ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

1- ماغون وأدب الفلاحة القديم

 

حواش 

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 1-3 الكتّاب اليونان

   ألّف في الفلاحة كتّاب يونان كثيرون، تجاوز عددهم حتّى عصر وارّون 50، كتب بعضهم كأرسطوطاليس وثيوفرستوس في مواضيع أخرى واقتصر آخرون عليها لكن دون تناولها في كلّيّتها. وقد حُفظت مؤلّفات قلّة منهم بعضها منحول أو مشكوك فيه، لكنّ كتابات معظمهم تلفت، وبقيت في أفضل الأحوال استشهادات متناثرة منها.

1-3-1 هسيودوس Hesiodos

   أوّل أولئك الكتّاب هسيودوس الّذي عاش في أواخر ق 8. نشأ في قرية أسكرة في بيوتية حيث استقرّ أبوه الّذي هاجر إليها من قومة ( أعمال 639-640)، وسط فلاّحين صغار، وروى كيف ألهمته ربّات الفنون وهو يرعى الغنم على جبل هليكون قصيدته عن "منشإ الآلهة" وهي مع الإلياذة والأوديسة أهمّ وأقدم مصادر دراسة الميثولوجيا اليونانيّة. كتب في الفلاحة قصيدة "الأعمال والأيّام" ( 828 بيتا) حيث تغنّى بفلاّحين بسطاء يعملون في إطار اقتصاد موجّه إلى حاجيات الأسرة، جاء فيها مثلا: "ابدأْ باقتناء بيت وامرأة وثور للمحراث، أمة لا زوجة لتتبع الثّور أيضا" ( 405-406). فيها وعظٌ لأخيه، ورزنامةٌ لأعمال الفلاّح ذات طابع دينيّ وفلكيّ ( تربط المواسم بظهور واختفاء الكواكب وبالانقلابين: 383، 384، 417، 479، 564، 565، 571، 598، 609، 610، 615، 619-620، 663، وبظواهر طبيعيّة: الطّيور 448، الحلزون 571، النّبات 582، وبأيّام الشّهر القمريّ: 770-828)، وبعضُ التّعليمات الفنّيّة وجزءٌ حول قواعد الملاحة ربّما تعلّمه من أبيه، وإشادة ببعض الفضائل، وأساطير تحمل تأثيرا شرقيّا ( كفكرة عصر ذهبيّ كان الإنسان فيه يعيش مع الآلهة، وتتالي الأجيال البشريّة وفق نسق تنازليّ وأسطورتي برومثيوس وبنْدورة- وذلك يصحّ أيضا على أساطير "منشإ الآلهة" المختلفة عن أساطير هوميروس، كتعاقب 3 أجيال من الآلهة على حكم العالم، كما في دين بلاد الرّافدين حيث يعكس تعاقب مدنها على السّلطة، مثلا أزاح مردوخ إنليل كما أزاحت بابل نفّر، لكنّ بلاد اليونان لم تشهد تلك الظّاهرة). ويبدو ذلك التّأثير أيضا في أدب الحكمة ( 209-210، 304، 319، 375، 703-705، الخ)، وفكرة تأثير القمر في الأعمال الفلاحيّة، والتّقويم الفلكيّ ( وإن كانت الكواكب فيها تحمل أسماء يونانيّة، وقد نقل اليونان من البابليّين أسماء 4 بروج فقط)، وبعض الاحتياطات ذات الطّابع السّحريّ (724-759) لكنّها لا تشبه تماما الوصفات السّحريّة الّتي ازدهرت في أدب الفلاحة لاحقا والمبنيّة على استخدام قوى التّحابّ والتّضادّ في الطّبيعة. وبعض المقاطع لا توافق حقّا منطقة بيوتية ( مثلا 383-404 و582-596). وتذكّر القصيدة برزنامة نفّر حيث وجّه التّعاليم فلاّح إلى ابنه كما في أدب الشّرق القديم، وتشبه مواقيت الأعمال فيها ما في رزنامة جازر. وفيها تأكيد على أهمّيّة الجهد ( فالعطالة هي المخجلة لا العمل 304)، وتمجيد للعمل الفلاحيّ وحياة الرّيف يخالف النّظرة الأرستقراطيّة السّائدة في الأدب اليونانيّ واللاّتينيّ وخاصّة في الشّعر الملحميّ إلى الفلاحة والعمل اليدويّ عموما.

1-3-2 ديمقريطس Demokritos

    ومنهم ديمقريطس الأبديريّ 460-370 ق م الفيلسوف المشهور تلميذ لوقبّوس ومؤسّس المذهب الذّرّيّ الّذي وفّق بين ثبات الإيليّين وصيرورة هيرقليط. وقد نسب إليه ديوجينس اللاّئرتيّ ( ق 3 م) 73 كتابا في الكونيّات وعلوم الطّبيعة والرّياضيّات والفلك والجغرافيا وفنّ الحرب والأصباغ والصّيدلة والفلاحة، وفسّر إغفال أفلاطون له في حواراته بكراهيّته له. وهو من ممثّلي النّزعة المادّيّة في الفلسفة، توجّه إلى دراسة الطّبيعة مواصلا تقليد الأيونيّين ورافضا فكرة الخوارق ( لقيانوس)، ومحاولا تقديم تفسير عقلانيّ للظّواهر الطّبيعيّة وتخليص النّاس من المخاوف المرتبطة بالتّفكير الخرافيّ. وقد تأثّر به أبيقور والرّواقيّون. أورد له فعلا عدّة آراء في الطّبيعة من ذلك القبيل أرسطوطاليس، وأفلوطرخوس ( "الآراء الطّبيعيّة الّتي ترضى بها الفلاسفة": رأيه في جسم القمر، وتفسيره للزّلازل الّذي عرضه كذلك أرسطوطاليس في "الآثار العلويّة" 362أ)، وسينيكا ( في "المسائل الطّبيعيّة" آراؤه حول المعادن 4: 9: 1 والرّياح 5: 2: 1 وحركة الأرض 6: 20: 1 والمذنّبات 7: 3: 2). رفض أرسطوطاليس مذهبه الذّرّيّ لكنّه نوّه به وبوضوح كتاباته في علم الحيوان ( تولّد الحيوان 2: 7). وناقش هو وثيوفرستوس بعض أفكاره في علم الأحياء ( أسباب النّبات 1: 8: 2، 2: 11: 7، 6: 6: 1، 6: 17: 11، في الرّوائح 14: 64)، لكنّها تتعلّق بمسائل نظريّة ( كتفسير عقم الهجائن: تولّد الحيوان 2: 7، وتغذية الجنين وتحديد جنسه، وعوامل تعمير الأشجار: أ.ن. 2: 11: 7-، لكن لم يذكره في "تاريخ النّبات"). ولم يذكرا  الآراء الّتي نسبتها إليه مصادر متأخّرة كإنشاء النّحل من جثّة ثور، وبعضها لا يتّفق مع مذهبه ( كرأيه في تا.ح. 7: 3 عن جنس الجنين فهو غير الّذي نسبه إليه كولوملاّ 6: 28). واهتمّ به الإسكندريّون فجمع عنه كلّيماخوس Kallimachos القورنيائيّ أمين مكتبة الإسكندريّة في عهد بطليموس2 ( بداية ق 3) "أقوالا نادرة ومؤلّفات"، وحلّل هجسياناكس Hegesianax أسلوبه، وفي ق 1 م أعدّ ثراسيلوس Thrasyllos الإسكندرانيّ الأفلاطونيّ الفيثاغوريّ ومنجّم تيبريوس قائمة بأعماله في شكل رباعيّات كالّتي رتّب بها أعمال أفلاطون. لكنّ كتاباته الحقيقيّة ضاعت منذ ق 3 ق م ولم يبق منها سوى نتف. ونحله كتّاب أفكارهم في الخيمياء والسّحر والطّبّ والفلاحة.

   أدرجه وارّون في فلاحته بين كتّاب الفلاحة ( 1: 1: 7)، لكنّه لم يذكر له أيّ رأي. وأثنى كولوملاّ على حكمته ( 1: مقدّمة) وأدرجه بين كتّاب الفلاحة ( 1: 1) وعرض آراء له من كتابي "الفلاحة" Georgikon و"المتضادّات" Peri Antipathon الّذي نسبته موسوعة سويداس إلى بولوس المنديسيّ Bolos Mendesios رغم تفطّنه إلى أنّ الأخير واضع كتاب "العمليّات" Cheirokmeta المنسوب إليه ( 7: 5: 17). وخلط بلينيوس بينهما، ناسبا كتابات بولوس إلى ديمقريطس الّذي أدرجه بين مراجع معظم كتب موسوعته ( 2، 7-37 باستثناء 32 و36)، وذكره 44 مرّة وروى عنه أخبارا عجيبة ونسب إليه Cheirokmeta 24: 102 (160) وذكر أنّه نقله عن المجوس ( الّذين تعلّم منهم الطّبّ والحكمة 30: 2 (9-10)) وأنّ فيه كثيرا من الزّيف. ونسب إليه أفكارا ذات طابع سحريّ وعجائبيّ غالبا. وإلى بولوس الّذي لم يذكره ينبغي ردّ الأفكار الّتي نسبها إليه في الفلاحة في الكتب 15 و17 و18، كما بيّن ماكس فلّمانّ Max Wellmann ( "فلاحة ديمقريطس" 1921، "طبيعيّات ديمقريطس" 1928 حول كتاب الخيمياء Physika kai mystika). وتعود الآراء والوصفات الّتي نسبتها جيوبونيكا في 44 فصلا و19 فقرة إلى ديمقريطس ويعكس بعضها بيئة مصر وثقافة العصر الهلّينستيّ أو يحمل طابعا سحريّا يخالف نزعته العقلانيّة. وكذلك ما أورد له ابن حجّاج وابن يحيى الوطواط وابن وافد وابن العوّام ( وربّما خلطوا أحيانا اسمه وأسماء كتّاب آخرين كديوفانس الّذي لم يذكروه مع أنّه من مصادر المجموعات البيزنطيّة). وكذلك بعض الكتب الّتي صنّفها ثراسيلوس بين مؤلّفاته: مثلا عن الأصباغ ( أحد فروع الخيمياء في العصر الهلّينستيّ)، والحرب والمعدّات الثّقيلة ( Taktika). كتب بولوس كذلك في السّحر مستخدما تقاليد سحريّة طبّيّة من مصر وبلاد الرّافدين، ومنه على الأرجح استمدّ بلينيوس شتّى الوصفات الّتي عزاها إلى المجوس magi في الكتب 28-30 من موسوعته وربّما كذلك عبر أنكسيلاوس اللاّريسّيّ الفيثاغوريّ الّذي ذكره مع "ديمقريطس" بين مراجعها.

  رجّح فلّمانّ أنّه قدم إلى مصر من قورنائية أو جنوب إيطالية حيث كانت توجد حلقات فيثاغوريّة، لكنّ هناك ما يوحي بأنّه مصريّ ( كنعت كولوملاّ له بكاتب الأمّة المصريّة الشّهير Aegyptiae gentis auctor memorabilis 7: 5: 17، وفقرة جيوبونيكا 20: 6: 3، وسمات الكتابات المصريّة القديمة الّتي تحملها كتاباته ومنها الجمع بين الجانب الطّبيعيّ والدّينيّ، وحديثه الّذي أورده برتلو في "مجموعة كتابات لعلماء خيمياء يونان قدماء" ج2 عن "الأحاجيّ الّتي طرحها آباؤنا ملوك مصر المقدّسون على الفينيقيّين" وربّما قصد ألغازا كالّتي تضمّنتها قصّة أحيقار) من منديس ( في الصّعيد غربيّ النّيل حسب ياقوت وذكرها هيرودوت أيضا)، عاش وكتب باسم ديمقريطوس في الإسكندريّة ح 200 ق م حسب ديلس وفلّمانّ بناء على دراسة مصادره.

   لكن لِم كتب بولوس باسم ديمقريطس؟ قد يعود ذلك إلى الرّغبة في نسبة أفكار مستمدّة من مصادر متفرّقة إلى مفكّر مشهور ويلفّه الغموض، لكنّه حسب برتلو ( M.Berthelot: Origines de la Chimie, Paris 1885) لم يقصد نحله أفكاره، بل تأكيد الانتساب إلى تراثه الفكريّ. والظّاهر أنّه كتب باسم بولوس الدّيمقريطيّ Demokriteios ( كما دعاه مثلا ثيون في تعليق على "ترياق" نيقندر، وستيفانوس البيزنطيّ في مقالته عن الأفسنتين)، وانقلب الاسم إلى Bolos Demokritos وديمقريطوس، ودامُقريطوس Damokritos في موسوعة سويداس، وديمقراطيس عند ابن حجّاج وابن العوّام. وتبدو الكتابات المنحولة غريبة عن فكر ديمقريطس لكنّ للمؤلّفات المنسوبة إليه في الخيمياء حسب برتلو نواة في كتاباته الحقيقيّة.

   أهمّ أسس نظام بولوس نظريّة التّوافقات والتّضادّات الطّبيعيّة. وهو لم يبتكرها إذ نجدها مثلا عند أرسطوطاليس الّذي ذكر العداوات والصّداقات بين الحيوانات ( تا.ح. 9: 1 608أ-610أ) وردّها إلى الغذاء والسّكن: كعداوة الحيوان المفترس وفريسته، أو الحيوانات المتنافسة على الغذاء أو الطّفيليّ والّذي يؤويه، وهناك في المقابل الصّداقة بين الحيوانات ذات العدوّ أو الصّالح المشترك أو العادات السّكنيّة المتشابهة، واستنتج من الأمثلة الّتي عرضها "أنّ المصادقة والموافقة، والاختلاف والقتال تكون بين السّباع لحال تدبير حياتها ومأواها ومكسب طُعمها". وذكر ثيوفرستوس توافق بعض النّباتات كالكرم والتّين أو الآس والزّيتون أو البيقة والفجل ( أ.ن. 2: 18: 1)، وتضادّ أخرى جرّاء التّنافس على الغذاء أو مضايقة بعضها للآخر كاللّبلاب والبرسيم والرّجلة لبقيّة الأشجار والكرنب للكرم ( ت.ن. 6: 16: 5-6). لكنّها صارت عند بولوس والتّيّار المنحدر منه ( كراتيفاس وبوسيدونيوس وأنكسيلاوس ويوبا وبكساموس وكلسوس وبمفيلوس وأبوليوس وأفريكانوس وديديموس حسب فلّمانّ) ظاهرة كونيّة وميتافيزيقيّة، كمبدأي الحبّ والكره عند أنباذقليس ( القائل بأنّ "الشّبيه يجذب الشّبيه")، أو الحبّ عند أفلاطون ( المأدبة 189-193، مرافعة أبوليوس 12)، فلكلّ الكائنات من حيوانات ونباتات وأحجار ومعادن ونجوم قوى خفيّة بينها تحابّ وتنافر يمكن تسخيرها في شتّى الصّناعات، كما تؤكّد قولته الشّهيرة الّتي تنتهي بها كلّ وصفة خيميائيّة في "الطّبائع والأسرار": "الطّبيعة تزدهر في طبيعة أخرى، الطّبيعة تقهر# طبيعة أخرى، الطّبيعة تسيطر على طبيعة أخرى". وذلك مبدأ عدّة وصفات في الفلاحة والطّبّ والخيمياء والتّعدين عند بلينيوس وكتّاب جيوبونيكا.

   نقل بولوس في فلاحته حسب فلّمانّ من كتّاب يونان قدماء كأندروتيون ( المذكور في ت.ن. 2: 7: 2-3 و"مأدبة الحكماء" 75د، 78 أ-ب، 82 ج، 650ه وفي قائمتي وارّون وكولوملاّ وبين مصادر الكتابين 17 و18 من موسوعة بلينيوس) وليوفانس ( المذكور في أ.ن. 2: 4: 12 و"تولّد الحيوان" 4: 1) وثيوفرستوس. وربّما كذلك من ماغون مع إضافة عناصر سحريّة أو تقوم على فكرة التّحابّ والتّضادّ الكونيّين، كما يوحي تشابه بعض أفكارهما ( كتوجيه حقول الكروم نحو الشّمال وإنشاء النّحل من جثّة ثور وتقليح حبوب في لباب نباتات وتسييج الجنائن وحفظ الفواكه والاهتمام بإعداد وحفظ الأطعمة، وما نسب إليه ابن حجّاج وابن العوّام عن زراعة حبوب بعض الأشجار والإنشاب واختبارات التّربة، وجيوبونيكا عن النّباتات الطّفيليّة والرّيافة، وربّما كذلك الاهتمامات العسكريّة). لم يستمدّ ماغون تلك الأفكار من ديمقريطس الأبديريّ، لأنّ صاحبها بولوس المتأخّر عنه لا الفيلسوف الذّرّيّ. لكن هل اطّلع بولوس على أفكار ماغون؟ وهل تأثّر حقّا بأرسطوطاليس وثيوفرستوس وأثّر في ديونسيوس وديوفانس كما أكّد فلّمانّ؟ وهل كلّ الأفكار المنسوبة إلى ديمقريطس في الفلاحة لبولوس، أم استمرّت الكتابات الفلاحيّة المنسوبة إليه في التّوسّع شأن الكتابات الخيميائيّة كما بيّن برتلو؟ سنحاول الإجابة على ذلك بعد دراسة ما نُسب إليه في الكتابات اليونانيّة واللاّتينيّة والعربيّة وشذرات ماغون وملخّصيه.

1-3-3 إكسينوفون Xenophon

   إكسينوفون 431-350 قائد خيّالة من أثينة، هاجر منها وخدم كقائد فرقة من المرتزقة عند قورش، ثمّ عند أجيلاوس 2 ملك إسبرطة بعد قيادة كتيبة العشرة آلاف خارج بلاد فارس، وكتب 3 حوارات دفاعا عن معلّمه سقراط، وعن "تنشئة قورش"، و"تربية الخيل"، و"تدبير الضّياع"، و"دستور إسبرطة"، وتكملة لتاريخ توكيديدس. ويحمل كتاباه عن الخيل واقتصاد الضّيعة على الأرجح تأثير امبراطوريّة الفرس حيث أقام، خاصّة أنّه أبدى إعجابه بملوك الفرس ومرّ في رحلة العودة بعدّة أقاليم منها كبابل. ولم يؤثّر الأوّل في كتّاب الفلاحة قدر حواره في "التّدبير" الّذي ترجمه شيشرون، كما ذكر كولوملاّ ( 11: 1: 5، 12: مقدّمة، 7، 12: 2: 6 مع نقل مقاطع منه 12: 3: 1-4). وهو يركّز على جانب إدارة المالك للضّيعة وقيادته للعبيد، أكثر من الجانب التّقنيّ الّذي يبدو له بسيطا يتعلّمه المزارع بمشاهدة غيره (16) ومن الطّبيعة نفسها (19): "فالفلاحة بين كلّ الصّناعات الأسهل تعلّما" (21)، ويبيّن إسخوماخوس لسقراط، الّذي يبدو بمظهر المتعلّم لا المعلّم، أنّه في الحقيقة يعرف أشياء كثيرة لكنّه يجهل معرفته بها. يبدأ الكاتب بتعريف الاقتصاد والثّروة (1) ويناقش أسباب نموّها (2) مشيرا إلى الفروق بين المزارعين في النّتائج الاقتصاديّة (3). ويبيّن مقابل رذالة الحرف اليدويّة كرامة صنعتي الفلاحة والحرب، ضاربا مثال ملك الفرس (4)، ومبيّنا مزايا الفلاحة الّتي هي أساس الرّخاء وازدهار المهن الأخرى وفيها إصلاح للأرض وتمرين للجسد وتعطي أشخاصا صالحين للحرب (5)، وهي صنعة شريفة وممتعة وسهلة التّعلّم (6). ثمّ يشير إلى تقسيم العمل في الضّيعة بين الزّوجين (7)، ملحّا على أهمّية التّرتيب (8)، وموضّحا وظيفة المرأة (9) الّتي لا يجب أن تشغل نفسها بالزّينة أكثر ممّا ينبغي (10)، ومقدّما كيفيّة تقسيم ربّ الضّيعة لأعمال يومه (11). لكنّه لا يشتغل بيديه، بل يختار وكيلا يعلّمه (12) ويكل إليه قيادة العمّال باستخدام المكافأة والعقاب (13)، ولا بدّ أن يكون نزيها حريصا على أملاك سيّده (14). أمّا الأساليب الزّراعيّة فيسهل تعلّمها من الآخرين إذ لا أسرار في الفلاحة كما في بعض الحرف(15). بل من السّهل حتّى دون ذلك معرفة الأرض الجيّدة وجزئيّات أخرى عن الأرض (16) وزراعة الحبوب (17) والحصاد والدّراس (18) وغراسة الأشجار (19). ولا يعود الفرق بين المزارعين النّاجحين والفاشلين إلى العلم الّذي يشترك فيه الجميع لأنّ الأرض نفسها تعلّمنا، بل إلى العناية (20)، وإلى قدرة المالك على بثّ الحماس في العمّال، فهو كربّان السّفينة أو قائد الجيش (21، وورد نفس التّشبيه في 5 و8)، أساس نجاحه القيادة الحازمة المبنيّة على موهبة إلهيّة لا على القسر والاستبداد.

1-3-4 أرسطوطاليس وثيوفرستوس Aristoteles, Theophrastos

   كتب أرسطوطاليس 384-322، أو ألقى دروسا جمعها تلاميذه، في شتّى ميادين الفلسفة. ويُنسب إليه 170 كتابا: في الطّبيعة وما بعد الطّبيعة والمنطق والنّفس والسّياسة والجمال والأخلاق، كثير منها منحول أو من تحرير تلاميذه. وتهمّ الفلاحة منها- فضلا عن أفكاره بخصوص سياسة صاحب الضّيعة مع الوكيل والعبيد، في "السّياسة" و"التّدبير المنزليّ" Oeconomica المنسوب إليه- مؤلّفاته عن الحيوان: "أسباب الحيوان" و"تاريخ الحيوان" (  بالأحرى "بحث في الحيوان" وترجمه ابن البطريق بعنوان "طباع الحيوان") و"أجزاء الحيوان" وكتيّبان عن "حركة الحيوان". وتعود إلى ما بعد انفصاله عن الأكاديميّة بعد موت أفلاطون ( ح 347) وسفره من أثينا الّتي عاد إليها بعد 12 سنة وقد تخلّص من تأثير مثاليّة أستاذه، فأسّس مدرسته اللّيكيون حيث درّس بين 334 و323. وقد جمع فيها، مع تلاميذه، معلومات ضخمة استخدمها لتصنيف عالم الحيوان بحسب بيئته وتغذيته وتوالده وسلوكه، وهي مصدر عدّة أفكار عند كتّاب فلاحة لاحقين. ذكر في تا.ح. كتابا ألّفه في النّبات لكنّ كتاب النّبات المنسوب إليه والّذي شرحه نيقولا الدّمشقيّ ق 1 م وترجمه إسحاق بن حنين منحول ( فهو خال من فكرة الغائيّة الأساسيّة في مؤلّفاته الأخرى، ولا يوافق إحالات كتب أرسطوطاليس إليه، ولم يذكره الإسكندر الأفروديسيّ، ويرجّح أنّه لأحد أتباعه إذ يذكّر بعض ما فيه بما في تاريخ النّبات لثيوفرستوس: كاستخدام زبل الخنزير للرّمّان الحامض الثّمر وإقحام وتد في جذع شجرة اللّوز العقيم 1: 6 106أ، ت.ن. 2: 7: 6، تحوّل الحنطة إلى زؤان 1: 7 106ب، ت.ن. 2: 4: 1 و8: 7: 1، أ.ن. 2: 16: 2-3، تمييز النّخل الذّكر والأنثى القريب ممّا في ت.ن. عن جنس النّبات 2: 8: 4 النّخيل، 1: 13: 5 النّخيل والرّمّان، 3: 3: 1، 3: 4: 2، 3: 12: 1 القرانية، 3: 15: 3 الفستق). وكذلك كتاب عجائب الحيوان Mirabiles Auscultationes الّذي ورد بعض ما جاء فيه في تا.ح.، وكتاب في الفلاحة وردت فقرة منه في برديّة من ق 3 ق م، واستشهادات منه في جيوبونيكا وعند كتّاب عرب. ويعتبر النّقّاد الكتاب 10 من تا.ح. منحولا ويشكّون في الكتب 7-9 ( وفي ك 9 وصف طباع النّحل وأفكار نجدها في كتب الفلاحة اللاّتينيّة وجيوبونيكا، يشبه بعضها تعليمات ماغون عن جني العسل ونهيه عن قتل كلّ الزّنابير). ويرجّحون أنّ المؤلّفات المنسوبة إليه في علم الأحياء والّتي تمثّل روح فلسفته بنحو معقول من وضع أتباعه جزئيّا على الأقلّ ( كما هو الشّأن في أعمال أخرى ك158 كتابا عن أنظمة مدن بقي منها "دستور أثينة").

   ويستحقّ التّنويهَ اعتمادُه على المشاهدة وابتعادُه عن جمع الأخبار الغريبة إلاّ القليل، لكن أساءت إلى قيمة عمله العلميّة بعض الافتراضات الفلسفيّة الّتي بنى عليها تحاليله، كتأكيد الغائيّة في الطّبيعة ( الّتي تخلّى عنها إلى حدّ ما ثيوفرستوس وستراتون)، والنّزعة إلى التّعميم التّعسّفيّ ( كتأكيده أنّ الطّبيعة لا تمنح الإناث أسلحة دفاعيّة والاستنتاج بأنّ النّحل ذكور)، والقول بسلّم للكائنات يتبوّأ قمّته الإنسان وهي أرقى بقدر اقتراب صفاتها منه، وبعض التّأكيدات الّتي لم تُبن على مشاهدة علميّة حقّا ( مثلا أنّ التّيس قد يدرّ لبنا تا.ح. 6: 2 بناء على قصّة تيس لمنوس، أو أنّ الإنسان النّوع الوحيد الّذي تتفاوت بالنّسبة إليه فترة الحمل مع أنّه ذكر ذلك في الكلب والفيل والبقر، أو أنّه وحده يضع مولودا واحدا أو عدّة مواليد في ولادة واحدة مع أنّه ذكر مثل ذلك في الدّبّ والخنزير والفرس، أو أنّ له 8 أضلاع أو أنّ للرّجل من الأسنان أكثر ممّا للمرأة، وخاصّة فكرة التّولّد التّلقائيّ). وهي هنات تظهر ضرر وصاية الفلسفة على العلم لكنّها لا تلغي طابع كتاباته العلميّ.

   وقد واصل عملَه في ميدان النّبات تلميذه وزميله ثيوفرستوس 372-287 الّذي خلفه على رأس المدرسة المشّائيّة وجمع معلومات كثيرة، وكتب، فضلا عن عدّة أعمال في ميادين أخرى، "تاريخ النّبات" و"أسباب النّبات" ( الّذي ترجم أبو إسحاق العشّاريّ جزءا منه لكنّ النّباتيّين المسلمين اهتمّوا خاصّة بديُسقوريدس المتأخّر عنه والّذي صنّف أعشابا أكثر واهتمّ أكثر باستعمالاتها الطّبّيّة). وقد تخلّى فيهما تقريبا عن العلّة الغائيّة. ويستفاد من إشارة بلينيوس 3: (57-58) و15: 1 (1) أنّه بدأ إلقاء دروسه حول ت.ن. ح 314/313، ومن الإشارة إليه في أ.ن. 1: 19: 5 أنّه سابق، بينما يوحي ذكر أحداث لاحقة فيه ( كزحف أوفِلاس في 308 على قرطاج 4: 3: 2، أو إعدادات أسطول أنطيقونوس في 301 لمحاربة بطليموس 4: 8: 4) ووقائع تعود إلى العهد البطلميّ ( كغراسة القلقاس 1: 6: 11 أو بعض أنواع الأشجار على ضفاف النّيل 4: 8: 2) بأنّه نقّحه في حياته بعد ذلك التّاريخ. كما يبيّن استشهاد أثينيوس بمقاطع منه لا توجد في النّصّ الحاضر أنّ المشّائيّن واصلوا تنقيحه.

   غرض مؤلّفات أرسطوطاليس وثيوفرستوس في الأحياء علميّ، كما نرى مثلا من موضوعات تا.ح. (  ك 1-3: أعضاء الحيوان، 4: الحيوان غير الدّمويّ، 5-6 تولّد الحيوان، 7: الإنسان وتناسله، 8: سلوك الحيوان: الغذاء والسّكن والأمراض، 9: طباع الحيوان، مع تأخير ك7 في ترجمة ابن البطريق الّتي تبويبها أصحّ). لكنّها تتضمّن ملاحظات متناثرة ذات طابع عمليّ ( مثلا في تا.ح. عن صنع الجبن واستخدام حليب التّين والنّفاح المستخرج من كرش العجل للتّجبين وعن تغذية وأمراض الحيوان وعلاجاتها، وفي ت.ن. عن الزّبول والمفاضلة بينها 2: 7 ومكافحة الأعشاب الطّفيليّة 8: 11: 9، وغراسة وتطعيم شتّى النّباتات وخلط أنواع مختلفة من التّربة وزراعة البيقة في ثسّالية ومقدونية لتحسين خصوبة الأرض واستخدام مفرش في الاصطبل للحفاظ على بول وزبل البقر، وصنع القار في مقدونية وسورية وكيفيّة جمع اللّبان الذّكر والمرّ في بلاد العرب). ويوحي بعض ما ورد في كتب أرسطوطاليس بأنّ لدراسة الحيوان أو الجوّ، فضلا عن علاقتها بنظامه الفلسفيّ ككلّ ( بنظريّة النّفس والطّبيعة والعلل مثلا)، أغراضا عمليّة وهي بمثابة مدخل إلى الطّبّ ( الآثار العلويّة 4: 12، الفصل عن أسباب طول العمر وقصره في المقالة 3 من تلخيص ابن رشد لكتاب الحاسّ والمحسوس). لذلك لا يخلو حكم وارّون بأنّ كتب ثيوفرستوس "تصلح لمن همّهم النّقاشات الفلسفيّة أكثر من إفلاح الأرضين" ( 1: 5) من شطط.

   ولم يذكرا من مصادرهما إلاّ شيئا يسيرا. فقد عرض أرسطوطاليس بعض آراء سابقيه لدحضها، ولم يبيّن مصادر المعلومات الّتي جمعها عن أكثر من 500 حيوان بعضها من بلدان بعيدة ومع تشريح عدد منها؛ ويصعب مثلا تصوّر أنّه كتب بدون الاستعانة بمصادر مقارناته بين الحيوانات في أوروبة وآسية وليبية ( أي إفريقية)، أو ملاحظاته عن أحجام الحيوانات الأليفة والبرّيّة في مصر أو السّحالى والفئران في بلاد العرب أو ألية الغنم في سورية مقارنةً باليونان أو علف الفيل اليوميّ بالمكاييل المقدونيّة ( 8: 9 596أ). ذكر ثيوفرستوس من جهته في ت.ن. خرطودراس في المفاضلة بين الأزبال ( 2: 7: 4) أو أندروتيون ( عن ريّ وتزبيل الزّيتون والرّمّان والآس 2: 7: 2-3) وهِبّونوس ( 1: 3: 5، 3: 2: 2) ومِنسطور ( 1: 2: 3، الخ) عن الفروق بين أنواع النّبات البستانيّة والبرّيّة. ولم يحدّد مصادر معلوماته عن نباتات من ليبية ومصر وبابل وسورية والهند، وطحالب يقذفها المحيط الأطلسيّ في البحر المتوسّط ( ت.ن. 4: 6: 4، 4: 7: 1) والوزّال ( ت.ن. 1: 5: 2) الّذي ينبت في إسبانية وإفريقية. وربّما استقيا معلومات كذلك من حرفيّين كالفحّامين الجنّانين والفلاّحين ومربّيي الخيل والخنازير وصيّادي الأسماك ( كما توحي على التّوالي ت.ن. 5: 9: 1-4 و7: 5: 2 و8: 11: 9، تا.ح. 8: 24 604أ، 8: 6 594أ، وعدّة مقاطع فيه عن السّمك مثلا في 8: 30 607ب ينقل عن "أهل الخبرة" "متى يجود طعم السّمك في الطّهي"). كما اعتمدا على مشاهداتهما على الحيوانات والنّباتات، فقد ذكر أرسطوطاليس كتابا له ضاع في التّشريح، وغرس ثيوفرستوس عددا من النّباتات في حديقة اللّيكيون. لكن لم يكن لهما مثل النّباتات والحيوانات الّتي كانت تضمّها حدائق موسيون الإسكندريّة أو قصور الملوك الهلّينستيّين، ولا المكتبات ووسائل البحث الّتي وضعوها تحت تصرّف العلماء في بلاطاتهم، فهي تتطلّب أموالا طائلة.

   وقد شاع أنّهما استخدما تقارير علماء وأفراد عاديّين شاركوا في حملة الإسكندر، وأنّه أمر بإرسال حيوانات إلى أرسطوطاليس من بلدان الشّرق. لكنّ الإسكندر فتح فارس 6 س فقط قبل موته في 323، وفي نفس السّنة اضطرّ أرسطوطاليس إلى مغادرة أثينة ومات في السّنة التّالية، ولا شكّ أنّ تلاميذه هم الّذين استفادوا من تلك الحيوانات، كذلك ذكر ثيوفرستوس أنّه أرسل نباتات بحريّة لكن عاينها أشخاص غيره وغير أستاذه ( ت.ن. 4: 7: 3). وأرسطوطاليس في المواضع القليلة الّتي ذكر فيها مصادره عن البلدان البعيدة أشار إلى جيل الرّحّالين السّابق سيما كتسياس طبيب أحشورش. وعلاقته مع الإسكندر خرافة أكثر ممّا هي حقيقة.

   هناك أيضا إشكال بخصوص تأثيرهما قبل ق 1 ق م. ففي مصادر قديمة ( كسترابون 12: 1: 54 وأفلوطرخوس: "حياة سولاّ" 26) روايات تجعل مستبعدا، حتّى إن أخذنا بعين الاعتبار الجانب القصصيّ فيها، تأثيرهما خلال ق 3 و2 ق م في الكتّاب اليونان بله القرطاجنّيّين، إذ تفيد بأنّ مكتبتهما انتقلت لمّا خلف استراتون ثيوفرستوس إلى نيليوس السّقبسيّ الّذي لم يهتمّ ورثته بها، وأخفوها في دهليز كيلا يستولي عليها ملوك برغامة، إلى أن حصل عليها أبلّيكون وأعادها إلى أثينة حيث أخذها سولاّ لمّا غزا بلاد اليونان 86 ق م فأرسلها إلى رومية حيث أساء النّسّاخ حفظها ثمّ رتّبها تيرنّيوس وجمعها وصنّفها أندرونيكوس في النّصف الثّاني من ق 1 ق م. ومن المعروف أنّ مدرسة أرسطوطاليس، بعكس الأكاديمية، لم تعد ذات بال بعد استراتون ( المتوفّى ح 269)، وفاقتها الرّواقيّة والأبيقوريّة إشعاعا، ولم تستعد الفلسفة المشّائيّة تأثيرها إلاّ في عصر متأخّر ( جالينوس أواخر ق  2 م، والإسكندر الأفروديسيّ ق 3، فيلوبونوس وسمبلقيوس ق6)، وبعد مزجها بعناصر أفلاطونيّة، وفي هذه الصّيغة عرفها العرب الّذين روّجوها في القرون الوسطى. فمع وجود تأثير هلّينيّ قويّ في الأدب اللاّتينيّ منذ فترة ما بين الحربين البونيقيّتين الأوليين ( النّصف الأخير من ق 3) لا نلمس فيه قبل شيشرون أيّ تأثير مباشر لأرسطوطاليس، رغم وجود تأثير غير مباشر مثلا في المسرح من خلال مدرسة الملهاة الجديدة الّتي اقتبس منها بلوْتوس أو ترنتيوس ( والّتي درس أحد أقطابها، مينندر، على ثيوفرستوس)، وربّما في استخدام بعض فقهاء القانون الرّومان منذ ق 2 ق م للتّصنيف المنطقيّ. بل كان الفلاسفة الّذين مارسوا تأثيرا يُذكر في الأدبيّات اللاّتينيّة حتّى منتصف ق 1 ق م رواقيّين كبانيتيوس 180-109 وبوسيدونيوس 135-51 أو أبيقوريّين كفيدروس وباترو# وفيلوديموس القداريّ ( من أمّ قيْس) ووُجدت كذلك تأثيرات أفلاطونيّة وفيثاغوريّة بينما غابت الفلسفة المشّائيّة تقريبا. وذلك يصحّ أكثر على قرطاج حيث نلمس تأثيرا للثّقافة اليونانيّة في العصر الهلّينستيّ يسّره الاتّصال باليونان في قورنية وصقلّية ووجود جاليات يونانيّة في إفريقية، لكنّه في الفلسفة انحصر في الفيثاغوريّة الّتي ذكر يمبليخوس 4 من ممثّليها في قرطاج ( حياة فيثاغور 27: 128 و36: 267)، والأفلاطونيّة الّتي أبرز ممثّليها في ق 2 ق م صدربعل/كليتوماخوس الّذي خلف كرنيادس على رأس الأكاديميّة، ولا يُستبعد كذلك تأثير الرّواقيّة الّتي لها صلات فينيقيّة، لكن لا شيء يشير إلى تأثير المشّائيّة.

   أمّا تأكيد أثينيوس المتأخّر ( ق 3) أنّ بطليموس فيلادلفوس اشترى من نيليوس مكتبة أرسطوطاليس ( 1: 10)، فربّما قصد به الكتب الّتي كان قد جمعها لا كتاباته هو وأتباعه. لكن لا شكّ أنّ انتشار تلاميذ أرسطوطاليس وثيوفرستوس ( الّذين ذكرت المصادر القديمة كثرتهم) في مدن العالم الهلّينستيّ، وبالأخصّ الإسكندريّة الّتي وفد عليها في الشّطر الأوّل من عصر البطالمة ديمتريوس الفاليريّ واستراتون وبركسيفانيس وديقايرخوس، أتاح استمرار تأثير المشّائيّة في المجال العلميّ، إذ لم تكن لعلماء الإسكندريّة كإقليدس وأرخميدس وكتيسبيوس اهتمامات فلسفيّة ( وبصفة عامّة شهد العصر الهلّينستيّ وبالأخصّ في مصر تطوّر العلم وركود الفلسفة، ربّما لأنّ العلم يتطلّب موارد تستطيع الدّول الكبرى أكثر من المدينة الدّولة توفيرها، بينما لم تكن تلك الملكيّات لتقبل حرّيّة الفكر الفلسفيّ الّتي تناسبها المدينة الدّولة أكثر). لكنّ مدرسة الإسكندريّة، رغم استمرارها في الاهتمام بعلم الأحياء ( الّذي لم يركّز عليه استراتون رغم مواصلة اهتمامات أستاذيه العلميّة)، لم تنتج فيه ما يستحقّ المقارنة بأعمالهما، وبرزت في الهندسة والفلك والطّبّ والميخانيكا بالأحرى. نجد عند أرسطوطاليس وثيوفرستوس بعض الأفكار الّتي نسبها الكتّاب اللاّتين إلى ماغون، ممّا يوحي بأنّه سابق لهما أو على الأقلّ لم يتأثّر بهما ( وحتّى إن افترضنا أنّ أتباعهما نقّحوا كتاباتهما، فإنّ الكتّاب اللاّتين لم يكونوا على علم بذلك).

   لذلك لا يبدو تأثيرهما في ماغون محتملا حتّى إن افترضنا أنّه عاش في ق 3، رغم أنّا نجد في كتبهما أفكارا نسبها الكتّاب اللاّتين إليه، علما بأنّهم لم يعرفوا أفكارهما من مصادر ثانويّة بل من كتبهما الّتي كانت متوفّرة لهم، خاصّة وارّون الكاتب الموسوعيّ وناظر مكتبة رومية وبلينيوس الّذي أدرجهما ضمن مراجعه واستشهد بهما أكثر من مرّة. كذلك يوحي نقد تا.ح. الّذي كتبه، حسب موسوعة سويداس، بولّيون التّراليّ ملخّص ماغون الثّاني باختلاف أفكار ماغون عن مذهب المشّائيّن في مجال الاهتمامات المشتركة في علم الأحياء. فضلا عن اختلافه عنهما بطابع موسوعته العمليّ، ووصفاته المفصّلة في الزّراعة والبيطرة، وتركيزه على ظروف إفريقية.

1-3-5 كتّاب آخرون

   ذكرت المصادر القديمة كتّابا آخرين، منهم من ألّف في ميادين خاصّة من فنّ الفلاحة كمنقراطس الأفسسيّ Menekrates، وهو شاعر وعالم من ق 4 ق م وحسب سويداس أستاذ نيقندر الكولوفونيّ Nikander الّذي نظم شعرا في السّموم وعلاجها Theriaka وتربية النّحل Melissourgia والفلاحة Georgikon، أو أراتوس صاحب قصيدة الأنواء Phaenomena الّتي اقتبسها من كتاب مفقود ليودكسوس وترجمها إلى اللاّتينيّة عدّة كتّاب كأتاكينوس وشيشرون وأوفيديوس وجرمانيكوس ووارّون الأتكسيّ بل وفي ق 4 م أفينوس ( وتُرجمت إلى العربيّة في ق 9 م لكنّ العالم الإسلاميّ تأثّر خاصّة بكتاب "صور الكواكب الثّابتة" للصّوفيّ). ومنهم بولوس، وبكساموس، وكسّيوس ديونسيوس وديوفانس ملخّصا ماغون.

      ذكر كولوملاّ بين كتّاب الفلاحة المشاهير منسياس Mnaseas وبكساموس Paxamos اللّذين اتّبعا "على ما يبدو" ماغون في تقديم وصفات لإعداد وحفظ الأطعمة ( 12: 4). وأغفل إدراج الأخير الّذي عاش في ق 1 ق م و1 م في مصر ورومية في قائمة كتّاب الفلاحة. وذكر له أثينيوس كتابا في الفلاحة والطّبخ ( 376د)، ورد منه في جيوبونيكا 22 فصلا. ويُنسب إليه مؤلّف في الألوان، مقتبس ربّما من كتاب مفقود مثله لبولوس الّذي هو من أتباعه حسب فلّمانّ وإن كانت تلك النّصوص لا تظهر تأثيرا قويّا لاتّجاهه السّحريّ. وذكر له تاتون في "تاريخ العلوم العامّ" كتابا عن أمراض الثّيران، ويُنسب إليه كتاب يصف 12 من أوضاع الجماع Dodecatechnon. ويلفّ الغموض شخصيّة منسياس الّذي ذكره وارّون وكولوملاّ على قائمتيهما المستمدّتين من ديونسيوس، وقد يكون الّذي استشهد به بلينيوس بخصوص طيور أسطوريّة نسبها إلى إفريقية، يطلق اسمها على الغرغر أو دجاج فرعون ( 27: 11 (38)). ويوحي ما ذكر كولوملاّ عن احتمال اتّباعه لماغون بأنّ تأثير الأخير على كتّاب يونان سبق ترجمته إلى اليونانيّة.

   كسّيوس ديونسيوس الأوتيكيّ Cassius Dionysius Uticensis يونانيّ من أوتيكة. وقد استقرّ اليونان في شمال إفريقية، في قورنائية وكذلك غربا في شكل جاليات في المدن البونيقيّة. وقد ساندت أوتيكة الرّومان في الحرب الثّالثة، فاحتفظت بحرّيّتها بعدما آلت إليهم منطقة نفوذ قرطاج، وخلفتها "كعاصمة" فترة. وقد حُفظت نصوص له في مؤلّفات وارّون ( 1: 17: 3-7 عن عمّال الضّيعة، 2: 1: 27 عن ولادة البغال في إفريقية، 3: 2: 13-14 عن تربية الحيوانات) وكولوملاّ ( 6: 37: 3 عن ولادة البغال) وبلينيوس ( 11: 15 (38) عن جني العسل فضلا عن ذكر ترجمته ضمن مراجع الكتب 8، 10، 11، 14، 15، 17، 18) وفي جيوبونيكا ( 1: 11 عن الرّياح ربّما) وهبّياتريكا ( 5: 4، 29: 6، #32: 3 عن علاج أمراض الخيل)، وفي فقرة من "مأدبة الحكماء" ( عن كرّاث البحر) وتعليق على لقيانوس ( عن ألغاد البقر). وقد يرد اسمه كسيوس فقط أو ديونسيوس، ولا يجب خلطه بسميّ ذكره وارّون وكولوملاّ بين كتّاب الفلاحة دون معرفة موطنه، وآخر ذكره بلينيوس بين الأطبّاء في مراجع الكتب 20-28 مع إيراد بعض آرائه 20: 9: (19) و44: (113) و83 (219)، 22: 32 (67)، 25: 4 (8)، وآخر في الجزء الجغرافيّ 3-6 وآخر في جزء العدانة 33-36. ونرى خلطا بينهما لتشابه الاسمين واشتمال جيوبونيكا وترجمة كسيوس على 20 كتابا في الفلاحة بقسميها النّباتيّ والحيوانيّ في عنوان نسخة قديمة من ترجمة جيوبونيكا اللاّتينيّة ( 1543). وقد استشهد ابن العوّام في عدّة مواضع من فلاحته بكاتب يدعى كسيوس وبكاتب يدعى كسينوس، ويبدو كأنّ الأمر يتعلّق بشخصين مختلفين بينما توحي قرائن أخرى بأنّهما شخص واحد.

   انطلاقا من ترجمة ديونسيوس أعدّ ديوفانس البيثينيّ النّيقيّ Diophanes Bithynos تلخيصه الّذي اعتمده بلينيوس بين مراجع الكتب 8، 10 ( حيث ذكره أيضا ككاتب)، 14، 15، 17، 18 مع ترجمة ديونسيوس. وأوردت جيوبونيكا من كتابه Georgikon 19 فصلا و4 فقرات تتضمّن أفكارا توافق ما نسب إليه أو إلى ماغون وديونسيوس الكتّاب اللاّتين ( وارّون 1: 9: 7 عن اختبار الأرض، مرتياليس: "في الأشجار المثمرة" 3: 3 عن غراسة اللّوز) ويشير بعضها إلى بلاد اليونان ( 7: 17 و15: 7 عن العسل، 5: 32 عن تجارب أجريت في بيثينية لإزالة الجليد في حقول الكروم). وذُكر في فقرة من كتاب أفلوطرخوس المنحول "في النّبالة" تمجيده للفلاحة. ونسب إليه فوتيوس (163) كتابا في العجائب Paradoxa هو أحد مصادر مجموعة بيروتيوس الفلاحيّة، نواة جيوبونيكا، بينما ُنسب في مقدّمتها ( ق 10) إلى أفريكانوس، وربّما قُصد الفصل 7: 19 من "القلائد" Kestoi حيث قدّم فعلا عجائب من عالم الفلاحة، وربّما كتب هو أيضا في هذا الباب.

   قدّم بولّيون التّراليّ Pollio الملقّب أسينيوس ملخّصا لمؤلّف ديوفانس في كتابين، هو دليل إضافيّ على قيمة مؤلّف ماغون. وهو فيلسوف خلَف تيماجينس نسبت إليه سويداس كذلك مؤلّفا في 10 كتب "ضدّ كتاب الحيوان لأرسطوطاليس"، يوحي باختلاف الأفكار "الماغونيّة" عن المشّائيّة. ولم يصلنا شيء من مؤلّفاته.

   وألّف باليونانيّة كتّاب متأخّرون في الفلاحة والبيطرة، جُمعت نصوص لهم وأخرى مترجمة من كتّاب لاتين في موسوعتي جيوبونيكا وهبّياتريكا البيزنطيّتين. 

تابع