القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الخامس- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

5-12 بأيّة أخلاق استحقّ الرّومان الأوّلون أن يوسّع الله الحقّ مُلكهم مع أنّهم لم يكونوا يعبدونه

   لننظر إذن بأيّة أخلاق استحقّ الرّومان ولأيّ سبب شاء الله الحقّ الّذي بيده مُلك الأرض أيضا أن ييسّر لهم توسيع مُلكهم. ليمكننا تحليل ذلك بنحو شاف كتبنا الكتاب السّابق الرّامي إلى إقامة الدّليل على أنّ لا قدرة في هذا المجال لآلهتهم الّتي ارتأوا أن يعبدوها حتّى بترّهات سخيفة، وفصولَ هذا الكتاب السّابقة الّتي وصلنا بها إلى التّخلّص من مسألة القدر كيلا يعنّ لأحد، بعد إقناعه بأنّ لا دور لتلك الآلهة في توسيع وحفظ مُلك الرّومان، إسناد ذلك للأقدار المزعومة بدلا من مشيئة الله العليّ الّتي لا تحدّ قدرتها حدود.

   قديما كان الرّومان الأوائل إذن، حسبما يعلّمنا ويُطلعنا التّاريخ، رغم عبادة آلهة زائفة شأن الأمم الأخرى باستثناء اليهود وتقديم القرابين لا لله بل للشّياطين، "حريصين على نيل الثّناء أسخياء بأموالهم، يحبّون المجد الكثير ويقنعون بالمال اليسير"*، أحبّوا المجد بحماس مشبوب وأرادوا تسخير حياتهم له ولم يتردّدوا في الموت فداه، وبهذا الهوى الطّاغي كبتوا بقيّة الأهواء. أخيرا أحبّوا بكلّ حماس لوطنهم الّذي كان يبدو لهم خزيا أن يخضع ومجدا أن يسيطر أن يعيش حرّا أوّلا ثمّ أن يبسط نفوذه. لذلك لم يتحمّلوا سلطة الملوك، "فاتّخذوا لهم رئيسين يجدّدونهما سنويّا يدعيان قنصلين consules اشتقاقا من consulo "أشار" لا ملوكا reges وحكّاما domini من regno "ملَك" وdomino "حكم"،" وإن بدا أفضل اشتقاق reges من rego، وregnum "مُلك" من reges المشتقّ كما قلنا من rego. وقد رأوا أنّ بذخ الملوك لا يُظهر حسن تدبير القائد ولا ودادة المشير بل غطرسة السّيّد المستبدّ. لذا تلا طردَ الملك تركوينوس وإحلال سلطة القناصل، كما ذكر نفس الكاتب في تقريظه للرّومان، "أنّ المدينة بعد نيل حرّيّتها نمت في فترة وجيزة نموّا مشهودا لا يصدَّق، وقد استولى عليها حبّ لامحدود للمجد."* حبّ الثّناء والمجد هذا حقّق تلك الإنجازات الباهرة الجديرة لا شكّ بالثّناء والمجيدة في اعتبار النّاس.

   يمدح سالّستيوس كذلك رجلين عظيمين وبارزين من عصره: مرقص كاتون وقيوس قيصر قائلا إنّ دولة الرّومان منذ عهد بعيد لم تحظ بزعيم عظيم الفضل لكنّ عصره شهد ذينك الرّجلين العظيمي الفضل والمتبايني المسالك. من بين مناقب قيصر ذكر توقه إلى توسيع الامبراطوريّة وتطوير الجيش وخوض حرب جديدة تتألّق فيها عبقريّته. هكذا كان رجال أفاضل يتمنّون أن تدفع بلّونة للحرب أمما بائسة وتلهبها بسوطها الدّامي لتجد عبقريّتهم مجالا للتّألّق: أجلْ، ذاك ما كان يصنع حبّ الثّناء والمجد. إذن بحبّ الحرّيّة بدءا ثمّ بحبّ السّؤدد والثّناء والمجد صنعوا كثيرا من الإنجازات العظيمة. وبكلا الحافزين يشهد كذلك شاعرهم الكبير، إذ يقول: "كان بورسنّا يأمر بفتح الأبواب لتركوينوس المطرود ويضرب حصارا مشدّدا حول المدينة، وأحفاد أيناس يهبّون للقتال في سبيل الحرّيّة."* كانت العظمة إذّاك في أعينهم أن يموتوا أبطالا أو يعيشوا أحرارا، لكن بعدما نالوا الحرّيّة استولى عليهم حبّ المجد فبدت لهم الحرّيّة بمفردها شيئا قليلا إن لم يطلبوا معها السّيطرة، إذ كانوا يولون اعتبارا فائقا لما يضع نفس الشّاعر على لسان يوبتر: "بل إنّ يونون الّتي في حنقها تثير الآن ثائرة البحر والأرض والسّماء ستعود إلى رأي أحسن وسترعى معي الرّومان أسياد العالم، والأمّة الملتفعة بالتّوجة. تلك مشيئتي. سيأتي بمرّ العقود يوم يُخضع فيه حفدة أسّاراقوس فثية وميقينة السّاطعة بأمجادها، وتفرض على أرغوس الهزيمة نفوذها"*. في الحقيقة لمّا يُنطق فرجيليوس يوبتر بهذه الأقوال كإنباء بأحداث آتية كان يعيد أحداثا تمّت أو يشاهد حدوثها في عصره، لكنّي أردت ذكرها لأبيّن أنّ الرّومان أجلّوا بعد الحرّيّة السّيطرة إلى درجة جعلها واحدة من كبريات مفاخرهم. ذاك ما جعل نفس الشّاعر يقدّم على فنون الأمم الأخرى فنون الرّومان الخاصّة: مُلك وتسيير وإخضاع وإرضاخ الشّعوب قائلا: "أسلّم بأنّ آخرين سيبدعون بنحو أيسر تماثيل نابضة من النّحاس وصورا حيّة من الرّخام، وسيجيدون أكثر فنّ المرافعة ووضع خرائط بالفرجار لمدارات السّماء والإنباء بمطالع النّجوم. أمّا أنت أيّها الرّومانيّ فتذكّر، إذ سيكون ذلك فنّك الخاصّ، أنّك ستبسط سلطانك على الشّعوب، وستفرض عليها قانون السّلام وستعفي الخاضعين وترضخ المتكبّرين"*.

   كان الرّومان يمارسون فعلا هذه الفنون ببراعة أكبر بقدر ما كانوا أقلّ انغماسا في الملذّات وإضعافا لنفوسهم وأجسامهم باشتهاء ومضاعفة الثّروات ومن خلالها إفساد أخلاقهم بسلب أموال المواطنين الضّعفاء وإغداقها على الممثّلين الأخسّاء. لذلك ففي العصر الّذي كان سالّستيوس يشيد وفرجيليوس يتغنّى بتلك المآثر، صار الرّومان الّذين بذّوا ذلك الرّعيل بتفسّخ الأخلاق والثّراء يسعون وراء المعالي والأمجاد لا بتلك الأساليب بل بالتّحيّل والدّسائس. لذلك يقول نفس المؤرّخ: "لكن في البداية، كان يحرّك قلوب أولئك الرّجال، أكثر من حبّ المال، الطّموح الّذي هو أقرب رذيلة إلى الفضيلة. فإنّ الهمام والخامل سويّا يحبّان المجد والشّرف والسّؤدد. لكنّ الأوّل يسعى إليها بالطّريق الصّحيحة بينما الثّاني الّذي تعوزه الوسائل السّويّة يلتمسها بالحيل والدّسائس."* الأساليب السّويّة هي الوصول عن طريق الفضيلة لا الطّموح والدّسيسة إلى الشّرف والمجد والسّؤدد. ويشهد بأنّ الرّومان كانوا يملكونها فطرةً ذانك المعبدان اللّذان شادوا متحاذيين للفضل والشّرف، معتبرين ذينك العطاءين من الله إلهين. من هنا يمكن أن نفهم الغاية الّتي كانوا يلتمسون بالفضيلة وكيف يفوز بها المواطنون الصّالحون: ألا وهي الشّرف. فما كان الأشرار يملكونها رغم طمعهم في حيازة الشّرف الّذي كانوا يجتهدون لنيله بأساليب ذميمة: بالتّحيّل والدّسيسة.

   يتلقّى كاتون ثناء أكبر من نفس الكاتب الّذي يقول عنه: "بقدر ما كان زاهدا في المجد كان يأتيه منقادا."* ولا غرو فالمجد الّذي كان يلهبهم هو حكم بشر على بشر يحملون لهم كثيرا من التّقدير، لذا فأفضل منه الفضيلة الّتي لا تكتفي بشهادة البشر بل يهمّها حكم الضّمير. لذلك يقول الرّسول: "لأنّ فخرنا نحن هو شهادة ضميرنا"*، وفي موضع آخر: "فليختبر كلّ واحد عمله وحينئذ يكون افتخاره من جهة نفسه لا من جهة غيره"*. وبالتّالي ليس المجد والشّرف والسّؤدد، تلك المقاصد الّتي كانوا يصبون إليها ويجتهد لبلوغها الصّالحون بالوسائل السّويّة غايات يتعيّن على الفضيلة أن تتبعها بل هي الّتي يجب أن تتبع الفضيلة. فما من فضيلة حقيقيّة سوى تلك الّتي تتوق إلى هذه الغاية: أن تحقّق للإنسان الخير الّذي لا خيرَ خيرٌ منه. لذا فحتّى الأشراف الّتي يطلبها كاتون ما كان ينبغي طلابها، بل كان ينبغي أن تمنحها المدينة للفضيلة دون أن تطلبها.

   لكن مع أنّ كلا رومانيّي ذلك العصر المذكورين، قيصر وكاتون، كان ذا فضل عظيم، تبدو فضيلة كاتون أقرب إلى الحقّ من فضيلة قيصر. لنر إذن كيف كانت الدّولة في ذلك العصر وكيف كانت قبله في هذا الحكم لكاتون: "لا تحسبُنّ آباءنا جعلوا من مدينة صغيرة دولة كبرى بقوّة السّلاح؛ فلو كان الأمر كذلك لرأيناها اليوم أبهى ممّا كانت بما لا يقاس. فلا شكّ أنّا اليوم أكثر منهم عددا وأعزّ نفرا وأوفر عدّة وخيلا. لكنّ عظمتهم تعود إلى عناصر أخرى لسنا منها على شيء: العمل الدّؤوب بالدّاخل والحكم الرّشيد بالخارج وحرّيّة في المداولة ليس للدّسائس والأهواء عليها من سبيل. في المقابل لدينا التّرف وحبّ المال والعوز على مستوى الدّولة والثّراء الفاحش على مستوى الأفراد. نمدح الغنى ونركن إلى الكسل، ولا تمييز بين الصّالحين والسّيّئين وكلّ المكافآت الّتي تجزي الفضل يحتكرها دونه الطّموح. ولا عجب: فكلّ فرد بينكم لا يعمل بغير ما يملي عليه هواه، وأنتم عبيد في شؤونكم الخاصّة لشهواتكم وفي الشّأن العامّ للمال والمحاباة، وبالنّتيجة تتعرّض الدّولة للسّطو كالمال السّائب."*

   من يسمع هذه الأقوال لكاتون أو سالّستيوس المليئة بالثّناء على الرّومان الأقدمين يحسبهم كانوا كلّهم- أو جلّهم- على تلك الصّورة. لكنّ الواقع خلاف ذلك وإلاّ فغير صحيح ما كتب نفس المؤرّخ وذكرنا في الكتاب الثّاني من هذا المؤلّف، حيث يقول إنّ بغي الأقوياء الّذي أدّى إلى انفصال الفئة الشّعبيّة عن الأشراف وإلى انقسامات أخرى بالدّاخل وُجد منذ البداية، ولم يسد قانون عادل وقويم إلاّ إثر طرد الملوك، طالما ساد الخوف من تركوينوس وحتّى نهاية الحرب الضّارية الّتي خاضها بسببه الرّومان ضدّ إترورية. لكن بعد ذلك، كما يقول، أخضع الأشراف الفئة الشّعبيّة لتسلّطهم واضطهدوها كما يفعل الملوك وافتكّوا أراضيها واستأثروا بالسّلطة بعد إزاحة الآخرين. ولم يوضع حدّ لهذه الصّراعات حيث كانت فئة تريد السّيطرة وأخرى ترفض الخضوع إلاّ باندلاع الحرب البونيقيّة الثّانية، لأنّ الخوف عاد من جديد ينيئ بوطأته ويحوّل جرّاء هاجس أكبر نفوسهم القلقة عن تلك الفتن ويعيدها إلى الوفاق الوطنيّ. لكن بفضل أفراد قلائل، هم فضلاء على طريقتهم، تمّ تسيير مصالح الوطن العليا، وبحسن تدبير هذه الأقلّيّة من أهل الصّلاح أمكن للدّولة بعد مواجهة تلك المحن والخروج منها بتكاليف أقلّ أن تنمو. يقول كذلك نفس المؤرّخ إنّه عند قراءة وسماع المنجزات الكثيرة الّتي حقّقها الشّعب الرّومانيّ في السّلم والحرب على البحر وعلى الأرض اهتمّ باكتشاف ماذا أتاح تلك الإنجازات الرّائعة. ولمّا كان يعلم أنّ الرّومان في كثير من الأحيان تصدّوا بقوّات قليلة لجيوش جرّارة، ويعرف أنّهم بموارد زهيدة خاضوا حروبا ضدّ ملوك واسعي الثّراء، قال إنّه قد ثبت لديه بعد تقليب الأمور على شتّى الوجوه أنّ فضيلة القلّة العظيمة هي الّتي أنجزت تلك المآثر، وبذلك غلب الفقر الغنى والفئة القليلة الفئة الكثيرة. يقول: "ثمّ لمّا فسدت المدينة بتفشّي التّرف والكسل، صارت الجمهوريّة هي الّتي تتدارك بعظمتها رذائل قادتها وساستها."* فضيلة أقلّيّة من المواطنين يلتمسون المجد والشّرف والسّؤدد بالطّريق السّويّة، أي بالفضيلة، هي الّتي يشيد بها كاتون إذن. من هنا العمل الدّؤوب بالدّاخل الّذي ذكره كاتون كوسيلة لتنمية واردات الخزينة مع بقاء الثّروات الخاصّة في حدود متواضعة. ومن هنا طرح أنّ التّدهور النّاشئ من فساد الأخلاق اقترن في المقابل "بالعوز على مستوى الدّولة والغنى على مستوى الأفراد"*.

 

5-13 في حبّ الثّناء الّذي مع كونه رذيلة يُعَدّ شبه فضيلة لأنّه يمنع رذائل أسوأ

   لهذا السّبب بعدما سطع نجم ممالك الشّرق طويلا شاء الله أن تكون هناك بالغرب مملكة متأخّرة في الزّمان لكن أسطع مجدا من حيث الامتداد والعظم*، وآثر منح السّلطة فيها، للحدّ من المفاسد الخطيرة المتفشّية لدى عديد من الأمم، لرجال رعوا بتفان، حبّا للشّرف والثّناء والمجد، مصالح وطنهم حيث كانوا ينشدون المجد ولم يتردّدوا في تقديم سلامته على سلامتهم، كابتين انقيادا لهذه الرّذيلة الوحيدة- حبّ الثّناء- حبّ المال والرّذائل الكثيرة الأخرى. فلعمري قد أصاب من يرى في حبّ الثّناء رذيلة، وهو ما لم يفت الشّاعر هوراتيوس القائل: "إن كان ينفخ صدرك حبّ الثّناء فثمّة كفّارة تستطيع أن تريحك منه: أن تقرأ بذهن صاف هذا الكتيّب ثلاثا."* وفي إحدى قصائده الغنائيّة أنشد نفس الشّاعر: "ستمدّ سلطانك بكبح جماح روحك الطّموح أكثر ممّا لو جمعت تحت نفوذك ليبية ببلاد قادش النّائية وخضع لك وحدك شعب القرطاجنّيّين."* لكنّ من لا يكبتون أهواءهم المعيبة بدعاء الرّوح القدس بإيمان صادق وتقوى حقيقيّة وبحبّ جمال المعقولات يصلحهم على الأقلّ نسبيّا حبّ ثناء النّاس والمجد لا ليجعلهم بررة صدّيقين بل ليجعلهم أقلّ رجسا. حتّى تلّيوس لم يستطع إخفاء ذلك في الكتب الّتي ألّفها حول "الجمهوريّة"، لمّا تحدّث عن تنشئة رجل الدّولة الّذي يرى من اللاّزم تغذيته بحبّ المجد، مذكّرا في هذا السّياق بأنّ أجداده حقّقوا إنجازات كثيرة عجيبة وباهرة بحبّ المجد تحديدا. لم يكونوا إذن يصمدون أمام هذه الرّذيلة، بل كانوا فضلا عن ذلك يرون من اللاّزم إثارتها وتأجيجها معتبرين أنّها نافعة للدّولة*. بل لا يخفي هذه الفكرة الوبيئة حتّى في مؤلّفاته الفلسفيّة حيث يقرّ بها بوضوح كالشّمس في طالعة النّهار. ففي حديثه عن الدّراسات الّتي يجب اتّباعها بغاية الحصول على الخير الحقيقيّ لا على ثناء النّاس الفشوش، طرح هذه الفكرة العامّة الصّالحة لكلّ زمان: "الشّرف يغذّي الفنون والمجد يلهب الجميع لميادين النّشاط الّتي تظلّ مهجورة عند قوم يعرضون عنها."*

 

5-14 في وجوب التّخلّص من حبّ ثناء النّاس لأنّ لا عزّة للبررة في غير الله

   مقاومة هذا الهوى أفضل إذن بدون شكّ من الانقياد له، فكلّ منّا يكون أشبه بالله بقدر ما يكون أنقى من هذا الرّجس. وحتّى إن لم يمكن في هذه الحياة اجتثاثه من أفئدتنا جذريّا لأنّه لا يكفّ عن غواية النّفوس، حتّى تلك الّتي انطلقت على السّراط المستقيم، ليغلبْ على الأقلّ حبَّ المجد فينا حبُّ البرّ، بحيث إن هُجرت عند قوم يعرضون عنها قيم هي مع ذلك سويّة وحسنة فحبّ الثّناء البشريّ ذاته يخجل ويتوارى مفسحا لحبّ الحقّ. فهذه الرّذيلة عدوّ لدود للإيمان والتّقوى إن تفوّق في القلب حبُّ المجد على خشية أو حبّ الله، حتّى أنّ الرّبّ يقول: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون المجد بعضكم من بعض ولا تبتغون المجد الّذي من عند الله وحده؟"* كذلك عمّن آمنوا به وكانوا يخشون الاعتراف به قدّام النّاس يقول صاحب الإنجيل: "أحبّوا مجد النّاس على مجد الله"* وهو ما لم يفعله الحواريّون الأبرار الّذين عند تبشيرهم باسم المسيح في أماكن كان فيها لا محلّ إعراض فقط- وكما يقول شيشرون يظلّ مهجورا باستمرار في قوم ما يلقى عندهم الإعراض- بل كذلك محلّ كره شديد، مستمسكين بما سمعوا من المعلّم الصّالح طبيب الأرواح: "من ينكرني قدّام النّاس أنكره أنا قدّام أبي الّذي في السّماوات وأمام ملائكة الله."* وبين ألوان الخسف والعسف، وبين أشدّ النِّقَم وأقسى الأنكال، لم يثنهم عن التّبشير بالخلاص البشريّ اصطخاب التّشهير البشريّ. ولأنّهم بأعمالهم وأقوالهم الرّبّانيّة وبحياتهم الرّبّانيّة غلبوا القلوب القاسية بنحو ما وبسطوا عليها سلام البرّ، آل إليهم في كنيسة المسيح مجد ساطع، فما استراحوا فيه كما لو كان غاية فضيلتهم بل ردّوه هو أيضا إلى مجد الله الّذي بنعمته كانوا على ذلك الخلق العظيم، ومن هذا الضّرام كانوا يلهبون الّذين كانوا يرعون أرواحهم بحبّ من بنعمته سيصبحون هم أيضا أمثالهم. فلكيلا يلتمسوا من صلاحهم ثناء البشر قال لهم معلّمهم وهو يعظهم: "احترزوا ألاّ تصنعوا برّكم قدّام النّاس لكي ينظروكم وإلاّ فليس لكم أجر عند أبيكم الّذي في السّماوات."* لكن بالمقابل كيلا يفهموا إرشاده خطأً فيخشوا أن يرضى النّاس عنهم ويكونوا أقلّ نفعا بإخفاء صلاحهم قال لهم مبيّنا لأيّة غاية يجب عليهم إظهاره: "فليضئ نوركم قدّام النّاس ليروا أعمالكم الصّالحة ويمجّدوا أباكم في السّماوات."* إذن "لا لكي ينظروكم" أي ابتغاء جعلهم يلتفتون إليكم، لأنّكم لستم بذاتكم شيئا، بل "ليمجَّد أبوكم الّذي في السّماوات" والّذي بتوجيه وجوهكم إليه تجعلونهم يصيرون أمثالكم. اتّبَعوا أولئك الشّهداء الّذين فاقوا لفيف سكيوولا وكرتيوس ودكيوس الأب والابن لا بإنزال الأنكال بأنفسهم بل بالصّبر على ما يُنزَل بهم من الأنكال، وبفضيلتهم الحقيقيّة لأنّها تنبع من تقوى حقيقيّة، وبكثرتهم الّتي لا تحصى. لكن لأنّ أولئك كانوا ينتمون إلى المدينة الأرضيّة حيث كانت الغاية المنشودة من كلّ تضحياتهم في سبيلها سلامتها ومُلكا لا في السّماء بل على الأرض، لا في الحياة الأبديّة بل في هذه الدّنيا حيث يمضي الأموات ويتبعهم من هم آيلون مثلهم إلى الموت، فماذا يبغون غير المجد الّذي كانوا يريدون أن يحيوا بفضله بعد موتهم بنحو ما في أفواه المشيدين بهم.

 

5-15 في الأجر الدّنيويّ الّذي كافأ الله به أخلاق الرّومان الفاضلة

   لأولئك الّذين ما كان الله بمانحهم الحياة الأبديّة مع ملائكته الأبرار في مدينته السّماويّة- فإنّما تقود إليها التّقوى الحقيقيّة المخلصة لله الحقّ وحده الدّين والنُّسُك الّتي يدعوها اليونان latreia "عبادة ربّانيّة"- لو لم يمنح المجد الدّنيويّ ممثّلا في أعظم مملكة وُجدت على الأرض لما تلقّوا جزاء مبرّاتهم، أعني فضائلهم الّتي كانوا يحاولون بها بلوغ ذلك المجد العظيم. فعن مثل أولئك الّذين نراهم يعملون الصّالحات ابتغاء ثناء النّاس يقول الرّبّ كذلك: "الحقّ أقول لكم إنّهم أخذوا أجرهم."* هكذا ضحّوا بمصالحهم الخاصّة في سبيل المصلحة المشتركة أي في سبيل الدّولة، وارتخصوا أموالهم في سبيل خزينتها، وقاوموا شحّ أنفسهم، ورعوا مصالح الوطن بفكر حرّ لا يخضع للجرائم كما تحدّدها قوانينهم ولا للأهواء، بكلّ هذه الأساليب الّتي هي في عرفهم الطّريق السّويّة وصلوا إلى العلا والسّؤدد والمجد. إذ يحظون بالتّكريم تقريبا في كلّ الأمم، وفرضوا قوانين دولتهم على عديد من الأمم، واليوم يشيد بهم الأدب والتّاريخ تقريبا في كلّ الأمم: ليس ثمّة إذن ما يشكون في عدالة الله العليّ الحقّ فقد وفّاهم أجرهم ولم يلتْهم منه شيئا.

 

5-16 في أجر الصّدّيقين مواطني المدينة الأبديّة الّذين يفيدهم التّفكّر في أمثلة فضائل الرّومان

   لكن يختلف كلّيّا أجر الصّدّيقين مواطني المدينة الأبديّة الّذين يتحمّلون هنا ألوانا من الخسف في سبيل مدينة الله الّتي لا يحبّها محبّو هذا العالم. تلك المدينة أبديّة لا مولد فيها ولا ممات، هناك توجد الغبطة الحقيقيّة التّامّة وما بإلهة هي بل هي هبة الله، منها تلقّينا عربون إيماننا وإلى بهائها نتوق طوال رحلتنا الدّنيويّة، هناك لا تطلع الشّمس على الصّالحين والأشرار سويّا، بل على الصّالحين وحدهم تسطع شمس البرّ هناك، ولا حاجة فيها إلى العمل الدّؤوب لإثراء الخزينة العامّة مع بقاء الثّروات الخاصّة في مستويات محدودة فهناك المال المشترك هو الحقّ. لذلك فما بقصد فوز أولئك القوم بذلك الأجر فقط وُسِّع مُلك الرّومان حائزا مجدا بشريّا عظيما، بل كذلك لينظر مواطنو تلك المدينة الأبديّة طوال تغرّبهم هنا نظرة النّبيه المستبصر إلى تلك الأمثلة ويروا كم من الحبّ  يجب أن يولوا الوطن العلويّ لأجل الحياة الأبديّة إن كانت مدينة الأرض تحظى من مواطنيها بذلك الحبّ الجمّ لأجل المجد البشريّ.

 

5-17 ماذا استفاد الرّومان ممّا خاضوا من الحروب وماذا حملوا لمن غلبوا من الأمم

   إن اعتبرنا فعلا هذه الحياة الفانية الّتي تنقضي وتنتهي في أيّام معدودات، فيم يهمّ تحت سلطة من يعيش الإنسان الآيل إلى الموت على أيّة حال إن لم يُجبره من يحكمون على المعاصي والآثام*؟ وهل ألحق الرّومان ضررا بالأمم الّتي أخضعوها وفرضوا عليها تنظيماتهم فيما عدا مجازر الحروب الرّهيبة الّتي تمّ بها ذلك؟ لو تمّ الأمر بالحسنى لكان ذلك أوفق وأبهى* لكن لن يكون فيه إذّاك مجد للمنتصرين. فقد كان الرّومان والحقّ يقال يعيشون في ظلّ نفس القوانين الّتي كانوا يفرضونها على غيرهم. لو تمّ ذلك بدون مارس وبلّونة، لما كان إذّاك لفكتورية هي الأخرى محلّ ولا وُجد منتصر حيث لم يقع قتال، أفما كانت الحالة ستتساوى إذّاك تماما بالنّسبة للرّومان والأمم الأخرى؟ سيما لو تمّ في الإبّان ما تمّ بعدُ مجّانا وبمنتهى المروءة، قبول كلّ من يعيشون في كنف الامبراطوريّة الرّومانيّة في المجتمع المدنيّ كمواطنين رومان بحيث عُمّم على الجميع ما كان من قبل امتياز فئة قليلة*، وفقط بشرط إعالة الفئة الشّعبيّة الّتي لا تملك أراضي من المال العامّ، وهو إنفاق تسديده بفضل مسيّرين أكفاء لماليّة الدّولة من قبل أمم راضية أيسر من فرضه عنوة على أمم مغلوبة.

  فعلا لا أرى أيّ فرق بالنّسبة للأمن والأخلاق الفاضلة، الّتي هي حقّا أسباب العيش الكريم، بين أن يغلب هؤلاء أو يُغلب هؤلاء، باستثناء أبّهة المجد البشريّ الزّائفة الّتي نال بها أجرهم من اتّقدوا حماسا له وخاضوا حروبا حامية في سبيله. ألا يدفعون ضرائب على أراضيهم؟ أيُسمح لهم بتعلّم ما لا يُسمح به لغيرهم؟ ألا يوجد في البلدان الأخرى أعضاء كثيرون بمجلس الشّيوخ لا يعرفون رومية عيانا*؟ دع الفخفخة جانبا: هل جميع البشر سوى بشر؟ ولئن أقرّ باطل الدّنيا أن ينال شرفا أكبر من هم في عرفه أفضل، لا ينبغي إعطاء وزن كبير للشّرف البشريّ فالدّخان لا وزن له. لكن لنستفد في هذه الأمور من نعمة الله ربّنا: لنعتبر كم احتقر من المغريات وكم تحمّل من المشقّات وكم قهر من الشّهوات في سبيل المجد البشريّ أولئك الّذين استحقّوا الفوز به جزاء تلك الفضائل ولنجد في ذلك أيضا عبرة لكبت غرورنا. فما دام يفصل مثل ما بين السّماء والأرض تلك المدينة الّتي وُعدنا بالعزّة والمُلك فيها عن مدينة هذا العالم، والحياة الأبديّة عن السّعادة الدّنيويّة، والمجد الحقّ عن الثّناء الزّائف، ومجتمع الملائكة عن مجتمع الفناة، ونور خالق الشّمس والقمر عن نور الشّمس والقمر، لا يحسبنّ مواطنو ذلك الوطن الجليل أنّهم أنجزوا صنيعا عظيما إن عملوا صالحا أو قاسوا مشاقّ للفوز به، بينما صنع أولئك القوم لأجل الوطن الأرضيّ الّذي كانوا يمتلكونه تلك الأعمال العظيمة وقاسوا تلك المشاقّ الكأداء، سيما وفي غفران الخطايا الّذي يجمع إلى الوطن الأبديّ أفواج المواطنين ما يشبه شبه الشّيء بظلّه ذلك المأوى الّذي بناه رومولوس حيث حشد الأمان من التّتبّعات على كلّ الجرائم الجماعة الّتي يعود إليها تأسيس تلك المدينة.

 

5-18 كم يحرو بالمسيحيّين نبذ التّباهي إن صنعوا شيئا حبّا للوطن الأبديّ ما دام الرّومان قد صنعوا مآثر عظيمة من أجل المجد البشريّ والمدينة الأرضيّة

   أيّة عظمة إذن في أن نحتقر في سبيل ذلك الوطن الأبديّ والسّماويّ كلّ مغريات هذا العالم مهما كانت طلاوتها وفتنتها، إن كان بروتوس لأجل هذا الوطن الزّمنيّ والأرضيّ قد أقدم على قتل بنيه، وهو ما لا يجبر وطن السّماء أحدا على فعله؟ لا شكّ أنّ قتل البنين أعسر ممّا يُطلب منّا أن نفعل من أجل ذلك الوطن: أن نعطي المساكين أو نفرّط إن عرضت لنا محنة أرغمتنا على ذلك من أجل البرّ والإيمان في ما كنّا نودّ جمعه وحفظه من أجل بنينا. فما تجعلنا نحن ولا أبناءنا سعداء الثّروات الدّنيويّة الّتي لا بدّ لنا من إضاعتها في حياتنا أو تركها بعد وفاتنا ملكا لأشخاص لا ندريهم وقد لا نريدهم، بل واهب السّعادة هو الله الّذي هو ثروة القلوب الحقيقيّةُ. أمّا بروتوس فحتّى الشّاعر الّذي يشيد به يشهد بشقائه لقتله بنيه، إذ يقول: " لم ير الأب بدّا، حيال دسائس ابنيه لإثارة حروب جديدة، من إيقاع العقاب عليهما لأجل الحرّيّة الحسناء. يا لشقائه، أيّا كان حكم النّشء على هذه الفعال!" ثمّ من باب تعزية ذلك الأب الشّقيّ يردف: "غلب فيه حبّ الوطن وظمأ لامحدود للأمجاد."* الحرّيّة وحبّ الثّناء، ذانك هما الحافزان اللّذان دفعا الرّومان إلى فعل أشياء جديرة بالإكبار. إن أمكن إذن من أجل حرّيّة من مآلهم الفناء، وحبِّ الثّناء الملتمس من فناة، أن يقتل أب بنيه، فما العظمة في أن نقبل، من أجل الحرّيّة الحقيقيّة الّتي تخلّصنا من سيطرة الإثم والموت والشّيطان، لا بدافع حبّ الثّناء البشريّ بل بإملاء المحبّة الّتي تدفعنا إلى تحرير أناس مثلنا لا من مَلك كتركوينيوس بل من الشّياطين ورئيس الشّياطين، لا قتل أبنائنا بل عدّ مساكين المسيح ضمن أبنائنا؟

   إن كان زعيم رومانيّ آخر يدعى تركواتوس قتل ابنه لأنّه قاتل لا ضدّ وطنه بل ولو لأجل وطنه لكن ضدّ أوامره، أي مخالفا ما أمر به أبوه قائد الجيش*، ردّا على استفزاز العدوّ ومدفوعا بحماس الشّباب، ورغم انتصاره، كيلا ينجم من هذا المثال على الاستخفاف بأمره من المساوئ أكثر ممّا في مجد قتل عدوّ من المزايا، فهل من مبرّر ليتباهى من يزدرون التزاما بقوانين الوطن الخالد كلّ الخيرات الدّنيويّة الّتي يحبّونها أقلّ كثيرا من أبنائهم؟

   إن كان فوريوس كاملّوس، رغم جحود وطنه الّذي وضع عن كاهله نير الوايسيّين أعدائه اللّدّ والّذي أدانه استجابة لافتراءات حسّاده، حرّره مجدّدا من الغال لأنّه لا يؤثر عليه مكانا آخر يمكنه العيش فيه مكلّلا بمجد أسطع، فلِم يزهو كما لو صنع مأثرة جليلة من تعرّض في الكنيسة ربّما ظلما بفعل أعداء جسديّين إلى إهانة كبرى فلم ينضمّ إلى أعدائها المارقين أو يؤسّس ضدّها بدعة ما، بل ظلّ يذبّ عنها بكلّ طاقاته ضدّ بدع المارقين الضّارّة، إذ ليس من كنيسة سواها يمكنه فيها لا العيش مكلّلا بمجد البشر بل احتياز الحياة الأبديّة*؟

   إن كان موقيوس لإبرام السّلم مع الملك بورسنّا بعدما ضيّق الخناق على الرّومان بحرب ضارية، لأنّه لم يوفّق في قتل بورسنّا وقتل خطأ شخصا آخر مكانه، سلك أمام عينيه يده في موقد مستعر، قائلا له إنّ كثيرين على استعداد لتحمّل مثل ما رأى منه قد ائتمروا به ليقتلوه، فدفع الرّعب من تلك الشّجاعة ومن المؤامرة الملك وبدون أدنى تردّد إلى إنهاء الحرب وعقد سلم، فمن يعدّ أنّ له مؤهّلات كافية للفوز بملكوت السّماء إن مدّد لأجله، لا يدا واحدة وبمحض اختياره، بل بقسر عدوّ يضطهده كلّ جسمه في اللّهب؟

   إن استحثّ كرتيوس وهو بكامل عدّته حصانه فألقى بنفسه في هاوية سحيقة استجابة لطلب آلهته بلسان العرّافين بأن يُلقى فيها بأفضل ما عند الرّومان، إذ فهموا أنّ أفضل ما لديهم الرّجال المسلّحون واستقرّ في أذهانهم أنّ عليهم إلقاء رجل بكامل عدّته نزولا عند طلب الآلهة، فلِم يظنّ أنّه أنجز عملا بطوليّا من تعرّض لعنت عدوّ بسبب عقيدته فواجه موتا شبيها، لا ملقيا إليه بنفسه مختارا بل مدفوعا من ذاك العدوّ قسرا وهو قد تلقّى من الرّبّ ملك وطنه السّماويّ أمرا إلهيّا أثبت: "لا تخافوا ممّن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النّفس"*؟

   إن كرّس دكيوس الأب والابن نفسيهما بتعاويذ طقوسيّة قربانا ليترضّيا بدمهما الآلهة الغضبى لتنقذ الجيش الرّومانيّ، فلا يتباه قطّ شهداؤنا الأبرار كما لو صنعوا صنيعا يؤهّلهم للانضمام إلى ذلك الوطن حيث النّعيم الحقّ الأبديّ إن استمرّوا حتّى إراقة دمائهم في النّضال، محبّين لا فقط إخوانهم الّذين لأجلهم تراق، بل وحتّى أعداءهم الّذين بأيديهم تراق كما أُمروا وفق عقيدة المحبّة ومحبّة العقيدة*.

   إن كان مرقس بُلْوِلّوس لمّا وافاه أثناء الاحتفال بإهداء معبد يوبتر ويونون ومينرفة نعي ابنه كذبا بتدبير حسّاده كي ينسحب لتأثّره من النّبإ فيفوز زميله بمجد ذلك الإهداء لم يعره بالا حتّى أنّه أمر بمواراة الجثّة دون مراسيم دفن، مغلّبا في قلبه حبّ المجد على ألم الثّكل، فلِم يحسب أنّه أنجز عملا عظيما في سبيل التّبشير بالإنجيل المقدّس الّذي به يخلَّص من شتّى الضّلالات ويُجمع مواطنو الملكوت العلويّ من قال له الرّبّ وهو منشغل بهاجس دفن أبيه: "اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم."*

   إن كان ريقولوس لحرصه على ألاّ يُخلف العهد الّذي أعطى أعداءه الشّرسين عاد إليهم من رومية متذرّعا على ما يقال للرّومان الّذين كانوا يريدون استبقاءه بأنّه بعدما أسره الأفارقة لم يعد يمكنه الاحتفاظ بينهم بشرف المواطن الكريم، ولقي على أيدي القرطاجنّيّين عذابا وبيلا لأنّه عارض عرضهم في مجلس الشّيوخ الرّومانيّ، فأيّة أنكال لا يجب أن نستهين بها إخلاصا لعهد ذلك الوطن الّذي يقودنا إليه إخلاص الإيمان له؟ و"ماذا يردّ إلى الرّبّ عن جميع ما كافأه به"* من قاسى في سبيل الإيمان الواجب له مثل ما قاسى ريقولوس ليفي بالعهد الّذي أعطى أعداءه المتعطّشين لدمه؟

   كيف يجرؤ المسيحيّ على الفخر بفقره الاختياريّ الّذي ييسّر له السّير في رحلة هذه الحياة الّتي هي له بلاد غرية على الطّريق الّتي تقوده إلى الوطن الحبيب حيث الله هو الثّروة الحقيقيّة، لمّا يسمع أو يقرأ أنّ لوقيوس والريوس الّذي مات وهو على رأس منصبه كقنصل كان فقيرا إلى درجة أنّ تبرّعات جُمعت له من الشّعب لدفع نفقات دفنه؟ أو لمّا يسمع أو يقرأ أنّ كونتيوس كِنكِنّاتوس الّذي كان يملك أربعة فدادين يحرثها بيديه جيء به من خلف محراثه لتقليده خطّة الدكتاتوريّة الأشرف من القنصليّة، وحقّق بالانتصار على الأعداء مجدا ساطعا ومع ذلك بقي على نفس الفقر؟ وكيف يدّعي أنّه قام بعمل جليل من لم يغوه أيّ مكسب من متاع الدّنيا عن نشدان المواطنة بالمملكة الأبديّة إن علم أنّ فبريكيوس لم يستطع ما أغدق عليه بيرّوس ملك إبيروس من عطايا سنيّة ولا وعده بإقطاعه ربع مملكته تحويله عن رومية وطنه وآثر البقاء فيها شخصا عاديّا وفقيرا؟ فمع تيسّر موارد وافرة وثروات طائلة للجمهوريّة، أي شأن الشّعب أو شأن الوطن أو الشّأن المشترك، كانوا هم أنفسهم على المستوى الخاصّ فقراء حتّى أنّ أحدهم بعد تقلّد القنصليّة مرّتين رُفت من مجلس الشّيوخ الّذي لم يكن يضمّ سوى فقراء بلائحة تشهير من الحسيب بعدما ضُبطت عنده آنية بقيمة عشرة أرطال من الفضّة*. هكذا كانوا فقراء ويثرون بانتصاراتهم في نفس الوقت الخزينة العامّة، أفلا يدرك كلّ المسيحيّين الّذين يجعلون لغرض أرقى "كلّ شيء مشتركا بينهم" وفق ما كتب في "أعمال الرّسل" "فيوزَّع لكلّ واحد على حسب احتياجه" "ولا أحد يقول عن شيء يملكه إنّه خاصّ به بل كان لهم كلّ شيء مشتركا"*، أنّه لا يحقّ لهم أن ينتفشوا زهوا بفعل ذلك للحصول على مقام بجوار الملائكة بينما فعل أولئك الجاهليّون نفس الشّيء تقريبا حفاظا على مجد الرّومان؟ أكانت ترى هذه الخلال وأخرى يمكن أن نجدها في أدبيّاتهم تتمتّع بمثل تلك الشّهرة وتحظى بمثل تلك الإشادة لو لم تتوسّع الامبراطوريّة ممتدّة طولا وعرضا بفضل نجاحاتهم الباهرة؟ إذن بذلك المُلك الواسع المستديم الحائز بفضائل رجاله العظماء صيتا ومجدا، نالوا أجر جهدهم الّذي كانوا ينشدون وفي نفس الوقت تقدَّم لنا أمثلة  مليئة بالعبر الّتي نحن بأمسّ الحاجة إليها، ليخزنا منخاس الخجل إن لم نلتزم في سبيل مدينة الله المجيدة فضائل كالّتي التزم أولئك الجاهليّون في سبيل مجد مدينة الأرض، وإن التزمناها لا ينفخنا الغرور، "فإنّ آلام هذا الدّهر لا تقاس بالمجد المزمع أن يتجلّى فينا"* كما يقول الرّسول. أمّا في ما يتعلّق بالمجد الإنسانيّ والخاصّ بالزّمان الحاضر فقد كانت حياتهم في تقديرنا على حظّ منه غير يسير. لذلك فحتّى اليهود الّذين قتلوا المسيح، بعدما كشف العهد الجديد الّذي كان مخفيّا في العهد العتيق أنّ عبادة الله الواحد الحقّ لا تُبتغى منها النّعم الأرضيّة والزّمنيّة الّتي تمنحها العناية الإلهيّة للصّالحين والأشرار بلا تفرقة بل الحياة الأبديّة والنّعم الّتي لا تبلى والمواطنة في المدينة العلويّة، قُدّموا عدلا على مذبح مجد الرّومان فغلب هؤلاء الّذين بفضائلهم طلبوا ونالوا* المجد الدّنيويّ أولئك الّذين لرذائلهم الكبيرة صدّوا وقتلوا واهب المجد الحقيقيّ والمدينة الأبديّة.

 

5-19 فيم يختلف حبّ المجد وحبّ السّيطرة

   هناك بالتّحقيق فرق بين حبّ المجد البشريّ وحبّ السّيطرة؛ فإن صحّ غالبا أنّ من يستلذّ المجد الإنسانيّ أكثر ممّا يجدر يصبو كذلك بحرارة إلى السّيطرة، مع ذلك يجتهد من يتوقون إلى المجد الحقيقيّ، حتّى ذاك المستمدّ من ثناء البشر، في ألاّ يسوؤوا من يحكمون عليهم بسداد. فهناك في مجال الأخلاق خلال حسنة كثيرة يحكم عليها بسداد كثيرون وإن لم يملكها كثيرون؛ بهذا الخلق الكريم يسعى إلى المجد والسّؤدد أو السّيطرة من يقول عن مثلهم سالّستيوس: "لكنّه يسعى إلى ذلك بالطّريق الصّحيحة"* غير أنّ من يرغب، بدون حبّ المجد هذا الّذي يجعل المرء يخشى أن يسوء ذوي الحكم السّديد، في السّيادة والسّيطرة كثيرا ما يسعى إلى الحصول على ما يحبّ حتّى بالجرائم السّافرة. لذلك فإنّ من يتوق إلى المجد يسعى إليه بالطّريق الصّحيحة أو إن نشده بالحيل والدّسائس يحبّ على الأقلّ أن يبدو بمظهر الشّخص المستقيم، خلافا لما هو في الحقيقة. ومن هنا ففضيلة كبرى عند من أوتي مكارم الأخلاق الاستخفاف بالمجد، لأنّ الله به بصير حتّى إن خفي عن حكم البشر. فمهما يفعل أمام عيون البشر ليبدو بمظهر المستخفّ بالمجد، إن ظُنّ أنّه يفعل ذلك للفوز بمزيد من الثّناء أي مزيد من المجد، لن يظهر لعيونهم المرتابة بغير ما يوافق ريبتهم. لكنّ المستخفّ بإطراء المادحين يستخفّ كذلك بسفاهة المرتابين الّذين لا يستخفّ مع ذلك، إن كان حقّا من أهل الصّلاح، بخلاص نفوسهم لأنّ من أوتي من روح الله الفضائل فقد أوتي استقامة عظيمة تجعله يحبّ حتّى أعداءه، ويحبّهم إلى درجة الحرص على إصلاح مبغضيه وثالبيه والرّغبة في أن يكونوا رفاقه لا في الوطن الأرضيّ بل في العلويّ. أمّا مادحوه فمع ازدرائه لتملّقهم لا يزدري حبّهم ولا يريد ألاّ يكون عند حسن حظّ مادحيه كيلا يخيّب رجاء محبّين. ولذلك يبذل قصارى جهده ليُحمد بالأحرى ذاك الّذي يؤتي الإنسان كلّ ما يستحقّ الحمد فيه. أمّا من يستخفّ بالمجد ويحبّ السّيطرة فهو يفوق الحيوانات بوحشيّته أو بتفسّخه. كذلك كان بعض الرّومان الّذين رغم فقدان الاهتمام بتقدير النّاس لم يخلوا* من حبّ السّلطة. يخبرنا التّاريخ عن كثيرين منهم، لكنّ نيرون قيصر أوّل من بلغ من هذه الرّذيلة الزّبى والذّروة والمنتهى: فمن فرط تفسّخه لم يكن يُرى من داع ليُخشى منه أيّ عمل فيه أثارة من رجولة، ومن شدّة وحشيّته لم يكن يُظنّ فيه أدنى تخنّث لو لم يُعرف بذلك. لكن حتّى هؤلاء لا يؤتوْن السّلطان والكبرياء في الأرض من غير عناية الله العليّ لمّا يرى البشريّة تستحقّ حكّاما مثلهم*. كلام الله حول هذه المسألة جليّ، إذ تقول حكمته: "بي الملوك يملكون <والسلاطين يحكمون الأرض>."* لكن لئلاّ يُفهم بالسّلاطين الملوك الطّغاة الجوَرة بل الملوك الأقوياء بالأحرى حسب معنى الكلمة القديم- ومنه قول فرجيليوس: "سيكون علامة سلام لديّ أنّه لمس يد سلطانهم tyranni"*-، قيل في موضع آخر من الكتاب المقدّس بصريح العبارة: "فإنّه يملّك الإنسان المنافق من أجل عثرات الشّعب."*

   ها أنا إذن قد عرضت بنحو واف قدر مستطاعي لأيّ سبب أعان الله الواحد الحقّ والعادل الرّومان الصّالحين بمنظور مدينة الأرض على الفوز بشرف إنشاء مُلك بمثل تلك العظمة. مع ذلك قد يكون هناك سبب آخر أخفى: جدارات البشر المختلفة المعلومة لله أكثر ممّا هي لنا، إذ من الثّابت للصّادقي التّقوى أنّ لا أحد يستطيع، بدون التّقوى الحقيقيّة أي بدون العبادة الحقيقيّة لله الحقّ، امتلاك الفضيلة الحقيقيّة، وأنّ الفضيلة لا تكون حقيقيّة إن وُظّفت لخدمة المجد البشريّ. لكنّ من لا ينتمون للمدينة الأبديّة الّتي تدعى في كتابنا المقدّس مدينة الله* يكونون أنفع لمدينة الأرض إن امتلكوا على الأقلّ تلك الفضيلة ممّا هي الحال إن لم يمتلكوها. أمّا من أوتوا التّقوى الحقيقيّة ويعيشون حياة صلاح، إن توفّر لديهم علم بفنّ سياسة الشّعوب فلا شيء أنسب لمصالح البشر من أن تكون لهم بما رحمة من الله الوَلاية عليهم. غير أنّ أولئك الصّالحين، مهما تيسّر لهم أن يملكوا من الفضائل، لا ينسبونها لغير نعمة الله الّذي منّ بها عليهم وهم راغبون ومؤمنون ومستجْدون جوده* وفي نفس الوقت يدركون كم ينقصهم لبلوغ غاية البرّ كما توجد في مجمع الملائكة الأبرار الّذي يحاولون جاهدين تأهيل أنفسهم للانضمام إليه. لكن مهما نُوّه ومهما أشيد بالفضيلة الّتي تسخّر نفسها في غياب التّقوى الحقيقيّة لخدمة المجد البشريّ، لا يمكن مطلقا مقارنتها حتّى بالبدايات المتواضعة للصّدّيقين الّذين وضعوا في نعمة ورحمة الله رجاءهم.

 

5-20 توظيف الفضيلة لخدمة المجد البشريّ لا يقلّ شناعة عن تسخيرها للشّهوة الجسديّة

   اعتاد الفلاسفة الّذين يضعون الخير الأعظم بالنّسبة للإنسان في الفضيلة ذاتها، على سبيل تهزئة بعض الفلاسفة الّذين يُقرّون الفضائل لا محالة لكنّهم يتّخذون معيارا وغايةً لها اللّذّة الجسديّة الّتي يجب في رأيهم أن تُنشد لذاتها بينما تُنشد لأجلها الفضائل الأخرى، أن يرسموا بالكلمات لوحة تصوّر مذهب خصومهم تتربّع فيها اللّذّة على العرش ملكةً منعّمة، ومن حولها الفضائل إماء قائمات على خدمتها فهنّ طوع بنانها ورهن إشارتها يفعلن ما يؤمرن على الفور: فتوعز إلى الحكمة  أن تبحث لها بعناية عن الوسائل الّتي تؤمّن لها استمرار المُلك والسّلامة، وإلى العدالة أن تُعِدّ لها الجمائل الّتي تمكّنها من عقد صداقات كفيلة بجلب الرّفاهية للجسم وألاّ ترتكب أيّة إساءة مخافة ألاّ يتاح للّذّة العيش الآمن إن انتُهكت القوانين، وإلى الشّجاعة  إن ألمّ ألم بالجسد لا يودي بحياته أن تجعل سيّدتها بعزم في خاطرها لتسكّن بذكرى الحلاوى الماضية نغزات الألم الحاضر، وإلى خلّة الاعتدال  أن تأخذ من الطّعام أو بقيّة المستلذّات القدر المعقول حتّى لا يحدث الإفراط تخمة تخلّ بالصّحّة فتتأذّى اللّذّة الّتي يجعلها الأبيقوريّون بالتّحديد في صحّة الجسد أوّلا وقبل كلّ شيء. هكذا تسخَّر الفضائل بكلّ شرف منزلتهنّ لخدمة اللّذّة المنتصبة عليهنّ ملكة متجبّرة سيّئة الخلق. لا شيء أخزى ولا أقبح ولا آذى لأبصار مستقيمي القلوب من هذه الصّورة على ما يقولون، وهم محقّون في ما يقولون*. لكن لا إخال الصّورة ستكون حقّا بالجمال المطلوب كذلك لو حُوّرت بحيث تكون الفضائل في خدمة المجد البشريّ بدلا من اللّذّة. فمع أنّ المجد ليس بالسّيّدة المرهفة المرفّهة، إلاّ أنّه نفّاج ملؤه الغرور، لذلك لا يليق أن تخدمه الفضائل مع ما هي عليه من الصّلابة والمتانة، فلا تتدبّر الحكمة شيئا ولا توزّع العدالة شيئا ولا تتحمّل الشّجاعة شيئا ولا يلطّف الاعتدال شيئا إلا ابتغاء إرضاء البشر وخدمة مجد فشوش. ولا يتبرّأنّ من مثل هذا الموقف الشّائن من يستهينون بحُكم الغير عليهم بدعوى الاستخفاف بالمجد، فيزعمون أنّهم حكماء وينتفشون رضى عن أنفسهم، فإنّ فضيلتهم- إن كانت فضيلة أصلا- تخضع بنحو آخر لنوع من الثّناء البشريّ: أوليس إلاّ بشرا هذا الّذي يملأه الرّضى عن ذاته؟* لكنّ من يوجّه وجهه بتقوى حقيقيّة إلى الله الّذي يحبّه ويضع فيه ثقته ورجاءه يولي اهتمامه للأمور الّتي يُساء فيها بنفسه أكثر من الأخرى، إن وُجدت، الّتي لا ترضيه هو بقدر ما ترضي الحقّ؛ ولا ينسب هذه الخلال الّتي بات ممكنا بها أن ينال رضى الغير لغير رحمة من يخشى أن يسوءه، وهو يشكره على ما شفى من أسقام نفسه ولا ينقطع عن دعائه ليشفي ما بقي منها.

 

5-21 في أنّ مُلك الرّومان أقامه الله الّذي منه كلّ سلطان وتسيّر عنايته الأكوان 

   لا ننسبْ والحال تلك القدرةَ على منح الممالك والامبراطوريّات لغير الله الحقّ الّذي يمنح السّعادة في ملكوت السّماء للأبرار وحدهم، لكنّه يؤتي مُلك الأرض المتّقين والكافرين كما يشاء ولا حيف في ما يشاء. ولئن قلنا لا جرم شيئا ممّا شاء أن يفتح لنا، فأمر غير يسير ويفوق طاقاتنا بكثير أن نستبين خفايا قلوب العباد ونحكم بعد الفحص الدّقيق على جدارات شتّى الدّول. إذن فالله الواحد الحقّ الّذي لا يغيب عن الجنس البشريّ لحظة عدله وعونه آتى الرّومان المُلك في الوقت الّذي شاء وبالقدر الّذي شاء، وآتاه الأشوريّين أو كذلك الفُرس الّذين كانوا يعبدون إلهين فقط: واحدا خيّرا وآخر شرّيرا كما تنصّ كتبهم. هذا بغضّ النّظر عن الشّعب اليهوديّ الّذي ذكرت عنه في ما تقدّم ما يفي بالمقصود حسبما بدا لي والّذي لم يعبد سوى إله واحد ومتى ملك. لا شكّ إذن أنّ من أعطى الفُرس زرعا دون أن يعبدوا الإلهة سيقيتية وعطايا أخرى ممّا تخرج الأرض دون أن يعبدوا كلّ تلك الآلهة الّتي وكّلها هؤلاء بشؤون الزّراعة: إلها لكلّ شأن أو حتّى عدّة آلهة لشأن واحد، هو نفسه الّذي آتاهم المُلك دون أن يعبدوا الآلهة الّتي ظنّ هؤلاء أنّهم مدينون لعبادتها بمُلكهم*. والشّأن مماثل في ما يخصّ الأفراد: نفس الإله أعطى السّلطة لماريوس كما لقيوس قيصر، لأغسطس كما لنيرون، لوِسباسيانوس الأب والابن الامبراطورين السّمحين كما لدومتيانوس الوحشيّ، وأخيرا كيلا نمضي في استعراض كلّ الأمثلة لقسطنطين المسيحيّ كما ليوليانوس المرتدّ الّذي أوقع فكرَه الموهوب في الضّلال جرّاء حبّ السّيطرة فضولٌ أثيم وكريه، غرّه شغفُه بعرافاته الباطلة فأحرق وقد وثق من الانتصار السّفن الّتي كانت تحمل المؤن الضّروريّة للجيش، واستمرّ بعناد مسعور في خططه المتهوّرة فما لبث أن لقي مصرعه جزاء طيشه تاركا في أرض الأعداء في عوز تامّ جيشه الّذي ما كان سيستطيع النّجاة من تلك المهلكة لو لم تحوَّل، خلافا لبشرى الإله ترمينوس الّتي تحدّثنا عنها في الكتاب السّابق، حدود الامبراطوريّة: فقد أذعن لحكم الضّرورة الإله ترمينوس الّذي لم يذعن سابقا لعنجهيّة يوبتر. لا شكّ أنّ الله الواحد الحقّ يسيّر ويحكم هذه الشّؤون حسب مشيئته، وإن تكن الأسباب خفيّة، فهل أحكامه جائرة؟

 

5-22 في أنّ طول ومآل الحروب يتوقّفان على مشيئة الله

   كذلك هو الشّأن أيضا في طول الحروب ذاته، فحسب مشيئته وحكمه العادل ورحمته، يأخذ بالبأساء أو يواسي الجنس البشريّ فيُنهى بعضها بسرعة نسبيّة وبعضها بعد أمد أطول. فقد أنهيت الحرب ضدّ القراصنة بقيادة بمبيوس والحرب البونيقيّة الثّالثة بسرعة لا تصدّق وفي مدّة وجيزة*؛ وما لبثت الحرب ضدّ المجالدين الآبقين رغم ما حلّ بإيطالية من ويلات ودمار فظيع إذ هُزم فيها عديد القادة الرّومان وقنصلان أن وضعت أوزارها بعدما أتلفت الكثير* في السّنة الثّالثة؛ والشّأن مماثل في الحرب ضدّ البيكنيّين والمارسيّين والبلقنيّين، وهم شعوب غير أجنبيّة بل إيطاليّة، لمّا حاولوا بعد مدّة طويلة من الخضوع والولاء للسّيادة الرّومانيّة رفع رؤوسهم واستعادة حرّيّتهم في زمن كان قد تمّ قبله بأمد إخضاع أمم عديدة للنّفوذ الرّومانيّ وتدمير قرطاج، فلئن انهزم الرّومان مرارا في هذه الحرب الإيطاليّة وقُتل قنصلان* وعدّة أعضاء بارزين من مجلس الشّيوخ، إلاّ أنّ إنهاء تلك الأزمة لم يستغرق وقتا طويلا: إذ وُضع لها حدّ في السّنة الخامسة. في المقابل استمرّت الحرب البونيقيّة الثّانية ثماني عشرة سنة رافقتها خسائر فادحة وكوارث مُنيت بها الجمهوريّة وأنهكت بل استنفدت تقريبا قوى الرّومان: ففي معركتين فقط قُتل حوالي سبعين ألف رومانيّ*؛ وتواصلت الحرب البونيقيّة الأولى ثلاث وعشرين سنة، والحرب ضدّ مثرداتس أربعين؛ وكيلا يظنّ أحد أنّ شجاعة الرّومان الأكبر في بداياتهم مكّنتهم من إنهاء الحروب بنحو أسرع، نذكّر بأنّ الحرب ضدّ السّمنيّين في تلك الأزمنة السّحيقة المشاد بها في كلّ فضل دامت قرابة خمسين سنة: وقد تكبّد الرّومان فيها هزيمة نكراء حتّى أنّهم أُرسلوا أسارى تحت النّير؛ لكن لأنّهم لم يكونوا يحبّون المجد بسبب العدل بل حسب ما يبدو يحبّون بالأحرى العدل لأجل المجد، لم يلبثوا أن نقضوا اتّفاقيّة السّلام الّتي عقدوها. أذكر هذه الوقائع لأنّ كثيرين يجهلون الماضي وكذلك بعضا يخفون علمهم كلّما رأوا حربا في عهد المسيحيّة تطول شيئا يسيرا هجموا من فورهم سفها على ديننا صائحين أنّه لولاها ولو كانت الآلهة تُعبد وفق التّقاليد العتيقة لكانت شجاعة الرّومان المعروفة الّتي أنهت بعون مارس وبلّونة حروبا كبيرة بسرعة قد أنهت هذه أيضا بسرعة قياسيّة. ليتذكّر إذن من قرؤوا التّاريخ كم طالت وبكم من تقلّبات الأحوال اقترنت وكم من النّكسات الحزينة شهدت حروب عديدة خاضها الرّومان الأقدمون كما هي سنّة هذا العالم الّذي كالبحر المتلاطم طالما تقاذفته عاصفة هذه الأنواء الّتي لا تقِرّ، وليُقرّوا بما يأبون الإقرار به كيلا يهلكوا أنفسهم بتجديفهم الأخرق على الله ويوقعوا الجهلة في الضّلال.

<<