القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الحوادي عشر- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

11-18 في بهاء الكون الّذي جعله تدبير الله بصراع الأضداد أشرقَ

   ذلك أنّ الله ما كان ليخلق أحدا، لا أقول من الملائكة بل ومن البشر، وهو يعلم أنّه سيكون سيّئا، إلاّ وهو يعلم بالمثل لأيّة وجوه للخير سيستخدمه، وهكذا يزخرف منظومة الأزمان بهؤلاء كما تزخرَف قصيدة جميلة ببديع المقابلات. فما يدعى مقابلات  في محسّنات البيان، ويمكن أن ندعوه باللاّتينيّة مضادّات  أو نقائض ، ورغم أنّ اللّفظ غير شائع عندنا، تستعمله كذلك ضمن محسّنات البيان اللّغة اللاّتينيّة بل لغات كلّ الأمم*. بواسطة هذه التّضادّات يضفي بولس الرّسول على هذه الفقرة من رسالته الثّانية إلى أهل كورنتوس حلاوة وطلاوة: "بأسلحة البرّ عن اليمين وعن اليسار. بالمجد والهوان، بسوء الصّيت وحسنه، كأنّا مضِلّون ونحن صادقون، كأنّا مجهولون ونحن معروفون. كأنّا مائتون وها نحن أحياء، كأنّا مؤدَّبون ولا نُقتل. كأنّا حزان ونحن دوما فرحون، كأنّا فقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنّا لا شيء لك ونحن نملك كلّ شيء."* إذن كما تضفي مقابلة الأضداد على الكلام جمالا، كذلك تلقي بلاغة الأضداد الّتي في الأشياء لا الألفاظ على هذا العالم جمالا. ويطرح هذه الحقيقة سفر الكنسيّ: "بإزاء الشّرّ الخيرُ وبإزاء الموت الحياة كذلك بإزاء التّقيّ الخاطئ."*

 

11-19 كيف يجب في رأينا فهم ما جاء في الكتاب المقدّس: "فصل الله بين النّور والظّلام"

   هكذا مع أنّ غموض كلام الله مفيد كذلك في توليد وإبراز عدّة معان بوضوح، فيفهمه هذا بنحو وذاك بآخر، لكن مع تأييد المعنى المفهوم من مقطع غامض بشهادة وقائع بيّنة أو بمقاطع أخرى لا شكّ في معناها، سواء أن نصل بعد دراسة نصوص عديدة إلى ما قصد الكاتب أو، حتّى إن ظلّ خفيّا، أن نستنبط بمناسبة دراسة تلك النّصوص المستغلقة بعض الحقائق الأخرى*، مع ذلك لا يبدو لي رأيا لا يتماشى مع أعمال الله أن نفهم من خلق النّور البدئيّ خلق الملائكة، والفصل بين الأملاك الأخيار والأشرار في المقطع: "وفصل الله بين النّور والظّلام. وسمّى الله النّور نهارا والظّلام سمّاه ليلا"* فعلا، وحده استطاع أن يفصل بينهما من استطاع أن يعلم بالغيب قبل سقوط الأشرار أنّهم سيسقطون ويبقون بعد فقدان نور الحقّ في ظلمات الكبر. فبين هذا النّهار وهذا اللّيل المعروفين لنا، أي بين هذا النّور وهذا الظّلام، أمر بأن تفصل نيّرات السّماء المعروفة لحواسّنا؛ إذ نقرأ: "وقال الله لتكن نيّرات في جلَد السّماء لتفصل بين النّهار واللّيل وتكون لآيات وأوقات وأيّام وسنين"*. أمّا الفصل بين ذلك النّور المتمثّل في نديّ الملائكة القدسيّ السّاطع بإشراق الحقّ في العالم العقليّ والظّلام المضادّ له المتمثّل في تلك الأرواح الخبيثة الخاصّة بالأملاك الأشرار الصّادّين عن نور الاستقامة، فما أمكن أن يتمّ إلاّ بفعل من لم يمكن أن يخفى عليه ولا أن يكون محلّ شكّ لديه الشّرّ الّذي سينشأ عنها- لا عن طبيعتها بل عن إرادتها.

 

11-20 في المقطع اللاّحق للفصل بين النّور والظّلام: "ورأى الله النور إنّه حسن"

   ولا يجب كذلك إغفال ما يلي قول الله: ليكن نور فكان نور، حيث يضيف فورا: "ورأى الله النّور إنّه حسن"*، لا بعد فصله بين النّور والظّلام وتسميته النّور نهارا والظّلام ليلا، كيلا يبدو كأنّه شهد بارتضائه ذلك الظّلام مع النّور. ففي ما يتعلّق بالظّلام البريء الّذي تفصله عن هذا النّور المرئيّ لأبصارنا نيّرات السّماء، يذكر لا قبل الفصل بل بعده: "ورأى الله ذلك إنّه حسن"، إذ يقول: "وجعلها الله في جلد السّماء لتضيء على الأرض. ولتحكم على النّهار واللّيل وتفصل بين النّور والظّلام؛ ورأى الله ذلك إنّه حسن"* استحسن كليهما لأنّ كليهما بلا خطيئة. لكن حيث يقول الله: "ليكن نور فكان نور ورأى الله إنّ ذلك حسن"، ثمّ يخبرنا: "وفصل الله بين النّور والظّلام، وسمّى النّور نهارا والظّلامَ سمّاه ليلا"، لم يضف في هذا الموضع: "ورأى الله إنّ ذلك حسن"، كيلا يُعَدّ كلاهما حسنا والحال أنّ أحدهما سيّء، لفساد من فعله لا من طبعه. لذا ارتضى الخالق هذا النّور فقط، أمّا الظّلام الملائكيّ، فحتّى إن قصد الله إنشاءه، لم يقصد مباركته.

 

11-21 في علم الله السّرمديّ الثّابت هو هو ومشيئته الّتي ارتضى بها دوما خلق كلّ الخلائق كما خلقها

   بالفعل هل من وجه آخر لفهم ما يقول في كلّ أطوار الخلق: "ورأى الله ذلك إنّه حسن" سوى رضاه عن عمله بحسب صنعة الصّانع الّتي هي حكمة الله؟ إلاّ أنّ الله لم يبق حتّى خلق ما خلق ليعلم إذّاك أنّه حسن، فما كان ليخلق شيئا منه لو لم يكن قد علمه. إذن بما أنّه يرى حسنا ما لم يمكن أن يوجد لو لم يره قبل إيجاده، فليس المقصود علمه بل تعليمنا بأنّ ما خلق حسن. وقد استخدم أفلاطون تعبيرا أجرأ لا شكّ بقوله إنّ الله استطار فرحا لمّا انتهى من إنشاء الكون.* لم يكن قليل الفهم ليتصوّر أنّ الله ازداد سعادة بعمله كشيء جديد عليه، وإنّما أراد أن يبيّن أنّ الصّانع ارتضى ما صنع كما كان ارتضاه في خطّة صنعه، لا لأنّ علم الله يتغيّر بأيّ وجه، فيكون فيه ما سيكون غير ما هو كائن وغير ما كان، وما هو مثلنا يستشرف الآتي ويشاهد الحاضر ويسترجع الماضي، بل له بذلك علم مختلف عن تفكيرنا المعتاد، ناءٍ وعالٍ عنه بما لا يقاس: فهو لا يرى ذلك بتفكير يتغيّر بتغيّر موضوعه، بل بنحو ليس فيه تغيّر على الإطلاق، فكلّ ما يحدث في الزّمان- الآتي الّذي لم يغد بعد والحاضر الّذي غدا والماضي الّذي لم يعد كائنا- مشمول في حضوره السّرمديّ الثّابت هو هو. لا يراها عيانا بنحو وبالفكر بآخر فما هو مركّبا من نفس وجسم مثلنا؛ ولا الآن بنحو وقبل بآخر وبآخر بعد لأنّ له بخلافنا علما للأزمان الثّلاثة، الحاضر والماضي والآتي، لا يتغيّر لتباينها، هو "الّذي ليس عنده تحوّل ولا ظلّ دوران"*، إذ لا ينتقل انتباهه من فكرة إلى فكرة ففي نظرته الشّاملة اللاّجسميّة يتواجد كلّ ما يعلم لأنّه يعلم الأزمان بلا تمثّلات زمانيّة، ويحرّك الزّمانيّات وهو منزّه عن الحركات الزّمانيّة.

   إذن رأى حسنا ما خلق حين رأى حسنا أن يخلقه* وما ضاعفت أو زادت بأيّ وجه رؤيتُه لما خلق علمَه كما لو كان أقلّ علما قبل خلق ما يرى، فما كان سيصنع بذلك الكمال لولا علمه الكامل الّذي لا يضيف إليه شيء من أعماله شيئا. لذلك لو كان الغرض إفهامنا من خلق النّور لكفى قوله: "وقال الله ليكن نور فكان نور"، فنعلم أنّ الله كوّن النّور وكذلك أنّه كوّنه بكلمته. لكن حسن إعلامنا بثلاثة جوانب ممّا نحن بحاجة إلى علمه: من خلق وبم خلق ولم خلق، لذلك يقول: "وقال الله ليكن نور فكان نور ورأى الله النّور إنّه حسن". إن سألنا إذن: من خلق؟ فهو الله، بم خلق؟ قال ليكن فكان؟ لِم؟ لأنّه حسن. لا صانع أحسن من الله ولا صنعة أكثر فعاليّة من كلمة الله ولا علّة أحسن من أن يخلق حسناً إلهٌ حسن. يرى أفلاطون أيضا سببا جيّدا جدّا لإنشاء العالم أن تصدر من إله حسن أعمال حسنة، سواء قرأ ذلك في الكتاب المقدّس أو علمه ربّما ممّن قرؤوه أو رأى بالعقل بفضل فكره الوقّاد غير منظورات الله بمبروءاته أو تعلّم ذلك ممّن رآها بتلك الطّريقة.

 

11-22 في من تسوؤهم بعض المخلوقات في الكون الّذي خُلق في أحسن تقويم ويرون بعضها سيّئة

   لكنّ هذه العلّة، أعني حسن الله علّة لخلق أشياء حسنة، هذه العلّة الحسنى والوفقى والكفيلة، لو تمّ التّمعّن فيها بتبصّر والتّفكّر فيها بتقوى، بإنهاء مهاترات المتجادلين حول أصل العالم، لم يرها بعض أهل البدع، لأنّ ضعف الجسد وقبوله للعطب والموت- الّذي أتاه جزاء وفاقا- يتضرّر بكثير من الأشياء الّتي لا تناسبه من نار وبرد وسباع وما شابه ذلك. ولا يلاحظون كم تتألّق تلك العناصر في محالّها وطبائعها الخاصّة وعلى أيّ نسق بديع سُوّيت فيها، وكم تُسهم بقسطها في بهاء العالم كأهالي مدينة كونيّة، وكم من المزايا تسدي إلينا نحن بالذّات إن استخدمناها بنحو مناسب وبتدبّر.*. فحتّى السّموم الضّارّة لمن يتناولها على غير هدى تتحوّل إن استُخدمت بنحو مناسب إلى أدوية شافية. وإن كانت في المقابل تلك الأشياء الّتي يستعذبون كالطّعام والشّراب وهذا الضّياء، باستعمال مفرط وفي غير محلّه، تعود عليهم وبالا. من هنا تنبّهنا العناية الإلهيّة إلى ألاّ نعذل الأشياء بجهالة، وأن نبحث على نفعها بعناية، وحيث تقصر طاقة فكرنا أو محدوديّته على إدراكه أن نعتقد أنّه خافٍ عنّا كأسرار أخرى تمكّنّا بمشقّة كبرى من اكتشافها. فإنّ خفاء المنفعة ذاته عجم لتواضعنا أو كسر لتشامخنا.* إذ لا يوجد أيّ جوهر هو الشّرّ ولا تعني هذه الكلمة سوى فقدان الخير. لكن من الأيسيّات الأرضيّة حتّى السّماويّة ومن المرئيّة حتّى اللاّمرئيّة، هناك خيرات خير من أخرى، ولا تساويها أساس تأيّسها بأسرها. إلاّ أنّ كون الله صانع العظائم الأعظم لا يمنعه أن يكون كذلك صانع أصغر وأدقّ الأشياء الّتي يجب ألاّ تقاس بحجمها، فهو كأفّن بل بحكمة الله المكنونة فيها.* فمثلا في ما يتعلّق بجمال الإنسان الجسديّ إن حُلق منه حاجب فذلك يزيل لاشيء من جسمه وكثيرا من حسنه الّذي لا يتمثّل في كتلة جسمه بل في اتّساق وتناسق  أعضائه.* حقّا لا يجب العجب كثيرا من رفض القائلين بوجود طبيعة شرّيّة نشأت وانتشرت من مبدإ مضادّ قبول علّة خلق الأشياء تلك- خلق إله حسن لأشياء حسنة- إذ يظنّون بالأحرى أنّ ضرورة قصوى جرّته إلى إعداد عدّة هذا العالم لدفع الشّرّ المتمرّد عليه وأنّه ليتمكّن من دحر الشّرّ والسّيطرة عليه خلط به طبيعته الّتي لا يكاد بجهد جهيد، بعد تدنّسها المُهين وأسرها القاسي واندحارها المنكر، يحرّرها ويطهّرها، لا بكاملها مع ذلك، فما لا يستطيع تطهيره منها من ذلك الدّنس يستحيل غلافا وقيدا لعدوّه الهزيم السّجين.

   الحقّ أنّ المانويّة ما كانوا ليهرفوا بمثل هذا الهراء بل الهذيان لو اعتقدوا أنّ طبيعة الله، كما هي حقّا وصدقا، ممتنعة التّغيير والفساد امتناعا مطلقا ولا يمكن لشيء أن يُلحق بها الأذى، ورأوا وفق التّعاليم المسيحيّة الصّحيحة* أنّ النّفس الّتي يمكن بالعكس أن تتحوّل إلى أسوأ وتفسد جرّاء الخطيئة فتفقد بذلك نور الحقّ الممتنع الفساد ليست جزءا من الله ولا هي من جوهره بل هي من صنعه وهي دون خالقها بما لا يقاس.

 

11-23 في الخطإ الّذي يؤخذ على مذهب أُريجينس

   لكنّ ما يثير العجب أكثر هو أنّ البعض ممّن يؤمنون مثلنا بأنّ لكلّ الأشياء مبدأً واحداً، وأنّ لا جوهر سوى الله يمكن أن يكون إلاّ صدورا عن ذلك الخالق، رفضوا أن يؤمنوا مع ذلك إيمانا حسنا قويما بذلك السّبب الحسن القويم لصنع العالم: أنّ الله الحسن خلق كائنات حسنة، وكلّ ما ليس الله دون الله لكنّه حسن ولم يخلقه إلاّ الله أحسن الخالقين. بالعكس يقولون إنّ النّفوس، وإن لم تكن أجزاء من الله بالتّحقيق بل هي من صنعه، خطئت بالابتعاد عن خالقها واستحقّت النّزول درجات مختلفة باختلاف الخطايا من السّماوات إلى الأرضين للحلول في شتّى الأجسام كقيود وأنّ هذه حقيقة العالم وذاك كان سبب خلقه. في هذا يبدَّع أريجينس عدلا، ففي كتابه الّذي يدعونه peri arcon أي "في المبادئ" يرى ويكتب هذا. وأعجب أكثر ممّا أستطيع وصفه انّ رجلا بمثل علمه وتمرّسه بالأسفار الكنسيّة لم يلاحظ أوّلا أنّ هذا مخالف لقصد الكتاب المقدّس الّذي هو المرجع الأعلى والّذي بإضافته بعد كلّ قسم من أعمال الله: "ورأى الله ذلك إنّه حسن" ويقول بعد الانتهاء منها جميعا: "ورأى الله جميع مات صنعه فإذا هو حسن جدّا"* قصد إفهامنا أنّ لا سبب لخلق العالم سوى صنع الله الحسن لكائنات حسنة. فلو لم يخطَأ أحد لكان هذا العالم مزدانا ومليئا بالكائنات الحسنة؛ ولئن وُجدت خطيئة فما كلّ شيء مليئا بالخطايا؛ والحقّ أنّ الأخيار من بين الأملاك، الّذين هم أكثر عددا وبالكثير*# يحفظون نظام طبيعتهم#. وما لرفضها حفظ نظام طبيعتها تفلت الإرادة السّيّئة من نواميس الله العادل مسوّي الأشياء على أحسن ترتيب. فكالرّسم الّذي وُضع فيه اللّون الأسود في المحلّ المناسب، كذلك الكون، لو أمكن لأحد أن ينظر إليه في كلّيّته، جميل حتّى بالخطأة حتّى إن كانت دمامتهم، إن اعتبرناهم في أنفسهم، منفّرة*. كذلك كان يجب أن يرى أريجينس ومن يذهبون مذهبه أنّه، لو كان صحيحا رأيهم أنّ العالم خُلق لتتلقّى النّفوس أجساما تُحبس فيها كسجون عقابا لها على خطاياها، أعلى وأخفّ على اللّمم وأسفل وأثقل على الكبائر، فقد كانت الشّياطين الّتي لا شيء أسوأ منها أحقّ بالبشر، وفيهم الأخيار، بتلقّي الأجسام الأرضيّة الّتي لا شيء أسفل ولا أثقل منها. لكن لندرك أنّه لا يجب وزن عقوبات النّفوس بنوعيّات الأجسام، نرى أنّ الشّيطان أسوأ مخلوق تلقّى جسما هوائيّا، بينما الإنسان الّذي رغم انطوائه في وضعه الحاضر على شرّ لكن أقلّ وأهون بكثير، بل وحتّى قبل الخطيئة، تلقّى جسدا من طين. لكن هل هناك قول أكثر خطلا من أنّ شمسا واحدة توجد في العالم الّذي هو واحد لا لأنّ الله راعى في ذلك بهاء هذا الوجود أو حفظ الجسميّات، بل بالأحرى لأنّ نفسا واحدة بالصّدفة خطئت بنحو يؤهّلها للحبس في مثل ذلك الجسم؟ ومن ثمّة لو اتّفق أن خطئت لا واحدة بل اثنتان، بل قل عشر أو مائة بنحو متماثل متساو، هل ستكون لهذا العالم مائة من الشّموس؟ لم تحل دون حصول ذلك إذن حكمة الصّانع في عجيب تدبّره وتبصّره حرصا على سلامة وبهاء الجسميّات، بل بالأحرى صدفة زيغ نفس خاطئة واحدة بدرجة استحقّت بها وحدها جسما كذلك. وما زيغ النّفوس الّتي يهرف بما لا يعرف عنها من يذهبون إلى تلك الضّلالات، بل زيغهم بعيدا عن الحقّ، هو الّذي يستحقّ الزّجر والرّدع. إذن إزاء تلك الجوانب الثّلاثة الّتي طرحتها آنفا لمّا يُسأل في كلّ خليقة عمّن خلقها وبم خلقها ولِم خلقها فيجاب: الله، بكلمته، لأنّها حسنة، قد نتساءل إن لم تكن توحي إلينا في عمقها الخفيّ بالثّالوث المقدّس، الآب والابن والرّوح القدس*، أم هل يوجد في هذا الموضع من الكتاب المقدّس ما يمنع من فهم هذا المعنى؟ تلك مسألة تتطلّب بحثا طويلا ولا توجد ضرورة تدعونا إلى شرح كلّ شيء في كتاب واحد.

 

11-24 في الثّالوث الإلهيّ الّذي بثّ في كلّ أعماله علامات تدلّ عليه

   نعتقد ونقول وننادي بإيمان بأنّ الآب ولد الكلمة أي الحكمة الّتي بها كُوّن كلّ شيء، ابنه وحيده، ولادة واحد لواحد وقديم لمساو في القدم وخير أسمى لمساو في الخيريّة، وأنّ الرّوح القدس روح الآب والابن معا ومماثل في الجوهر مساو في القدم لكليهما، وأنّ هذا في كلّيّته ثالوث بسبب خصوصيّة الشّخوص وإله واحد بسبب بساطة الألوهة الّتي لا تقبل الانفصال، كما القدير واحد بسبب وحدة القدرة الكلّيّانيّة الّتي لا تقبل الانفصال: فبين الثّلاثة وحدة صمّاء أرادت بذلك النّحو التّعبير عن ذاتها. أمّا هل يمكن أن ندعو بصواب روح الآب الحسن والابن الحسن، لكونه مشتركا بينهما، حسنهما bonitas، فلا أجرؤ على طرح هذه المقولة الجسورة.* مع ذلك أجد الجرأة بيسر على القول بأنّه قدس كليهما، لا كصفة لهما بل كجوهر وشخص ثالث ثلاثة. يقودني إلى هذا القول الأرجح أنّ الآب روح والابن روح والآب قدّوس والابن قدّوس، ومع ذلك اختصّ باسم القدس الرّوح القدس كقداسة جوهريّة لكليهما مشاركة في جوهرهما، لكن إن لم يكن الحسن الإلهيّ سوى القداسة، فمن نباهة العقل يقينا لا جسارة المصادرة إدراك أنّا في كلّ مبروءات الله نتبيّن، ككلام خفيّ يدعو عقولنا إلى الانتباه إليه، الثّالوث الّذي يوحي به إلينا في كلّ كائن سؤالنا عمّن خلق وبم خلق ولم خلق.* إذ ندرك لا شكّ أنّ ىب الكلمة هو الّذي قال: ليكن، أمّا ما كان إذ قال: كن، فبالكلمة كُوّن لا ريب. وما قيل "أن رأى الله ذلك إنّه حسن"، فهو يدلّ على أنّ الله بدون أيّة ضرورة ولا أيّة حاجة ومصلحة خاصّة، بل بفيض إحسانه فقط، خلق ما خلق، أي لأنّ ذلك حسن، وأنّ إقرار حسنه بعد خلقه يدلّ على موافقة الخليقة لإحسان الله الّذي بسببه خُلق. إن أُوّل ذلك الحسن بصواب بأنّه الرّوح القدس، فإنّ كامل الثّالوث مبثوث لنتدبّره في كلّ أعماله، وفيه أصل وإنشاء وسعادة المدينة المقدّسة العليا المتمثّلة في الملائكة الأبرار. فإن سُئل من أين أتت، أجيبَ: الله أسّسها، من أين أتاها العلم؟ الله ينيرها. من أين السّعادة؟ تنعم بالله. من ثباتها فيه تستمدّ نمطها ومن مشاهدته نورها ومن قربه بهجتها. تكون، ترى، تحبّ: في أبديّة الله تزدهي، في حقيقة الله تضيء، في حسن الله تبتهج.

 

11-25 في التّقسيم الثّلاثيّ لكلّ تعليم فلسفيّ

   من هنا وقدر ما يتيسّر لنا فهمه من أقوال الفلاسفة الطّابع الثّلاثيّ لتعلّم الحكمة، حسب ما ارتأوا، بل حسب ما أتيح لهم تبيّنه، إذ لم يتدبّروا بل اكتشفوا بالأحرى أنّ الأمر على ذلك النّسق*؛ فدعوا قسما منها فيزيقا physica وآخر لوغيقا logica وآخر أثيقا ethica، وتدعى بأسماء لاتينيّة صارت شائعة في كتب عديد من الكتّاب: الطّبيعة naturalis والمنطق rationalis والأخلاق moralis، وقد ألمعنا إلى ذلك أيضا في الكتاب الثّامن*. لا ينجرّ عن ذلك أنّهم في هذه الفروع الثّلاثة استوحوا شيئا من الثّالوث الإلهيّ؛ وإن كان أفلاطون الّذي يقال إنّه أوّل من اكتشف وروّج هذا التّقسيم، رأى في الله وحده فاطر كلّ الطّبائع ومانح الفطنة وملهم الحبّ الّذي به يعيش الإنسان بصلاح وسعادة. حول طبيعة الأشياء ومعيار الحقيقة والخير الأعظم الّذي يجب أن نوجّه نحوه كلّ أعمالنا، رأى مختلف الفلاسفة مختلف الآراء لا محالة، لكن على هذه القضايا الثّلاث الكبرى والعامّة تنصبّ بحوث كلّ الفلاسفة. فلئن بدا في كلّ منها في آراء كلّ منهم اختلاف متعدّد الوجوه، لا أحد منهم يتردّد في تأكيد أنّ للطّبيعة علّة وللعلم صيغة وللحياة غاية. وفي كلّ صانع كذلك نشاهد ثلاثة عناصر بتظافرها يصنع شيئا: طبيعة ومنفعة واستعمالا. لا أجهل أنّ المنفعة fructus بالمعنى الأصليّ تخصّ المنتفع، والاستعمال usus المستعمل، وأنّ الفرق حسب الظّاهر هو أنّا نقول "انتفع" في الشّيء الّذي لا يبتغى لشيء آخر بل يُمتع بذاته، أمّا "استعمل" ففي ما نبتغيه لشيء سواه؛ لذلك يجب أن نستعمل الخيرات الزّمانيّة تسوّغا أكثر ممّا ننتفع بها تمتّعا لنستحقّ التّمتّع بالنّعم الأبديّة، لا كالسّقيمين غير المستقيمين الّذين يريدون الاستمتاع بالمال واستعمال الله، فهم لا ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله بل يعظّمون شعائر الله لأجل المال. لكن بحسب طريقة الكلام الّتي رسّخها التّداول، نستعمل المنفعة وننتفع بالاستعمال، فإنّا نتحدّث بالمعنى الحقيقيّ عن ثمار fructus الأرض الّتي نستعملها جميعا استعمالا زمانيّا؛ وفق هذا الاصطلاح إذن تحدّثت عن الاستعمال في هذه الأشياء الثّلاثة الّتي دعوت إلى تأمّلها في الإنسان: الطّبيعة والصّنعة والاستعمال. لنيل الحياة السّعيدة اكتشف الفلاسفة، كما ذكرتُ، علما ذا فروع ثلاثة: طبيعيّ يُعنى بالجانب الطّبيعيّ، وعقليّ بالنّظريّ وأخلاقيّ بالعمليّ.

   إذن لو كانت طبيعتنا تعزى إلينا، لا شكّ أنّ الحكمة ستنبع هي أيضا منّا بدون نظر، أي دون أن نجشّم أنفسنا عناء تبيّنها بتعلّمها من مصدر آخر، وأنّ حبّنا النّابع منّا والمتّجه إلينا سيكفي لنعيش سعداء، ولما احتجنا إلى أيّ خير آخر نلتذّ به. لكن لأنّ طبيعتنا استمدّت وجودها من الله فاطرها، لا شكّ أنّا لتعلّم ما هو حقّ نحتاج إليه معلّما، ولنكون سعداء إليه منعما وينبوعا للذّتنا الباطنة.

 

11-26 في صورة الثّالوث الأعظم الّتي نجدها كذلك في طبيعة الإنسان الّذي لم ينعم بعد بغبطة المبرورين

   ونحن أيضا نتعرّف في أنفسنا بالتّحقيق صورة من الله، أي من الثّالوث الأعظم، لا تساويه بالتّحقيق بل هي بعيدة عنه بما لا يقاس وغير قديمة مثله، أي هي باختصار من غير جوهر الله، ومع ذلك أقرب إلى الله من كلّ مخلوقاته وقابلة بالإصلاح لتكتمل فتصير أقرب بالتّشبّه به. فنحن نكون، ونعلم أنّا نكون، ونحبّ ما نكون ونعلم. ولا زيف بالتّحقيق في هذه الواقعات الثّلاث يرنّق رؤيتنا بشبهه بالحقيقة، فنحن لا ندركها بأيّة حاسّة جسديّة شأن الأشياء الخارجيّة، كما نحسّ الألوان بالبصر والأصوات بالسّمع والرّوائح بالشّمّ والطّعوم بالذّوق والصّلابة والنّعومة باللّمس، ونحيلها بالتّفكير إلى صور شبيهة بها وإن لم تكن مادّيّة، ونحفظها في الذّاكرة وتستثير فينا شهوات تلك الأشياء. لكنّ كوني أكون وأعلم وأحبّ ما أكون واقع يقينيّ لديّ ليس فيه ظلّ ممّا تصوّر المخيّلة من الأوهام والتّهيّؤات.

   لا أخشى إذ أؤكّد هذه الحقائق اعتراضات الأكاديميّين: ماذا لو أخطأت؟ حتّى لو أخطأت أنا موجود، فمن لا يوجد لا يمكن قطعا أن يخطئ، وأنا بالتّالي موجود إن أخطئ. وبما أنّي موجود إن أخطئ، كيف أخطئ في أنّي موجود، بينما أوجد يقينا إن أخطئ؟ إذن بما أنّي إن أخطأت كنت موجودا، فحتّى لو أخطأت لا أخطئ قطعا في علمي بأنّي موجود.* وبالتّالي سوف لا أخطئ كذلك في علمي أنّي أعلم، فمثلما أعلم أنّي موجود، كذلك أعلم علمي بوجودي.* ولمّا أحبّ هذين الواقعين المعلومين عندي أضيف الحبّ إليهما كثالث لا يقلّ عنهما شأنا، إذ لا أخطئ في حبّي ذاتي ما دمت لا أخطئ في الواقعين اللّذين أحبّ، بل حتّى لو كانا خاطئين لكان حقيقة أنّي أحبّ واقعين خاطئين، إذ بأيّ وجه حقّ أؤاخَذ وأُمنَع من حبّ أخطاء إن كان خطأً أنّي أحبّها؟ لكن إن كانا حقيقيّين ويقينيّين، من يشكّ في أنّ حبّهما، بما أنّي أحبّهما، هو أيضا حقيقيّ ويقينيّ؟ بل أزيد أنّ لا أحد لا يحبّ أن يكون، كما لا أحد لا يحبّ أن يكون سعيدا، إذ كيف يمكن أن سعيدا إن لم يكن أصلا؟

 

11-27 في الماهية والعلم وحبّهما

   هكذا بقوّة طبيعيّة يجد الكائن للوجود رونقا يجعل حتّى البائسين يكرهون الموت، ولمّا يحسّون بمدى بؤسهم لا يريدون إزالة أنفسهم بل بالأحرى بؤسهم من الوجود. بل حتّى من يحسبون أنفسهم أتعس النّاس وهم كذلك فعلا ويعتبرهم تعساء لا الحكماء فقط، لأنّهم يعدّونهم أغبياء، بل كذلك من يعدّون أنفسهم سعداء باعتبارهم متسوّلين وفقراء، لو أعطاهم الخلودَ أحد مع بقاء بؤسهم وفي المقابل إن كانوا لا يحبّون الاستمرار في الشّقاء عُرض عليهم أن يوضع حدّ لوجودهم ويصيروا عدما، لا شكّ أنّهم سيستطيرون فرحا وسيختارون الاستمرار في وجودهم كما هو على الفناء المطلق*. شعورهم البيّن على ما نقول شهيد، إذ هل من سبب لخوفهم من الموت وتفضيلهم الحياة في ذلك البؤس على إنهائه بالموت سوى نفور الطّبيعة الواضح من العدم*؟ لذلك لمّا يعلمون أنّ ساعة الموت أزفت، يحبّون كنعمة كبرى الرّحمة الّتي تطيل حياتهم في بؤسهم وتؤخّر مماتهم. هم بذلك يُظهرون بلا شكّ رضاهم بالخلود حتّى دون إنهاء بؤسهم مع الشّكر الجزيل.

   وكيف لا؟ أوَلا تبيّن كلّ الحيوانات، حتّى غير العاقلة الّتي لم تؤتَ القدرة على التّفكير في هذه الأمور، من التّنانين الضّخمة حتّى الدّيدان الدّقيقة، إرادة البقاء والفرار من الموت بكلّ الحركات المتاحة لها؟ كيف لا؟ أوَلا نرى الأشجار وكلّ النّباتات الّتي لا حسّ لها يدفعها إلى تجنّب الموت بحركة ظاهرة، تمدّ في الهواء براعم سوقها وتضرب في الأرض جذورها لتستمدّ منها الغذاء وبهذا النّحو تحافظ بنحو ما على بقائها؟* بل حتّى الأجسام الّتي لا تخلو من الحسّ فقط بل ومن أيّة حياة نباتيّة كذلك، تصعد إلى أعلى أو تهوي إلى أسفل، أو تتعلّق بين بين لتحفظ ذاتها حيث يمكنها البقاء حسب طبيعتها*؟ أمّا مدى حبّ المعرفة والنّفور من الخطإ المتأصّل في طبيعة الإنسان، فيمكن إدراكه من كون أيّ إنسان يفضّل الشّقاء وهو سليم العقل على الفرح وهو فاقده. هذه القوّة العظيمة العجيبة لا توجد، خارج الإنسان، في أيّ من الأحياء الفانية، وإن أوتي بعضها نظرا أحدّ من أعيننا في إبصار هذا النّور، لكن بدون قدرة على إدراك ذلك النّور اللاّحسّيّ الّذي يسطع بنحو ما على عقولنا فنستطيع الحكم بسداد على كلّ الأشياء، فبقدر ما نأخذ منه نستطيع ذلك. لكن يوجد في غرائز الحيوانات العجماء، وإن خلت تماما من المعرفة، ما يشبهها*. أمّا الأجسام الأخرى فتدعى حسّيّات لا لأنّها تحِسّ بل لأنّها تحَسّ. والنّباتات من بلينها تملك ما يشبه الحسّ به تتغذّى وتتكاثر؛ لكنّ لها ولكلّ الجسميّات عللها في الطّبيعة؛ أمّا صورها الّتي يستمدّ منها نسق العالم رونقه، فإنّها تقدّمها لحواسّنا لتلتقطها، بحيث تبدو كأنّها تعوّض عن عجزها عن المعرفة برغبتها في أن تُعرف. لكنّا نلتقطها بحسّ الجسد لنحكم عليها بغير حسّ الجسد؛ إذ لدينا حسّ آخر خاصّ بالإنسان الباطن فينا أرقى من ذاك بكثير، ندرك به الخير والشّرّ، الخير بالحسن العقليّ والشّرّ بانعدامه. لا يرقى إلى وظيفة ذلك الحسّ الباطن بصر الحدقة ولا سمع الأذن ولا شمّ الخيشوم ولا تذوّق الحنك ولا اللّمس الموزّع على الجلد. وأنا فيه أوقن بوجودي ومعرفتي به وأحبّ كلا الواقعين وأنا متأكّد كذلك من حبّهما.

 

11-28 أينبغي حبّ الحبّ الّذي به نحبّ وجودنا وعلمنا لنقترب أكثر من الثّالوث الإلهيّ

   لكنّا قلنا ما فيه الكفاية قدر ما بدا مخطّط هذا الكتاب يقتضيه عن هذين الواقعين، أعني الماهية والعلم: كم نحبّهما فينا وكيف نجد حتّى في الأشياء الأخرى الّتي هي دوننا في سلّم الوجود شبها منهما رغم الفرق. أمّا الحبّ الّذي نحبّهما به فلم نقل هل نحبّه هو بالذّات. الحقّ أنّا نحبّه، والدّليل على ذلك أنّ في الأشخاص الّذين نحبّ نحبّ حبّنا أكثر بقدر ما يكون أصحّ. إذ حقيق بأن يدعى خيّرا لا من يعرف الخير بل من يحبّه*. لماذا إذن لا نشعر بحبّنا في أنفسنا الحبّ الّذي به نحبّ من خير؟ فهناك أيضا حبّ نحبّ به ما لا يجب أن نحبّ، وهو حبّ يكرهه في نفسه من يحبّ الّذي به نحبّ ما يجب أن نحبّ. يمكن أن يكون الاثنان في إنسان واحد، وحسنٌ للإنسان أن يتزايد فيه ذاك الّذي يجعله يعيش حياة صالحة ويتناقص ذاك الّذي يجعله يعيش حياة سيّئة حتّى الشّفاء الكامل، فتتحوّل إلى البرّ كلّ جوانب حياته. لو كنّا بهائم لأحببنا حياة الجسد وما يناسب الحواسّ ولكان ذلك كافيا لنعيش حياة جيّدة، فلم نبحث عن سواه. كذلك لو كنّا أشجارا لما أمكننا أن نحبّ بحركة شهوانيّة لا محالة، لكن لبدا كما لو أنّا نشتهي ما يجعلنا أكثر وأوفر ثمرا. ولو كنّا حجارة أو سيولا أو رياحا أو نيرانا أو شيئا من ذلك القبيل بلا حسّ بل بلا حياة، لما خلونا مع ذلك من نزوع نحو محالّنا وموقعنا في نظام الطّبيعة. فكحوافز من الحبّ في تلك الأجسام هي أوزانها الّتي تسّاقط بها لثخانتها أو تصّاعد بها للطافتها. كالنّفس بالحبّ فعلا ينزع الجسم بالوزن إلى حيث يحدو به*. إذن بما أنّا بشر مخلوقون على صورة خالقنا الّذي له الأبديّة الحقيقيّة، والحقيقة الأبديّة والمحبّة الأبديّة والحقيقيّة، وهو ذات الثّالوث الأبديّ والحقيقيّ والحبّيّ، لا المدموق ولا المفروق، لنتصفّحْ في هذه الأيسيّات الّتي هي دوننا والّتي ما كانت لتوجد بنمط أو تُحتوى في صورة أو ترغب أو تبقى في نسق لو لم يخلقها من له الوجود الأسمى والعلم الأسمى والحسن الأسمى، كلّ ما خلق من أشياء حسب نظام ثابت عجيب، فنلتقط آثاره منطبعة فيها بأكثر أو أقلّ بروزا. ثمّ لننظر إلى صورته فينا نحن ونقمْ ونرجع إلى أنفسنا، كالابن الأصغر المذكور في الإنجيل* ونعد إلى الّذي ابتعدنا عنه بالخطيئة. هناك لن يتعرّض للموت كياننا، هناك لن يتعرّض للخطإ علمنا، هناك لن يتعرّض للصّدّ حبّنا. لكنّا وإن نكن الآن نملك هذه الوقائع الثّلاثة بيقين، لا بتصديق شهادة غيرنا، بل نحسّ بها بفضل حضورها ونتبيّنها بارتسامها الصّادق في باطننا، لا نستطيع مع ذلك معرفة كم ستدوم أو هل لن تزول أبدا وما مآلها إن أحسنّا أو أسأنا استخدامها. لذلك نلتمس أو نمتلك بهذا الصّدد شهودا يجب ألاّ نشكّ* في مصداقيّتهم، ننوي الحديث عنهم بمزيد من التّوسّع، لا هنا، بل في موضع لاحق. أمّا في هذا الكتاب عن مدينة الله غير المرتحلة في هذه الحياة المائتة بل الخالدة في السّماوات، أي عن الملائكة الأبرار المتعلّقين بالله الّذين لم يبتعدوا ولن يبتعدوا عنه أبدا، والّذين ذكرنا أنّ الله في البدء فصل بينهم وبين من ابتعدوا عن النّور الأبديّ فاستحالوا ظلاما، فسنعرض بعونه بقيّة ما بدأنا قدر مستطاعنا.

 

11-29 في علم الملائكة الأبرار الّذي به يعلمون الثّالوث في ذاته ويتأمّلون علل أعماله في تخطيط المصمّم قبل تنفيذ الصّانع

   أولئك الملائكة الأبرار يعلمون لا من كلام الله المصوّت بل بحضور الحقّ الثّابت هو هو، أي بالكلمة ابنه وحيده، الكلمةَ والآبّ وروحهما القدس، وأنّ ذاك هو الثّالوث الّذي لا ينفصل وأنّ أقانيمه أشخاص متميّزون جوهريّون ومع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة بل هم إله واحد، وعلمهم بذلك أثبت من علمنا بأنفسنا. كذلك يعلمون الخليقة بنحو أفضل هناك، أي في حكمة الله بصفتها الصّنعة الّتي كوّنت بها، ممّا في ذواتهم. فهم مخلوقون وليسوا من خلقهم، وعلمهم فيها بمثابة علم نهاريّ بينما علمهم في ذواتهم بمثابة علم مسائيّ كما ذكرنا سابقا.* يوجد فعلا فرق كبير بين معرفة شيء في الفكرة الّتي أُنشئ طبقا لها وفي ذاته، كما يوجد فرق بين معرفة استقامة خطّ أو حقيقة تخصّ شكلا هندسيّا بالنّظر العقليّ وبرسمها في التّراب، أو بين البرّ في الحقّ الثّابت بلا تغيير وفي نفس الإنسان البارّ، والشّأن مماثل في أشياء أخرى كالجَلد الّذي بين المياه العليا والسّفلى المسمّى سماء، وكاجتماع المياه الّتي تحت السّماء وظهور اليبس على الأرض وإخراج النّبات والشّجر، وصنع الشّمس والقمر والكواكب، أو إفاضة المياه ذوات أنفس حيّة طيورا وزحّافات وحيتانا، وإخراج الأرض بهائم ودبّابات والإنسان ذاته المتفوّق على كلّ الكائنات على الأرض. كلّ هذه الأشياء يعرفها الملائكة في كلمة الله حيث توجد عللها ومُثُلها الّتي كُوّنت طبقا لها ثابتةً بلا تغيير بنحو غير الّذي يدركونها به في ذواتهم. ذاك أشرق وهذا أعتم، كمعرفة الصّنعة ومعرفة المصنوعات. مع ذلك لمّا تُردّ تلك الأعمال إلى حمد وتعظيم الخالق ينبلج في عقول متأمّليها نور كفلق الصّباح.

 

11-30 في كمال العدد ستّة، أوّل عدد يساوي جملة أجزائه

   يروي لنا الكتاب المقدّس أنّ هذه الأعمال أُكملت في ستّة أيّام بتكرار نفس اليوم ستّاً بسبب كمال هذا العدد، لا لأنّ الله كان بحاجة إلى مدّة من الزّمان كما لو لم يكن بوسعه أن يخلق دفعة واحدة كلّ الأشياء الّتي بحركاتها المناسبة تدفع الزّمان، فإنّما المقصود من السّتّة كمال الأعمال. فالسّتّة أوّل عدد يساوي جملة أقسامه، أي سدسه وثلثه ونصفه، وهي واحد واثنان وثلاثة الّتي تساوي في مجموعها ستّة. لكن يجب أن نعتبر أقساما في هذا الحساب تلك الّتي نستطيع القول بأنّ كذا منها يوجد في هذا العدد، كالنّصف والثّلث والرّبع وهلمّ جرّا. على سبيل المثال أربعة قسم من تسعة لكنّها ليست قاسما تامّا، بينما الواحد من قواسمها لأنّه تسعها وكذلك الثّلاثة لأنّها ثلثها. وجملة قاسمي تسعة، أي تسعها وثلثها، مختلفة عن هذا العدد بمجموعه، أي تسعة. كذلك الأربعة قسم من العشرة لكنّها ليست قاسما تامّا لها، بينما الواحد قاسم تامّ فهو عُشرها، وكذلك هو الشّأن في خمسها الّذي هو اثنان ونصفها الّذي هو خمسة، لكنّ هذه الكسور الثّلاثة، التّسع والخمس والنّصف، أي واحدا واثنين وخمسة، لا تؤلّف في مجموعها تمام العشرة، فجملتها ثمانية. بينما تربو على اثني عشر جملة قواسمها، وهي: جزؤها الاثنا عشريّ أي واحد، وسدسها أي اثنان، وربعها أي ثلاثة، وثلثها أي أربعة، ونصفها أي ستّة: فإنّ جملة واحد واثنين وثلاثة وأربعة وستّة لا تساوي بل تفوق اثني عشر، إذ جملتها ستّة عشر. رأيت أن أذكر بعجالة كمال العدد ستّة الّذي هو كما قلتُ أوّل عدد تساويه بالتّمام جملة قواسمه، وفيه أتمّ الله أعماله*. لذا لا يجب ازدراء علم العدد الّذي يتّضح للنّاظرين المتدبّرين في عدّة مواضع من الكتاب المقدّس كم هو حريّ بالاحترام، فما عبثا قيل في تسبيح الله: "لكنّك رتّبتَ كلّ شيء بمقدار وعدد ووزن".*

 

11-31 في اليوم السّابع الّذي يخبرنا الكتاب أنّه يوم الإتمام والرّاحة 

   ويخبرنا الكتاب عن استراحة الله في اليوم السّابع أي نفس اليوم مكرّرا سبعا، وهو عدد كامل لاعتبار آخر، وعن مباركة عمله لأوّل مرّة. هكذا لم يشأ الله مباركة هذا اليوم بأيّ من أعماله بل براحته الّتي ليس لها مساء. فما هي بخليقة لينشأ مرّة أخرى، بمعرفتها في كلمة الله بنحو وفي ذاتها بآخر، علم نهاريّ وآخر مسائيّ على التّوالي. يمكن بلا شكّ قول الكثير عن كمال العدد سبعة، لكنّ هذا الكتاب طويل أصلا، وأخشى أن نبدو في المناسبة كأنّا نبغي بغرور لا بغاية المنفعة عرض علمنا القليل. لذا يجب أن ألزم القدر والاتّزان وإلاّ فقد يُرى أنّا بإسهابنا في العدد أغفلنا جانب الوزن والمقدار. يكفي إذن أن نشير إلى أنّ الثّلاثة هي أوّل عدد وتريّ والأربعة شفع ومنهما تتألّف السّبعة. لذا كثيرا ما تُفهم السّبعة بمعنى العموميّة، كما في المقطع: "فإنّ الصّدّيق يسقط سبع مرّات وينهض"*، أي مهما يسقط لا يرْدَ، ولم يقصد بذلك الآثام، بل الزّلاّت الّتي تقود إلى الاتّضاع لله. وكذلك: "سبّحتك سبع مرّات في النّهار على أحكام عدلك"*؛ فقد قيل في موضع آخر وبعبارة أخرى: "على الدّوام تسبحته في فمي"*. ونجد أقوالا كثيرة من هذا النّوع في أسفار الكتاب المقدّس يكنى بها عادة بالسّبعة عن عموميّة شيء ما. لذلك كثيرا ما يشار به إلى الرّوح القدس الّذي يقول عنه الرّبّ: "(س)يرشدكم إلى جميع الحقّ"*. هناك راحة الله الّتي يستريح بها في الله الأبرار. راحة في الكلّ بالتّأكيد، أي في الكمال التّامّ. أمّا في الجزء فإجهاد. لذا نجهد طالما بقي علمنا ناقصا، فمتى جاء الكامل يبطل النّاقص. من هنا أيضا جهدنا في سبر أعماق تلك الأسفار، أمّا الملائكة الأبرار الّذين نتوق في رحلتنا المجهدة إلى نديّهم وصحبتهم، فكما لديهم ديمومة الأبديّة، كذلك لديهم سهولة المعرفة ومسرّة الرّاحة*. لذا يساعدوننا بلا جهد: فبفضل نقاوة وحرّيّة حركاتهم الرّوحيّة لا يمسّهم نصب أو لغوب.

 

11-32 في رأي من يزعمون خلق الملائكة سابقا لخلق العالم

   لكن كيلا ينازعنا أحد زاعما أنّ المقصود في المقطع: "ليكن نور فكان نور" ليس الملائكة الأبرار، ويتوهّم أو يعلّم أنّ نورا جسمانيّا خُلق في البدء، أمّا الملائكة فقد خُلقوا قبله لا فقط قبل الجلَد الّذي خُلق بين مياه ومياه وسمّي سماء، بل وقبل ذلك الّذي قيل عنه: "في البدء خلق الله السّماء والأرض"، وأنّ المقصود بكلمة "في البدء" ليس بداية الخلق بما أنّه خلق الملائكة قبلهما، بل أنّه كوّن كلّ شيء في حكمته، إذ دعا الكتاب كلمته ابتداء، كما يجيب هو نفسه اليهود لمّا سألوا من هو فقال إنّه الابتداء*. لن أنازع في ذلك، خصوصا وأنا أُسَرّ أيّما سرور إذ أجد إلماعا إلى الثّالوث منذ بداية سفر التّكوين، إذ يقول: "في البدء خلق الله السّماء والأرض"، لنفهم أنّ الآب خلقهما في الابن كما يشهد المزمور حيث نقرأ: "ما أعظم أعمالك يا ربّ، لقد صنعت جميعها بالحكمة فامتلأت الأرض من مقتناك"*. ثمّ بعد ذلك بقليل وفي المحلّ المناسب يذكر كذلك الرّوح القدس، فبعدما قال لنا أيّة أرض خلق الله في البداية أو أيّة كتلة أو مادّة لصنع العالم لاحقا ودعاها باسم "السّماء والأرض" أضاف: "وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه". لذا فليؤوّل كلٌّ كما يشاء، لأنّ هذا الكلام عميق قادر على إثارة معان كثيرة لا تتنافى مع جادّة الإيمان في من يقرؤونه بتدبّر، لكن بشرط ألاّ يشكّ أحد في أنّ الملائكة الأبرار في مقاماتهم العليّة غير مساوين لله في القدم، لكنّهم على ثقة ويقين من سعادتهم الأبديّة والحقيقيّة. إلى نديّهم ينتمي الصّغار كما يعلّمنا الرّبّ بقوله: "يكونون كملائكة الله في السّماوات"*، ويرينا كذلك بأيّة مشاهدة ينعم أولئك الملائكة، قائلا: "احذروا أن تحتقروا هؤلاء الصّغار فإنّي أقول لكم إنّ ملائكتكم في السّماواتكلّ حين يعاينون وجه أبي الّذي في السّماوات".*

 

11-33 في فئتي الملائكة المختلفتين والمتباينتين المدعوّتين بصواب ملائكة النّور وأرواح الظّلام

   يبيّن لنا الرّسول بطرس بوضوح أنّ بعضا من الملائكة خطئوا وأُهبطوا إلى أسافل هذا العالم الّذي هو بمثابة سجن لهم ليُستبقوا للعقاب النّهائيّ يوم الدّينونة، قائلا إنّ الله لم يشفق على الملائكة الّذين خطئوا بل أهبطهم إلى الجحيم وأسلمهم إلى سلاسل الظّلمة ليُحفظوا للقضاء*. فمن يشكّ في أنّ الله سواء بعلمه المسبق أو بالفعل فرزهم من أولئك الملائكة الأبرار؟ من ينازع أنّ أولئك يستحقّون اسم ملائكة النّور، والحال أنّ الرّسول يدعونا نورا نحن الّذين ما زلنا نعيش في الإيمان ونتوق إلى التّساوي معهم ولم ننل ذلك بعد، إذ يقول: "فإنّكم كنتم حينا ظُلْمة أمّا الآن فأنتم نور في الرّبّ"*. أمّا المعرضون عن نوره فيرى حقّا وصدقا تسميتهم ظُلمة من يدركون أو يعتقدون أنّهم أسوأ من أبناء الكفر بين البشر.

   لذلك حتّى إن كان يجب فهم نور آخر في ذلك المقطع من الكتاب المقدّس حيث نقرأ: "وقال الله ليكن نور فكان نور"، وظلام آخر في المقطع حيث نجد: "وفصل الله بين النّور والظّلام"، مع ذلك يبدو لنا أنّ هاتين الفئتين من الملائكة اللّتين تنعم أحدهما بقرب الله والأخرى ينفخها الغرور، يقال لإحداهما: "اسجدوا له يا جميع الملائكة"* ويقول رئيس الأخرى: "أعطيك هذه كلّها إن خررتَ لي ساجدا"*، تتّقد إحداهما بنار حبّ الله القدسيّ وتدخّن الأخرى بحبّ علائها النّجس، وبما "أنّ الله يقاوم المتكبّرين ويعطي النّعمة للمتواضعين" كما هو مكتوب*، تسكن تلك سماء السّماوات وطُردت هذه منها إلى أجواء الهواء السّفلى حيث لا يقرّ لها قرار، تلك من تقواها النّورانيّة في سلام وأمن وهذه من شهواتها الظّلاميّة في اضطراب واصطخاب، تلك بأمر ربّها تساعد برحمة وتعاقب بعدل وهذه تتّقد بحبّ السّيطرة والرّغبة في الإساءة، تلك تخدم لطف الله فتصنع ما تشاء من الخيرات وهذه تمنعها قدرة الله عن فعل ما تشاء من الشّرور، تلك تسخر من هذه الّتي تفيدها بأذاياها من حيث لا تدري وهذه تحسد تلك إذ تراها تجمع أتباعها بين مسافري هذا العالم، أقول إذن: يبدو لنا أنّ هاتين الفئتين من الأملاك المتباينتين والمتضادّتين اللّتين إحداهما حسنة الطّبيعة سويّة الإرادة بينما الأخرى حسنة الطّبيعة لكن منحرفة الإرادة واللّتين نصّ عليهما الكتاب المقدّس شهادة بيّنة صريحة، هما المشار إليهما في هذا السّفر المسمّى سفر التّكوين بلفظي نور وظلام. فحتّى لو فكّر النّبيّ الّذي كتب ذلك السّفر بشيء آخر في هذا المقطع ما ضاع سدى جهدنا لتفسير مستغلق معناه: حتّى إن لم نستطع الكشف عن مقصد كاتب السّفر لم نحد عن جادّة الإيمان الّتي يعرفها المؤمنون جيّدا من أسفار مقدّسة أخرى مساوية له في حجّيّتها، فلئن ذُكرت هناك أعمال الله المادّيّة فإنّها لا تخلو قطعا من شبه بالرّوحيّة، حسب قول الرّسول: "لأنّكم جميعا أبناء النّور وأبناء النّهار؛ لسنا نحن من أهل اللّيل ولا الظّلام"*. أمّا إن كان ذلك قصد كاتب السّفر أيضا، فإنّ تعمّقنا فيه أوصلنا إلى اقتناع أتمّ بغاية بحثنا. إذ لا يمكن قطّ أن نتصوّر أنّ نبيّ الله بما أوتي من حكمة فائقة وربّانيّة، بل روح الله الّذي ينطق بلسانه، في استعراضه أعمال الله الّتي أكملها الله كما يقول لنا في ستّة أيّام، أغفل الملائكة، سواء فهمنا عبارة "في البدء" في المقطع "في البدء خلق الله السّماء والأرض" بمعنى "في البداية" أو، وهو أرجح، "في الابتداء" أي في كلمته ابنه وحيده، وعبارة "السّماء والأرض" بمعنى الخليقة جمعاء، المادّيّة والرّوحيّة، وهو أرجح، أو قسمي العالم الكبيرين اللّذين يضمّان كلّ المخلوقات، بحيث يُبدأ بذكر الخليقة كلّها ثمّ يتابَع عرض أقسامها وفق العدد الرّمزيّ للأيّام السّتّة.

 

11-34 في قول من يرون في خلق جلَد السّماء إشارة إلى الملائكة باسم المياه الّتي فُصلت وقول البعض بأنّ المياه لم تُخلق

   مع أنّ البعض رأوا أنّ اسم المياه يشير بنحو ما إلى فئتي الملائكة، وأنّ ذاك ما قُصد بالمقطع: "ليكن جلَد بين مياه ومياه"، بحيث يُفهم بما فوق الجلَد الملائكة وبما تحته إمّا المياه المرئيّة وإمّا جماعات الأرواح الخبيثة وإمّا كلّ الجماعات البشريّة.* إن كان الأمر كذلك فليس بيّنا في السّفر متى خُلق الملائكة بل يظهر فقط متى فُصلوا، وإن نفى البعض ضلالا وكفرا وباطلا أن تكون المياه خلقها الله لأنّه لا يوجد مكتوبا: "قال الله لتكن مياه". يمكن بمنطق فاسد مماثل قول ذلك عن الأرض أيضا، إذ لا نقرأ في أيّ موضع أنّ الله قال: "لتكن أرض". يردّون: "لكنّا نجد مكتوبا: في البدء خلق الله السّماء والأرض". حسنا، يجب إذن أن نفهم أنّ هذا يشمل المياه أيضا، فاسم واحد يشمل العنصرين، فكما نقرأ في المزمور: "له البحر وهو صنعه ويداه جبلتا اليبس"*. لكنّ من يذهبون إلى أنّ المقصود باسم المياه الّتي فوق الجلَد الملائكة يتأثّرون بأوزان العناصر، لذلك لا يرون ممكنا أن تكون المياه السّائلة والثّقيلة قد وُضعت في أعالي العالم. حسب طريقتهم هذه في التّفكير، لو أمكنهم صنع إنسان لما وضعوا في رأسه ذلك الخلط المدعوّ باليونانيّة البلغم flegma والّذي هو بين عناصر جسمنا بمثابة الماء. فهناك فعلا محلّ ذلك الخلط وفق صنع الله وحسب بديع تدبيره، لكنّه حسب تصوّرهم أمر مخالف للعقل، بحيث لو لم نكن نعلم بذلك ولو كُتب في ذلك السّفر أنّ الله وضع خلطا سائلا وباردا، وبالتّالي ثقيلا، في الجزء الأعلى من جسم الإنسان لما آمن قطّ بذلك قبّانيّو# العناصر هؤلاء، وإن خضعوا لسلطة الكتاب المقدّس سيرون من الواجب تأويل ذلك بمعنى آخر.

   لكن لأنّا لو تفحّصنا وحلّلنا بتدقيق كلّ ما كُتب في ذلك السّفر الرّبّانيّ حول خلق العالم فسيكون علينا قول الكثير وسيبعدنا ذلك عن موضوع مؤلّفنا، ولأنّا بحثنا قدر ما بدا لنا كافيا في هاتين الفئتين من الملائكة المتباينتين والمتضادّتين اللّتين فيهما أصل المدينتين اللّتين ينقسم إليهما عالم البشر واللّتين قرّرت الحديث عنهما في ما يلي، ننهني هنا هذا الكتاب.