهم، وإلاّ لما احتاج إلى تلك الإضافات. ومع ولعه بالتّقسيم اكتفى بتصنيف بسيط: الملوك، فالفلاسفة الّذين تناولوا في جملة أغراضهم الفلاحة، فعامّة الكتّاب: معروفي الأوطان ومجهوليها مع ترتيبهم حسب حروف الهجاء وارتباك ربّما مأتاه النّقل من مصدر يونانيّ ( إذ يختلف ترتيب بعض الحروف في اللّغتين)، وأخيرا من كتبوا فيها شعرا. ثمّ خصّ بالذّكر ماغون الّذي يفوقهم شهرة وجمع في كتبه معلومات عن شتّى أقسام الفلاحة.

2- يمكن اعتبار أتّالوس فيلوميتور انطلاقا من نصّه شخصا أو اثنين، لأنّ اللاّتينيّة تستخدم الفصل asyndeton في تعداد الأسماء بينما تعطف العربيّة. إن اعتبرناه واحدا فهو أتّالوس3 ملك برغامة 138-133 ق م الّذي أوصى بمملكته للرّومان. وهيرون هو على الأرجح الثّاني ( 270-215) الّذي اعتنى بتطوير زراعة الحبوب في صقلّيّة، وأصدر قانونا جبائيّا Lex Hieronica، إذ لم يُعرف عن الأوّل الّذي ملك في بداية ق 5 ق م اهتمام بالزّراعة.

3- قدّم وارّون الفلاسفةَ حسب التّرتيب الزّمنيّ، ملحقا في المرتبة الخامسة أرخيطاس الفيثاغوريّ ( التّارنتيّ كما وضّح كولوملاّ) صديق أفلاطون والمتقدّم عنهم قليلا 428-347. واعتبر ديمقريطس من الّذين كتبوا أشياء متفرّقة في الفلاحة، ولم يذكر له أيّ رأي، لأنّ كتاب الفلاحة المنسوب إليه والّذي استشهد به كولوملاّ وبلينيوس واستمدّت جيوبونيكا نصوصا منه نشره ثراسيلوس في عهد تيبريوس مع كتب أخرى بعضها من وضع بولوس المنديسيّ.

 4- ذكر وارّونُ هسيودوسَ المتقدّم زمنيّا على الجميع في آخر قائمته مع منقراطس الأقلّ منه شهرة ( والّذي استشهد به في فصل تربية النّحل 3: 16: 18، ولم يذكره كولوملاّ في الكتاب 9، بينما أدرجه بلينيوس ضمن مراجع كتابي موسوعته 8 و11). ولم يدرج فيها نيقندر الّذي نظم شعرا في الفلاحة والنّحالة.

5- لم يُشر إلى كتّاب قدماء ذكرهم أرسطوطاليس وثيوفرستوس كخاريس الفاروسيّ ( سياسة 1: 2 1258ب) أو ليوفانس ( أ.ن. 2: 4: 12، تو.ح. 4: 1) وخرطودراس ( ت.ن. 2: 7: 4) ممّا يثير الشّكّ في معرفة ديونسيوس- مصدر القائمة المرجّح- بكتاباتهما الّتي نُشرت لاحقا وربّما عرف أفكارهما من كتب أتباعهما أو كتب منحولة كفلاحة أرسطوطاليس الّتي عُثر على قطعة برديّة منها في مصر من ق 2 ق م واستشهد بها غ مرتياليس مرّة و"بارون وكونتليوس" ( ج 3: 3: 4) وابن حجّاج ( دفع الدّود والهوامّ) وابن العوّام ( في القسم النّباتيّ من فلاحته 12: 1، 15: 0، 16: 0، 25: 7) والسّويديّ في "التّذكرة" ( أمّا أبولّودورس اللّمنوسيّ الّذي ذُكر مع خاريس في الموضع المشار إليه من كتاب السّياسة وأشار إليه وارّون هنا ثمّ كولوملاّ فيبدو أنّه ترك آثارا لأنّ بلينيوس أدرجه بين مراجع الكتب 8، 10، 14، 15، 17 و18، لذا لا يعني ذكره الاطّلاع على تلك الكتابات). وحتّى الّذين ذكرهم لم يتركوا آثارا فيما عدا الفلاسفة وهسيودوس وملخّصي ماغون، ولم يورد هو ولا الكتّاب اللاّحقون أفكارا مهمّة لهم في الفلاحة والأرجح أنّه لم يقرأ هو ولا ديونسيوس لمعظمهم ولا عنهم شيئا. لكنّ بلينيوس ذكر بعضهم في مراجعه.

6- لم يذكر مع ماغون كتّابا بونيقيّين آخرين لكنّه تحدّث في 1: 2: 13 عمّن "كتبوا في الفلاحة بالبونيقيّة واليونانيّة واللاّتينيّة". كسّيوس ديونسيوس الأوتيكيّ يونانيّ من أوتيكة فقد اعتاد اليونان في الامبراطوريّة الرّومانيّة اتّخاذ أسماء لاتينيّة ( مثلا كسّيوس ديونسيوس لُنغينوس ق 3 م)، ونعرف تاريخ ترجمته من إهدائها إلى بُبليوس سكستيليوس حاكم إفريقية الرّومانيّة في 89/88 ق م، الّذي لم يسمح لماريوس باللّجوء إليها بعد انتصار سولاّ ( أفلوطرخوس: حياة ماريوس)، وتحمل اسمه كوال propraetor عملة سكّت في سوسة في تلك الفترة. كما نعرف التّاريخ التّقريبيّ لملخّص ديوفانس البيثينيّ النّيقيّ من إهدائه إلى ديوتاروس الّذي ملك على غلاطية بين 64 و40 ق م. وبيثينية منطقة ش غ الأناضول تطلّ على بحر مرمرة والبحر الأسود ومضيق البسفور، لجأ حنّبعل إلى ملكها بروسياس2 بعدما فرض الرّومان على أنطيوخوس3 تسليمه إليهم في معاهدة أفامية 188، وبقي فيها حتّى انتحاره، وصارت في 74 ق م، بمقتضى وصيّة ملكها نيقوميدسمقاطعة رومانيّة. ومع أنّ تطوّرها الحضاريّ متأخّر، ينتسب إليها كتّاب بارزون كديوفانس وفلورنتينوس وأبسرتوس. ويدلّ إهداء المؤلّفين إلى حاكم على طابعهما العمليّ. وديوفانس كاتب فلاحة إلى جانب تلخيصه ترجمة ديونسيوس الّذي تصرّف في نصّ ماغون. وفعلا ذكره بلينيوس ككاتب إلى جانب ملخّصه ضمن مراجع الكتاب 10 الّذي تناول فيه الطّيور البرّيّة والدّاجنة ( الّتي لم يرد نصّ لماغون أو ملخّصيه عنها فيما عدا تأكيد وارّون أنّه ومترجمه تركا تعاليم بخصوص تربيتها تتيح تحقيق مردود لا يستهان به 3: 2: 13-14) وكذلك في عجالة ولاد بعض الهوامّ كالعقارب الّتي ورد نصّ فيها لديوفانس في جيوبونيكا وهبياتريكا. لكنّ بلينيوس لم يتناول هنا طرق مكافحتها، ولم يدرجه ككاتب بين مراجع أيّ كتاب آخر ولا استشهد به في أيّ موضع آخر من موسوعته، بينما ذكر ملخّصه وترجمة ديونسيوس وسيلانوس أو ماغون دون تحديد بين مراجع كتب أخرى. وهذا يعطي فكرة عن أهمّيّة إسهام ديوفانس الشّخصيّ ككاتب فلاحة.

7- لم يذكر ترجمة المؤلَّف اللاّتينيّة وهي سابقة، ولا شكّ أنّها لم تزل متداولة في عصره وقد ذكرها بلينيوس بين مراجع موسوعته بعد أكثر من قرن. وترجمته إلى اليونانيّة دليل على قيمته نظرا إلى وجود كتب عن الفلاحة فيها وقلّة التّرجمة إليها: إذ لا نعرف كتبا تُرجِمت إليها قديما سوى الكتاب المقدّس ( ق 3-2 ق م)، وتاريخ الفينيقيّين الّذي ترجمه فيلون الجبيليّ ( ق 1 م) عن سنخناتيون، والإنياذة الّتي ترجمها بوليبيوس معتوق كلوديوس ( ق 1 م) وعُثر على بقايا ترجمتها في مكتبة هرقلانيوم؛ وذكر تاتيانوس ( خطاب إلى اليونان 37) وأوسبيوس ( الإعداد الإنجيليّ 10: 11) مؤرّخين فينيقيّين تُرجمت كتاباتهم؛ أمّا كتابا مانثون وبرعشّا فقد كُتبا باليونانيّة أصلا، وكذلك "أقدميّات" يوسفوس الّذي اعتمد بالأساس على العهد العتيق الّذي كان قد تُرجم ( ضدّ أبيون 1: 9-10) بينما انطلق في "حرب اليهود" من مادّة آراميّة استعان بمعلّمين لكتابتها باليونانيّة، وأمّا بعض الكتب الأخرى الّتي نُسبت إلى حكماء كهرمس فمختلَف في أصلها. ويلاحَظ أنّ مانثون وبرعشّا ويوسفوس كهنة كان هدفهم التّعريف بمآثر أممهم الّتي باتت خاضعة لليونان ( ثمّ الرّومان)، وأنّ العهد العتيق ترجمه يهود ليهود لم يعد بمقدورهم قراءته في الأصل في الإسكندريّة، أمّا التّقليد الّذي يعود إلى رسالة أرسطياس المنحولة ويردّ ترجمته إلى عهد فيلادلفوس فهو أقرب إلى الخرافة منه إلى التّاريخ ( والقصّة فضلا عن طابعها العجائبيّ- إتمام التّرجمة على يدي 72 مترجما من الأسباط الاثني عشر في 72 يوما مع تشابه كلّ ترجماتهم، واعتراف الملك بعد نقاشات لاهوتيّة معهم بتفوّق اليهوديّة- تتضمّن أخطاء تاريخيّة بخصوص ديمتريوس الفاليريّ ومنديموس الإرتريّ، وجغرافيّة بخصوص موقع ومصبّ نهر الأردنّ، وتشير إلى كاتب يهوديّ إسكندريّ من ق 2)، وحتّى لو افترضنا صحّته جزئيّا، فالأرجح أنّ فيلادلفوس ( الّذي لا يستبعَد أنّه اهتمّ بترجمة الكتب لإثراء مكتبة الإسكندريّة بعلوم كلّ الأمم فضلا عن اليونان) سعى من وراء ذلك إلى توجيه دعايته إلى يهود فلسطين في صراعه ضدّ السّلوقيّين ( وفعلا تُظهر برديّات زينون وجود أنصار للبطالمة بين يهود فلسطين). أمّا مؤلّف ماغون فترجمه يونان ورومان للاستفادة منه؛ وقد استُخدم على نطاق واسع في الأدب الفلاحيّ والمجال العمليّ بينما لا نجد أثرا في الأدب اليونانيّ لتلك الكتب- حتّى السّبعينيّة الّتي لم يرد أيّ استشهاد منها عند الكتّاب الوثنيّين إلاّ نتفة من سفر التّكوين 1: 2 في مقالة Peri Upsous ( في الجلال فصل 9) المنسوبة إلى ديونسيوس لُنغينوس مستشار زنّوبية وتعود حسب البعض إلى ق 1 م ( وما ورد مثلا في أناشيد الرّعاة 4: 8 و21-22 وفيه شبه بنبوءة أشعيا 7: 14 و11: 6 لا يدلّ على تأثّر فرجيليوس بها لأنّ صورة طفل إلهيّ باعث عصر ذهبيّ موجودة في الأدب الإسكندرانيّ والميثولوجيات الشّرقيّة، كالسّاوْشِنت في القصص الشّعبيّة الإيرانيّة القديمة، وهي ضمنيّة في ألقاب ملوك العهد الهلّينستيّ كالمنقذ soter، بل توجد صورة عصر أو مكان يرعى فيه الحمل مع الذّئب حتّى في نصوص السّومريّين عن دلمون؛ كما قد تكون بعض النّبوءات السّيبليّة المتضمّنة عناصر يهوديّة ومسيحيّة واضحة مثل 3: 791-793 صدى للحرب الدّعائيّة أثناء صراع أكتافيوس وأنطونيوس حيث أُطلقت نبوءات عن انتصار كليوبطرة7 ومجيء مخلّص وبمباركتها أو تحويرا متأخّرا).

8- لكن لِم إضافة ترجمة يونانيّة إلى اللاّتينيّة إذا كان الغرض مساعدة المستوطنين الرّومان في إفريقية ( علما بأنّ حركة الاستيطان لم تنشط إلاّ لاحقا في عهد يوليوس قيصر وأغسطس)؟ الغرض في رأينا جعل مؤلّف ماغون في متناول قرّاء الأدب الفلاحيّ في أنحاء العالم الهلّينستيّ والامبراطوريّة الرّومانيّة النّاشئة. فقد كانت اليونانيّة إذّاك لغة العلم بلا منازع ( وتُستخدم كذلك في ميادين أخرى). ظلّ كامل الشّرق في إطار الامبراطوريّة الرّومانيّة يستخدمها واتّخذها الرّومان اللّغة الرّسميّة هناك، بل ساهموا في نشرها، وفعلا مدح فيلون الإسكندريّ أغسطس على نشر الحضارة الهلّينيّة ( "السّفارة إلى قيوس" Legatio ad Gaium 147). وحتّى في صقلّية لم تزحزحها اللاّتينيّة بعد 241 بل أضيفت إليها لأغراض محدّدة. وفي إفريقية ظلّت البونيقيّة بعد ضمّ رومية للأراضي القرطاجنّيّة تُستخدم على المستوى الشّعبيّ وفي السّكّة والنّقائش إلى عصر متأخّر، مع دور لليونانيّة أهمّ من دور اللاّتينيّة الّتي لم تتبنّها إفريقية نهائيّا إلاّ في ق 2 م. وفي إيطالية نفسها كتب المؤرّخون الرّومان الأوائل، كفبيوس بكتور وكنكيوس أليمنتوس، باليونانيّة، وكتب بها علماء رومان ( كسكستيوس نغروس ويوليوس بسّوس حسب قائمة مراجع كتب بلينيوس 13، 30، 32-34)، وكتّاب يونان عاشوا في رومية في عصور متأخّرة#،  بها علّم مثلا أفلوطين في أواسط ق 3 في رومية، وبها كتب مرقس أورليوس "لنفسه" وأقرّ فرجيليوس لليونان بالتّفوّق في الآداب والعلوم ( إنياذة 6: 847-). بل لم يكن عدد المتكلّمين باليونانيّة أقلّ من عدد المتكلّمين باللاّتينيّة في شوارع رومية بين ق 2 ق م و3 م ( توينبي: تاريخ الحضارة اليونانيّة). ويدلّ على تداول اليونانيّة في عصر ديونسيوس في أوساط الرّومان العليا أنّ مجلس الشّيوخ في عصر سولاّ استمع إلى أبولّونيوس مولون بدون ترجمان ( فالريوس مكسيموس 2: 2: 3)، وأنّ الحسيبين في 92 ق م عارضا مشروع إقامة معهد للخطابة باللاّتينيّة بدلا من اليونانيّة ( شيشرون: "الخطيب" 3: 24: 93، سويتونيوس: "في النّحو والبلاغة" 25). وجلّ اللّفائف الّتي عُثر عليها في مكتبة هرقلانيوم الّتي احترقت في 79 م يونانيّة. وحتّى في الفلاحة حيث يبدو الرّومان أقلّ اعتمادا على المصادر اليونانيّة من العلوم الأخرى كالطّبّ أو الفلك، نجد في مؤلّف كولوملاّ مثلا نسبة من المصطلحات اليونانيّة شبيهة بالّتي في مؤلّف كلسوس في الطّبّ، وتعجّ كتب الفلاحة اللاّتينيّة من كاتون إلى بلاّديوس بالألفاظ اليونانيّة، ويجد بلينيوس صعوبة في تسمية كثير من النّباتات والحيوانات والأحجار والعقاقير باللاّتينيّة. وحتّى إن أُعدّت التّرجمة للمستوطنين الرّومان فقد كانوا من كبار الملاّكين ( كالّذين صوّر ثروتهم العقاريّة كولوملاّ 1: 3: 12 وبلينيوس 18: 7 (35) وفسيفساء داربوك عميرة قرب زليطن في ليبية أو السّيّدِِ يوليوس من طبرقة بمتحف باردو، أو تريملكيون شخصيّة رواية بترونيوس الّذي يودّ شراء أراض في صقلّية حتّى يمكنه السّفر من رومية إلى إفريقية على أرضه 48)، ويعرفون اليونانيّة. تدلّ ترجمة المؤلّف كذلك في رأينا على أنّه يعرض أساليب زراعيّة كثيرة غير معروفة ( أو على الأقلّ لم تُعرض سابقا بنحو منهجيّ وشامل) في العالم الهلّينستيّ بما في ذلك فينيقية، علما بأنّ اليونان كتبوا عن كلّ ما وجدوا في البلدان الّتي أخضعوها. هناك أدلّة أخرى على أنّ القرطاجنّيّين لم يكتفوا بنقل تراث فينيقيّي الشّرق بل طوّروه: فقد ابتكروا حسب المصادر القديمة السّفن ذات ال4 و5 صفوف الّتي لا يبدو أنّها استُخدمت في الشّرق واستخدموا أوّل نظام شبيه بالتّلغراف.

9- لم يوضّح من أيّ نوع كانت إضافات ديونسيوس: مثلا هل هي أفكار شبيهة أو مختلفة عرضوها حول مسائل تناولها، كوقت غراسة وكسح الأشجار أو ترتيب الأزبال أو طرق إعداد وحفظ الخمور والأغذية، أم مواضيع لم يتناولها، كالخنزير الّذي ربّما لم يتحدّث عنه ( على الأقلّ بما يوازي أهمّيّته في الاقتصاد اليونانيّ والرّومانيّ) أو نباتات توجد في العالم الهلّينستيّ ولا توجد في إفريقية وأخرى يمكن الاستعاضة بها عن نباتات خاصّة بالمستعمرات البونيقيّة كالحلفا أو نظم اجتماعيّة مختلفة للعمل والملكيّة. وقد تكون الإضافات عرضا لأساليب ونباتات أحدث عهدا لم تكن معروفة في عصر ماغون، وإن كان الكتّاب الّذين ذكرهم وارّون ثمّ كولوملاّ ( نقلا عن ديونيسوس على الأرجح) قدماء، والفلاحة لا تتطوّر كثيرا في قرن أو اثنين أو ثلاثة- اللّهمّ إلاّ بإدخال أساليب من بلدان أخرى. وقد تكون تعليقات لغويّة من قبيل تعليقه على تسمية اللّغد أو على كلمة  كما ذكر أثينيوس، وكما نرى في الفلاحة النّبطيّة حيث يذكر ابن وحشيّة أسماء النّباتات بالعربيّة واليونانيّة والنّبطيّة ( ليتأكّد قارئه من النّبات المقصود) وعند ابن العوّام بخصوص تسميات الشّهور وبعض النّباتات. ويبدو لنا أنّ استخدامه عبارة "غير قليلة" non pauca بدلا من "كثيرة" multa يدلّ على أنّ المادّة الماغونيّة تشكّل القسم الأوفر من مؤلّفه.

 10- أخبرنا وارّون أنّ المترجم أسقط "مقدار" 8 كتب، ممّا يبعث على الاعتقاد بأنّ المادّة المسقطة أشياء متناثرة في أجزاء الموسوعة حُذفت. وواضح أنّ وارّون قدّر كمّيّتها بمقارنة عدد اللّفافات الأصليّ بعدد الكتب في ترجمة ديونسيوس: وذلك يعني ضمنيّا أنّ ترجمة 28 كتابا بالبونيقيّة دون زيادة ولا نقصان تعطي عددا مماثلا في اليونانيّة، وليس ذلك صحيحا بالضّرورة، فقد تفوق مادّة لفافة بالبونيقيّة عند التّرجمة محتوى لفافة- على افتراض قراطيس متساوية وخطوط بنفس الحجم- لخلوّها من الصّائتات الّتي تؤلّف أكثر من 40% من نصّ يونانيّ ( أو لاتينيّ)، لكن في نفس الوقت تُستخدم فيها الصّوامت في أوّل الكلمات كصائتات ومن جهة أخرى كتبت البونيقيّة كلغات ساميّة أخرى الصّوامت الطّويلة. ويكفي لنرى ذلك أن نقارن النّصّ العبريّ لفصل من العهد العتيق بما يطابقه في السّبعينيّة أو الفلجاتة ( حتّى أنّ بعض لفافاته صارت فيهما سفرين:  صموئيل 1 و2 وملوك 1 و2 حسب التّرجمات الحديثة، وأخبار 1 و2). يمكن كذلك أن نقارن حجم القرآن وترجماته اللاّتينيّة ( كالّتي أشرف عليها بيير الجليل الرّاهب بدير كلوني البندكتيّ Petrus Abbas Cluniacensis في 1143). والفينيقيّة تشبه العبريّة والعربيّة لذا قد تبلغ موسوعة ماغون في ترجمتها اللاّتينيّة وكذلك لو تُرجمت بتمامها إلى اليونانيّة ح 40 كتابا، أي في حدود موسوعة بلينيوس العلميّة، ومن ثمّة قد تكون نسبة الاختزال أكثر من 8 على 28 فضلا عن أنّ جزءا من الكتب ال20 لا نعلم مقداره هو إضافات من المترجم. لكنّ هذا مجرّد تخمين، وربّما كانت ال28 حجم التّرجمة اللاّتينيّة الكاملة الّتي لا نعلم إن كانت بحوزته فهو لم يذكرها ولم يستشهد بها، وحتّى في تلك الحال من الصّعب معرفة المقدار المحذوف، فقد تكون التّرجمة أطول أو أقصر حسب سعي المترجم إلى التّوضيح أو الاختصار، وخلافا للإضافات الّتي يمكن معرفتها من النّصّ نفسه كلّما ساق ديونسيوس مثلا تحاليل خاصّة ببلاد اليونان وتسميات النّباتات وأعضاء الحيوانات باليونانيّة كما سنرى، لا نظنّه ذكر الموادّ المحذوفة بنحو منهجيّ.

   ولم يرد في كتب الفلاحة ما يسمح بمعرفة نوع المادّة المسقطة: ربّما تفاصيل تتعلّق بدرجة أو بأخرى بموضوعه ( وصف نباتات برّيّة كما عند ثيوفرستوس أو بلينيوس أو في "الفلاحة النّبطيّة"، أو حديث عن الأعياد والآلهة في الرّيف البونيقيّ) أو استطرادات انجرّ إليها بصفته قائدا عسكريّا ( كترويض الخيل، أو مواضيع كالّتي تناولها مثلا أفريكانوس الّذي كتب في الفلاحة وفنّ الحرب معا)، أو مناقشة آراء كتّاب بونيقيّين ( من قبيل ما في الفلاحة النّبطيّة). نرى مثلا، إن جاز القياس، أنّ ابن العوّام أسقط من "الفلاحة النّبطيّة" أفكارا سحريّة لأنّها تخالف الدّين ( ابن خلدون: "كتاب العبر" 1: 26)، وكذلك ابن الرّقّام في "خلاصة الاختصاص"، وأكّد ناسخها أنّه لم ينقل فصلا تناول فيه ابن وحشيّة تاريخ الأنباط لأنّ لا علاقة له بالفلاحة ( كذلك أشار فوتيوس إلى وجود أمور تخالف الدّين في كنّاش بيروتيوس ونصح المسيحيّ بتجاهلها والاستفادة من بقيّة النّصوص). لكن مستبعَد أن يحذف ديونسيوس ما يتعلّق بآلهة البونيقيّين وأعيادها والنّباتات والحيوانات المكرّسة لها لأنّها ظلّت تُعبد في عصره ولأنّ الوثنيّين يحترمون آلهة الشّعوب الأخرى ويماثلونها عادة بآلهتهم. كذلك أكّد وارّون أنّ "من كتبوا في الزّراعة بالبونيقيّة واليونانيّة واللاّتينيّة تجاوزوا كلّهم الحدود المناسبة لموضوعهم" ( 1: 2: 13)؛ وسواء قصد تربية الماشية كما يبيّن السّياق، أو إعداد الأطعمة والوصفات المبنيّة على التّضادّ والتّحابّ عند ماغون وبولوس وكاتون كما يرى فلّمانّ، فما حذف ديونسيوس غيرُ ذلك، فقد أورد له نصوصا في تلك المواضيع وصلنا بعضها. ربّما سعى ببساطة إلى الاختزال لطول الأصل المفرط والمثبّط لغير ذوي الخبرة والحماس كما يوحي أيضا نصّ شيشرون، لكن أقلّ من اختزال ديوفانس لملخّصه. وواضح، رغم جهلنا بما حذف وبما أضاف، أنّه أراد تقديم خلاصة لعلم الفلاحة في عصره يعود الجزء الأوفر منها إلى ماغون.

 

تابع