ماغون القرطاجنّيّ

 

شذرات في الفلاحة

 

1- ماغون وأدب الفلاحة القديم

 

حواش 

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

1- ماغون وأدب الفلاحة القديم

 

1-1 ماغون وعصره

1-1-1 أب الفلاحة

      "من أراد أن يعرف الأرض الزّكيّة والوسط والرّديّة يحفر فيها قدر ما بدا له، ثمّ يعيد التّراب في تلك الحفرة، فإن زاد على حشو تلك الحفرة فالأرض جيّدة طيّبة، وإن كان كفافا قدر ما يستوي في الأرض فهي أرض وسط، وإن نقص عنها فهي رديّة". يعود هذا الاختبار الّذي أورده عبد الغنيّ النّابلسيّ ( المتوفّى في 1143 ه) إلى ماغون القرطاجنّيّ الّذي لم يذكره ولا كان يعرف حتّى اسمه، فقد نقله من كتب فلاحة أقدم لم تذكره. ومع أنّ أعمال رايتسنشتاين R. Reitzenstein ومهافّي J.P. Mahaffy وفلّمانّ M. Wellmann وقسالّ S. Gsell وشارل-بيكار G.&C. Charles-Picard ومارتن R. Martin وسبيرنتسا F. Speranza وهورقون J. Heurgon ومحمّد فنطر وعادل أبي النّصر وعادل الشّيخ حسين وغيرهم ساهمت في العصر الحديث في التّعريف به وبإسهامه في علم الفلاحة، ما زال الغموض يلفّ شخصه وعصره وما زال مجهولا عند الجمهور العريض بل وكذلك عند الباحثين في تاريخ الزّراعة والعلوم والتّقانة، حتّى في البلدان الّتي ازدهرت فيها الحضارة الفينيقيّة.

   هو أبرز كتّاب الفلاحة القدماء بشهادة شيشرون ووارّون وبلينيوس وكولوملاّ الّذي دعاه أبا الفلاحة ( 1: 1 rusticationis parens)، ترجم موسوعته المتضمّنة 28 كتابا إلى اللاّتينيّة غداة تدمير قرطاج ( 146 ق م) دكيموس سيلانوس بطلب من مجلس الشّيوخ الرّومانيّ ( بلينيوس 18: 5 (22-23)) الّذي لم يتّخذ مثلَ هذا القرار بشأن أيّ مؤلَّف آخر. ثمّ ترجمها كسّيوس ديونسيوس الأوتيكيّ إلى اليونانيّة مع اختزالها وإضافة آراء كتّاب يونان في 20 كتابا ( ح 88) ولخّص تلك التّرجمة ديوفانس البيثينيّ في 6 كتب ( ح 64)، ثمّ بولّيون التّراليّ في كتابين ( ح 48). وفيما عداها لا نعرف بيقين سوى 4 مؤلّفات تُرجمت قديما إلى اليونانيّة لم يكن لها نفس التّأثير- حتّى الكتاب المقدّس قبل انتشار المسيحيّة. ونعي دلالة إشادة الكتّاب اللاّتين به إذا تذكّرنا عداء الرّومان للقرطاجنّيّين، الّذين يملأ ثلبهم كتاباتهم- وكتابات اليونان الّذين قبلوا سيطرتهم وتعاونوا معهم كبوليبيوس وأفلوطرخوس- وحتّى المتأخّرين الّذين لم تكن لهم معرفة مباشرة بهم: فبعد تدمير قرطاج بعشرات السّنين ظلّت تمثّل قمّة الفظائع في الأدب اللاّتينيّ ( مثلا هوراتيوس: إيبود 16: 3-)، وظلّ بلينيوس يذكر منافستها لرومية على سيادة العالم 120 سنة ( 5: (76)، 15: 20 (76)). بل دعا أفلوطرخوس أرتقشية عاصمة الأرشاقيّين، عدوّ الرّومان القويّ والمختلف ثقافيّا عن اليونان أيضا، "قرطاج الأرمينيّة" ( لوكلّوس 32: 3)، وتزيد شعورَ العداء نحوها الرّواية الّتي تزعم أنّ حنّبعل أشار ببنائها وأشرف على تخطيطها أثناء إقامته في آسية الصّغرى ح 188. ولم تصل عداوة الرّومان لليونان أبدا نفس الدّرجة، فضلا عن قرابة الأمّتين الثّقافيّة والعرقيّة الحقيقيّة والأسطوريّة، ولا أدلّ على ذلك من موقف كاتون من قرطاج، ومن المدن اليونانيّة إثر انتصار الرّومان في الحرب المقدونيّة ورغم عدائه الشّهير للثّقافة اليونانيّة الّتي كانت في عصره خطرا على الرّومان أكبر بلا شكّ من قرطاج. تعني تلك الإشادة إذن التّغلّب على حاجز قويّ من الحقد ومن ثمّة عظم إسهامه في علم الفلاحة، حتّى إن أتت في عصر لم تعد فيه قرطاج البونيقيّين سوى ذكرى ومن علماء أقلّ من غيرهم تأثّرا بالحزازات ( مع ذلك لم تمنع بلينيوس صفته كعالم من نقد اليونان وأكثر منهم المجوس 26: 9 (18)، 28: 25 (89)، 30: 1 (1)، 30: 6 (17)، 37: 14 (54) و40 (124) و60 ( 165، 169) و73 (192) بسبب العداوة السّياسيّة جزئيّا على الأقلّ).

   لكن لم يبق من موسوعة ماغون وترجمتيها وملخّصيها سوى استشهادات عند الكتّاب اللاّتين ومقتطفات لديوفانس وديونسيوس في مجموعتي نصوص الفلاحة والبيطرة البيزنطيّتين جيوبونيكا وهبّياتريكا. بل لم تذكره جيوبونيكا مع أنّه تُرجم إلى اليونانيّة ولخّص مرّتين، ولم يرد اسمه في الكتابات اليونانيّة المحفوظة إلاّ في 4 مواضع من هبّياتريكا. ولولا إشارات الكتّاب اللاّتين لما علمنا من المصادر اليونانيّة إسهامه في علم الفلاحة وأنّ مؤلّفي ديونسيوس وديوفانس هما بالأساس ترجمة لمؤلّفه. وكما سنرى، لا تعطي تلك الشّذرات صورة كاملة عن تأثيره في الأدب الفلاحيّ اليونانيّ واللاّتينيّ ولا العربيّ الّذي يجهله تماما. وتواجه دراسته اليوم صعوبات جمّة.

1-1-2 صعوبات دراسته

   أوّل مشكلة تعترضنا هي أنّ بعض تلك الشّذرات وردت باسم ديونسيوس الّذي تصرّف في الأصل منقصا منه وزائدا عليه أفكارا لكتّاب يونان، وديوفانس الّذي تحمل بعض النّصوص المنسوبة إليه في جيوبونيكا إشارات إلى بلاد اليونان وبيثينية لا إلى إفريقية. ذلك أنّ: "كلّ ما يأخذه اليونان من غيرهم، يطوّرونه إلى درجة أعلى من الكمال" كما يؤكّد أفلاطون ( الفيلسوف Epinomis 987ه)، ومن أمثلة تلك النّزعة الأبجديّة ( حتّى أنكر بعض الباحثين نقلها من الفينيقيّين رغم الشّهادات والأدلّة التّاريخيّة المتعدّدة)، وكذلك في رأينا المسيحيّة.

   من جهة أخرى لم يذكر الكتّاب اللاّتين واليونان كثيرا من الأفكار الّتي استمدّوها منه، فقد ينسب إليه أحدهم فكرة نجدها عند آخر لاحق أو سابق لم يذكر مصدرها، وتلك ظاهرة عامّة تعود إلى رغبة كلّ كاتب في إظهار أصالته وأنّه غالبا لا يرى ضرورة لذكر مصدر الآراء الّتي يقدّمها إلاّ إن بدت له غريبة أو طريفة أو مثيرة للشّكّ، خاصّة أنّ كتب الفلاحة أو الطّبّ ذات هدف عمليّ لا أكاديميّ.

   ولا تقلّ عنها انتشارا ظاهرة النّحل الّتي ازدهرت في العصر الهلّينستيّ وبعده. فبعد تأسيس مكتبة الإسكندريّة حاول البطالمة جلب الكتب بشتّى الوسائل ( كاستعارة مسرحيّات كبار الكتّاب اليونان من أثينة والكتب الموجودة على متن كلّ سفينة ترسو بميناء الإسكندريّة لاستنساخها زمن بطليموس3) وشجّعوا الأدباء والنّقّاد على تحقيق وشرح النّصوص القديمة. ولعجز العرض عن تغطية الطّلب لُجئ إلى النّحل. غذّى تلك الظّاهرة أيضا، في القرن 2 ق م، التّنافس بين مكتبتي الإسكندريّة وبرغامة النّاتج عن التّنافس بين البطالمة والأتّاليّين. وكذلك الرّغبة في إعطاء بعض الأفكار مصداقيّة بإسنادها إلى مفكّرين مشهورين ( ولا ينفرد الأدب اليونانيّ بذلك فقد اعتاد الكتّاب في مصر أن ينسبوا مؤلّفاتهم إلى الملوك والحكماء وبعض أسفار العهد العتيق المنسوبة إلى سليمان كالحكمة والجامعة ونشيد الأناشيد منحولة وكُتبت جزئيّا في الإسكندريّة تحديدا، ونُسبت رؤى إلى حكماء وأنبياء قدماء كدانيال وموسى وأخنوخ وحتّى آدم، وتعاليم إلى شورُبّاك أب زيوسدرا أي نوح السّومريّين). وذلك ينطبق بوجه خاصّ على أدب الأسرار الّذي ازدهر في ذلك العصر وتواصل خلال القرون الوسطى في العالم الإسلاميّ ( مثلا عند ابن وحشيّة وجابر بن حيّان وإخوان الصّفا والإسماعيليّة) وفي أوروبة، حيث انتعش خاصّة في عصر النّهضة ( لاسيما في أواخر القرن 16 بانتشار كتب الأسرار الطّبيعيّة "ككتاب الأسرار" لألسّيوس بيمُنتيزي و"السّحر الطّبيعيّ" لجِيَمبتِّستا دِلاّ بورتا). ومن سمات ذلك التّيّار في العصر الهلّينستيّ والرّومانيّ: الكتابة بأسماء مستعارة، والزّعم بأنّ تلك الكتب من وحي إله كأسكلبيوس أو هرمس ( خلافا لاتّجاه الفلسفة اليونانيّة سابقا نحو التّحرّر بالأحرى من الفكر الدّينيّ)، أو أنّه عُثر عليها في معبد أو قبر، والدّعوة إلى حفظ أسرارها، وفكرة وجود قوى خفيّة في شتّى الكائنات بينها تحابّ وتضادّ، والجمع بين الطّبّ والخيمياء والفلاحة والتّعدين مع مزج عناصر علميّة بالتّنجيم والسّحر. ومن ممثّليه بولوس المنديسيّ وأبولّونيوس التّيانيّ ( باليناس عند العرب)، وهربوكراتيون الإسكندريّ ( ق 2 م) الّذي نسب مؤلّفه Kyranides في خواصّ النّباتات والحيوانات والمعادن والعقاقير إلى ملك فارسيّ باسم Kyranos. هكذا انتشرت كتب منحولة في علوم النّبات والحيوان والفلاحة تحمل اسم فيثاغور أو أرسطوطاليس أو ديمقريطس، وربّما شكّل ديمقريطس المنحول هذا قناة مرّت عبرها أفكار ماغون مع تطعيمها بعناصر سحريّة.

   هناك ظاهرة أخرى، هي مراجعة مؤلّفات بعض الكتّاب كأرسطوطاليس الّذي نقّح أتباعه باستمرار الكتب المنسوبة إليه وزادوا عليها، هذا إن لم يكونوا ألّفوها أصلا، ربّما انطلاقا من محاضراته، كما يؤكّد عدّة باحثين.

   لذلك يصعب غالبا تحديد مصدر فكرة ما، خاصّة مع تشابه الأفكار الّتي تضمّنتها كتب الفلاحة القديمة إلى حدّ يتعذّر معه أحيانا فرز أفكار كاتب من أفكار غيره، وقد يعكس ذلك أيضا تشابه الأساليب الزّراعيّة في بلدان العالم القديم، في العهد الهلّينستيّ وقبله، إذ كان هناك اتّصال بين مختلف الشّعوب. مثلا أشار ماغون بنقع حبوب اللّوز في ماء محلّى بالعسل 3 أيّام قبل زراعتها، وتحدّث ثيوفرستوس عن نقع بذور اليقطين في الماء لإسراع إنباته أو في الحليب والعسل لتحلية ثمرته، دون الإشارة بذلك الأسلوب للجوزيّات الّتي تضلّع فيها ماغون حسب بلينيوس؛ فهل وجد كلاهما تلك الطّريقة متّبعة في بلاده، أم ذاك التّشابه نتيجة نقل؟

   تصعب الإجابة على هذا السّؤال لسبب إضافيّ: جهلنا بالعصر الّذي عاش فيه والّذي يتعذّر بدون معرفته تقرير تأثّره أو تأثيره. أخبرنا لا محالة كولوملاّ ( 12: 4) وبلينيوس ( 18: 5 (22-23)) أنّه كان في نفس الوقت قائدا عسكريّا، لكنّ اسمه متداول عند القرطاجنّيّين، وقد ذكر المؤرّخون من قادتهم حاملي هذا الاسم:

1 مؤسّس الدّولة الماغونيّة في القرن 6،

2 القائد-الملك الّذي خلف هملكون ( بعد هزيمته في صقلّية وانتحاره 396)، وقمع ثورة المرتزقة واللّيبيّين الّذين تخلّى عنهم سلفه في صقلّية، ومات في معركة كبّالا ضدّ اليونان في صقلّية 375،

3 قائد الأسطول القرطاجنّيّ الّذي هُزم وحوكم وانتحر في 343،

4 قائد أسطول قرطاج الّذي ظهر أمام أُستية في 279 وساعد الرّومان ضدّ بيرّوس،

5 ثلاثة على الأقلّ من قادة الحرب البونيقيّة الثّانية ( فضلا عن أحد أعضاء مجلس الشّيوخ القرطاجنّيّ)، كما يستفاد من تاريخ بوليبيوس ( 3: 71 و74 و79 و114، 8: 25؛ 9: 22 و25، 10: 7 و12 و14 و38) وتيتوس ليويوس ( 21: 47 و54 و56، 22: 2، 23: 1 و10-13 و32، 24: 41، 25: 41، 25: 32 و35 و39، 26: 20، 27: 20؛ 23: 40؛ 25: 15 و16 و18، 27: 29؛ 26: 44-46 و49-50) أشهرهم أخ حنّبعل، الّذي مات متأثّرا بجراحه في طريقه إلى قرطاج 204/203.

   هناك أيضا رحّالة قرطاجنّيّ ذكره أثينيوس، ولم يبيّن عصره لكنّه على الأرجح من ق4. فقد كتب ( "مأدبة الفلاسفة" 2: 44و) في معرض الحديث عن الخمر وعمّن آثروا الاقتصار على الماء: "يؤكّد أرسطوطاليس في مؤلّفه "في السّكر" peri methes أنّ بعض الأشخاص استمرّوا لا يشكون من العطش بينما كانوا يتناولون طعاما مالحا، أحدهم أرخونيدس الأرغوسيّ. وعبر ماغون القرطاجنّيّ الصّحراء 3 مرّات مأكله طعام جافّ ولا شيء معه للشّرب. وبدأ فوليمون الأكاديميّ في سنّ 30 الاقتصار على الماء، وبقي عليه حتّى وفاته حسب أنطيقونوس الكارستيّ". فوليمون برز في أواخر ق 4، وأرسطوطاليس تقدّمه بربع قرن، لكن ليس ضروريّا أن يكون خبر ماغون مستمدّا من كتابه، مع ذلك السّياق العامّ يوحي بأنّه من ق 4، لكن لم يذكر أثينيوس أنّه كاتب الفلاحة ولا أنّه كان قائدا. فضلا عن ذلك لا شيء يثبت أنّ أب الفلاحة أحد أولئك القادة أصلا. 

1-1-3 بعض الأضواء

   لكن قد تسمح دراسة عدّة وصفات وأفكار وردت في كتب الفلاحة فيها جزئيّات تعكس بيئة إفريقية وإسبانية أو تضمّنتها أخرى نسبها إليه وإلى ملخّصيه كتّاب الفلاحة صراحة بتأكيد أو ترجيح أنّه مصدرها أيضا. ذلك ما بدا لنا في بعض الحالات، وإن أخطأنا فعذرنا أنّ "من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ثمّ أخطأ فله أجر واحد".

   أمّا بخصوص شخصه وعصره فالأرجح أنّ كاتبا بمثل شهرته كان من مشاهير القادة أيضا، وقد تعين بعض القرائن الّتي وردت عند المؤرّخين وكتّاب الفلاحة القدماء على تحديد عصره. فما هو في ظنّنا مؤسّس الدّولة الماغونيّة كما تصوّر هيرن ومهافّي، إذ لم تكن قرطاج تركّز يومئذ على الفلاحة ولم تتّجه إلى تطويرها إلاّ بعد هزيمة هيميرة الّتي قطعتها عن الشّرق بسبب سيطرة اليونان على مضيقي مسّينة وصقلّية، وإدراكها ضرورة إنشاء فلاحة وصناعة قويّتين للتّصدّي للتّوسّع اليونانيّ في صقلّية. ويوحي نصّا كولوملاّ 3: 12 و9: 14: 6 بأنّه متأخّر عن ديمقريطس ( 460-370)، ولو كان ذلك القائدَ لكان أحرى ببلينيوس المؤرّخ الواسع الاطّلاع ( والّذي ضاع تاريخه) أن يصنّفه ضمن الملوك لا القادة، إذ تُجمع كتب القدماء على اعتباره ملكا، خلافا للبقيّة حتّى الثّاني المختلَف في صفته الملكيّة وطبيعة نظام قرطاج السّياسيّ في عصره.

   والثّالث الّذي حوكم بتهم خطيرة مستبعد أيضا- وإلاّ لما حظي باحترام البونيقيّين. ولا نظنّه كذلك أخا حنّبعل الأصغر كما رأى سبيرنتسا مستدلاّ بأنّه متأخّر عن ديمقريطس الّذي هو بولوس المنديسيّ ( ح 200 ق م) لا الفيلسوف الذّرّيّ كما أثبتت الدّراسات الحديثة، وأنّه استدرك على ما يبدو على أسلوبه لإنشاء النّحل من جثّة عجل ( كولوملاّ 9: 14: 6)، وأنّ أسماء نباتات وحبل خصية العجل وردت باليونانيّة في فقرات نقلها عنه بلينيوس 21: 68-69 (109-111) وكولوملاّ 6: 26: 2 وبلاّديوس 6: 7: 1-4 ممّا يشير إلى العصر الهلّينستيّ ويؤيّد ذلك إتقان حنّبعل المعروف لليونانيّة. لكنّ الحكيم الأبديريّ هو الّذي قصده كولوملاّ ( الّذي قدّمه في قائمة كتّاب الفلاحة على أنّه الأبديريّ)، ووارّون ( الّذي قدّمه في قائمته على إكسينوفون وأرسطوطاليس) وبلينيوس ( الّذي قدّمه على أرسطوماخوس 13: 47 (131) وثيوفرستوس 15: 40 (138)، وروى تعلّمه على الفرس 24: 99 (156)، وكراءه المعاصر 18: 68 (273)، وذكر أخاه 18: 78 (341) الّذي ذكره كذلك ديوجينس). وقد كتب بولوس في ق 2، بينما يُجمع المؤرّخون على وفاة ماغون ح 203 ( ولا يُعتدّ برواية كرنليوس نيبوس عن لقائه أمام قورنية مع أخيه الّذي ذهب ح 193 إلى قرطاج لحثّها على التّحالف مع أنطيوخوس3 ولم يواصل بعدما أصدرت قرارا بإقصاء ماغون الّذي مات في نفس الفترة). ولا تتضمّن النّصوص المنسوبة إلى ماغون وديونسيوس وديوفانس أهمّ ميزة لنظام بولوس: طابعه السّحريّ وأهمّيّة فكرة التّعاطف والتّضادّ الكونيّين. وليس بولوس الكاتب الوحيد الّذي كتب باسم ديمقريطس أو الدّيمقريطيّ بل تبعه في الخيمياء مثلا وربّما في الفلاحة أيضا كتّاب آخرون، والكتابات المنسوبة إليه في الفلاحة انتشرت على الأرجح في عصر متأخّر كما سنرى. وليس بديل ماغون بالضّرورة استدراكا. أمّا الأسماء اليونانيّة فقد نقلها الكتّاب اللاّتين من ترجمة مؤلّفه اليونانيّة، ولم ترد بالضّرورة كذلك في الأصل؛ وحتّى لو صحّ ذلك لدلّ على معرفته باليونانيّة لا على أنّه عاش في أواخر ق 3، ولا حتّى في العصر الهلّينستيّ بوجه عامّ، فاتّصال القرطاجنّيّين باليونان في ليبية وصقلّية سابق لذلك العصر، كما نجد تأثيرات يونانيّة كعبادة ديونسيوس وكذلك ديميترة وقورة- أو برسيفونة- منذ بداية ق 4، وفي نفس الفترة أصدر مجلس شيوخ قرطاج قانونا يمنع تعلّم اليونانيّة درءا للتّعاون مع الأعداء ( يُستينوس 20: 5: 12-13). ولا نرى لماذا سمّى باليونانيّة أعشابا يستخدمها الفلاّحون البونيقيّون في عصره- فهو لم يؤلّف في علم النّبات بل قدّم ضمن تعاليمه الفلاحيّة طرقا للاستفادة من بعض النّباتات البرّيّة كالأسل. فضلا عن ذلك مات ماغون برقة وهو دون الأربعين: فقد انتقل آل برقة إلى إسبانية في 237 وحنّبعل أكبر الإخوة في التّاسعة حسب بوليبيوس 2: 1: 6 و3: 11: 5 وليويوس 21: 1: 4، والأرجح أنّ أباه ترك أمّه حاملا به لمّا عُيّن في 247 ليقود في صقلّية الحرب الّتي لم تنته إلاّ بعد 6 سنوات، ويُستبعد أن يكون قد عاد أثناءها مرارا إلى قرطاج، ليولد له صدربعل الّذي يصغره ب3 سنوات حسب مصدر متأخّر وماغون وربّما اثنتان من أخواته الثّلاث، فالأرجح أنّ ماغون ولد ح 241/240، وقد انشغل بالحرب منذ 218 وهو ما زال شابّا ( كما يستفاد من بوليبيوس 3: 71، 74، 79، 114) فمتى توفّر له وقت لكتابة موسوعة تضمّ 28 كتابا في الفلاحة والاهتمام بالكستناء والأزبال؟ خاصّة أنّ آل برقة ركّزوا في إسبانية على إحكام السّيطرة على البلاد واستخراج الفضّة لا على الفلاحة. ثمّ إنّه عاش منذ حداثته في إسبانية حيث التحق بأبيه قبل موته في 229/228، لا في قرطاج الّتي زارها فقط في خريف وشتاء 216/215 لأغراض عسكريّة، بينما يوحي الكتّاب اللاّتين بأنّه عاش في شمال إفريقية وقدّم وصفات تناسب تلك البيئة ( وارّون 2: 1: 27، كولوملاّ 3: 12، 6: 37: 3، بلينيوس 17: 30 (128)، مرتياليس 4: 1). فضلا عن ذلك ذكر كولوملاّ ضمن من كتبوا وصفات لإعداد وحفظ الأغذية القائدين "ماغون وهملقار" ( 12: 4) ممّا يوحي بأنّه سابق لقائد باسم هملقار. ويحمل هذا الاسم أيضا عدّة قادة قرطاجنّيّين، منهم: 1 القائد/الملك الماغونيّ الّذي انهزم في هيميرة 480، 2 حفيده الّذي استعادها في 409، وآخر قاد الحرب ضدّ صقلّية بعد ماغون الّذي انتحر في 343، 3 آخر كان يحارب في صقلّية بينما أغاطقليس في إفريقية وقُتل في 307، 4 قائد في الحرب البونيقيّة الأولى ح 260 هو على الأرجح غير 5 هملقار برقة أشهرهم والمتوفّى في 229/228، 6 آخِر قائد بونيقيّ في إيطالية خلال الحرب الثّانية نظّم ثورة الغالّ والكينوماني وقُتل في 198 وهو آخر قائد يحمل هذا الاسم على حدّ علمنا. كذلك ما كان الكتّاب اللاّتين في اعتقادنا سيشيدون به لو كان من قادة الحرب البونيقيّة الثّانية الّتي تركت أثرا سيّئا في نفوس الرّومان، نراه في صورة حنّبعل القاتمة الّتي استمرّت قرونا بعدها، حتّى أنّ دوميتيانوس وجد في تسمية متّيوس بمبوسيانوس عبدين له "حنّبعل" و"ماغون" إحدى الذّرائع لإعدامه ( سويتونيوس: القياصرة الاثنا عشر 12: 21)، وذلك رغم عبقريّته العسكريّة وحنكته السّياسيّة. ولذلك أيضا لا نظنّ هملقار الأخير هو الّذي قصده كولوملاّ. وحتّى هملقار برقة الّذي خاض حروبا عديدة وأسّس مدينة ويحظى بصورة إيجابيّة في التّقليد اللاّتينيّ حتّى عند كاتون ( أفلوطرخوس: كاتون 8: 14)، لم يُعرف عنه الاهتمام بإعداد الأغذية ولا الفلاحة، مع أنّ عدّة مؤرّخين يونان ولاتين كتبوا عنه الكثير ( بوليبيوس، ديودوروس، بكتور، ليويوس، نيبوس، الخ).

   وردّه كتّاب آخرون إلى الفترة الهلّينستيّة دون تحديد، أي القرن 3 تقريبا، مستدلّين بمعرفته باللّغة اليونانيّة، وتناولِه غراسةَ الكستناء الّتي لم تكن معروفة في شمال إفريقية حسب غ مرتياليس، ونفي ديودوروس الصّقلّيّ وجود الكروم والزّياتين في إفريقية في أواخر القرن الخامس ( 13: 81: 5). وقد ناقشنا النّقطة الأولى، ويبدو لنا أنّ نعت كولوملاّ له بأب الفلاحة، واعتباره ضمنيّا أوّل من قدّم وصفات لإعداد وحفظ الأطعمة وتقديمه على هملقار، وتضمين نصوص "من كتب ماغون وفيقوية" النّبيّة الإترسكيّة في موسوعة مسّاحي الأراضي الرّومان، ناهيك عن نسبة أفكار إليه نجد مثلها عند أرسطوطاليس أو ثيوفرستوس أدلّة قويّة على قدمه. ثمّ إنّ غياب الطّابع السّحريّ عن النّصوص المنسوبة إليه وإلى ملخّصيه لا يوحي بانتمائه إلى عقليّة العصر الهلّينستيّ، على الأقلّ تلك الّتي سادت بعد القرن الأوّل منه، أي بعد ح 220 ق م، والّتي اتّجهت إلى الجمع والتّدوين أكثر من الخلق والابتكار وإلى المزج بين العلم والتّنجيم والسّحر بدلا من الرّوح العلميّة الّتي سادت في الفترة السّابقة. وإضافة ديونسيوس إلى ترجمته أفكارا من كلّ الكتّاب اليونان بدون استثناء ( وارّون 1: 1: 10) تنفي تأثّره باليونان، وإلاّ لكان قد سدّ بنفسه تلك الثّغرات. افترض بعض الباحثين أنّ الأفكار الّتي يلتقي فيها هو وملخّصاه مع كتّاب يونان أضافها ديونسيوس، لكن رغم أهمّيّة تصرّف ديونسيوس لا شكّ أنّ المادّة الماغونيّة شكّلت الجزء الأوفر من مؤلّفه، ومعرفته بكتابات أرسطوطاليس وثيوفرستوس الحقيقيّة في الأحياء غير ثابتة. أمّا حديثه عن الكستناء فلا يدلّ على عصره بل ربّما على نقله من مصدر أقدم. أمّا شهادة ديودوروس، فتناقض حديثه قبلها عن ازدهار تلك الزّراعات فيها مذ حرّرها هرقل من السّباع، والقانون الّذي سنّته قرطاج للحدّ من شرب الخمر حسب أفلاطون إذ يوحي كما توحي تلك الأسطورة ( سواء اعتبرنا أنّها تعني استيطان الفينيقيّين الّذين يماثَل إلههم ملقرت بهرقل أو واقع البربر قبله)، بتطوير زراعة الكرم قبل ذلك العصر ( وذاك تناقض نجده في نصوص القدماء عن حالة الزّراعة في قرطاج، لا يعود دوما إلى فارق الزّمان). وإن كان تأليف موسوعة تحوي 28 كتابا يوحي بأنّ كتابات وتجربة عمليّة طويلة سبقتها، فليس ضروريّا أن تكون كلّ تلك الكتابات والتّجربة محلّيّة، إذ كانت تتوفّر له كتابات الفينيقيّين والأمم الشّرقيّة من خلالهم.

   ولا بدّ قبل عرض ودراسة آثاره من إلقاء نظرة على الأدب الفلاحيّ القديم، لتحديد موقعه منه وتبيّن تأثّره وتأثيره. وهو يتضمّن كتابات شعوب الشّرق الأوسط واليونان واللاّتين والبيزنطيّين والعرب، وقد ضاع كثير منه.

 1-2 الكتابات الفلاحيّة في حضارات الشّرق الأوسط

1-2-1 اندثار التّراث المكتوب

   عُرفت شعوب الشّرق الأوسط، خاصّة مصر وبلاد ما بين النّهرين، بكثرة كتاباتها، الّتي يدلّ عليها مثلا اشتقاق اسم الكتاب في اليونانيّة biblion ومركّّباته واسم الكتاب المقدّس في عدّة لغات أوروبّية من اسم مدينة جبيل الّتي كانت مركزا لتصدير البرديّ إلى اليونان، أو اسم الكتاب في الرّوسيّة kniga من البابليّة، أو طلب السّاحر جادي الّذي استقدمه خوفو إلى القصر لعرض بعض أعماله السّحريّة أن تُنقل أسرته في مركب وكتبه في آخر حسب ما جاء في برديّة وستكار، أو وجود مكتبات في المدارس والمعابد وقصور الملوك ( كمكتبة أشور بانيبال في نينوى ق 7) والمنازل الخاصّة ( كبيت كاهن من أوغاريت)، بل وفهارس بمحتويات بعضها.

   لكن لم يبق من تلك الكتابات عموما، وفي الفلاحة تحديدا سوى القليل. فبعدما سيطر خلفاء الإسكندر على اشرق المتوسّط، انتشرت اللّغة اليونانيّة واختفت شيئا فشيئا لغات تلك الشّعوب أو توقّفت عن الكتابة بها، وابتعدت تدريجيّا عن الأصل. حتّى أنّ الأبستاق كتاب الزّرادشتيّة المقدّس اختفى بعد فتح الإسكندر لفارس، ولم يُعَد تدوين ما بقي منه في أذهان أتباعها إلاّ بعد عدّة قرون. ولنتصوّر ماذا كان سيحصل للكتب اليونانيّة بعد فتح القسطنطينيّة لو لم ينقل بليتون ولسكاريس وتريبيزند وغازا أمّهات المخطوطات. حتّى الفرثيّون الّذين سعوا إلى استعادة وحدة الشّرق القديم وقاوموا سيطرة اليونان والرّومان السّياسيّة حافظوا على الثّقافة الهلّينستيّة واللّغة اليونانيّة، حتّى أنّ ملكهم أورود 2 كان يشاهد مسرحيّة ليوريبيدس لمّا جيء إليه برأس كراسّوس حسب ما ذكر أفلوطرخوس. وفي مصر نفسها حيث حفظ الكهنة بعض التّراث أتى ما بقي من علوم الماضي ممزوجا بالدّين وتكلّس التّعليم بلغة البلاد فلم ينمِّ أو يحفظ الكتابات القديمة. بل رغم الطّابع العالميّ الّذي اكتسته المسيحيّة في مرحلة مبكّرة ومع ازدهار أدب مسيحيّ باليونانيّة في الإسكندريّة منذ القرن الأوّل لا نكاد نجد كتابات مسيحيّة بالقبطيّة قبل ق 3، وبُدّعت كما في بلدان أخرى مسيحيّة السّكّان الأصليّين الّتي حرّرت الرّوح القوميّة المكبوتة. وما تبقّى من كتابات تلك الشّعوب بعد قرون من سيطرة اليونانيّة أُعدم بعد انتصار المسيحيّة باعتباره وثنيّا، ومعه أيضا كثير من الكتابات اليونانيّة ( كإحراق الكتب المشتبه فيها في أنطاكية 370 وبيروت 487 وتدمير سيرابيون 391). ولم يمكن مثلا، وقد اختفت الثّقافة الأصليّة كلّيّا، فكّ الرّموز الهيرغليفيّة لولا حجر رشيد، حيث أتى نفس النّصّ بالهيرغليفيّة واليونانيّة والدّيموطيّة، وهو ما أتاح أيضا فكّ الخطّ المسماريّ في حجر بهستون المكتوب بالفارسيّة والعيلاميّة والبابليّة.

   ومن المفارقات أنّ الفينيقيّين الّذين ابتكروا الأبجديّة والّذين ينتمي إليهم ماغون، لم يُحفظ من كتاباتهم إلاّ نزر قليل يتمثّل في النّقائش وما وصلنا نقلا عنهم في كتابات غيرهم. فقد دمّر الغزاة مدنهم ( الإسكندر صور، وشبيون قرطاج)، ولم تُحفظ كتاباتهم بعد دوال دولتهم وتخلّيهم عن لغتهم وبسبب المناخ، رغم كثرتها الّتي توحي بها شهادات المصادر القديمة: تحدّث وارّون وكولوملاّ مثلا عن كتّاب فلاحة بونيقيّين ماغون أحدهم وأبرزهم، وبلينيوس 18: 5: (22-23) عن مكتبات بقرطاج وزّع شبيون كتبها على ملوك إفريقية ( وتلف جلّها على الأرجح في الحريق الّذي استمرّ 17 يوما في المدينة المنكوبة)، وروى صولينوس أنّ يوبا2 استخدم معلومات في كتبهم عن منابع النّيل، وأنطونيوس ديوجينس أنّ قصّته "فوق الخيال فيما وراء ثولة" أصل فنّ رواية الحبّ والمغامرات الّذي ازدهر في العالم الهلّينستيّ ( حسب فوتيوس Myriobiblion 166) اكتشفت مكتوبة على ألواح لمّا فتح الإسكندر صور، وذكر سرفيوس في شرح الإنياذة 1: 343 كتاباتهم في التّاريخ، وسالّستيوس كتابات لهمبسال ( تستند إلى مصادر بونيقيّة) اعتمد عليها في "حرب يوغرطة"، ومدح أغسطينوس لغتهم في رسالة إلى مكسيموس المادوريّ وأكّد أنّ كتبهم ضُمّنت حكمة. وحتّى ما ألّف باليونانيّة في العصر الهلّينستيّ كتّاب منهم أو عاشوا بينهم كفيلون الجبيليّ وأبولّونيوس الصّوريّ وديودوتوس الصّيدونيّ وهرمنبّوس البيروتيّ وصدربعل القرطاجنّيّ، أو مؤرّخون يونان منصفون لهم كخيرياس وصوصيلوس اللّخدمونيّ مرافق حنّبعل ومعلّمه ( بوليبيوس 3: 20) لم يبق منه إلاّ قليل. بل توجد أطول مقاطع بلغتهم في ملهاة "البوينيقيّ" الّتي اقتبسها بلاوتوس من "القرطاجنّيّ" لألكسيس ( ق 4 ق م)، وهي لحسن الحظّ تفضل تركيّة ملهاتي "الصّقلّيّ" و"البورجوازيّ النّبيل" لموليير وألمانيّة هنكل في فلم "الدّكتاتور"!

1-2-2 ماذا حُفظ من تراث أمم الشّرق

   لم يندثر تراث الأمم الشّرقيّة تماما، فقد نقل اليونان الكثير من علومها حتّى قبل العصر الهلّينستيّ، بشهادة الكتّاب القدماء. أكّد هيرودوت مثلا أنّهم تعلّموا الفلك من المصريّين 2: 109، وهكتيوس الأبديريّ قبله أنّهم نهلوا من حكمتهم ( كما ذكر ديودوروس 1: 96-98)، وسوتيون أنّهم أخذوا عن بلدان الشّرق عموما، وشاعت قصص عن زيارة الحكماء السّبعة لتلك البلدان، وكتب استراتون عن مخترعات الشّعوب "البربريّة" وذكر كليمنت الإسكندريّ بعضا منها ومن الأفكار الفلسفيّة الّتي نقلها عنها اليونان ( منوّعات Stromata 1: 15-16)، وأشار إلى ذلك أيضا فيلون الجبيليّ وتاتيانوس. حتّى ديوجينس الّذي أنكر أن تكون للفلسفة مصادر بربريّة ( في مقدّمة "حياة ومذاهب الفلاسفة المشاهير" 1: 1) ذكر في حياة عدّة فلاسفة يونان أنّهم تعلّموا من حكماء شرقيّين. وأخبرنا بلينيوس أنّ فيثاغور وأنباذقليس وديمقريطس وأفلاطون استفادوا من معارف حكماء الشّرق وأنّ ديمقريطس أخذ عن أبولّوبكس القبطيّ ودردانوس الفينيقيّ 30: 2 (9)، وأنّ "فيثاغور أوّل من ألّف كتابا في الأعشاب ناسبا إلى الآلهة وبالأخصّ أبولّون وإسكلابيوس فوائدها الطّبّيّة، وألّف مثله ديمقريطس، واختلط كلاهما بالفرس وحكماء بلاد العرب والحبشة ومصر" 25: 5 (13)، وأنّ ديمقريطس وفيثاغور درسا علوم المجوس، 24: 102 (160) واتّبعاهم 24: 99 (156)، وأنّ "اليونان نقلوا الطّبّ القديم إلى لغتهم". وأكّد سترابون أنّ الفلكيّين ظلّوا إلى عصره يستقون معلوماتهم من المصريّين والكلدانيّين ( 17: 1)، بل حتّى بطليموس نوّه بدقّة معلومات الكلدانيّين عن دورتي الشّمس والقمر ( المجسطي ك4). وقد أنكر كثير من مؤرّخي العلوم تأثير الحضارات الشّرقيّة في اليونان وزعموا أنّ تلك الأخبار وضعها في العصر الهلّينستيّ ممثّلو تلك الأمم لتمجيد ماضيها، أو يونان كوّنت لديهم ظروف العصر والبعد عن الوطن الأمّ صورة مغلوطة عن جذور حضارتهم، فنسبوا كتاباتهم وكتابات مفكّرين يونان سابقين إلى حكماء شرقيّين، لكنّ من الثّابت أنّ أخبار فيثاغور وأفلاطون وديمقريطس سبقت ذلك العصر. وتشير إلى ذلك أيضا نشأة علم اليونان في مستوطناتهم بآسية الصّغرى كملطية موطن طاليس ونيقية موطن هبّرخوس، حيث كانوا باتّصال ببلدان الشّرق الأقدم حضارة. يبيّن أيضا ذلك التّأثيرَ استشهادُ كتّاب يونان ولاتين بالأساليب الزّراعيّة في بابل ومصر وبلدان شرقيّة أخرى ( مثلا في "تاريخ النّبات" 2: 6: 2-5 و8: 7: 4، أو في كتاب المؤرّخ أفلوطرخوس عن الإسكندر 35: 4 أو في جغرافية سترابون 15: 3: 1 أو في التّاريخ الطّبيعيّ لبلينيوس 18: 45 (161-162))، وبأفكار حكماء الشّرق ( "زرادشت" في جيوبونيكا مثلا أو المجوس magi  عند بلينيوس). ويبيّنه كذلك وجود عدّة تسميات يونانيّة تتعلّق بالطّبّ والفلاحة، من أصل بابليّ ( كالجبس والنّفثا والمرّ والسّمسم والهال والكمّون وربّما كذلك الزّوفا والكركم والهندباء والقاشيا) أو مصريّ مع المحافظة على حرفيّتها ( ammoniakon، natron، leirion، وربّما كذلك pharmakon...) أو بترجمة معناها ( كالصّداع النّصفيّ أو الشّقيقة: hemikrania، وصعود الماء أي تكثّف عدسة العين hypochisis)- بل يرى برنال أنّ حوالي ربع ألفاظ اليونانيّة الأساسيّة ذو جذور مصريّة. وتؤيّده البرديّات "العلميّة" الّتي اكتشفت في العصر الحديث، كبرديّة كاهون الّتي تحتوي على تشخيص وعلاج بعض أمراض الحيوانات لاسيما الأبقار وتعود إلى ح 1900 ق م، فهي تدلّ على وجود كتابات بيطريّة في مصر منذ 39 قرنا، كما يوحي "فهرس رامسّيوم" الّذي جمع أسماء الأشياء حسب أنواعها ( لا حسب ترتيب الكلمات كما في القواميس) بمجهود للتّصنيف ودرجة عالية من التّجريد. ولا ننس أنّ تلك اللّقى قليلة جدّا بالمقارنة بما كان موجودا، ولم يُعثر على جلّها، حتّى اليونانيّة الّتي تعود إلى العصرين البطلميّ والرّومانيّ، في مواقع المدن القديمة بل في مقابر وقرى لا تغمرها مياه النّيل، وهي لا تمثّل بالتّالي سوى قطرة من يمّ، ففي الإسكندريّة مركز أكبر مكتبة في العهد الهلّينستيّ مثلا لم يُعثر على أيّة برديّة! ولأنّ جلّها وُجد في مناطق نائية عن العاصمة ومنطقة الدّلتا حححيث كان الاتّصال باليونان وغيرهم أهمّ، وووفي قبور ( لترافق الموتى في رحلتهم)، تعطي حتما صورة خاطئة عن حضارة مصر ولا تسمح بدراسة تأثيرها بنحو مرض. ولم تساعد العوامل الطّبيعيّة على حفظ مثل تلك الوثائق في بلدان أخرى كقرطاج والمستعمرات الفينيقيّة، خاصّة أنّها لم تكن تضع كتابات مع الموتى، كما كان يفعل المصريّون، وحتّى يونان مصر، إلى ما بعد انتشار المسيحيّة، و لم يُكتشف خارج مصر سوى عدد قليل من اللّفائف الصّغيرة، فيما عدا خربة قمران حيث حُفظت مخطوطات الإسّينيّين في ظروف استثنائيّة، أو بلاد ما بين النّهرين حيث كانت الكتابة تتمّ على الألواح الطّينيّة والخشبيّة الّتي هي أبقى من القراطيس، وقد عُثر فعلا على بعضها، لكنّه هو أيضا غيض من فيض ( وإن لم تُشو تلك الرُّقم وابتلّت بالماء تنهتّ، ويعود حفظها أحيانا إلى ظروف استثنائيّة). من ذلك لوح وُجد في خرائب نفّر ( Nippur قرب الدّيوانيّة) يشكّل أوّل تقويم فلاحيّ، وألواح فيها قوائم بأسماء نباتات وحيوانات ( يصعب التّأكّد من كثير منها) يمكن اعتبارها محاولة متطوّرة للتّصنيف ( على أساس عمليّ أكثر ممّا هو علميّ). لكن لم يُعثر بين آثار بلاد ما بين النّهرين، في مكتبة أشور بانيبال مثلا، على أيّ كتاب في الفلاحة. هناك لا محالة كتاب الفلاحة النّبطيّة الّذي أكّد ابن وحشيّة أنّه نقله عن الكسدانيّين، لكنّ أصله متنازع فيه وسنناقشه لاحقا وكذلك صلته بأدب الفلاحة القديم.

   وخلّف الحثّيّون نصوصا بالخطّ المسماريّ عن تربية الخيل اكتُشفت في بقايا حتّوشة قرب بوغاز كوي ( 150 كلم شرق أنقرة) تعود إلى ق 14 ق م، أي عصر لم يكن مضى فيه على تدجين الحصان زمن طويل، وقبل مؤلّف إكسينوفون في الزّردقة بقرابة 10 قرون! وتتضمّن نصوص من أوغاريت ( رأس شمرا) أدوية للخيل تتكوّن من نباتات كالخسّ وجريش القمح والحنطة الرّوميّة ولا تحمل طابعا سحريّا. وهناك نقيشة تلّ جازر الكنعانيّة الّتي تتضمّن رزنامة فلاحيّة من ق 10. وفي الكتاب المقدّس والتّلمود- رغم طابعهما الدّينيّ بالأساس، وتداخل نصوص من عصور مختلفة فيهما- عدّة إشارات إلى النّبات والحيوان ( كتصنيفه في قصّة الخلق تك 1-2 وللتّمييز بين النّجس والطّاهر منه في أحبار 11، تثنية 14) وإلى الفلاحة في فلسطين حتّى قبل دخول "العبرانيّين" ( تثنية 6: 11، 33: 24 مثلا) وفي البلدان المجاورة ( الّتي تبدو نصوص من العهد العتيق منقولة من كتاباتها) تفيد في دراسة كاتب يحمل بلا شكّ إرثا ثقافيّا فينيقيّا إلى جانب تجارب البونيقيّين والبربر. وهناك كتاب "الفلاحة الفارسيّة"، لكنّ النّصّ البهلويّ "ورزنامه" الّذي تُرجم منه إلى العربيّة متأخّر ( ق 6/7 م) وتُرجم من النّصوص الّتي جمعها كسّيانوس بسّوس ( وقد نُسب إلى قسطوس بن أبيكور، وفيه آراء لعلماء يونان كديمقراطيس وأسطاتيوس)، وكذلك كتب الفلك المنسوبة إلى بزرجمهر وجامسب وتنكلوش البابليّ وربّما كتاب البيطرة للفرس الّذي ذكره ابن العوّام في موضعين. لكنّ كتب الفلاحة والعشابة اليونانيّة واللاّتينيّة نقلت أفكارا لحكماء فرس أو شرقيّين بالأحرى ( المجوس، زرادشت)، ولا شكّ مثلا أنّ كتاب كراتيفاس المفقود في السّموم والتّرياق كان يضمّ تراثا فارسيّا وشرقيّا.

   أمّا كتب البونيقيّين الّتي ذكرها كولوملاّ وبنحو يوحي بقدمها فلم يبق منها سوى ما نُسب في كتب الفلاحة اللاّتينيّة واليونانيّة إلى ماغون وملخّصيه، وأسماء نباتات منسوبة إلى فينيقيّي الشّرق أو الغرب كالنّخل في اليونانيّة والرّمّان في اللاّتينيّة، أو فينيقيّة الأصل ظلّت مستخدمة قرونا، ذكر ديسقوريدس عددا منها باعتبارها إفريقيّة لكنّ بعضها بونيقيّ ( zera 2: 125) وذكر منها بلينيوس zura  ( 24: 71 (115)) وكسّيوس فليكس aturbis ( 9: 1) وإيسيدوروس melopos ( أصول الكلمات 17: 7: 13، وذكرها قبله صولينوس في "عجائب العالم" 28)، وأورد منها سوتر في قاموسه ( Alexander Souter: A Glossary of Later Latin to 600 AD, Oxford 1949) مثلا: azirchalbbe, azirgunzol, zenzour, zibbbir, zizuinnimm, zubbbal، ومنها أيضا في ظنّنا zizanion, zerna, thapsia...

 

تابع