القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب السّادس- تابع  

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

6-9 في وظائف الآلهة كلّ حسب اختصاصه

   ماذا؟ حتّى وظائف الآلهة المجزّأة بنحو مفصّل متناهي الدّقّة، ولذلك يرون من اللاّزم دعاء كلّ منها ابتغاء النّعمة الخاصّة به، والّتي سبق لنا ذكر العديد منها وإن لم نستنفدها كلّها، ألا تتوافق مع تهريج الممثّلين الهزليّين أكثر ممّا تتوافق مع جلال الألوهة؟ إن أحضر أحد لصغير مرضعتين لا تعطيه إحداهما سوى الطّعام ولا الأخرى سوى الشّراب، كما اجتلب الوثنيّون لنفس الغرض إلهتين هما إيدوكة وبوتينة، ألا يبدو كالمجنون ويأتي في بيته ما يشبه حركات المهرّجين؟ يريدون أن يكون اسم ليبر مشتقّا من التّحرير liberamentum لأنّ الذّكور يحرَّرون بفضله في عمليّة الجماع من البذور المنويّة الّتي يقذفونها، وأن تقوم بنفس الدّور في الإناث ليبرة الّتي يرون أنّها فينوس أيضا، إذ تعينهنّ في زعمهم على إفراز مائهنّ؛ لذلك تحديدا وُضع حسب أقوالهم لليبر في معبده عضو الذّكورة، ولليبرة عضو الأنوثة. ويضيفون إلى ذلك النّساء المنذورات لليبر والخمرَ لإثارة الشّهوة. هكذا يُحتفل بأعياد باخوس بتفلّت هوسيّ؛ إلى درجة أنّ وارّون يعترف بهذا الصّدد بأنّ أمورا تقع في أعياد باخوس ما كان يمكن وقوعها إلاّ بعد تهيّج الأذهان. مع ذلك ساءت تلك الممارسات لاحقا مجلس الشّيوخ الّذي ثاب إلى الرّشد فأمر بإلغائها. هنا على الأقلّ ربّما أدركوا أخيرا ماذا تستطيع أن تصنع بأذهان البشر الأرواح النّجسة الّتي يعدّونها آلهة. لا تحصل تلك التّصرّفات قطعا في المسارح: فهناك يلعبون ولا ينطلقون في هوج هوسيّ، وإن كانت الآلهة الّتي تلتذّ حتّى بتلك الألعاب كمن به مسّ من الجنون. لكن ما معنى تمييزه بين الدّيّن ومتّبع الشّعوذات بهذا الفرق: أنّ هذا حسب قوله يرهب الآلهة بينما الدّيّن يُجلّها* كآباء ولا يرهبها كأعداء، ويزعم أنّها كلّها طيّبة إلى درجة أنّ العفو عن المسيئين أسهل لديها من إيذاء أيّ بريء. مع ذلك يذكر أنّ ثلاثة آلهة تهبّ لرعاية المرأة بعد وضع حملها مخافة أن يأتي الإله سلوانوس ليلا ويؤذي الوليد. وللدّلالة على تلك الآلهة الحامية يطوف بالبيت ليلا ثلاثة رجال فيضربون العتبة ببلطة أوّلا، ثمّ بمدقّة، ويكسحونها ثالثا بمكنسة ليحولوا، بإعطاء هذه الإشارات الدّالّة على أعمال الزّراعة، دون ولوج الإله سلوانوس، فما بدون بلطة تُقطع وتُزبر الأشجار، ولا بدون مدقّة يُطحن القمح ولا بدون مكنسة يُكدَّس المحصول. من هذه الأدوات الثّلاث اشتُقّت أسماء الآلهة الثّلاثة- إنتركيدونة من القطع بالبلطة وبيلمنوم من المدقّة وديورّة من المكنسة- الّتي برعايتها يُحفظ المواليد من أذى الإله سلوانوس. هكذا لا تجدي ضدّ وحشيّة إله شرّير رعاية تلك الآلهة الطّيّبة ما لم تكن كثرة في مقابل فرد ولم تدفع ذلك الجلف الفظّ الغليظ- فهو من سكّان الغاب silua- برموز الزّراعة المضادّة لتوحّشه. أفتلك هي طيبة الآلهة، أوَذاك هو وفاقها؟ أهذه آلهة المدن الرّصينة؟ هي لعمري أدعى للضّحك من تهريج المسارح.

   لمّا يقترن ذكر وأنثى يشرف على زواجهما يوغاتينوس. حسنا، لنسلّم بذلك. لكن يجب أن يقود الرّجل عروسه إلى البيت: هناك الوَلاية للإله دوميدوكوس، فإذا صارت بالبيت صارت في رعاية الإله دوميتيوس، ولتبقى مع بعلها تضاف الإلهة منتُرنة. عمّ نبحث فوق ذلك؟ ألا رأفةً بالحياء الإنسانيّ! لتنفّذ شهوة اللّحم والدّم الأعمال الأخرى في السّتر كما يقتضي الاحتشام! لم يغصّ مخدع العروس بحشد من الأرباب حتّى مع انسحاب أشابين العريس. وهي تملأه لا ليدفع التّفكير في حضورها إلى إيلاء الاحتشام مزيدا من الاهتمام بل لتُنتزع بواسطتها من العروس- الجنس الأضعف- بكارتها بدون ممانعة. إذ تحضر الالتحام الإلهة ورجينينسيس والإله الأب سوبيقوس والإلهة الأمّ بريمة والإلهة برتُندة وفينوس وبريابوس. ما معنى ذلك؟ إن كان لا بدّ للرّجل وهو يُجهد نفسه في العمليّة من مساعدة الآلهة، ألا يكفي واحد أو واحدة منها؟ أقليل حضور فينوس بمفردها الّتي اشتقّ اسمها حسب أقوالهم من أنّ الأنثى لا تفقد دون قوّة uis بكارتها. إن كان في البشر سفه لا وجود لمثله في الآلهة، أليس من المفروض، لمّا يحسب العِرسان كلّ تلك الآلهة من الجنسين تحضر وتشهد العمليّة، أن يؤثّر عليهما الحياء فيكون هو أقلّ تهيّجا وهي أكثر تمنّعا؟ وإن تعيّن لا محالة أن تحضر الإلهة ورجينينسيس لفسخ غشاء البكارة، والإله سوبيقوس لتستسلم للرّجل، والإلهة بريمة لتظلّ مسلّمة له نفسها دون التّملّص من وطئه، فماذا تفعل هناك الإلهة برتندة؟ لتستحِ ولتخرج وليقم العريس هو أيضا بعمل، فمخلٌّ بالشّرف حقّا أن يقوم بما تشتقّ اسمها منه* أحد سواه. لكن ربّما يقبلون بها لأنّها على ما يقال إلهة لا إله، فلو كان يُظنّ أنّها ذكر فيدعى برتندوس، لكان على العريس أن يلتمس لمواجهته حفاظا على عفاف عروسه عونا أكبر ممّا يلزم لحفظ الولدان من سلوانوس. لكن لِم أقول هذا بينما يتواجد هنا مع البقيّة بريابوس المفرط الذّكورة الّذي تؤمر العروس بالجلوس فوق عدّته الضّخمة المنفّرة على عادة السّيّدات الكريمة الدّيّنة؟

   ليواصلوا ويحاولوا أن يميّزوا بحذاذة قدر طاقتهم الدّين المدنيّ عن الأسطوريّ، والمدن عن المسارح، والمعابد عن ركوح التّمثيل، وطقوس الأحبار عن قصائد الشّعراء، تمييز المكرمات عن المخزيات، والصّدق عن الكذب، والرّزانة عن النّزق، والجدّ عن اللّعب، والمندوب عن المنبوذ. نفهم ما يعملون: يعلمون أنّ ذاك الدّين المسرحيّ الخرافيّ يتبع هذا المدنيّ وينعكس عنه في قصائد الشّعراء كما في مرآة، وبعد عرض هذا الّذي لا يجرؤون على التّشهير به يناقشون وينتقدون تلك الصّورة منه بكامل الحرّيّة، بحيث يمقت من يدركون مرماهم كذلك هذا الوجه ذاته الّذي ذاك صورة له والّذي مع ذلك لمّا تتأمّل الآلهة نفسها في نفس المرآة تحبّه حبّا جمّا، بحيث تبدو وبنحو أفضل طبيعتها وصفاتها في الاثنين. لذلك أيضا، لمّا تجبر عبّادها بأوامر صارمة على إهدائها فحشاء الدّين الأسطوريّ وإدراجها ضمن احتفالاتها واعتبارها من الأمور الرّبّانيّة، مبيّنة بذلك أنّها أرواح نجسة، وأنّها اتّخذت ذاك الدّين المسرحيّ والمذموم جزءا ملتحما كالعضو بالجسد بهذا الدّين المدنيّ المنتقى والمقبول، يتّضح لنا أنّ الكلّ مخز وباطل ويحوي في دفّته آلهة زائفة، يوجد قسم منه في كتب الكهنة والآخر في أناشيد الشّعراء. أمّا هل يحوي أقساما أخرى فمسألة أخرى: بالنّسبة للوقت الحاضر بيّنتُ بنحو كاف في ظنّي أنّ دين المدينة ودين المسرح في تصنيف وارّون ينتميان إلى نوع واحد مدنيّ. بالتّالي ولأنّهما على نفس الخزي والسّخف والمنكر والباطل حاشا الدّيّنين الحقيقيّين أن يرجوا من ذاك أو هذا الحياة الأبديّة.

   أخيرا نرى وارّون نفسه يبدأ هو الآخر انطلاقا من تكوّن نطفة الإنسان ذِكر وتعداد الآلهة الّتي يستهلّ قائمتها بيانوس، ويستعرض تلك السّلسلة حتّى وفاة الإنسان وقد أنهكه الهرم، ويختم سلسلة الآلهة المرافقة لذلك الإنسان بالإلهة نينية الّتي يتغنّون بها في مآتم الشّيوخ. ثمّ يشرع في استعراض آلهة أخرى لا تتعلّق بالإنسان نفسه بل بأمتعة الإنسان كالمأكل والملبس وبقيّة ضروريّات هذه الحياة مبيّنا فيها كلّها النّعمة الخاصّة بكلّ واحد ولأجلها يجب دعاؤه. لكنّه في كلّ ذلك العرض المتأنّي المستفيض لم يبيّن أو يسمّ آلهة تُطلب منها الحياة الأبديّة الّتي لأجلها تحديدا ننتمي نحن إلى دين المسيح. فمن يصل به الغباء درجة عدم إدراك أنّ ذلك الكاتب بعرض وكشف الدّين المدنيّ بكلّ تلك العناية، وبتبيين شبهه بذاك الدّين الأسطوريّ الشّائن المرذول، وبإفهامنا بوضوح كاف أنّ الأسطوريّ نفسه جزء من هذا، إنّما اجتهد لإيجاد مكان للدّين الطّبيعيّ الّذي يقول إنّه خاصّ بالفلاسفة في أفئدة النّاس. بهذه الطّريقة الذّكيّة ينتقد الأسطوريّ، أمّا المدنيّ فلا يجرؤ طبعا على انتقاده لكنّه بعرضه يُظهره حقيقا بأن يُنبذ، وهكذا بشجب من أوتوا الفهم والحكم السّديد لكليهما يبقى الدّين الطّبيعيّ خيارا أوحد؛ وسنبحث فيه بعون الله في المحلّ المناسب بمزيد من التّدقيق.

 

6-10 في حرّيّة فكر سينيكا الّذي انتقد الدّين المدنيّ بعنف أشدّ من نقد وارّون للدّين الأسطوريّ

   حرّيّةُ التّفكير الّتي أعوزته لا شكّ فلم يجرؤ مع عرضه بدون مواربة وبعناية كبرى الدّين المدنيّ المماثل تماما للدّين المسرحيّ على التّشنيع عليه مثل صنوه توفّرت في بعضِ، لا كلِّ، جوانب كتابات إنّيوس سينيكا الّذي نجد من بعض الدّلائل أنّه سطع في عصر رسلنا*. توفّرت له في كتاباته وأعوزته في نهج حياته. ففي الكتاب الّذي ألّفه ضدّ المعتقدات الخرافيّة* انتقد بإسهاب وشدّة أكثر ممّا فعل وارّون مع الدّين المسرحيّ والأسطوريّ. يقول فعلا في معرض حديثه عن الأصنام: "يصوّرون الآلهة المقدّسة الخالدة المتعذّر انتهاكها في مادّة خسيسة جامدة، ويكسونها صورة البشر والبهائم والأسماك وبعضها جنسا مختلطا وأجساما متعدّدة. يدعون آلهة كائنات لو اعترضتهم بغتة لعدّوها وقد التقطوا أنفاسهم مسوخا وحشيّة." ثمّ بعد حين لمّا عرض في إطار حديثه عن الدّين الطّبيعيّ آراء بعض الفلاسفة، اعترض على نفسه بسؤال قائلا: "هنا قد يقول قائل: أأعتقد أنّ السّماء والأرض إلهان وأنّ فوق القمر آلهة وتحته آلهة؟ أأذهب مذهب أفلاطون أم المشّاء استراتون اللّذين يجعل أحدهما الإله بلا جسم والآخر بلا روح؟" ويجيب على ذلك قائلا: "لماذا إذن تبدو لك أثبت أوهامُ طيتس طاتيوس أو رومولوس أو تلّوس هُستيليوس؟ كرّس طاتيوس كلواكينة إلهة، ورومولوسُ بيكوسَ وتيبرينوسَ، وهُستليوسُ الرّهب والشّحوب ( بافور وبالور) أفظع الأحاسيس طرّا- أحدهما اضطراب الفكر تحت وطأة الفزع، والآخر انفعال للجسد لكنّه ليس مرضا بل تحوّل للونه-، أفترجّح أنّ هذه آلهة وتقبلها في السّماء؟" أمّا الطّقوس فبأيّة حرّيّة يكتب عنها؛ يقول: "ذاك يبتر أعضاء ذكورته وذاك يقطّع ساعديه. كيف يخشى الآلهةَ في سورة غضبها من يوقعون بأنفسهم تلك الأنكال وهي في أتمّ الرّضا؟ قطعا لا تستحقّ الآلهة العبادة بأيّ شكل إن أرادت هذا الشّكل. يبلغ الهوج بالفكر المزعزع والمزحزح عن مرتكزاته حدّ ترضّي الآلهة بنحو لا يعتو بمثله الجبابرة المشهورون بوحشيّتهم المفرطة الفظيعة والمرويّة ضمن غرائب القصص. فلقد قطّع الطّغاة لا محالة أعضاء بعض ضحاياهم لكنّهم لم يأمروا أحدا بتقطيع أعضائه؛ ولجلب اللّذّة لشبق الملوك خصي البعض لا محالة، لكن لا أحد أزال بأمر من سيّده ذكورته بيديه. يقتلون أنفسهم في المعابد متوسّلين إلى الآلهة بجراحهم ودمهم. إن يجد أحد متّسعا من الوقت لمشاهدة ما يفعلون ويتكبّدون، سيكتشف من القبائح المنافية لخلق الكرام والمنكرات غير اللاّئقة بالأحرار والممارسات الجنونيّة البعيدة عن سليمي العقول ما لا يشكّ معه أحد في أنّ بهم مسّا لو كانوا يأتون ذاك الجنون مع قلّة من النّاس. لكن في أيّامنا غدت كثرة المعاتيه ضمانة سلامتهم!" وما يذكر فيما بعد من ممارسات تحدث بصفة عاديّة في الكابتوليوم بالذّات وبكلّ شجاعة يشهّر بها، من يحسبه يحصل من غير مهرّجين أو مجانين؟ إذ يسخر في عرضه للطّقوس المصريّة من البكاء على ضياع أوزيريس والابتهاج العظيم بلقياه إثر ذلك والحال أنّ فقدانه ووجدانه وهميّان، لكنّ ألم وفرح أولئك الّذين ما فقدوا ولا وجدوا شيئا حقيقيّان. يقول: "لكن هناك وقت معيّن لهذا الخبل. مقبول أن تحصل مرّة بالسّنة نوبة جنون. اذهب إلى الكابتوليوم، سيُخجلك الجنون الجماعيّ وأيّ دور ينتحل هوج كلّه غرور: هذا يعلن للإله أسماء من يحيّونه وذاك يعلم يوبتر بالأوقات وذاك يقوم بدور القارئ والآخر مدلّك يحاكي إيهاما بحركة ذراعيه تمريخه بالدّهون. هناك نسوة يسوّين شعر يونون ومينرفة محرّكات أصابعهنّ على طريقة المواشط وقد وقفن بعيدا لا عن التّمثال فقط بل وعن المعبد أيضا، وهناك أخريات يمسكن مرآة، وهناك من يدعون الآلهة لمساعدتهم في المحكمة أو يقدّمون لها عرائض ويُسرّون لها بقضاياهم، وهناك ممثّل كبير غدا عجوزا فانيا كان يقوم يوميّا في الكابتوليوم بحركات تمثيليّة كما لو أنّ الآلهة تستسيغ مشاهدة ما كفّ البشر منذ أمد عن مشاهدته. يقيم هناك كلّ نوع من الحرفيّين مقدّما خدماته للآلهة الخالدة." بُعيد ذلك يقول: "لكنّ هؤلاء يقدّمون للآلهة خدمة رغم انتفاء الحاجة إليها غير شائنة ولا معيبة. هناك أيضا نسوة يجلسن في الكابتوليوم يتخيّلن يوبتر يحبّهنّ ولا يخفن مرأى يونون الّتي تُخشى حقّا بوادرها إن شئت تصديق الشّعراء".

   لم يأخذ وارّون نفس الحرّيّة: وجد الجرأة على انتقاد الدّين الأسطوريّ فقط، ولم يجترئ على المدنيّ الّذي مزّقه سينيكا شرّ ممزّق. لكن إن راعينا الحقيقة، فالمعابد حيث تُجرى هذه الأفعال أسوأ من المسارح حيث تُختلق تلك الخرافات. لذا اختار سينيكا للحكيم بالأحرى هذا الموقف من طقوس الدّين المدنيّ: ألاّ يعتبرها في قرارة نفسه من الدّين في شيء، ويتظاهر باحترامها عمليّا. إذ يقول: "لكلّها سيمتثل الحكيم كأعمال تفرضها القوانين لا كعبادات تستحبّها الآلهة"، ويضيف بعد قليل: "وماذا عن جمعنا بين الآلهة في زيجات، بل وبنحو منكر، بين الإخوة والأخوات؟ نزوّج بلّونة لمارس، وفينوس لولكانوس وصلا قية لنبتونوس. أمّا الّذين نتركهم عزّابا فلانعدام قرينات رغم وجود بعض العوانس كبوبولونية وفلقورة ورومينة اللاّئي لا أستغرب ألّم يطلبهنّ أحد للزّواج*. يقول: سنعبد كلّ هذا الجمع الزّريّ من الآلهة الّذي حشدته التّرّهات منذ أمد طويل متذكّرين أنّ عبادتها تقليد أكثر ممّا تطابق الواقع." لا تلك القوانين إذن ولا العادة استنّت ذلك لأنّ الآلهة ترتضيه أو لأنّه يطابق الواقع؛ لكنّ هذا الرّجل الّذي جعلته صحبة الفلاسفة حرّا راح مع ذلك، بصفته عضوا مرموقا بمجلس شيوخ الشّعب الرّومانيّ، يُجلّ ما يستشنع ويفعل ما يشجب ويعبد ما يستنكر. لا شكّ أنّ الفلسفة لقّنته درسا عظيما: أن يتحرّر في العالم من المعتقدات السّخيفة، لكن بسبب قوانين المدينة وتقاليد المجتمع، حتّى إن لم يمثّل دورا على المسرح، فعل ما يشبه ذلك في المعبد. فهو حقيق بالإدانة سيما أنّه كان يفعل ما يفعل رئاء النّاس بنحو يجعل الشّعب يفكّر بأنّه يفعله بصدق، بينما الممثّل على الأقلّ يُمتع باللّعب ولا يخدع بالكذب*.

 

6-11 رأي سينيكا في اليهود

   ضمن ترّهات الدّين المدنيّ، شنّع هذا المفكّر أيضا على شعائر اليهود وبالأخصّ عادة السّبت*، مؤكّدا أنّهم يفعلون ذلك سدى، فهم يضيعون بتعطيل كلّ أعمالهم في ذلك اليوم من كلّ أسبوع حوالي سُبع عمرهم ويضرّون بكثير من الحوائج المستعجلة بالامتناع عن قضائها. مع ذلك لم يجرؤ على ذكر المسيحيّين الّذين باتوا يومذاك على عداء شديد مع اليهود، لا بالثّناء خلافا لعادة وطنه القديمة ولا بالذّمّ خلافا لإرادته الخاصّة ربّما. في حديثه عن اليهود يقول: "في الأثناء قويت عادة هذه الملّة الزّنيمة فصارت اليوم منتشرة في كلّ البلدان: أعطى المغلوبون للغالبين قوانينهم." كان يعجب وهو يقول ذلك، وفي جهله بأساليب العناية الإلهيّة قدّم بصريح العبارة رأيا يبيّن ماذا يرى بخصوص أسباب شعائرهم. إذ قال: "لكنّهم يعرفون أسباب طقوسهم بينما يفعل معظم شعبنا ما يجهل لماذا يفعله." فيما يتعلّق بشعائر اليهود لماذا أو إلى أيّ حدّ شرعتها سلطة ربّانيّة ووضعتها لاحقا وفي الوقت المناسب نفس السّلطة عن شعب الله الّذي كُشف له سرّ الحياة الأبديّة، تحدّثنا في مؤلّفات سابقة، سيما في كتابنا ضدّ المانويّة* وسنتحدّث عنه في هذا المؤلَّف في المحلّ المناسب.

 

6-12 في أنّه لا يمكن الشّكّ، بعد كشف بطلان آلهة الوثنيّين، في عجزها عن منح الحياة الأبديّة لأحد- هي الّتي لا تمنح حتّى الحياة الحاضرة عونا

   والآن نظرا إلى التّمييز بين ثلاثة أنواع من الدّين يدعوها اليونان mythicen وphysicen وpoliticen وبإمكان اللاّتين أن يدعوها fabulosa وnaturalis وciuilis ( أي خرافيّا وطبيعيّا ومدنيّا)، ولأنّه لا يجب ارتجاء الحياة الأبديّة من الخرافيّ الّذي يدينه بكامل الحرّيّة حتّى عبدة الآلهة المتعدّدة الزّائفة، ولا من المدنيّ الّذي ثبت أنّ ذاك جزء منه وتبيّن أنّه شبيه به تماما بل وأسوأ منه، إن لم يكْف أحدا ما قلنا في هذا الكتاب، فليضف إليه التّحاليل الكثيرة الّتي عرضنا في الكتب السّابقة، وبالأخصّ في الرّابع حول الله مانح السّعادة. إذ لأيّ شيء سوى السّعادة من أجل الحياة الأبديّة يجب أن يكرّس النّاس أنفسهم لو كانت السّعادة إلهة فعلا؟ لكن لأنّها ليست إلهة وإنّما هي نعمة من الله، فلأيّ إله سوى مانح السّعادة يجب أن نكرّس أنفسنا نحن الّذين نحبّ ببرّ وتقوى الحياة الأبديّة حيث السّعادة الحقيقيّة التّامّة؟ لكن أعتقد بناء على ما تقدّم أنّه لا ينبغي الشّكّ بتاتا في أنّ لا أحد من تلك الآلهة الّتي تُعبد بذلك النّحو المخزي وتغضب بصفة أخزى بكثير إن لم تُعبد بذلك النّحو، معترفة بذلك بأنّها أرواح نجسة مانحُ السّعادة. فكيف لمن لا يمنح السّعادة أن يمنح الحياة الأبديّة؟ فإنّما ندعو حياة أبديّة تلك الّتي يسودها نعيم سرمديّ. أمّا إن كانت النّفس تعيش في عقاب سرمديّ، تعذَّب فيه كذلك تلك الأرواح النّجسة، فذاك موت أبديّ لا حياة أبديّة. إذ لا موت أكبر ولا أسوأ من موت لا يموت فيه الموتى*. لكن لأنّ من طبيعة النّفس الّتي خُلقت بها خالدةً ألاّ تكون دون أن تكون لها حياة ما، فبالنّسبة لها الموت الأقصى إقصاؤها عن حياة الله لتُخلَّد في العذاب. وحده إذن يمنح الحياة الأبديّة، أي السّعيدة الّتي لا نهاية لها، من يمنح السّعادة الحقيقيّة، الّتي ثبت أنّ آلهة الدّين المدنيّ عاجزة عن منحها، لذا لا يجب أن تُعبد، لا فقط لأجل المصالح الأرضيّة الفانية، كما بيّنّا في الكتب الخمسة السّابقة، بل ولا كذلك لأجل الحياة الأبديّة الآتية بعد الموت، كما اجتهدنا لإثباته في هذا الكتاب، بدعم من الكتب الأخرى. لكن لأنّ قوّة العادة العتيقة تضرب جذورها عميقا، إن بدا لأحد قصور في محاجّتي حول الدّين المدنيّ ووجوب نبذه وهجره، فلينظر في كتاب آخر ننوي إلحاقه بهذا بإذن الله.