القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب التّاسع- تابع  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

9-17 في أنّ الإنسان لا يحتاج في نشدان الحياة السّعيدة المتمثّلة في المشاركة في الخير الأعظم إلى وسيط من قبيل الشّيطان بل إلى المسيح، الوسيط الأوحد

   لكنّي أعجب أيّما عجب لأولئك العلماء ااضّلعاء الّذين رأوا أنّ كلّ الجسميّات والمحسوسات دون اللاّجسميّات والمعقولات مقاما كيف يذكرون عند الخوض في حياة النّعيم الاتّصالات الجسملنيّة، فففي نفس الكتاب حيث نجد ذاك الرّأي لأفلوطين يقول: "فلنفرّ هاربين إذن إلى الوطن المحبوب. ولكن ما هو ذلك الفرار وكيف يتمّ لنا الرّحيل؟ أن نصير شبيهين بالله"* إن كان الإنسان إذن على قدر تشبّهه بالله يقترب منه أكثر، فلا بوْن يفصله عنه سوى مباينته له. والحال أنّ نفس الإنسان تباين ذلك الكائن الأسمى اللاّجسديّ والسّرمديّ الثّابت هو هو بقدر ازدياد تعلّقها بالأعراض الزّمنيّة الواقعة تحت طائلة الفساد. ولأنّ بلوغ ذلك النّقاء المستديم الكائن في علائه المكين يتعذّر على تلك الأرجاس الزّائلة المستقرّة في حضيضها الدّون، تحتاج النّفس لشفاء هذا السّقم إلى الوسيط المعين، لكن لا من جنس ما له جسم خالد قريب من السّماء مع نفس سقيمة شبيهة عالقة بالوطاء، فقد يكره أن نشفى حسدا عوض إعانتنا على الشّفاء، بل وسيط يتوافق مع حطّتنا بجسمه الخاضع لسنّة الفناء، وببرّ روحه الدّائم الّذي يبقيه، لا بالبعد المكانيّ لكن بجودة المشابهة، في أعلى العلاء، يقدّم لنا حقّا عونه الرّبّانيّ ويقودنا إلى الخلاص والنّقاء. وحاشا هذا الإله الّذي لا يأتيه الدّنس من أيّ جهة أن يخشى التّدنّس بالإنسان الّذي ادّرع جسده ولا من النّاس الّذين عاش بينهم في هيئة الإنسان. فما بتفاهات تان الحقيقتان اللّتان أبان لنا بتجسّده: أنّ الجسد لا يدنّس الألوهة الحقيقيّة وأنّ الشّياطين لا تفضلنا لكونها بلا جسد من لحم. هذا كما يخبرنا الكتاب المقدّس هو "الوسيط بين الله والنّاس الإنسان يسوع المسيح"* الّذي يساوي بلاهوته الآب، وصار بناسوته على شبهنا: لكن ليس هذا هو المحلّ المناسب لشرح ذلك قدر مستطاعنا.

 

9-18 في كيد الشّياطين الّذي يعد البشر بالسّعي بهم إلى الله بوساطته وهو يحاول صدّهم عن طريق الحقّ

   أمّا الشّياطين، تلك الوسائط الزّائفة الخادعة الّتي تكشف، بدناياها العديدة الرّاشحة بنجس أرواحها عن بؤسها ومكرها، وتحاول في نفس الوقت بطيّ المسافات المكانيّة وخفّة أجسامها الهوائيّة إلهاء وصدّ النّفوس عن التّقدّم نحو الغاية، فهي لا تمهّد الطّريق إلى الله، بل تمنع من سلوك الطّريق الصّحيحة. ففي الطّريق الجسديّة المليئة زيفا وضلالا والّتي لا يسلكها البرّ- فما بالتّرقّي الجسديّ بل بالتّشبّه الرّوحيّ، أي اللاّجسديّ، يجب أن نرقى إلى الله-، في تلك الطّريق الّتي يشير بها أشياع الشّياطين، عبر تدرّج العناصر، وحيث أقاموا بين الآلهة الأثيريّة والبشر الأرضيّين الشّياطين الهوائيّة وسائط بين الفئتين، يرون مزيّة كبرى للآلهة تتمثّل في الحيلولة بطول الشّقّة المكانيّة دون التّدنّس بالاختلاط بالبشر. بهذا النّحو يرجّحون تدنّس الشّياطين بالاحتكاك بالبشر على تطهّر البشر بالاقتراب من الشّياطين، ويظنّون الآلهة معرّضة للتّدنّس لو لم تكن بارتفاع نجواتها بمنجى من التّنجّس. فمن يا ترى يصل به الشّقاء حدّ الاعتقاد أنّ بوسعه التّطهّر بسلوك هذه الطّريق حيث يدنّس البشر ويتدنّس الشّياطين وحيث الآلهة قابلة للتّدنّس حسب ما يزعمون، بدلا من اختيار الطّريق السّويّة حيث تُجتنب الشّياطين أهمّ عوامل الرّجس، وينقّى البشر بنعمة الله المنزّه عن الرّجس ليدخلوا في زمرة الملائكة المطهّرين من الرّجس.

 

9-19 في أنّ اسم الشّياطين لا يحمل حتّى عند عبدتها معنى محمودا

   لكن كيلا نبدو كأنّا نجادل نحن أيضا حول الألفاظ، بما أنّ بعض عبدة الشّياطين demonicolae كما يبدو لي أنسب أن ندعوهم، ومن ضمنهم لابيون أيضا*، يزعمون أنّ غيرهم يدعو ملائكة ما يدعون شياطين، أرى الآن لزاما إعطاء بعض التّوضيحات حول الملائكة الأبرار الّذين لا ينفون وجودهم لكنّهم يؤثرون دعوتهم شياطين خيّرة على تسميتهم ملائكة. أمّا نحن فنلاحظ أنّ الكتاب المقدّس الّذي نحن على أساسه مسيحيّون يتحدّث عن أملاك بعضهم أخيار وبعضهم أشرار، لكنّا لا نقرأ فيه أبدا عن شياطين خيّرة، بل أينما نجد هذا الاسم مذكورا في الكتاب، سواء بصيغة daemones أو daemonia، لا يُقصد به سوى الأرواح الشّرّيرة*. واتّبعت شتّى الأمم هذا الاصطلاح حتّى لا نكاد نجد بين من يُدعون وثنيّين ويدّعون أنّ من واجبنا عبادة عديد من الآلهة والشّياطين أحدا مهما بلغ من الدّراسة والتّبحّر في العلم يجرؤ على القول على سبيل المدح حتّى لعبد له: "أيّ شيطان أنت"؛ بل لا يمكن الشّكّ مطلقا في أنّ من أراد قول ذلك إنّما قصد الذّمّ. أيّ داع إذن يفرض علينا اللّجوء بعد إيذاء عديد بل تقريبا كلّ الآذان الّتي لم تعتد سماع هذه الكلمة في غير معنى مرذول، إلى شرح مقصودنا، بينما يمكننا باستعمال كلمة الملائكة اجتناب الأذى الّذي أمكن أن يسبّبه اسم الشّياطين.

 

9-20 في نوع العلم الّذي ينفخ الشّياطين كبرا

   لكنّ أصل هذا الاسم في حدّ ذاته، إن تمعّنّا في كتب الإلهيّات، يحمل معنى يحسن أن نعرفه: فكلمة شياطين اليونانيّة الأصل مشتقّة من لفظة تعني العلم*. والحال أنّ الرّسول يقول بوحي الرّوح القدس: "العلم ينفخ والمحبّة تبني".* ولا يُفهم ذلك على الوجه الصّحيح إلاّ بمعنى أنّ العلم scientia يفيد إن اقترن بالمحبّة caritas، أمّا بدونها فإنّه ينفخ، أي ينفش زهوا وريحا وغرورا. في الشّياطين إذن علم بدون محبّة، وهي لذلك مزهوّة إلى حدّ الرّغبة في أن تُعرَض تكريما لها التّشريفات الإلهيّة والطّقوس العباديّة الّتي تعلم أنّها تحقّ لله الحقّ وحده، وتصنع كلّ ما لها عليه سلطان لدى من لها عليهم سلطان. ضدّ كبْر الشّياطين ذاك الّذي ظلّ الجنس البشريّ خاضعا له بما كسبت يداه، يملك تواضع الله الّذي تجلّى في المسيح قوّة جبّارة، وإن جهلته نفوس البشر الممتلئة رجسا والمنتفخة زهوا، الشّبيهة بالشّياطين لا في العلم بل في الخيلاء.

 

9-21 إلى أيّ حدّ شاء الرّبّ التّكشّف للشّياطين

   لكنّ الشّياطين نفسها تعلم ذلك جيّدا، ممّا جعلها تصيح قائلة للرّبّ المدّرع ضعف الجسد: "ما لنا ولك يا يسوع، أجئت إلى هنا قبل الزّمان لتعذّبنا؟" بيّنٌ من هذه الأقوال أنّها كانت بحرا من العلم صفرا من المحبّة: فعلا كانت ترهب فيه عقابه ولا تحبّ فيه برّه. لكنّه لم يتجلّ لها إلاّ قدر ما شاء، ولم يشأ إلاّ قد ما لزم. فلم يتجلّ لها كما للملائكة الأطهار الّذين يلتذّون بالمشاركة في سعادته السّرمديّة من حيث هو كلمة الله، بل كان يلزم أن يتكشّف لها لترهيبها كطواغيت أتى ليخلّص من جبروتها الموسومين لملكوته ومجده الصّادق أبدا والأبديّ صدقا. لم يتبدّ إذن للشّياطين بصفته هو الحياة الأبديّة والنّور المنزّه عن الفساد الّذي يضيء مستقيمي النّفوس فتتنقّى قلوبهم بمشاهدته بعين الإيمان، بل ببعض ما ينجز من أعمال في عالمنا وبعلامات حضوره الخفيّ الّتي تستطيع رؤيتها الأرواح الشّرّيرة هي أيضا بواسطة حواسّها الملائكيّة أكثر ممّا يستطيع ضعف البشر. ثمّ لمّا رأى أن يزيلها شيئا فشيئا ويخفى أكثر، داخَل الشّكُّ فيه كبيرَ الشّياطين فجرّبه للتّثبّت من أنّه المسيح بقدر ما سمح له هو بتجريبه* ليجعل من الإنسان الّذي كان مثالا نقتدي به. لكن بعد تلك التّجربة، كما يخبرنا الكتاب المقدّس، لمّا صارت تخدمه الملائكة، الصّالحة والزّكيّة طبعا، والمهيبة المرهوبة لذلك من الأرواح النّجسة، صارت الشّياطين تعرف أكثر فأكثر حقّ قدره ومقداره العظيم، فلم يعد أيّ منها يجرؤ على عصيان أمر  له حتّى إن بدا ضعف الجسد فيه مثار الازدراء.

 

9-22 ما الفرق بين علم الملائكة البررة والشّياطين المكرة

   يستصغر هؤلاء الملائكة إذن علم الظّواهر المادّيّة والزّمنيّة الّذي به تختال الشّياطين مرحا، لا لأنّهم يجهلونها، بل لأنّهم يحبّذون محبّة الله الّتي منها يستمدّون قداستهم والّتي أمام حسنها اللاّجسميّ الثّابت هو هو والأسمى من أن يُسمى، ملهب قلوبهم بحبّه القدسيّ، يسترخصون كلّ ما هو دونه وما ليس إيّاه حتّى أنفسهم، فهم بما فيهم من حُسْن يلتذّون بالحُسن الّذي يخلع عليهم الحُسن. لذلك يعلمون هم أيضا وبنحو أثبت الحسّيّات والزّمنيّات المتغيّرة لأنّهم يشاهدون عللها الأولى في كلمة الله الّذي به كُووّن العالم، وهي علل تثبَّت بها أشياء وتثبَّط* أشياء وتدبَّر كلّها بأحكم الإحكام. أمّا الشّياطين فلا تتأمّل علل الزّمنيّات الأبديّةَ في حكمة الله، بل تستشفّ لخبرتها الأكبر ممّا لنا ببعض العلامات الخافية عنّا وقائع آتية أكثر ممّا نستطيع بكثير، وأحيانا تنبئ مسبقا بأحداث من تدبيرها. فضلا عن ذلك كثيرا ما تخطئ، بينما لا يخطئ الملائكة في أيّ شأن أبدا. فشيء هو تخمين ظواهر زمنيّة متغيّرة من ظواهر زمنيّة متغيّرة ودمغها بالخاتم الزّمنيّ المتغيّر لإرادةِ وقدرةِ الذّات، وهو أمر متاح للشياطين لحكمة معيّنة؛ وشيء سواه الاطّلاع في سنن الله الأبديّة الّتي تحيا في حكمته بلا تبديل ولا تحويل على أحوال ما يأتي من الأزمان، ومعرفة مشيئة الله الأثبت والأقوى من كلّ ما سواها بفضل المشاركة في روحه، وهو ما أتيح للملائكة الأبرار بتدبير محكم قويم. لذلك يتّصفون لا بالأبديّة فقط بل كذلك بالسّعادة، وحسنٌ مَن منه تلقّوا سعادتهم، الله الّذي خلقهم. فبالمشاركة فيه وتأمّله يُحبرون في نعيم مقيم.

 

9-23 في تسمية أصنام الأمم خطأً باسم الآلهة الّذي يناسب مع ذلك الملائكة الكرام والعباد البررة بشهادة كتاب الله

   إن اختار الأفلاطونيّون أن يدعوهم آلهة بدل شياطين ويعدّوهم من تلك الآلهة الّتي خلقها الإله الأعلى حسب ما كتب رئيسهم ومعلّمهم أفلاطون، فليدعوهم كما يشاؤون، إذ لا يجدي إجهاد النّفس في الجدال معهم حول الألفاظ. فعلا إن يقولوا إنّها خالدة لكنّها مخلوقة من الإله الأعلى وهي سعيدة لا بذاتها بل بتعلّقها بمن خلقها، فهم يقولون ما نقول، أيّا ما يدعوهم من شتّى الأسماء. ذاك رأي الأفلاطونيّين، كلّهم أو أفضلهم، كما يمكننا أن نجد في كتاباتهم. حتّى حول اسم الآلهة الّذي يدعون به الخليقة الخالدة والسّعيدة لا خلاف تقريبا بيننا وبينهم، بما أنّا حتّى في كتابنا المقدّس نقرأ: "الله ربّ الآلهة تكلّم"*، وفي موضع آخر: "اعترفوا لإله الآلهة"*، وفي آخر: "ملك عظيم على جميع الآلهة"*؛ لكن حيث نجد مكتوبا: "مرهوب فوق جميع الآلهة"*، نجد موضَّحا بعده مبرّر قوله، إذ يليه: "لأنّ جميع آلهة الشّعوب أصنام والرّبّ هو صنع السّماوات"*. قال إذن: "مرهوب فوق جميع الآلهة"، لكن آلهة الأمم، أي ما تتّخذ الأمم آلهة وهي شياطين لا غير. مرهوب إذن الرّبّ  الّذي من رهبته كانت تصيح: "أجئت لتعذّبنا؟" لكن حيث نجد "إله الآلهة"، لا يجوز فهم ذلك بمعنى إله الشّياطين، وحاشا كذلك أن يُقصد "بملك عظيم فوق جميع الآلهة" ملك عظيم فوق جميع الشّياطين. لكنّ كتاب الله يدعو كذلك الأشخاص المسلوكين في شعب الله آلهة. يقول: "قد قلتُ إنّكم آلهة وأبناء العليّ كلّكم"*. لذلك يمكن أن يُفهم على أنّه إله هؤلاء الآلهة من نُعت بإله الآلهة، وعظيم فوق هؤلاء الآلهة من قيل إنّه "ملك فوق جميع الآلهة". لكن لمّا يسألنا سائل: إن دعي أولئك النّاس آلهة لكونهم في شعب الله الّذي يخاطبه بواسطة أملاك وأناس، أليس أحقّ بذاك الاسم الملأ الخالدون المتنعّمون بالسّعادة الّتي يبغي بلوغها النّاس بعبادة الله، بم نجيب سوى أنّ الكتاب المقدّس ما سمّى عبثا أولئك النّاس آلهة، بعبارة أوضح من الملإ الخالدين السّعداء الّذين وُعدنا بأن نصير أمثالهم في الحياة الآخرة، يقينا كيلا يُقدِم ضعفنا الميّال إلى الكفر، متأثّرا بجودة وجودهم، على إقامة أيّ منهم إلها لنا، وهو ما يسهل تحاشيه في حالة البشر؟ بيّنٌ أنّه كان أوْلى أن يدعى البشر المسلوكون في شعب الله آلهة ليصيروا على أتمّ الثّقة واليقين بأنّ الّذي سمّي إله الآلهة إلههم. فحتّى لو دُعي آلهة أولئك الملأ الخالدون والسّعداء المقيمون في السّماء، هم مع ذلك لم يُدعوْا آلهة الآلهة، أي آلهة النّاس المسلوكين في شعب الله الّذين قيل عنهم: "قد قلتُ إنّكم آلهة وأبناء العليّ كلّكم"، لذا يقول الرّسول: "فإنّه وإن وُجد ما يقال له آلهة في السّماء كان أو على الأرض وقد وُجد كذلك آلهة كثيرون وأرباب كثيرون، لكن لنا إله واحد الآب الّذي منه كلّ شيء ونحن إليه وربٌّ واحد المسيح الّذي به كلّ شيء ونحن به."* لا حاجة بي إذن إلى إطالة الجدال حول الاسم بينما جوهر القضيّة واضح لا يرقى إليه الشّكّ. لكن لا يعجبهم قولنا بأنّ ملائكة من أولئك الملإ الخالدين السّعداء يُبعثون لتبليغ مشيئة الله للنّاس، لظنّهم أنّ هذه الوظيفة لا تتبع ما يدعون آلهة- أي كائنات خالدة وسعيدة- بل الشّياطين الّتي يقولون إنّها خالدة فقط لكن لا يجازفون بتأكيد أنّها سعيدة، أو حتّى الخالدة والسّعيدة منها هي عندهم شياطين خيّرة لا آلهة تسكن أعالي السّماء بمعزل عن أيّ اتّصال مباشر بالبشر، بحيث حتّى إن بدا حجاجنا مماحكة حول الألفاظ، فإنّ اسم الشّياطين منفّر إلى حدّ يفرض علينا استبعاده كلّيّا بالنّسبة للملائكة. فلنُنهِ الآن إذن هذا الكتاب ونحن نعلم أنّ الملأ الخالدين والسّعداء، كيفما نسمّهم، والّذين هم مع ذلك من صنع وخلق الله، ليسوا وسطاء للسّعي إلى السّعادة السّرمديّة بالفناة التّعساء الّذين يفصلهم عنهم فرق على المستويين؛ وأنّ الفئة الّتي بإمكانها التّوسّط لاشتراكها في الخلود مع العليا وفي التّعاسة مع الدّنيا، لكونها تعيسة جزاء شرورها، أقدرُ على حسد البشر ممّا هي على مساعدتهم على بلوغ السّعادة. لذا ليس لدى أصدقاء الشّياطين مبرّر وجيه يحملنا على أن نعبد كوسائط خير تلك الكائنات الّتي يجب بالأحرى أن نتحاشاها كأعوان تضليل وتغرير. أمّا تلك الكائنات الخيّرة والخالدة والسّعيدة الّتي يدعوننا إلى التّقرّب إليها بالطّقوس والذّبائح لنيل نعيم الحياة الآخرة، فسنرى، أيّا ما كان جوهرها والاسم الخليق بها، أنّها لا تحبّ أن يُعبد بتلك النُّسُك والقُرُبات سوى الإله الواحد الّذي أنشأها ومن مشاركتها فيه تنعم بسعادتها: ذاك ما بعونه سنتحدّث عنه بمزيد من التّحقيق والتّدقيق في الكتاب التّالي.