القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الثّالث عشر- تابع 

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

13-15 في أنّ آدم وهو مقدم على الخطيئة تخلّى عن الله قبل أن يتخلّى الله عنه وأنّ موت نفسه تمثّل في الابتعاد عن الله

   لذلك فحتّى في قول الله: "تموت موتا"، حيث لم يقل "موتات"، يجب أن نفهم فقط ذلك الموت الّذي يحدث لمّا تبارح النّفسَ حياتُها الّتي هي الله. والحقّ أنّه لم يبارحها فبارحته بل بارحته فبارحها؛ فزيغ مشيئتها إلى الشّرّ أسبق، بينما مشيئة خالقها النّاحية إلى الخير أسبق- سواء بتكوينها يوم لم تك شيئا أو بإعادة تكوينها بعدما تردّت. إذن حتّى إن فهمنا أنّ الله أنذرها بهذا الموت لمّا قال "يوم تأكل منها تموت موتا"، كما لو قال: "يوم تتخلّى عنّي بالمعصية أتخلّى عنك بالعدل، لا شكّ أنّه كان ينذرها من خلال هذا الموت بالموتات الأخرى اللاّحقة حتما. ففي حركة التّمرّد الّتي نشأت في جسدِ نفسٍ متمرّدة، وجعلتهما يغطّيان سوأتهما، أحسّا بالموت الوحيد، ذاك الّذي يخذل الله فيه النّفس. وقد قصد الله بقوله للإنسان المتخفّي عنه وقد طاش عقله من الخوف: "آدم أين أنت؟" لم يكن يبحث عنه لجهله بمكانه حقّا وإنّما كان ينبئه مؤنّبا بمعرفته أنّه كان حيث لم يكن الله*.

   لكن لمّا تبارح النّفس البدن وقد أبلته السّنون وأوهنه الهرم، تحصل إذّاك تجربة موت آخر قال عنه الله للإنسان وهو يعاقب خطيئته: "إنّك تراب وإلى التّراب تعود"*. فبهذين الموتين يكتمل الموت الأوّل الّذي هو موت الإنسان بكامله، يردفه في اليوم الآخِر الموت الثّاني إلاّ من رحم الله منعما عليه بالخلاص. إذ لا يمكن أن يعود الجسد الّذي هو من تراب إلى التّراب إلآّ بموته الّذي يحصل لمّا تبارحه حياته الّتي هي النّفس. من هنا يتّضح للمسيحيّين المستمسكين بالعقيدة القويمة أنّ موت الجسد ذاته لم يسلَّط علينا بحكم قانون طبيعيّ، بما أنّ الله لم يجعل للإنسان أيّ موت وإنّما وقع عليه جزاء وفاقا على الخطيئة. فقد قال الله للإنسان الّذي كنّا فيه جميعا وهو ينتقم من جرمه: "إنّك تراب وإلى التّراب تعود".

 

13-16 في الفلاسفة الّذين لا يعدّون انفصال النّفس عن الجسم عقابا في حين يرينا أفلاطون الإله الأعلى واعدا الآلهة الأدنين بعدم الانفصال عن أجسادهم أبدا

   لكنّ الفلاسفة الّذين نردّ على افتراءاتهم دفاعا عن مدينة الله الّتي هي كنيسته يزعمون أنّهم حكماء حين يهزؤون من قولنا إنّه يجب اعتبار انفصال النّفس عن الجسم عقابا، إذ يرون اكتمال سعادتها يتحقّق تحديدا لمّا تنسلخ من الجسد كلّيّا فتعود إلى الله مجرّدة منفردة وعارية إن جاز التّعبير. لو لم أجد هنا شيئا في كتاباتهم لدحض رأيهم هذا لاضطررت إلى استدلال طويل لأبيّن أنّ ما يثقّل النّفس ليس الجسد بل الجسد الخاضع للفساد. من هنا هذا القول من كتابنا المقدّس الّذي ذكرناه في الكتاب السّابق: "الجسد الفاسد يثقّل النّفس"* فبإضافة "الفاسد" أنبأنا أنّ النّفس لا يثقّلها الجسد أيّا كان، وإنّما الجسد الّذي صار كذلك جرّاء عقاب الخطيئة. بل حتّى لو لم يضف النّبيّ ذلك لما جاز أن نفهم قوله على غير هذا الوجه.

   لكن لمّا يذكر أفلاطون بصريح العبارة أنّ للآلهة الّذين أنشأهم الإله الأعلى أجساما خالدة، وأنّ الإله الّذي أنشأهم وعدهم بمنّة كبرى: أن يبقوا مع أجسامهم إلى الأبد وألاّ يفصلهم عنها أيّ موت، لماذا نرى خصومنا، لمهاجمة العقيدة المسيحيّة، يتجاهلون ما يعلمون، بل ويؤثرون التّنكّر لمذهبهم وقول ما يخالفه إمعانا في جدالنا؟ إليك فعلا أقوال أفلاطون- كما ترجمها شيشرون إلى اللاّتينيّة- حيث يقدّم لنا الإله الأعلى مخاطبا الآلهة الّذين أنشأهم: "أنتم الّذين وُلدتم من أرومة الآلهة، انظروا أيّة أعمال أنجزت وأنشأت. إنّها بمشيئتي إبداعات سرمديّة لا تنحلّ مع أنّ كلّ مركّب قابل للانحلال، لكن ما الدّاعي لإرادة حلّ خير قد عُقد؟ المفروض لأنّكم أُحدثتم ألاّ تكونوا بمنجى من الموت والاندثار. مع ذلك لن تعرفوا الانحلال ولن تزيلكم حتميّة الموت أيّا كانت تلكم الأقدار، فهي لن تعلو على مشيئتي الّتي هي رباط يحفظ بقاءكم إلى الأبد أقوى من تلك الأقدار الّتي وُضعت خيوطها لكم عند مولدكم."* هذا أفلاطون يقول إنّ الآلهة من جهة اقتران النّفس والجسم فيهم فناة، ومع ذلك هم خالدون بمشيئة الإله الأعلى الّذي أنشأهم. فإن كان عقابا للنّفس اقترانُها بأيّ جسم، لماذا نرى الإله الأعلى، لمّا يخاطبهم وقد بدوا متخوّفين من الموت، أي الانفصال عن الجسم، يطمئنهم على أنّهم بمنجى منه لا بمقتضى طبيعتهم فما ببسيطة هي بل مركّبة، وإنّما بحكم مشيئته الّتي لا تُغلب، فهو قادر إن شاء على جعل الحادث لا يموت والمركّب لا ينفصم بل يبقى بمأمن عن الفساد؟

   أمّا مدى صحّة ما يقول أفلاطون عن الكواكب فمسألة أخرى. إذ لا ينبغي التّسليم له بدون نقاش بأنّ تلك الأجرام أو الكور النّيّرة الّتي ترسل على الأرض ضياءها الجسمانيّ باللّيل والنّهار أحياء لها أنفسها الخاصّة، العاقلة والسّعيدة، وهو ما يؤكّده كذلك مرارا بخصوص العالم بكلّيّته، باعتباره كائنا حيّا أعظم يحتوي على كلّ الأحياء الأخرى. لكنّ هذا، كما ذكرت، مسألة أخرى لا مجال الآن لمناقشتها؛ وإنّما رأيت أن أسوق أقوال أفلاطون ضدّ أولئك الفلاسفة الّذين يتباهون بكونهم- أو بتسميتهم- أفلاطونيّين، ويأنفون في تشامخهم بهذا الاسم من أن يكونوا مسيحيّين حتّى لا يحطّ الاشتراك في هذا الانتماء مع العامّة من قدرهم كصفوة معدودة يزيدها كبْرا لبس الرّداء*. وفي بحثهم عمّا يمكنهم أن يعيبوا في العقيدة المسيحيّة يهاجمون خلود الأجسام، معتبرين أنّ هناك تناقضا في نشداننا سعادة النّفس وقولنا ببقائها مقترنة بالجسم انطلاقا على أساس أنّ ذلك الاقتران قيد مرير. والحال أنّ أفلاطون معلّمهم ومؤسّس مذهبهم يذكر أنّ الإله الأعلى منح الآلهة الّذين أنشأهم كهبة ألاّ يموتوا أبدا، أي ألاّ يُفصلوا أبدا عن الأجسام الّتي قرنهم بها*.

 

13-17 ضدّ من يدّعون استحالة جعل الأجسام الأرضيّة ممتنعة الفساد والفناء

   يدّعون كذلك استحالة خلود الأجسام الأرضيّة، والحال أنّهم لا يتردّدون في القول بأنّ الأرض بكلّيّتها عضو من إله، لا الإله الأعلى لا محالة، لكن مع ذلك إله عظيم هو العالم بأكمله يحتلّ المركز منه ولا ينتهي دوامه. ما داموا يزعمون إذن أنّ الإله الأعلى أنشأ ذلك الإله الآخر المتمثّل في هذا العالم، والأجلّ من الآخرين الّذين هم في تصوّرهم أدنى منه مرتبة، وأنّه كائن حيّ له كما يؤكّدون نفس عاقلة أو مدركة مبثوثة في كتلة جسمه الضّخمة، وأنّ ذلك الجسم يتألّف من العناصر الأربعة الّتي هي بمثابة أعضاء موزّعة ومرتّبة في محالّها، ويدّعون، لدرء الموت عن إلههم العظيم، أنّ ارتباطها أبديّ لا انفصام له، لِم لا يمكن، على غرار الأرض الّتي هي عندهم خالدة باوصفها العضو المركزيّ في جسم ذلك الحيّ الأعظم، للأجسام الأرضيّة الأخرى الّتي جُبلت منها أجسام الأحياء الأرضيّة الأخرى، أن تكون هي أيضا بمشيئة الله خالدة؟ يردّون: لكنّ الأرض تعود إلى الأرض الّتي منها جُبلت أجسام الأحياء الأرضيّة، ومن ثمّة لا بدّ حسب أقوالهم أن تنحلّ وتموت، وتعاد بذلك إلى الأرض الباقية الأبديّة الّتي منها جُبلت. فإن أكّد أححد نفس المقولة عن النّار أيضا، زاعما أنّ من الضّروريّ أن تعاد الأجسام الكونيّة الّتي منها جُبلت لتصير أحياء سماويّة، ألا يوجّه هذا الاعتراض ضربة قاصمة تقضي على الخلود الّذي وعد أفلاطون، على لسان الإله الأعلى، أولئك الآلهة؟ أم لعلّ ذلك لا يقع لأنّ الله لا يشاؤه، هو الّذي لا قوّة تغلب مشيئته كما يقول أفلاطون؟ ماذا يمنع إذن أن يفعل الله ذلك للأجسام الأرضيّة أيضا، ما دام أفلاطون يسلّم بأنّ الله قادر على جعل ما ووُلد لا يموت وما عُقد لا يُحلّ وما جُبل من العناصر لا يُردّ إليها والنّفوسَ المودعة في الأجسام لا تفارقها أبدا وبمعيّتها تنعم بالخلود والسّعادة السّرمديّة؟ لِم لا يمكنه جعل الكائنات الأرضيّة لا تموت؟ أتقصر قدرة الله عمّا يعتقد المسيحيّون وتمتدّ إلى ما يشاء لها الأفلاطونيّون؟ حقّا، ها قد أتيح للفلاسفة العلم بمقاصد الله وقدرته وما أتيح للأنبياء! كلاّ بل علّم أنبياءَ الله بمشيئته روحُه ليعلنوها بالقدر الّذي شاء، بينما أووهم الظّنّ البشريّ الفلاسفة بأنّهم يعرفونها.

   لكن لا ينبغي أن يدَعوا الجهل وكذلك العناد يعميانهم إلى درجة الوقووع في تناقض صارخ، فإنّهم ليلجّون في جدالنا مؤكّدين أنّ على النّفس ليمكنها بلوغ السّعادة أن تفرّ لا كلّ جسم أرضيّ فقط، بل كلّ جسم أيّا كان، ويزعمون خلافا لذلك أنّ للآلهة نفوسا في غاية السّعادة، ومقترنة مع ذلك بأجسامها السّرمديّة، النّاريّة لا محالة في حالة الآلهة السّماويّة، لكنّ نفس يوبتر الّذي هو العالم في زعمهم مبثوثة في كلّ العناصر الجسمانيّة الّتي تمتدّ كتلتها من الأرض حتّى السّماء، وحسب ما يرى أفلاطون، تسري وتنتشر من وسط باطن الأرض- مركزها كما يدعوه الرّياضيّون- في كلّ أجزاء العالم إلى أعلى السّماء وفق أعداد توافقيّة، فالعالم حسب هذا التّصوّر حيّ في منتهى العظم سعيد وسرمديّ، تتمتّع نفسه بغبطة كاملة ولا تفارق جسمها الخاصّ الّذي يستمدّ منها، بالرّغم من كونه غير بسيط بل مركّبا من أجسام متعدّدة، حياة أبديّة دوون أن يبلّدها أو يلبّدها.

   ما داموا يجوّزون لأخيلتهم هذه الأوهام، لِم يرفضون الاعتقاد بأنّ بوسع المشيئة والقدرة الإلهيّة جعل الأجسام الأرضيّة خالدة، تحيا فيها النّفوس حياة سرمديّة سعيدة دون أن يفرّقها عنها أيّ موت أو تثقّلها صوابيرها#، وهو ما يؤكّدون إمكانه بالنّسبة لآلهتهم في أجسامهم النّاريّة ولملكهم يوبتر نفسه في كلّ العناصر الجسمانيّة؟ فإن لزم النّفس، لتكون سعيدة، أن تفرّ كلّ جسم، فليفرّ آلهتهم أجرام الكواكب، وليفرّ يوبتر بعيدا عن السّماء والأرض، وإن لم يقدروا فلنعتبرهم أشقياء. لكنّهم لا يريدون ذا ولا ذا: فهم لا يجرؤون على التّسليم في حال آلهتهم بإمكانيّة الانفصال عن الأجسام كيلا يُرى أنّهم يعبدون كائنات فانية، ولا على نفي السّعادة عنهم مخافة الإقرار بأنّهم أشقياء. إذن ليس ضروريّا لنيل السّعادة فرار كلّ الأجسام بل فقط تلك البالية المُعنية المُثقلة المائتة*، لا كما أوجدها جود الله للإنسانين الأوّلين بل كما جعلها عقاب خطيئتهما.

 

13-18 في الأجسام الأرضيّة الّتي ينفي الفلاسفة إمكانيّة استقرارها في محالّ سماويّة لأنّ ما هو من الأرض يعود بفعل ثقله الطّبيعيّ إلى الأرض

   يقولون: لكنّ ثقل الأجسام الأرضيّة الطّبيعيّ يشدّها إلى الأرض أو يعيدها قسرا إلى الأرض*، فلا يمكنها المكوث في السّماء. صحيح أنّ الإنسانين الأوّلين عاشا في أرض ذات شجر وثمر وفير أُطلق عليها اسم الفردوس*، لكن بما أنّ علينا الرّدّ عليهم كذلك بخصوص الجسد الّذي صعد به المسيح إلى السّماء* وطبيعة الأجساد الّتي تكون للأبرار في يوم القيامة وطبيعة الأجساد الّتي ستكون للأبرار يوم القيامة، لنفحص بمزيد من الإمعان* مسألة ثقل الأجسام الأرضيّة. فلئن استطاعت صناعة الإنسان أن تجعل، بطرق معيّنة، أوعية مصنّعة من المعادن لا تلبث عند وضعها في في الماء أن تغرق تستطيع مع ذلك السّبح فوقه، فكم أوْلى بالتّصديق وأيسر على الله الّذي تستطيع قدرته ومشيئته، كما يقول أفلاطون، جعل ما وُلد لا يموت وما قُرن لا ينفصم، علما بأنّ اقتران اللاّجسميّات بالأجسام أعجب من اقتران جسميّات بأيّة أجسام، أن يتيح، بطريقة عمله الخفيّة، للأجسام الأرضيّة ألاّ يهوي بها أيّ ثقل إلى أسفل، وللنّفوس أن تبلغ كمال سعادتها في أجسامها الأرضيّة والممتنعة مع ذلك عن الفساد، فتُحلّها أين تشاء وتحرّكها إلى أين تشاء، وبمنتهى السّهولة في الحلّ والتّنقّل سويّا. وإن كنّا نقرأ أنّ الملائكة يفعلون ذلك ويأخذون أيّا من الأحياء على الأرض من أيّ مكان ويحطّونه في أيّ مكان، أيجوز أن نحسبهم لا يستطيعون ذلك أو أنّهم يحسّون بثقله؟ ماذا يمنعنا إذن من الاعتقاد بأنّ أرواح الأبرار عند بلوغها بنعمة الله الكمال والسّعادة تستطيع دون أدنى صعوبة نقل أجسامها إلى حيث تشاء وإحلالها حيثما تشاء؟ ولئن كنّا حين نحمل أجساما أرضيّة لنقلها نحسّ عادة ثقلها أكثر بقدر ما تزداد كمّيّتها، فيرهقنا الكثير بوزنه أكثر من القليل، إلاّ أنّ النّفس تجد أعضاء جسدها أخفّ في الصّحّة على متانتها ممّا تكون في المرض على هزالها. وبينما هو، لمّا يحمله آخرون، أثقل صحيحا ومتينا منه هزيلا وسقيما، يكون صاحبه أقدر على حمله وتحريكه في الصّحّة وهو أبدن ممّا يكون في المرض أو الجوع وهو واهن سقيم. إلى مثل ذلك الحدّ تهمّ حتّى في حمل أجسامنا الأرضيّة، وهي لا تزال خاضعة للبلى والموت، الحالة الصّحّيّة أكثر من الحجم والوزن. وبأيّة ألفاظ نبيّن الفرق الشّاسع بين ما ندعوه صحّة في حياتنا الحاضرة والخلود في الحياة الآخرة!

   لذلك لا يفنّد عقيدتنا ما يقول الفلاسفة عن ثقل الأجسام؛ ولا أريد البحث عن سبب رفضهم الاعتقاد في إمكانيّة مكوث الأجسام الأرضيّة في السّماء والحال أنّ الأرض بكاملها راسية في الخواء. قد يُرى في مركز العالم الّذي تتّجه نحوه كلّ الأجسام الثّقيلة دليل معقول، وأنا أقول: إن أمكن للآلهة الأدنين الّذين وكل إليهم أفلاطون إنشاء الإنسان مع بقيّة الأحياء الأرضيّة أن يزيلوا من النّار خاصّيّة الإحراق مع الاحتفاظ بخاصّيّة الإضاءة المنبعثة من العيون* على ما يقول، أيخامرنا إذّاك شكّ في أنّ الإله الأعلى الّذي نسب إلى مشيئته وقدرته جعل ما وُلد لا يموت، واتّحاد جواهر مختلفة ومتباينة تماما، أعني الجسميّات واللاّجسميّات، لا ينحلّ بأيّة قوّة، قادر على إزالة عوق الثّقل عن جسد الإنسان يوم يمنحه الخلود وينزع عنه البلى ويحفظ له طبيعته ويسوّي على الوجه الأمثل صورته وأعضاءه؟ لكنّي سأتحدّث بمزيد من التّفصيل عن عقيدة قيامة الأموات وخلود أجسادهم في ختام هذا المؤلّف إن شاء الله.

 

13-19 ضدّ آراء من لا يعتقدون أنّ الإنسانين الأوّلين كانا سيحظيان بالخلود لو لم يخطآ، ويزعمون الخلود مقصورا على النّفوس ولا يشمل الأجسام

   أمّا الآن فلنعرض ما كنّا ننوي قوله بشأن جسدي الإنسانين الأوّلين. إذ ما كان الموت الّذي يُعدّ خيرا للأخيار ويعرفه، لا ثلّة من العلماء أو المؤمنين بل النّاس كافّة، وبه يتمّ انفصال النّفس عن الجسد وبه يصير جسم الحيّ الّذي كان يحيا بنحو بيّن خاليا من الحياة بنحو بيّن، ليقع لهما لو لم يستحقّاه جزاء خطيئتهما. فمع أنّه لا يجوز الشّكّ لحظة في كون نفوس الأبرار والأتقياء تحيا في دعة، تكون سعادتها بالتّحقيق أتمّ بعيشها في أجسادها وهي صحيحة معافاة، فحتّى من يرون السّعادة القصوى في التّجرّد كلّيّا من الجسد يؤكّدون رأيهم ذلك وعقلهم له منكر. إذ لا أحد من بينهم يجرؤ على تفضيل حكماء البشر، سواء من ماتوا أو من هم إلى الموت صائرون، أي من فقدوا الأجساد أو من سيتخلّون يوما عنها، على الآلهة الخالدين الّذين وعدهم الإله الأعظم، حسب أفلاطون، بمنّة كبرى، هي الحياة الّتي لن تنحلّ أبدا، أي الاقتران الأبديّ بأجسامهم. وقد رأى أفلاطون كذلك كمصير أمثل للبشر، إن لزموا طبعا في رحلة هذه الحياة البرّ والتّقوى، قبولهم بعد الانفصال عن أجسامهم ضمن الآلهة الّذين لم يتخلّوا عن أجسامهم، "ناسين ما مضى، ليروا مجدّدا قبّة السّماء، وتبدأ في مراودتهم رغبة العودة إلى الأجسام"*، وهو ما يستحقّ فرجيليوس الثّناء على قوله بصريح العبارة انطلاقا من مذهب أفلاطون. فإنّه يرى أنّ نفوس الفناة لا تستطيع البقاء دوما في أجسامها بل لا بدّ أن تفارقها بالموت المحتوم، ولا يمكن كذلك أن تبقى إلى الأبد بدون أجسام، بل يخرج بالتّناوب وبلا انقطاع أحياء من الأموات وأموات من الأحياء. ويظهر بالتّالي أنّ ما يفرق العلماء عن بقيّة النّاس هو انتقالهم بعد الموت إلى السّماء حيث يستريح كلّ منهم في الكوكب الموافق له، وبعد نسيان بؤس حياته السّابقة يعود من جديد، مستسلما للرّغبة في تقمّص جسد، إلى متاعب وشقاوات بني الدّنيا. أمّا من قضوا حياة نزقة فسرعان ما يعودون إلى أجسام بشر أو بهائم حسب ما يستحقّون.

   في هذا الوضع البئيس إذن جعل أفلاطون حتّى النّفوس الخيّرة والحكيمة الّتي لم تؤت أجساما تعيش مقترنة بها على الدّوام دون أن يفرّقها الموت عنها، فلا هي قادرة على البقاء في الأجسام ولا على الاستمرار بدونها في نقاء أبديّ. هذه الفكرة الأفلاطونيّة، ذكرنا في الكتب السّابقة أنّ فرفوريوس خجل بها، ولم يكتف بنفي حلول النّفوس الإنسانيّة في أجسام الحيوانات، بل ذهب كذلك إلى أنّ نفوس الحكماء تتحرّر من العلائق الجسديّة فتبقى بمنأى عن كلّ جسم عند الآب في سعادة بلا نهاية. هكذا إذن، كيلا يُرى أنّ المسيح الّذي يعد الأبرار بالحياة الأبديّة بزّه، أقام بدوره النّفوس المنقّاة في سعادة سرمديّة لا رجعة منها إلى الشّقاوات السّابقة. وليحارب المسيح أكّد أنّها ستعيش إلى الأبد بلا أجسام- لا أرضيّة فحسب بل أيّا كان نوعها- منكرا بعث الأجسام إلى حياة بلا بلى. مع ذلك لم يحْدُه هذا الرّأي، بالصّورة الّتي صاغه بها، إلى نهيها على الأقلّ عن عبادة آلهة مجسّدين. وهل ذاك إلاّ لأنّه لا يظنّها رغم تجرّدها من الجسم تماما أفضل منهم؟ من ثمّة، ما داموا لا يجرؤون- ولا إخالهم سيجرؤون- على تفضيل حالة النّفوس الإنسانيّة على الآلهة السّعداء والحالّين مع ذلك في أجسام خالدة، لماذا يبدو لهم خُلفا تأكيد الدّين المسيحيّ أنّ الإنسانين الأوّلين خُلقا على صورة ما كانا فيها، لولا الخطيئة، لينفصلا عن جسديهما، بل كانا سيمنحان الخلود يقينا جزاء طاعتهما وحفظهما الأمانة، فيعيشا برفقتهما إلى الأبد، وأنّ الأبرار سيستعيدون يوم القيامة الأجسام الّتي عُذّبوا بها في هذه الحياة فلا يمسّها بعد فساد ولا عناء، ولا يشوب سعادتهم ألم ولا شقاء؟

 

13-20 في أنّ أجسام القدّيسين الّتي تستريح الآن على رجاء مكافأة يوم الحساب ستُحوّل إلى حالة أفضل من الّتي كان فيها الإنسانان الأوّلان قبل الخطيئة

   لذلك لا تجد نفوس الأبرار الأموات مشقّة في الموت الّذي فصلها عن أجسامها، لأنّ جسدهم يستريح على الرّجاء، دون أن تؤلمه أيّة أذايا وقعت عليه في ظاهر الحال. فما بسبب النّسيان، كما بدا لأفلاطون، تهفو إلى الأجسام، بل بالأحرى لتذكّرها ما وعدها من لا يخلف أحدا* وعدا، والّذي أمّنها على سلامة أجسادها حتّى أصغر شعرة، فهي تنتظر بشوق وصبر معاد الأجسام الّتي قاست فيها عديد الآلام ولن يمسّها فيها بعد مكروه. فإن لم تبغض جسدها حتّى يوم كانت تخضعه لناموس الرّوح قاهرة مقاومته النّابعة من ضعفه، فكم تحبّه الآن أكثر مرتجية يوم يصير هو الآخر روحانيّا. إذ كما لا نخطئ بنعت الرّوح الخاضع للجسد بالجسديّ، يحقّ لنا أن ننعت الجسد الّذي هو في خدمة الرّوح بالرّوحانيّ، لا لأنّه سيتحوّل إلى جوهر روحانيّ كما يرى البعض استنادا إلى ما كُتب: "يُزرع جسد حيوانيّ ويقوم جسد روحانيّ"*، بل لأنّه سيخضع طوعا للرّوح بسهولة لامتناهية عجيبة، حتّى تحقيق لذّة وطمأنينة الخلود الّذي لا زوال له ولا انفصام، وقد نُزع منه كلّ ألم وكلّ فساد وكلّ عوق. لن يكون يومئذ في مثل حالته الحاضرة حتّى وهو في أوج الصّحّة ولا حتّى كما كان في الإنسانين الأوّلين قبل الخطيئة: فرغم أنّهما كانا بمنجى من الموت ما لم يخطآ، كانا مع ذلك يأكلان الطّعام كإنسانين يحملان جسمين أرضيّين لا يزالان حيوانيّين ولم يصيرا بعد روحانيّين. ورغم أنّهما كانا بمأمن من الهرم الّذي يقودهما حتما إلى الموت، وهو ما كانت تؤمّنه لهما بنعمة الله العجيبة شجرة الحياة القائمة في وسط الجنّة مع الشّجرة المحرّمة، كانا مع ذلك يأكلان من ثمار الجنّة ما عدا الشّجرة الوحيدة الّتي حرّمت عليهما، لا لأنّها كانت سيّئة في حدّ ذاتها، وإنّما كان لزاما تعليمهما حسن الطّاعة الخالصة المجرّدة الّتي هي فضيلة كبرى في الخليقة العاقلة المبوّأة مقامها تحت باريها وربّها. وبما أنّ لا شيء ممّا كان يمكن مسّه هناك سيّء، لاشكّ أنّ الخطيئة، في مسّ ما حُرّم، كانت المعصية في ذاتها. كانا إذن يأكلان من الأشجار الأخرى كيلا يحسّ جسماهما الحيوانيّان غائلة الجوع ولا العطش، وكانا يذوقان كذلك من شجرة الحياة كيلا يبغتهما الموت أو يبليهما الهرم على مرّ الأزمان، كما لو كانت الأشجار الأخرى لهما غذاء وهي سرّا مقدّسا. من ثمّة تمثّل شجرة الحياة في الجنّة الجسمانيّة ما تمثّل في الجنّة الرّوحانيّة حكمة الله المكتوب عنها: "هي شجرة الحياة للمتعلّقين بها."*

 

13-21 في الجنّة الّتي كان الإنسانان الأوّلان فيها، وأنّه يُرمز بها إلى واقع روحانيّ مع احتفاظ القصّة بصحّتها كحدث تاريخيّ تمّ في مكان مادّيّ

   من ثمّة يردّ البعض قصّة الجنّة حيث عاش الإنسانان الأوّلان بكاملها، كما يرويها لنا الكتاب المقدّس أصدق الكتب، إلى واقع روحيّ ويحيلون أشجارها المحمّلة بالثّمار إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، كما لو لم تكن واقعا مادّيّا ملموسا، وكأنّ ما قيل وكُتب عنها رموز لحقائق روحانيّة ليس إلاّ. كما لو لم يمكن أن تكون الجنّة قد وُجدت لأنّ من الممكن فهمها أيضا كواقع روحيّ، وكما لو لم توجد امرأتان، هاجر وسارة، وُلد منهما ابنان لإبراهيم، واحد من الأمة والآخر من الحرّة، لأنّ الرّسول يقول إنّهما ترمزان إلى الوصيّتين*؛ أو كما لو لم ينفجر ماء لمّا ضرب موسى الصّخرة، لأنّ من الممكن فهم الواقعة كذلك كتورية عن المسيح حسب ما يقول نفس الرّسول: "والصّخرة كانت المسيحَ"*.

   لذلك لا شيء يمنع أن نفهم من الجنّة حياة السّعداء، ومن أنهارها الأربعة الفضائل الأربع: الحكمة والشّجاعة والعفّة والعدالة* من الأشجار كلّ العلوم النّافعة ومن ثمارها الأخلاق الحميدة، ومن شجرة الحياة الحكمة أمّ كلّ الخيرات ومن شجرة معرفة الخير والشّرّ تجربة انتهاك الوصيّة. فإنّ الله جعل في العقاب خيرا للخطأة لأنّه عادل، لكن مرور الإنسان بتلك التّجربة ليس خيرا له. يمكن أن نفهم كذلك تلك الأحداث على أنّها تتعلّق بالكنيسة، فنتبيّن فيها معاني أحسن باعتبارها علامات تنبئ بأحداث آتية. بهذا المنظور ترمز الجنّة إلى الكنيسة نفسها كما نقرأ عنها في نشيد الأناشيد*، وأنهارها الأربعة إلى الأناجيل، والشّجرة المثمرة إلى القدّيسين، وثمارها إلى أعمالهم، وشجرة الحياة إلى قدس الأقداس المسيح، وشجرة معرفة الخير والشّرّ إلى حرّيّة الاختيار المميّزة لإرادة الإنسان، إذ لا يمكنه استخدامها إن استخفّ بالمشيئة الإلهيّة إلاّ في ما يضرّه، وبذلك يتعلّم مدى الفرق بين التّعلّق بالصّالح المشترك وحبّ المصلحة الخاصّة. فإنّ من يجعل ذاته كلّ ديدنه، ويغنّي وهو نهب للمخاوف والهواجس كما جاء في المزمور، إن كان يعي أدواءه أصلا: "تكتئب نفسي فيّ"*، ثمّ بعد إصلاح نفسه يقول: "أنت عزّي وإليك أشيد"*. لا مانع حقّا من فهم الجنّة بهذه الوجوه من التّأويل الرّوحانيّ وغيرها إن كان أوفق، لكن على أن نصدّق أيضا صحّة الوقائع التّاريخيّة المنقولة بكلّ أمانة.*

 

13-22 في أجسام القدّيسين بعد البعث وأنّها ستكون روحانيّة دون تحوّل الجسد إلى روح

    لن تحتاج إذن أجسام الأبرار كما ستكون عند المعاد إلى أيّة شجرة تدرأ عنها الموت أو المرض أو بلى الشّيخوخة، ولا إلى أيّة أغذية جسمانيّة أخرى تجنّبها غائلة الجوع والعطش، فإنّها ستُلبَس عدم الفساد، تلك النّعمة الّتي لا يخشى زوالها أو انثلامها بأيّ وجه، بحيث لا تقتات إلاّ إن طاب لها، كخيار متاح لا كضرورة قاهرة. ذاك ما فعل الملائكة أيضا عند ظهورهم بنحو منظور وملموس، لا لأنّهم كانوا بحاجة إلى الطّعام، بل لأنّهم كانوا يريدون ويستطيعون ذلك بقصد إضفاء طابع إنسانيّ على أشخاصهم بما يوافق مهمّتهم- إذ لا ينبغي الاعتقاد بأنّ أكل الملائكة كان من قبيل التّهيّؤات لمّا استضافهم بشر- وإن بدوا لمن يجهلون طبيعتهم كأنّهم يأكلون مثلنا دفعا للجوع. من هنا قول الملاك في سفر طوبيّا: "وكان يظهر لكم أنّي آكل وأشرب معكم"*، أي كنتم تتصوّرون أنّي أتناول الطّعام كما تفعلون لضرورة استعادة قوى الجسم. لكن حتّى إن أمكن فرضا تقديم تعليل أرجح في ما يتعلّق بالملائكة، ففي ما يتعلّق بالمسيح على الأقلّ لا شكّ في عقيدتنا المسيحيّة أنّه حتّى بعد قيامته- وهو قد صار في جسد روحانيّ ومع ذلك حقيقيّ-* أكل وشرب مع تلاميذه. فإنّما تُزال عن تلك الأجسام الحاجة إلى الأكل والشّرب لا القدرة عليهما. ومن هنا ستكون روحانيّة لا لأنّها لم تعد أجسادا، بل لأنّها بالرّوح المحيي تحيا حياة الخلود.

 

13-23 كيف يجب فهم الجسد الحيوانيّ والجسد الرّوحانيّ وأنّ من يموتون في آدم يحيون في المسيح

   إذ كما تدعى تلك الّتي لها أنفس حيّة وليس فيها بعد الرّوح المحيي أجسادا حيوانيّة- فما تلك بالأنفس بل هي من قبيل الأجساد-، كذلك تدعى تلك أجسادا روحانيّة. لكن حاشا أن نظنّها ستكون أرواحا، بل أجسام ذات جوهر جسديّ مع انتفاء الثّقل والفساد الملازمين للجسد بفضل الرّوح المحيي. إذّاك لن يظلّ الإنسان أرضيّا بل سيصير سماويّا، لا لأنّ جسمه المكوّن من عنصر أرضيّ لن يبقى هو هو، بل لأنّه سيغدو بمنّة سماويّة على حال تتيح له سكنى السّماء دون فقدان طبيعته الأرضيّة وإنّما فقط بتغيّر خاصّيّته. أمّا الإنسان الأوّل فقد خُلق من الأرض أرضيّا نفسا حيّة لا روحا محييا، إذ ادُّخِر له ذلك جزاء الطّاعة. ولا شكّ بالتّالي أنّ جسمه الّذي كان بحاجة إلى المأكل والمشرب كيلا يمسّه الجوع والعطش، ولم يكن يتمتّع بحصانة مطلقة ونهائيّة ضدّ الموت بل كانت شجرة الحياة تحميه من حتميّة الموت وتحفظ له ريعان الشّباب، كان حيوانيّا لا روحانيّا، ومع ذلك غير آيل للموت لو لم يعرّض نفسه بالمعصية لحكم الله الّذي كان قد أنذره وقدّم إليه بالوعيد، فأُقصي عن شجرة الحياة، دون منع الأقوات عنه خارج الجنّة، لينهي العمر عرضة لآفة الهرم والحدثان، في تلك الحياة الّتي كان يمكنه، حتّى وهو في جسد حيوانيّ إلى أن يصير جزاء الطّاعة روحانيّا، أن يتمتّع بها في الجنّة إلى الأبد لولا الخطيئة.

   لذلك حتّى إن رأينا أنّ ذلك الموت البيّن المتمثّل في انفصال النّفس عن الجسد مقصود في نفس الوقت بقول الله: "يوم تأكل منها تموت موتا"، لا يجب أن يبدو لنا لامعقولا أنّهما لم ينفصلا عن جسديهما يوم أكلا الثّمرة المحرّمة والمميتة. ففي ذلك اليوم داخل طبيعتهما الفساد والنّقصان وبإقصائهما عن شجرة الحياة جزاء وفاقا حلّت فيهما كذلك حتميّة الموت الجسديّ الّتي نولد بها إثرهما. لذلك لا يقول الرّسول: لا بدّ للجسد أن يموت من أجل الخطيئة، بل: "الجسد ميّت من أجل الخطيئة أمّا الرّوح فحيّ من أجل البرّ."* ثمّ يضيف: "وإن كان روح الّذي أقام المسيحَ من بين الأموات حالاّ فيكم، فالّذي أقام يسوع من بين الأموات يحيي أيضا أجسادكم المائتة من أجل روحه الحالّ فيكم."* سيكون الجسد حينئذ بروح محي، بينما هو الآن بنفس محيية؛ ومع ذلك ينعته الرّسول بالميّت لأنّه لولا إتيانه الخطيئة ما كان ليخضع لحتميّة الموت. لكن بما أنّ الله قصد بقوله: "آدم أين أنت؟" موت النّفس الّذي حصل بتخلّيها عنه، وبقوله: "إنّك تراب وإلى التّراب تعود" موت الجسد الّذي يحصل بتخلّيها عنه، لا بدّ أن نقرّ أنّه لم يقل شيئا عن الموت الثّاني، لأنّه شاء أن يظلّ مخفى ليُعلم عند إذاعة العهد الجديد حيث يُعلن عنه بصريح العبارة، فيذاع أوّلا أنّ الوت الأوّل الّذي يشترك فيه الجميع أتى من تلك الخطيئة الّتي صار فيها الجميع مشتركين بفعل واحد، أمّا الموت الثّاني فهو بالتّأكيد ليس مشتركا بين الجميع، نظرا إلى "الّذين هم مدعوّون بحسب القصد، الّذين سبق فعرفهم وسبق فحدّد أن يكونوا- كما يقول الرّسول- مشابهين لصورة ابنه حتّى يكون بكرا ما بين إخوة كثيرين"* وقاهم إنعام الله بالوسيط شرّ الموت الثّاني.

   إذن فقد خُلق الإنسان الأوّل في جسد حيوانيّ كما يقول الرّسول. ففي حرصه على تمييز الجسد الحيوانيّ الحاضر عن الرّوحانيّ الّذي سيكون للأبرار عند قيامة الأموات يقول: "الزّرع بفساد والقيامة بغير فساد. الزّرع بهوان والقيامة بمجد. الزّرع بضعف والقيامة بقوّة. يُزرع جسد حيوانيّ ويقوم جسد روحانيّ." ثمّ ليُثبت ذلك يواصل: "بما أنّه يوجد جسد حيوانيّ فإنّه يوجد جسد روحانيّ". وليبيّن ما هو الجسد الحيوانيّ يقول: "كما كُتب جُعل الإنسان الأوّل آدم نفسا حيّة"*. بهذا النّحو أراد إذن أن يبيّن ما هو الجسد الحيوانيّ، وإن كان الكتاب المقدّس لم يقل عن الإنسان الأوّل الّذي سمّي آدم، لمّا خلق الله له بنفخ نسمة حياة فيه نفسا: "جُعل الإنسان في جسد حيوانيّ" بل "صار الإنسان نفسا حيّة"*. بيد أنّه يبيّن بأيّ معنى ينبغي فهم "الرّوحانيّ" مضيفا: "وآدم الآخِر روحا محييا"* مشيرا بلا شكّ إلى المسيح الّذي قام من بين الأموات لئلاّ يموت من بعد أبدا. ثمّ يواصل قائلا: "ولكن لم يكن الرّوحانيّ أوّلا بل الحيوانيّ وبعد ذلك الرّوحانيّ"*. هنا أعلن بنحو أوضح بكثير أنّه قصد الجسد الحيوانيّ في ما كتب عن جعل الإنسان نفسا حيّة، والرّوحانيَّ بقوله: "وآدم الآخِر روحا محييا". فأوّلا كان الجسد الحيوانيّ، ذاك الّذي كان لآدم الأوّل، وما كان مع ذلك سيموت لو لم يخطأ، والّذي لنا نحن أيضا بعد تغيّر وفساد طبيعته إلى الحدّ الّذي صُيّر إليه في آدم بعد الخطيئة، فغدا مذّاك خاضعا لحتميّة الموت، وبصورته تلك أيضا ادّرعه المسيح قبل قيامته، اتّضاعا منه، لا خضوعا لضرورة بل اختيارا عن اقتدار. ومن بعد يكون الرّوحانيُّ كما سبق في المسيح كما في رأسنا، وسيتبع أيضا في كلّ أعضائه في قيامة الأموات الأخيرة*.

   ثمّ يضيف الرّسول فرقا بيّنا بين هذين الإنسانين قائلا: "الإنسان الأوّل من الأرض أرضيّ والإنسان الثّاني من السّماء سماويّ. على مثال الأرضيّ يكون الأرضيّون وعلى مثال السّماء يكون السّماويّون. وكما لسنا صورة الأرضيّ كذلك سنلبَس صورة السّماويّ."* بهذه الأقوال أفاد الرّسول بأنّ سرّ الإحياء المقدّس يتمّ فينا في حياتنا الحاضرة، كما يقول في موضع آخر: "أنتم جملة من اعتقدتم في المسيح قد لبستم المسيح"* وذلك لأنّا- وأستخدم هنا كلماته مرّة أخرى- "بالرّجاء خُلّصنا"*. فإنّا نلبس صورة الإنسان الأرضيّ بوراثة المعصية والموت الّذي يبذره فينا التّناسل، لكنّا نلبس صورة الإنسان السّماويّ بنعمة الغفران والحياة الأبديّة المفاضة علينا بالإحياء الّذي لا يقدّمه لنا سوى "الوسيط بين الله والنّاس، الإنسان يسوع المسيح"، وهو الّذي يَقصده بالإنسان السّماويّ لأنّه أتى من السّماء ليلبَس جسد الموت الأرضيّ فيُلبسه عدم الموت السّماويَّ. لكنّه يدعو آخرين كذلك سماويّين، لأنّهم يصيرون بالنّعمة أعضاءه بحيث يكونون معه مسيحا واحدا هو الرّأس منه وهم الجسد. ذاك ما يؤكّد بمزيد من الوضوح في نفس الرّسالة قائلا: "بما أنّ الموت بإنسان فبإنسان أيضا قيامة الأموات. فكما في آدم يموت الجميع كذلك في المسيح سيحيا الجميع."* سيكون إذّاك بالتّحقيق جسدا روحانيّا يحيا بالرّوح المحيي، لا لأنّ جميع من يموتون في آدم سيكونون أعضاء المسيح، فمنهم كثيرون سيردون الموت الثّاني الأبديّ، بل قيل "الجميع" في الحالتين لأنّه مثلما لا يموت أحد في جسد حيوانيّ إلاّ في آدم، كذلك لا يُحيى أحد في جسد روحانيّ إلاّ في المسيح.

   يجب إذن ألاّ نتصوّر أن سيكون لنا في القيامة جسد كالّذي كان للإنسان الأوّل قبل الخطيئة، ولا أن نفهم القولة: "على مثال الأرضيّ يكون الأرضيّون" كوصف لما نجم عن ارتكاب الخطيئة، إذ لا ينبغي الظّنّ أنّه كان قبل الخطيئة ذا جسد روحانيّ تحوّل جزاء الخطيئة إلى حيوانيّ، فإنّما يظنّ ذلك من لا يمعن جيّدا في كلام العالِم الرّبّانيّ الّذي يقول: "بما أنّه يوجد جسد حيوانيّ فإنّه يوجد جسد روحانيّ أيضا. كمل كُتب: جُعل الإنسان الأوّل نفسا  حيّة." أفيكون ذلك قد حصل بعد الخطيئة، والحال أنّه وضع الإنسان الأصليُّ الّذي قصده القدّيس بولس المبرور إذ أورد شهادة النّاموس لإيضاح الجسد الحيوانيّ*؟

 

13-24 كيف يجب أن نفهم نفخ الله الّذي به صار الإنسان نفسا حيّة، أو نفخ الرّبّ في تلاميذه وقوله: "خذوا الرّوح القدس"

   لذلك بدا للبعض، جرّاء التّسرّع، في الموضع حيث نقرأ: "ونفخ اللّه في ( وجهه) نسمة حياة فصار الإنسان نفسا حيّة"*، أنّ الإنسان الأوّل لم يُمنح إذّاك نفسا، وإنّما أُحييت بالرّوح القدس النّفس الّتي كانت توجد فيه من قبل؛ وذلك بتأثير ما جاء من أنّ ربّنا يسوع بعد قيامته من بين الأموات نفخ في تلاميذه وقال لهم: "خذوا الرّوح القدس"*. يرون أنّ ما حدث هنا عين ما حدث هناك، كما لو أنّ الإنجيليّ تابع قائلا: وصاروا أنفسا حيّة. لو أنّه فعلا قال ذلك لفهمنا منه أنّ حياة النّفوس تتمثّل بوجه ما في روح الله الّذي بدونه تُعدّ النّفوس العاقلة ميّتة حتّى إن بدا أنّ الأجساد تحيا بحضورها. لكنّ الأمر لم يجر بهذا النّحو عند خلق الإنسان: بذلك تشهد بما فيه الكفاية أقوال الكتاب المقدّس الّتي أتت بهذه الصّيغة: "وإنّ الرّبّ الإله جبل الإنسان ترابا من الأرض"*، وهو ما أوّله البعض بمزيد من الوضوح فقالوا: صنع الله الإنسان من طين الأرض، لأنّه قيل كذلك: "وكان يصعد من الأرض ( نبع) فيسقي جميع وجهها"*. فمن هنا يبدو أنّ المقصود طين خليط من الماء والتّراب، فإنّنا نقرأ بعد ذلك مباشرة: "وإنّ الرّبّ الإله جبل الإنسان ترابا من الأرض"، كما جاء في النّصّ اليونانيّ الّذي تُرجم انطلاقا منه الكتاب المقدّس. لا يهمّ حقّا أن نترجم ب formare أو fingere اللّفظة اليونانيّة eplasen ( جبل، شكّل)، مع ذلك يلائم  المعنى أكثر؛ لكن بدا لمن فضّلوا الأوّل أنّه أنسب لرفع اللّبس النّاشئ من عادة استخدام الثّاني في اللاّتينيّة للدّلالة على من يختلقون مبتدعات زائفة. يعلّمنا الرّسول إذن أنّ هذا الإنسان المجبول من تراب الأرض أو من طين- فإن هو إلاّ تربة مبلّلة- أو لاستعمال عبارة أوفق وكما جاء في الكتاب المقدّس، تراب الأرض هذا جُعل جسدا حيوانيّا لمّا تلقّى النّفس: "وصار ذلك الإنسان نفسا حيّة"، أي أنّ ذلك التّراب صُوّر ومُنح نفسا حيّة.

   يقولون: كان له بالتّأكيد نفس من قبل وإلاّ لما سُمّي إنسانا، لأنّ الإنسان ليس الجسد وحده ولا النّفس وحدها، بل هو مؤلّف من الجسد والنّفس. لا مرية أنّ النّفس ليست الإنسان بكامله، بل هي جزؤه الأكرم، وأنّ الجسد ليس الإنسان بكامله بل هو جزؤه الأخسّ، فإنّما يُطلق اسم "الإنسان" على مجمّعهما، ومع ذلك يحتفظ به كلاهما لمّا نذكره بمفرده. من فعلا يمنعنا من القول في كلامنا العاديّ: "مات فلان وهو الآن في الرّاحة أو في العذاب"، والحال أنّ ذلك يصحّ على نفسه فقط، أو: "دُفن فلان في هذا المكان أو ذاك"، والححال أنّ الجسده وحده هو المقصود بتلك العبارة؟ لعلّهم سيقولون إنّ كتاب الله لا يستخدم هذا الأسلوب في خطابه؟ كلاّ بل فيه شهادة على ما نقول. فحتّى لمّا يكون الجزءان متّحدين والإنسان على قيد الحياة، يدعو أيّا منهما بمفرده إنسانا، فهو يدعو النّفس الإنسان الباطن والجسد الإنسان الظّاهر كما لو كانا إنسانين، والحال أنّهما يؤلّفان مجتمعين إنسانا واحدا*. لكن ينبغي أن نفهم بأيّ منظور يقال إنّ الإنسان "على صورة الله" ووإنّه "تراب إلى التّراب يعود." فالقول الأوّل ينظر إليه حسب النّفس النّاطقة الّتي جعلها الله في الإنسان نفخا أو بعبارة أنسب بثّا؛ أمّا الثّاني فينظر إليه حسب الجسد، أي كما جبله الله من تراب ليصيرا جسدا حيوانيّا أي إنسانا ذا نفس حيّة*.

   لذلك ففي عمل الرّبّ لمّا نفخ وقال: "خذوا الرّوح القدس"، قصد بالتّحقيق إفهامهم أنّ الرّوح القدس ليس للآب فقط بل هو كذلك روح ابنه وحيده، فهو روح الآب والابن معا ومعه يؤلّفان الثّالوث الأقدس، الآب والابن والرّوح القدس الخالق لا المخلوق.* فما كانت تلك النّسمة الجسمانيّة الخارجة من فم جسديّ* جوهر وطبيعة الرّوح القدس، بل تلك بالأحرى إشارة لإفهامنا، كما ذكرت، أنّ الرّوح القدس مشترك بين الآب والابن: إذ ليس لكليهما روح مستقلّ وإنّما هو واحد فيهما الاثنين. وهذا الرّوح يسمّى في النّصّ اليونانيّ للكتاب المقدّس  كما سمّاه يسوع في الفقرة المذكورة لمّا منحه لتلاميذه مشيرا إلى نسمة فمه الجسديّ*؛ ولا يحضرني أيّ موضع في الكتاب المقدّس سُمّي فيه بغير تلك التّسمية.* أمّا في الفقرة حيث نقرأ: "وإنّ الرّبّ الإله جبل الإنسان ترابا من الأرض ونفخ insufflauit أو بثّ inspirauit في ( وجهه) نسمة حياة ، فلا يقول النّصّ اليونانيّ pneuma كما يدعو الرّوح القدس عادة، بل pnoia، وهو لفظ يرد عن الخليقة أكثر ممّا يرد عن الخالق. لذلك آثر بعض اللاّتين اعتبارا للفرق بينهما flatus على spiritus لترجمة هذه اللّفظة. وهذه اللّفظة هي الّتي نجدها في النّصّ اليونانيّ لسفر أشعيا حيث يقول: "و( كلّ) نسمة صنعتها"* وهو بلا شكّ يقصد كلّ نفس. وهكذا فإنّ ما يعبَّر عنه باليونانيّة ب pnoia تُرجم إلى لغتنا أحيانا ب flatus وأحيانا ب spiritus أو inspiratio أوaspiratio  حتّى لمّا يُنسب إلى الله. بينما pneuma لا يُترجم أبدا بغير spiritus سواء نُسب إلى الإنسان- كما في قول الرّسول: "فإنّه من من النّاس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الّذي كان فيه؟"*- أو إلى البهيمة- كما في سفر سليمان حيث كُتب: "من يرى روح بني البشر الّذي يصعد إلى العلاء وروح البهيمة الّذي ينزل إلى أسفل إلى الأرض؟"*- أو إلى هذا الجسم الّذي يدعى ريحا كذلك- فهو المقصود بهذه اللّفظة في المزمور حيث ننشد: "النّار والبرد، والثّلج والضّباب، الرّيح العاصفة*- أو كذلك بتخطّي الخليقة إلى الخالق كما يقول الرّبّ عنه في الإنجيل: "خذوا الرّوح القدس" مشيرا إليه بنسمة فمه الجسديّ، وحيث يقول: "اذهبوا و( عمّدوا كلّ) الأمم باسم الآب والابن والرّوح القدس"* مشيرا بأروع وأسطع تعبير إلى الثّالوث، وكذلك حيث نقرأ: "الله روح"* وفي عدّة مواضع أخرى من الكتاب المقدّس. في كلّ هذه الأمثلة من الكتاب المقدّس، لا نرى في النّصّ اليونانيّ pnoia بل pneuma، وفي النّصّ اللاّتينيّ في المواضع المطابقة لا spiritus بل flatus. لذلك ففي نفس الموضع حيث كُتب "بثّ inspirauit أو بعبارة أوفق نفخ insufflauit في أنفه نسمة حياة"، حتّى لو استخدم النّصّ اليونانيّ pneuma عوض كما ورد فيه لما كنّا مجبرين تبعا لذلك على فهم أنّه الرّوح الخالق أي ما يدعى في الثّالوث بالرّوح القدس تخصيصا، فمن البيّن أنّ pneuma كما ذكرنا لا يُستخدم فقط للخالق بل كذلك للخليقة.

   يقولون: لكن لمّا ذكر الكتاب spiritus ما كان ليضيف "حياة" لو لم يكن المقصود الرّوح القدس، ولمّا قال: "صار الإنسان نفسا حيّة" ما كان ليضيف "حيّة" لو لم يقصد حياة النّفس الّتي تُمنح لها عطاء من روح الله. فما دامت النّفس تحيا بنمط حياتها الخاصّ- كذا يقولون- أيّة حاجة دعت إلى إضافة "حيّة" سوى الإشارة إلى تلك الحياة الّتي يمنحها إيّاها الرّوح القدس؟ هل هذا سوى الدّفاع بإصرار عن الظّنّ البشريّ والنّظر بعجل في الكتاب الإلهيّ؟*# أشقّ عليهم أن ينظروا في فقرة سابقة قريبة من نفس السّفر، دون الذّهاب إلى أبعد، ليقرؤوا قول الله: "لتُخرجِ الأرض ذوات أنفس حيّة"* عند خلق كلّ حيوانات الأرض؟ أم شقّ عليهم أن يلاحظوا ما كُتب بعد بضع فقرات لكن في نفس السّفر: "كلّ من في ( أنفه) نسمة حياة من كلّ من في اليبس ماتوا"* في معرض الحديث عن موت كلّ أحياء الأرض في الطّوفان؟ ما دمنا إذن نجد نفسا حيّة ونسمة حياة في البهائم أيضا، وما دام النّصّ اليونانيّ للفقرة المشار إليها حيث نقرأ: "كلّ من في أنفه نسمة حياة" لم يقل pneuma بل pnoia، لِم لا نقول: ما الحاجة إلى إضافة "حياة" إلى قوله "نسمة"؟  لكنّا نفهم أنّ الكتاب المقدّس قال بأسلوبه المعهود "نفسا حيّة" و"نسمة حياة" قاصدا ذوات الأنفس، أي الأجسام الحيّة الّتي أوتيت من النّفوس الحالّة فيها الحسّ أيضا. لكنّا في تكوين الإنسان ننسى طريقة الكتاب المألوفة في التّعبير، لمّا تحدّث وفق أسلوبه المعتاد بما يوحي بأنّ الإنسان تلقّى أيضا نفسا عاقلة، لكنّه قصد إفهامنا أنّها من غير طبيعة الحيوانات الّتي أخرجتها المياه والأرض، بل خُلقت بنفحة إلهيّة، وهو مع ذلك قد جُبل ليحيا بجسد حيوانيّ يتلقّى حياته من النّفس الّتي تحيا فيه، شأن تلك الحيوانات الّتي قال عنها: "لتُخرج الأرض ذوات أنفس حيّة"، والّتي قال كذلك إنّها تملك نسمة حياة مبثوثة فيها. هنا أيضا لم يقل النّصّ اليونانيّ pneuma بل pnoia، مشيرا بهذه التّسمية إلى أنفسها بدون شكّ لا إلى الرّوح القدس.

   يقولون: لكن يُفهم أنّ نفخ الله خرج من فم الله، وإن تصوّرنا أنّه النّفس ترتّب على ذلك أنّا نقرّ بأنّها مماثلة في الجوهر وصنوٌ للحكمة الّتي تقول: "إنّي خرجت من فم العليّ"*. في الحقيقة لا تقول الحكمة إنّها أُحدثت بنفخ من فم الله، بل إنّها خرجت من فمه. والحال أنّه مثلما نستطيع إحداث نسمة عند التّنفّس لا نقتبصها من جوهرنا الّذي نحن به بشر، بل نسحبها من الهواء المحيط ونلفظها بالشّهيق والزّفير، كذلك أمكن أن يُحدث الله القدير، لا اقتباصا من جوهره ولا استخراجا من خليقة من مُلكه بل من العدم المطلق، نسمة أفشاها في جسد الإنسان نفخا أو بثّا، كما وصف الكتاب المقدّس بأوفق تعبير، إحداثَ لاجسميّ للاجسميّ لكن لامتغيّر لمتغيّر لأنّه ليس إحداث مخلوق لمخلوق. لكن ليعلمَ من يريدون الخوض في معاني الكتاب دون تدبّر تراكيبه اللّغويّة أنّه لا يعبّر بالخروج من فم الله عمّا هو مساو ومماثل في الطّبيعة له فقط، ليسمعوا وليقرؤوا قول الله الّذي جاء فيه: "بما أنّك فاتر لا حارّ ولا بارد فقد أوشكتُ أن أتقيّأك من فمي."*

   لذلك لا يوجد أيّ مبرّر لرفض قول الرّسول الصّريح لمّا يقول مميّزا الجسد الحيوانيّ عن الجسد الرّوحانيّ، أي الّذي نحن الآن فيه عن الّذي سنكون فيه بعد القيامة: "يُزرع جسد حيوانيّ ويقوم جسد روحانيّ. بما أنّه يوجد جسد حيوانيّ فإنّه يوجد جسد روحانيّ أيضا. كما كُتب جُعل الإنسان الأوّل آدمُ نفسا حيّة وآدم الآخِر روحا محييا. ولكن لم يكن الرّووحانيّ أووّلا بل الحيوانيّ وبعد ذلك الرّوحانيّ. الإنسان الأووّل من الأرض أرضيّ والإنسان الثّاني من السّماء سماويّ. على مثال الأرضيّ يكوون الأرضيّون وعلى مثال السّماويّ يكون السّماويّون. وكما لبسنا صورة الأرضيّ كذلك سنلبس صورة السّماويّ."* وقد ذكرنا هذه الأقوال الرّسوليّة في ما تقدّم.

   إذن فالجسد الحيوانيّ الّذي جُعل فيه آدم الإنسان الأوّل على حدّ قول الرّسول كان قد جُعل لا ليكون خالدا بصفة مطلقة، بل لئلاّ يأتيه الموت إلاّ إن خطئ الإنسان. أمّا ذاك الّذي سيكون بالرّوح المحيي روحانيّا وخالدا، فلن يكون للموت عليه من سبيل، مثلما خُلقت النّفس خالدة، ومع أنّها بالخطيئة تُعَدّ ميّتة لفقدانها جانبا من حياتها هو روح الله الّذي كان بوسعها أن تحيا به حياة الحكمة والسّعادة، مع ذلك، لأنّها خُلقت خالدة، لا تفقد جانبا من حياتها هو حياتها الخاصّة بها رغم بؤسها. والشّأن مماثل في الأملاك المنشقّين الّذين رغم موتهم بنحو ما جرّاء خطيئتهم بحكم ابتعادهم عن ينبوع الحياة الّذي هو الله والّذي كان بوسعهم بنهله أن يحيوا حياة الحكمة والسّعادة*، وما أمكن رغم ذلك أن يموتوا بمعنى التّوقّف عن الحياة والإحساس لأنّهم خُلقوا خالدين. هكذا سيُلقى بهم بعد يوم الحساب في الموت الثّاني، فلا تنتفي منهم الحياة هناك، إذ لن يلتغي منهم كذلك الحسّ وهم في غمرات العذاب. أمّا الفائزون بنعمة الله، مواطنو الملائكة البررة المخلّدين في النّعيم، فسيُلبسون أجسادا روحانيّة فلا سبيل بعد إلى الخطيئة والموت. سيُلبسون كالملائكة عدم الموت الّذي لن يُنزع منهم بالخطيئة أبدا. ستظلّ الطّبيعة الجسديّة قائمة لا محالة لكن دون بقاء الثّقل ولا قابليّة الفساد*.

   هنا تأتي مسألة علينا بحثها وحلّها بعون الرّبّ إله الحقّ. إن كانت شهوة الجسد المتمرّد قد وُلدت من خطيئة التّمرّدفي الإنسانين الأوّلين لمّا بارحتهما النّعمة الإلهيّة ففتحا عيونهما على عريهما، أي أمعنا فيه بفضول، ودفعهما احتدام الشّهوة الفاجرة إلى ستر سوأتهما، فكيف كانا سينجبان ذرّيّة لو بقيا كما خُلقا بدون معصية؟ لكن بما أنّه يتعيّن إنهاء هذا الكتاب، ولا يمكن اختزال مسألة بهذه الأهمّيّة في بضع كلمات، نرى من الأنسب إرجاءها إلى الكتاب التّالي.