القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الرّابع- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

4-19 في ربّة الحظّ النّسائيّة

   ينسبون كثيرا من الكرامات لهذه الإلهة المزعومة الّتي يدعونها فرتونة، حتّى أنّ تمثالها المكرّس من قبل نساء والمدعوّ ربّة الحظّ النّسائيّة، حسب ما رووا، نطق وقال لا مرّة بل مرّتين أنّ النّساء قُمن بطقوسها حسب الأصول. إن صحّ ذلك لا يجب أن نعجب منه، فما بعسير على الشّياطين الماكرة أن تخدع بهذا النّحو أيضا* وكان أحرى بهم أن يتنبّهوا من تلك الحادثة إلى فنونها وحيلها، فقد تكلّمت بالتّحديد الإلهة الّتي تأتي جزافا، لا الّتي تأتي لتكافئ قيّم الأعمال. فقد تكلّمت ربّة الحظّ وصمتت ربّة السّعد، وهل فعلت لشيء سوى منع النّاس من التّفكير في العيش باستقامة ما داموا قد حظوا برضى ربّة الحظّ الّتي تجعلهم محظوظين بدون أيّة أعمال صالحة في المقابل؟ وأكيد إن تكلّمت ربّة الحظّ فما النّسائيّة بل الرّجاليّة هي الّتي تكلّمت حتّى لا يُظنّ أنّ النّسوة اللاّئي كرّسن تمثالها ابتدعن من هذر النّساء هذه الكرامة العجيبة.

 

4-20 في الفضيلة والإيمان اللّذين كرّمهما الوثنيّون بمعابد وطقوس تاركين محاسن أخرى كان المفروض أن تُعبد مثلها إن جاز إسناد الألوهة لها

   كذلك جعلوا الفضيلة إلهة. ولو كانت إلهة حقّا للزم فعلا تفضيلها على كثير من الآلهة، لكن لأنّها ليست بإلهة وإنّما هي هبة من الله، فإنّها تُطلب ممّن بيده وحده أن يرزقها، وإذّاك يتوارى ذلك الجمع من الآلهة الزّائفة. لكن لِم أُلِّه الإيمان أيضا وحصل على معبد ومذبح؟ من يتعرّفه بحكمة يجعل له ذاته مسكنا. لكن كيف لهم بمعرفة الإيمان الّذي أوّل وأكبر فروضه الاعتقاد في الله الحقّ؟ لكن لِم لَم تكْف الفضيلة: أليس الإيمان جزءا منها؟ وبما أنّهم ارتأوا تقسيم الفضيلة إلى أربعة فروع، الحكمة والبرّ والشّجاعة والاعتدال، وأنّ كلّ نوع يتفرّع بدوره إلى شُعب، فالإيمان من شعب البرّ، وله أعلى منزلة لدينا، نحن الّذين ندرك ماذا يعني أنّ "البارّ بإيمانه يحيا."* لكنّي أعجب لأولئك المغرمين بكثرة الآلهة إن ألّهوا الإيمان فلِم أهانوا الإلهات الأخريات العديدات بإهمالهنّ، بينما كان يمكنهم تكريس معابد ومذابح لهنّ بالمثل؟ لم لم يستحقّ الاعتدال التّأليه بينما نال باسمه عديد من رجالات الرّومان مجدا عظيما؟ لم لا تكون الشّجاعة إلهة، هي الّتي عضدت موقيوس لمّا مدّ يده للّهب، وكرتيوس لمّا رمى بنفسه في هاوية سحيقة فداء وطنه، ودكيوس الأب ودكيوس الابن لمّا بذلا نفسيهما فداء للجيش. أمّا هل كان ذلك في هؤلاء جميعا شجاعة بالمعنى الصّحيح فليس موضوع بحثنا الآن. لم لم تستحقّ الرّزانة ولا الحكمة مقاما بين الأرباب؟ ألأنّ كلّ الفضائل تُعبد في الواقع تحت اسم الفضيلة العامّ؟ بهذا النّحو كان يمكن أن يُعبد إله واحد، يتوهّم الآخرون صفاته آلهة*. بيد أنّ هذه الفضيلة تشتمل على الإيمان والاعتدال اللّذين استحقّا مذابح في معابد خاصّة باستقلال عنها.

 

4-21 إن لم يفقهوا وحدانيّة الله، كان يمكنهم على الأقلّ الاكتفاء بتأليه الفضيلة والسّعادة

   ليس الحقّ بل الباطل هو الّذي جعل هذه الفضائل إلهات، فإنّما هي عطايا من الله الحقّ، وليست في حدّ ذاتها إلهات. لكن حيثما تكن الفضيلة والسّعادة، أيّ شيء يُنشد سواهما؟ ماذا يكفي من لا تكفيه الفضيلة والسّعادة؟ فالفضيلة تشمل كلّ ما يجب فعله، والسّعادة كلّ ما يجدر ابتغاؤه. إن كانوا يعبدون يوبتر ليهبهم هاتين النّعمتين- إذ يعود اتّساع ودوام المُلك، إن كان خيرا، إلى السّعادة الّتي ذكرنا- فلم لم يدركوا إذن أنّهما نعمتان من الإله لا إلهتان؟ لكن إن عُدّتا إلهتين، فما كان على الأقلّ من داع لالتماس ذلك الجمع الآخر الغفير من الآلهة. بعد اعتبار وظائف كلّ ما ابتدعوا وفق هواهم من الآلهة والإلهات، ليجدوا إن استطاعوا شيئا يمكن لإله ما تقديمه لإنسان يملك الفضيلة ويملك السّعادة. أيّة تعاليم يمكن أن تُلتمس من مركوريوس أو مينرفة ما دامت الفضيلة تحويها جميعا؟ فلقد عرّف القدماء الفضيلة كأسلوب العيش* باستقامة وصلاح، لذا فممّا يدعى باليونانيّة "أريتي" أي الفضيلة اشتقّ اللاّتين على ما يُعتقد كلمة "أرس."* لكن إن كانت الفضيلة لا تأتي لغير الفطن، فما كانت حاجتهم إلى الإله كاتيوس الأب الّذي يجعل النّاس أحذّاء أي ثاقبي البصائر catos ما دامت السّعادة تستطيع أن تمنح ذلك؟ أن يولد المرء ذكيّا من مقوّمات السّعادة، ومن هنا، حتّى إن لم يمكن لمن لم يولد بعد أن يعبد إلهة السّعد لترضى فتمنحه ذلك، جائز أن تمنح أبويه المثابرين على عبادتها أن يولد لهم بنون فطنون. ما كانت حاجة الحوامل إلى دعاء لوقينة ساعة المخاض بينما يعطيهنّ وجود السّعادة إلى جانبهنّ لا ولادة جيّدة فقط بل كذلك ذرّيّة صالحة؟ أيّة ضرورة كانت تدعو إلى أن يوكل النّاس للإلهة أوبس عند الميلاد، وللإله فاتيكانوس عند البكاء، وللإلهة لوكينة عند الرّقاد، وللإلهة رومينة عند الرّضاع، وللإله ستاتينيوس لمّا يقفون وللإلهة أديونة لمّا يأتون ولأبيونة لمّا ينصرفون وللإلهة منس ليكون لهم ذهن متوقّد وللإله وولمنوس والإلهة وولمنية ليريدوا الخير، ولآلهة الزّواج ليوفّقوا في زيجاتهم، وللآلهة الرّيفيّة، وبالأخصّ الإلهة فركتوسية، ليجنوا غلّة وافرة، ولمارس وبلّونة ليتقنوا فنّ القتال، وللإلهة فكتورية لينتصروا، وللإله هونور لينالوا الشّرف، وللإلهة بيكونية ليكونوا ذوي مال ممدود، وللإله إسكولانوس وابنه أرجنتينوس ليملكوا ثروة من سكّة النّحاس والورِق؟ فقد جعلوا إسكولانوس أب أرجنتينوس لأنّ العملة النّحاسيّة بدأت تُستخدم قبل الفضّيّة، لكنّي أعجب لماذا لم يُعدّ أرجنتينوس أب أورينوس بما أنّ العملة الذّهبيّة أتت بدورها لاحقا، ولو اتّخذوه هو الآخر إلها لفضّلوا حتما أورينوس على أبيه أرجنتينوس وعلى جدّه إسكولانوس مثلما فضّلوا يوبتر على ساترنوس. أيّة حاجة إذن كانت تدعو، في سبيل الخيرات الرّوحيّة والجسديّة والخارجيّة، إلى عبادة ودعاء ذلك الجمع الكبير من الآلهة- الّتي لم أذكرها كلّها، وهم أنفسهم لم يستطيعوا أن يدبّروا لكلّ تلك الخيرات البشريّة مصنّفة بدقّة وتفصيل آلهة متخصّصة بنحو دقيق ومفصّل-، بينما كان يمكن، بعمليّة اختزال كبيرة وبسيطة، أن تهبها كلّها إلهة السّعد فليكيتاس بمفردها ودون حاجة إلى البحث عن آلهة أخرى لجلب الخيرات وكذلك لدرء الشّرور. لماذا لزم فعلا أن تدعى لإراحة المتعبين الإلهة فسّونة، ولدفع الأعداء الإلهة بُلّونية، ولشفاء المرضى الطّبيب أبولّون أو إسكولابيوس أو كلاهما معا إن كان هناك خطر جسيم؟ ولا حاجة كذلك للإله سبنينسيس لاقتلاع الأشواك من الحقول، ولا للإلهة روبيقة لتجنّب عفن الزّرع، فبحضور ورعاية إلهة السّعد وحدها يمكن تفادي كلّ الآفات أو صرفها بمنتهى السّهولة*. أخيرا ما دمنا في معرض الحديث عن هاتين الإلهتين، ربّتي الفضيلة والسّعادة، إن كانت السّعادة جزاء الفضيلة فما هي بإلهة بل هي هبة إلهيّة. لكن إن كانت إلهة، فلِم لا يقال إنّها تهب كذلك الفضيلة، بما أنّ بلوغ الفضيلة سعادة كبرى؟

 

4-22 في علم عبادات الآلهة الّذي يفخر وارّون بأنّه أعطاه للرّومان

   فما هذا الّذي يتباهى وارّون بإسدائه كمعروف جليل لبني وطنه، باعتبار أنّه ذكر لا الآلهة الّتي يجب أن يعبدوها فقط، بل لأيّ شيء يصلح كلّ منها؟ حسب قوله كما لا تنفع معرفة شخص طبيب باسمه وشكله مع الجهل بأنّه طبيب، كذلك لا تنفع معرفة أنّ إسكولابيوس إله مع الجهل بنفعه في شؤون الصّحّة ومن ثمّة بالدّاعي إلى دعائه. ثمّ يدعم رأيه بمثل آخر قائلا إنّ لا أحد يستطيع أن يعيش لا حياة طيّبة فقط بل أيّة حياة على الإطلاق إن كان يجهل من هو الحدّاد ومن هو الخبّاز ومن هو الجصّاص، وممّن يمكن طلب ذاك الماعون، من يمكن أن يتّخذ معينا أو مرشدا أو معلّما، ومؤكّدا بهذا النّحو أنّ معرفة الآلهة مفيدة بلا شكّ إن عُلم ما لكلّ إله من قوّة وقدرة وسلطان على أيّ شيء. من ذلك يمكننا فعلا أن نعرف، على حدّ قوله، أيّ إله ندعو ونستعين* ولأيّ شأن فلا نتصرّف كمهرّجي المسرح طالبين الماء من ليبر والخمر من جنّيّات المياه. فائدة كبرى بلا شكّ! ومن لعمري سوف لا يشكر فضله لو أبان الحقّ وعلّم النّاس عبادة الله الحقّ الواحد، مصدر كلّ الخيرات؟

 

4-23 في السّعادة الّتي ظلّ الرّومان عبدة الآلهة المتعدّدة طويلا لا يؤدّون لها التّعظيم الواجب لشرفها الإلهيّ مع أنّها كان يمكن أن تنوب عن كلّ الأخرى

   لكن، وهذا موضوعنا الآن، إن كانت كتبهم وعباداتهم صحيحة والسّعادة إلهة حقّا، لماذا لم يقرّروا عبادتها وحدها هي الّتي بمقدورها أن تعطي الإنسان كلّ شيء وبأيسر السّبل تجعله سعيدا؟ إذ من يتمنّى شيئا آخر سوى أن يصير سعيدا؟ لماذا بنى لوقلّوس لهذه الإلهة العظيمة معبدا بمثل ذلك التّأخير وبعد تعاقب عديد القناصل؟ لماذا لم يشد لها هي بالتّفضيل معبدا رومولوس الرّاغب في تأسيس مدينة سعيدة، دون حاجة إلى طلب شيء من الآلهة الأخرى، فما كان شيء سيعوزه إن كانت هي معه؟ إذ ما كان هو نفسه سيصير ملكا بدءا ولا إلها، حسب ما يظنّون، لاحقا لو لم ينل رضا هذه الإلهة. لماذا إذن أقام آلهة للرّومان يانوس ويوبتر ومارس وبيكوس وفَونوس وتيبرينوس وهرقل وغيرها إن وُجد؟ لماذا أضاف تيطس طاتيوس ساترنوس وأُبس وصولس "الشّمس" ولونة "القمر" وولكانوس ولوقس "النّور" وآلهة أخرى من ضمنها كلُوَكينة وأهمل ربّة السّعد؟ لماذا ابتدع نوما كلّ تلك الآلهة والإلهات إلاّها؟ لعلّه لم يستطع رؤيتها في ذلك الجمع الحاشد؟ ولا شكّ أنّ الملك هستليوس ما كان سيُدرج الفزع والشّحوب إلهين جديدين لنيل رضاهما لو عرف وعبد تلك الإلهة: فعند حضور السّعادة، لا ينصرف مترجّى مترضّى بل يفرّ مذؤوما مدحورا كلّ فزع وشحوب. ثمّ كيف يفسَّر أنّ الامبراطوريّة الرّومانيّة كانت منذ زمان تنمو طولا وعرضا ولم يكن أحد يعبد بعد إلهة السّعادة؟ ألعلّها لذلك كانت مديدة أكثر ممّا كانت سعيدة؟ إذ كيف كانت ستوجد سعادة حقيقيّة حيث لم تكن توجد تقوى حقيقيّة؟ فإنّ التّقوى هي العبادة الصّادقة لله الحقّ، لا عبادة كمٍ من الآلهة الزّائفة بقدر عدد الشّياطين. لكن بعد قبول إلهة السّعادة بين الآلهة لاحقا، تلا بؤس الحروب الأهليّة البئيس. أفلعلّ إلهة السّعادة غضبت محقّة لاستدعائها بمثل ذلك التّأخير، لا لإكرامها بل بالأحرى لإهانتها، ليُعبد معها بريابوس وكلواكينة وبافور وبالّور وفبريس وأصنام أخرى ما هي بآلهة تستحقّ العبادة، بل هي آثام عبّادها. ثمّ حتّى إن استحسنوا أن تُعبد إلهة بذلك الجلال مع ذلك الطّغام المرذول، لِم لم تكن تُعبد على الأقلّ بأبّهة أكثر من الآلهة الأخرى؟ من يقبل فعلا ألاّ يخصَّص بين الآلهة المستشارة Consentes الّتي يزعمون أنّها تحضر مجلس يوبتر لتقديم المشورة، ولا بين الآلهة المدعوّة مصطفاة Selecti مقعد لإلهة السّعادة؟ كان يحرو أن يقام لها معبد متميّز بارتفاع موقعه وفخامة بنائه. ولِم فعلا لا يفوق حتّى معبد يوبتر؟ إذ من آتى حتّى يوبترَ المُلكَ سوى ربّة السّعادة؟ هذا على افتراض أنّه كان سعيدا بمُلكه. والحقّ أنّ السّعادة محبَّذة على المُلك، إذ لا أحد يشكّ في أنّ من السّهل أن نجد شخصا يخشى أن يصير مَلكا، بينما لا نجد من يحبّ أن يكون سعيدا. بل لو أمكن أن تستشار الآلهة نفسها بواسطة العرّافين أو أيّة طريقة أخرى فاستشيرت إن كانت تقبل إخلاء مواقعها لإلهة السّعادة، إن اتّفق أن كانت معابد أو هياكل آلهة أخرى تحتلّ الموضع المناسب لبناء معبد أوسع وأرفع لها، فحتّى يوبتر شخصيّا سيتنحّى لتحتاز ربّة السّعادة بدلا منه قمّة تلّ الكابتوليوم. فلا أحد يقف في وجه إلهة السّعادة إلاّ، وهو محال، إن كان يحبّ لنفسه التّعاسة. حقّا لا سبيل لأن يفعل يوبتر لو استشير ما فعل معه الآلهة الثّلاثة، مارس وترمينوس ويوفنتاس*، الّذين رفضوا رفضوا التّنازل عن مواقعهم لكبيرهم ومليكهم. فحسب ما تفيد كتبهم، لمّا أراد الملك تركوينوس بناء الكابتوليوم ولاحظ أنّ ذلك المكان الّذي كان يبدو له أنسب وأليق به سبق أن احتلّته آلهة أخرى، وبما أنّه لم يجرؤ على فعل شيء يخالف مشيئتها وتصوّر أنّها ستنسحب بمحض إرادتها أمام ذلك الإله الأعظم ملكها، ولأنّ آلهة عديدة كانت تقيم على الموقع الّذي بني عليه الكابتوليوم لاحقا، سألها بواسطة العرّافين هل تقبل التّنازل عن أماكنها ليوبتر؛ فقبلت كلّها إلاّ الثّلاثة الّذين ذكرت مارس وترمينوس ويوفنتاس. لذلك شيد الكابتوليوم بحيث يكون بداخله أيضا أولئك الثّلاثة في صور غامضة حتّى لا يكاد الرّاسخون في العلم يتعرّفونهم. ما كان يوبتر إذن بأيّ حال من الأحوال سيتحدّى ربّة السّعادة كما تحدّاه ترمينوس ومارس ويوفنتاس. بل حتّى أولئك الآلهة الّذين لم يتنحّوا أمام يوبتر كانوا قطعا سيتنحّون أمام ربّة السّعادة الّتي جعلت يوبتر ملكا عليهم، وإن لم يتنحّوا فما ذلك استخفافا بها، بل لأنّهم يؤثرون أن يقيموا باهتين في بيت ربّة السّعادة على التّألّق بدونها في معابدهم الخاصّة.

   هكذا بعد إقامة إلهة السّعادة على موقع رحب ورفيع، كان المواطنون سيعلمون ممّن ينبغي أن يطلبوا العون لتحقيق المنى الطّيّبة، وبإملاء طبيعة الأشياء كانوا سيتخلّون حتما عن تلك الكثرة غير اللاّزمة من الآلهة الزّائفة، ليخلصوا عبادتهم لربّة السّعد وحدها، وليدعوها وحدها، وسيؤمّ معبدها هي وحدها المواطنون الرّاغبون في نيل السّعادة- وهل بينهم من لا يتمنّاها-، وهكذا سيطلبون من ربّة السّعادة ذاتها السّعادة الّتي كانوا يطلبون من جميع آلهتهم: إذ من يريد أن ينال من إله سوى السّعادة أو ما يعدّه من مقوّمات السّعادة؟ لذا إن كان بيد السّعادة أن تحلّ على من تشاء، وذاك بيدها حتما إن كانت إلهة، فأيّة حماقة أن تُطلب من إله آخر بينما يمكن نيلها منها رأسا! كان ينبغي إذن أن تُعبد هذه الإلهة أكثر من الآلهة الأخرى كذلك بفخامة معبدها: فكما نقرأ عند كتّابهم، عبد قدماء الرّومان إلها يقال له سُمّانوس كانوا ينسبون له برق اللّيل أكثر من يوبتر الّذي يرجع إليه برق النّهار؛ لكن بعد بناء معبد فخم منيف ليوبتر، توافد عليه المواطنون بسبب جلال معبده، حتّى بات المرء لا يكاد يجد أحدا يذكر- إذ لم يعد ممكنا أن يسمع باسم سمّانوس- حتّى أنّه قرأ عنه. لكن إن لم تكن السّعادة إلهة لأنّها في الحقيقة هبة من الإله، فليُلتمس ذاك الإله القادر على منحها، وليُتخلّ عن تعدّد الآلهة الزّائفة الضّارّ الّذي يفتتن به كثير من الحمقى الغاوين، متّخذين هبات الله آلهة* ومغيظين بمكابرة إرادتهم المتكبّرة من هي هباته، وحتما لا يخلو من البؤس من يتّخذ السّعادة إلهة يعبدها ويُعرض عن الله واهب السّعادة، كما لا يخلو من الجوع من يلحس الخبز مرسوما ولا يلتمسه عند من يملك الحقيقيّ.

 

4-24 كيف يدافع الوثنيّون عن عبادتهم، ضمن آلهتهم، حتّى العطايا الإلهيّة

   يمكننا الآن النّظر في حججهم. يقولون: أيجوز تصوّر أنّ الغباء وصل بأجدادنا حدّ الجهل بأنّ تلك عطايا إلهيّة لا آلهة؟ لكن لأنّهم كانوا يعلمون أنّها لا تُمنح لأحد إلاّ بجود إله، ولم يجدوا أسماء تلك الآلهة، دعوها بأسماء الأشياء الّتي كانوا يدركون أنّها عطاياها، بتحريف لفظيّ كما في اشتقاقهم من الحرب  bellum بلّونة لا بلّوم ومن المهد cuna كونينة لا كونة ومن الزّرع seges سيقيتية لا سيقيس ومن الفاكهة poma بومونة لا بومة، ومن الثّور bos بوبونة لا بوس، أو بدون تحريف مستخدمينها كما هي فدعوا بكونية الإلهة رازقة المال pecunia دون التّفكير لحظة بأنّ المال في حدّ ذاته إله وفِرتوس مؤتية الفضيلة uirtus وهونور مانح الشّرف honor وكُنكردية واهبة الوفاق concordia وفكتورية واهبة النّصر uictoria. هكذا حسب أقوالهم لمّا تدعى السّعادة إلهة، ما المقصود السّعادة الّتي تُمنح بل الإلهة الّتي تمنح السّعادة.

 

4-25 في الإله الأوحد الحقيق بالعبادة والّذي حتّى مع جهل اسمه يُدرَك أنّه واهب السّعادة

   أما وقد قُدّم هذا التّعليل، فقد نُقنع بسهولة أكبر من لم تقس قلوبهم كثيرا بما نريد بيانه. إن كان الضّعف البشريّ قد أدرك فعلا أنّ السّعادة لا يمكن أن يمنحها إلاّ إله، وإن أدرك ذلك أولئك الّذين كانوا يعبدون آلهة متعدّدة منها ملكها يوبتر، ولجهلهم باسم واهب السّعادة بدا لهم أن يدعوا باسمها هي ذاتها من كانوا يظنّونه واهبها، فقد أبانوا إذن بما فيه الكفاية أنّ السّعادة لا يمكن أن تأتي من يوبتر الّذي كانوا منذ أمد يعبدونه، بل ممّن كانوا يرون من واجبهم عبادته تحت اسم السّعادة بالذّات. وعليه أؤكّد أنّهم كانوا يعتقدون أنّ السّعادة هبة من إله يجهلونه: فليلتمسوه وليعبدوه وكفى! ليدَعوا صخب الشّياطين الأكثر من أن يحصرها العدّ. دعه لا يكتفِ بهذا الإله من لا تكفيه هبته، أقول: دعه لا يكتفِ بالله واهب السّعادة معبودا من لا تكفيه السّعادة نوالا. أمّا من تكفيه- وهل للإنسان حقّا ما يجب أن يتمنّى أكثر منها- فليعبد الله الواحد واهب السّعادة. ما هو ذاك الّذي يدعونه يوبتر، إذ لو تعرّفوه كواهب السّعادة لما التمسوا إلها أو إلهة مصدرا للسّعادة تحت اسم السّعادة نفسها، ولما  استساغوا عبادة يوبتر ذاته بتلك المنكرات: إذ يقال إنّه زنى بزوجات الغير، وخطف غلاما صبوحا اتّخذه خدنا بلا أدنى حياء*.

 

4-26 في الألعاب التّمثيليّة الّتي طلبت الآلهة من عبدتها أن يعظّموها بها

   لكن، حسب ما يقول تولّيوس، "كان هوميروس يختلق هذه القصص ويحوّل صفات البشر إلى الآلهة، وحبّذا لو حوّل إلينا صفات الآلهة."* وهذا الرّجل الرّصين محقّ في استيائه من ذلك الشّاعر مختلق جرائم الآلهة. لماذا سجّل إذن جهابذة علمائهم ضمن الإلهيّات الألعاب التّمثيليّة حيث تُردَّد وتُغنّى وتُمثَّل وتُعرَض* تلك المخازي إكراما للآلهة؟ المفروض هنا أن يصيح شيشرون مستنكرا لا فرى الشّعراء بل سنن الآباء. لعلّهم سيهتفون: ماذا فعلنا؟ الآلهة نفسها طالبت، بل أمرت بلهجة حاسمة بتقديم هذه العروض تكريما لها، متوعّدة بالويل إن لم يتمّ ذلك، فقد عاقبت بصرامة أيّ إهمال وأظهرت رضاها إن تمّ تداركه. يُذكر من قدراتها الخارقة وكراماتها العجيبة الوقائع التّالية. في رؤيا أُمر تيتوس لاتينيوس، وهو رومانيّ من الرّيف وربّ أسرة، أن يخطر مجلس الشّيوخ بإعادة الألعاب الرّومانيّة*، ففي يومها الأوّل أوعز باقتياد مجرم إلى ساحة الإعدام على مرأى من الجماهير، فأغاظ ذلك الأمر المؤسف الآلهة الّتي تنشد في هذه الألعاب المرح طبعا. ولأنّ الرّجل بعد تلقّي ذلك الإنذار في المنام لم يجرؤ من الغد على فعل ما أُمر، تلقّى في اللّيلة الثّانية مجدّدا وبصرامة أشدّ نفس الأمر، وإذ لم يفعل فقد ابنه. في اللّيلة الثّالثة أُنذر بأنّ عقابا أشدّ ينتظره إن لم يفعل. وإذ لم يجرؤ مرّة أخرى، أصيب بمرض مبرّح وفظيع. إذّاك قرّر نزولا عند نصح أصحابه عرض الواقعة على القنصلين، وجيء به في محمل إلى مجلس الشّيوخ، فحالما عرض رؤياه استردّ صحّته وانصرف معافى على قدميه. اندهش مجلس الشّيوخ من هذه الخارقة وزاد الميزانيّة المرصودة إلى أربعة أضعافها وقرّر إعادة الألعاب. أيّ عاقل لا يرى أنّ أولئك الأشخاص الخاضعين للشّياطين الماكرة، الّتي لا يخلّص من سيطرتها سوى نعمة الله بربّنا يسوع المسيح، قد دُفعوا قسرا إلى إتحاف تلك الآلهة بعروض كان يمكنهم الحكم برشاد بطابعها المعيب؟ من الثّابت أنّهم كانوا يمثّلون الجرائم المنسوبة للآلهة في خرافات الشّعراء في تلك الألعاب الّتي تمّت إعادتها بأمر من مجلس الشّيوخ إذعانا لابتزاز الآلهة. في تلك الألعاب كان مهرّجون من أخسّ الأصناف يغنّون ويمثّلون ويترضّون* يوبتر مفسد العفاف. إن كان ذلك اختلاقا كان يحرو به أن يغضب، أمّا إن كان يلتذّ بمشهد جرائمه حتّى الوهميّة فهل عبادته سوى عبوديّة للشّيطان؟ هكذا إذن أنشأ ووسّع وحفظ* مُلك الرّومان إله هو أرذل من أيّ رومانيّ تصدمه حتما تلك المخازي؟ أيهب السّعادة ذاك الّذي كانت عبادته شقاوة وغضبُه إن لم يُعبد أتعس وأشقى؟

 

4-27 في أنواع الآلهة الثّلاثة الّتي تحدّث عنها الحبر سكيوولا

   جاء في كتبهم أنّ الحبر سكيوولا الرّاسخ في العلم تحدّث عن ثلاثة أنواع من الآلهة أورد أوّلها الشّعراء والآخر الفلاسفة والثّالث السّاسة. النّوع الأوّل حسب قوله مجرّد أباطيل، فقد اختلق الشّعراء عن الآلهة أخبارا كثيرة لا تليق بجلالها. والثّاني لا يناسب الدّول فهو يشتمل على أمور نافلة وكذلك على أخرى تضرّ الشّعوبَ معرفتها. أمّا النّافلة فليست بمشكلة كبرى، فقد اعتاد رجال القانون القول: النّافل لا يضرّ؛ فما هي الّتي تضرّ إن أُطلع الشّعب عليها؟ يجيب: "أنّ هرقل وإسكولابيوس وكستور وبولُّكس ليسوا آلهة؛ فالعلماء يعلنون أنّهم كانوا بشرا وبمقتضى بشريّتهم ماتوا." ماذا أيضا؟ "أنّ المدن لا تتمثّل الآلهة بالوجه الصّحيح، لأنّ الإله الحقيقيّ لا جنس له ولا عمر ولا أعضاء محدّدة الملامح." هذه الأمور لا يريد الحبر أن تعرفها الشّعوب، وهو لا يراها خاطئة: وبالتّالي هو يعدّ مناسبا أن تخطئ الشّعوب في معتقداتها؛ بل لا يتردّد وارّون عن قول ذلك في كتبه عن الإلهيّات. فيا له من دين رائع، ملاذ للضّعيف الّذي ينشد الخلاص، يلتمس فيه الحقّ الّذي هو وسيلة الخلاص فيُرى من الأنسب له الباطل. أمّا لماذا ينبذ سكيوولا آلهة الشّعراء، فلا تخفيه تلك الكتب: هو أنّهم يشوّهون الآلهة إلى درجة لا نستطيع معها حتّى مقارنتها بأناس على قدر من الصّلاح؛ إذ يجعلون واحدا يسرق وآخر يزني وآخر يقول ويفعل مخازي وحماقات أخرى، وثلاث إلهات يتنافسن على لقب ملكة الجمال، والاثنتين المنهزمتين أمام فينوس تدمّران طروادة انتقاما، ويوبتر نفسه يتحوّل إلى ثور أو إلى تمّ ليواقع امرأة، وإلهة تتزوّج رجلا، وساترنوس يلتهم بنيه*: باختصار ليس من عجيبة أو رذيلة يمكن تصوّرها إلاّ وتوجد هناك بينما هي أبعد ما تكون عن الطّبيعة الإلهيّة. فيا سكيوولا الحبر الأعظم ألغِ الألعاب إن استطعت، وعلّم الشّعوب ألاّ تقدّم للآلهة الخالدة تلك الطّقوس حيث تستلطف الفرجة على جرائم الآلهة ويروق لها تقليد ما تستطيع منها. فإن أجابك الشّعب: أنتم الأحبار جلبتم لنا تلك العروض، فسَلِ الآلهة نفسها الّتي بإيعازها طلبتم إقامتها ألاّ تطلب عرضها أمامها. إن كانت مفاسد ولا ينبغي من ثمّة الظّنّ بصدورها عن الآلهة، فكبُرت إساءةً إلى الأرباب أن تُترك تلك الفرى دون عقاب. لكنّها لا تسمعك، فإنّما هي شياطين تعلّم السّفالات وتبتهج بالمخازي. هي لا تعدّ اختلاق تلك القبائح عنها إساءة، بل فوق ذلك إن لم تمثَّل في حفلاتها فتلك عندها إساءة لا تغتفر. إن تشكُها ليوبتر، سيما والألعاب التّمثيليّة تعرض كثيرا من الجرائم المنسوبة له، ألستم، حتّى مع نعتكم إيّاه بالإله حاكم ومسيّر هذا الكون بأكمله، تُلحقون به إساءة كبرى إذ تستجيزون عبادته معها وتقدّمونه على أنّه ملكها؟

 

4-28 هل أفادت عبادة الآلهة الرّومان في إنشاء وتوسيع مُلكهم

   ما أمكن إذن قطّ لتلك الآلهة الّتي تُترضّى، بل تُتّهم، بمثل تلك الطّقوس، والّتي جرمها بارتضائها إن كانت كاذبة أبشع ممّا لو كانت صادقة، أن تنمّي وتحفظ مُلك الرّومان. فلو كانت تستطيع ذلك لآتت بالأحرى تلك الهبة الكبرى اليونان الّذين عبدوها، في هذا النّوع من الطّقوس أعني في مجال الألعاب التّمثيليّة، بأكثر إجلالا وإكراما، إذ لم يجعلوا أنفسهم بمنجى من نهشات الشّعراء الّتي كانوا يرونهم يقطّعون بها عرض الآلهة، فقد منحوهم حرّيّة سلق من شاؤوا بألسنة حداد، ولم يعتبروا الممثّلين أنفسهم أراذل بل حقيقين بكلّ شرف وتقدير.

   لكن كما أمكن أن يكون للرّومان نقد ذهبيّ دون عبادة إله باسم أورينوس، كذلك كان يمكن أن يكون لهم نقد من الفضّة والنّحاس دون عبادة أرجنتينوس ولا أبيه إسكولانوس. وكذلك هو الشّأن في كلّ الميادين الّتي يشقّ عليّ تكرارها. كذلك ما أمكن قطّ أن يكون لهم مُلك ضدّ مشيئة الله الحقّ. لكن لو جهلوا واحتقروا تلك الكثرة من الآلهة الزّائفة وعرفوا وعبدوا بإيمان صادق وخلق فاضل# هذا الإله الحقّ الأوحد لكان لهم مُلك أفضل، أيّا كان حجمه، ولنالوا فيما بعد مُلكا أبديّا، سواء ملكوا هنا أو لم يملكوا.

 

4-29 في زيف العرافة الّتي بدا كأنّها تعلن عن قوّة واستقرار حكم الرّومان

   ما حقيقة هذا الّذي عدّوه بشرى رائعة وذكرناه قبل قليل: أعني رفض مارس وترمينوس ويوفنتاس التّنحّي ليوبتر ملك الآلهة؟ ذلك يعني حسب أقوالهم أنّ شعب مارس، أي الشّعب الرّومانيّ، لن يعطي لأحد موقعا في حوزته، ولن يحرّك أحد حدوده termini بسبب الإله ترمينوس ولن يفقد فتوّته juuentus أمام أحد بسبب الإلهة يوفنتاس؟ لينظروا كيف يمكن اعتبار ذلك الإله ملك آلهتهم وواهبهم مُلكهم بينما تجعل منه تلك البشارة خصما يحسن ألاّ يُتنازل له عن شبر. لكن إن كانت تأويلاتهم صحيحة فليس هناك قطعا ما يخشون منه. إذ لن يعترفوا بأنّ آلهتهم الّتي لم تتنحّ أمام يوبتر تنحّت أمام المسيح، ولقد أمكن مع بقاء حدود الامبراطوريّة سالمة أن تتنحّى أمام المسيح من محالّ عبادتها وبالأخصّ من قلوب عبّادها. بالمقابل قبل مجيء المسيح في صورة الجسد، بل وقبل أن يُكتب ما نقلنا من كتبهم، لكن بعد حصول تلك البشارة في عهد الملك تركوينوس، اندحر الجيش الرّومانيّ وولّى الأدبار مرارا، مُظهرا كذب البشارة المتضمّنة في رفض يوفنتاس الانزياح أمام يوبتر، وانهزم شعب مارس في عقر داره أمام هجوم الغال السّاحق، وانحسرت حدود مُلكه بتحوّل مدن عديدة إلى حنّبعل. هكذا تلاشت تلك البشرى الرّائعة وبقيت صامدة أمام يوبتر لا أرباب بل شياطين: فشيء هو عدم الانسحاب وشيء سواه استعادة ما تمّ الانسحاب منه. مع ذلك حُوّلت في زمن لاحق حدود الامبراطوريّة في الجزء الشّرقيّ بمشيئة هدريانوس، حيث تخلّى لامبراطوريّة الفرس عن ثلاثة أقاليم ذات شأن: أرمينية وبلاد ما بين النّهرين وأشور، وهكذا فإنّ الإله ترمينوس حامي الحدود الرّومانيّة حسب مزاعمهم والّذي حسب العرافة المذكورة لم يتنحّ ليوبتر، خشي كما نرى هدريانوس ملك البشر أكثر من ملك الآلهة. استعيدت لا محالة الأقاليم المذكورة في زمن لاحق، ثمّ تخلّى ترمينوس عنها مجدّدا وفي عهد قريب منّا لمّا أمر بتهوّر أرعن يوليانوس المهووس بعرافات تلك الآلهة بإحراق السّفن الّتي كانت تحمل المؤن، فترك الجيشَ إثر موته بُعيد الحادثة في عوز خانق إلى درجة أنّ لا أحد ما كان سينجو من هجمات الأعداء من كلّ صوب على الجيش الّذي بلبله موت الامبراطور لو لم ترسَّم بمعاهدة سلام حدود الامبراطوريّة حيث لا تزال قائمة إلى اليوم وبخسارة لا تبلغ  قطعا ما تنازل عنه هدريانوس سابقا، لكن وفق حلّ وسط. بشرى باطلة كان إذن رفض ترمينوس التّنازل ليوبتر فلقد تنازل لمشيئة هدريانوس وتنازل كذلك لطيش يوليانوس ولاضطرار يوفيانوس. رأى ذلك الأشخاص الأكثر فطنة وجدّا بين الرّومان، لكن لم يكن لهم وزن كبير ضدّ تقاليد مدينة أُلزمت بطقوس شيطانيّة رغم إدراكهم لبطلانها. كانوا يرون أن تؤدّى للطّبيعة- مع وجودها تحت مُلك وحكم الإله الواحد الحقّ- العبادة المستحقّة لله، وبذلك كما يقول الرّسول "عبدوا المخلوق دون الخالق الّذي هو مبارك مدى الدّهور."* كان لا بدّ من عون هذا الإله الحقّ الّذي يبعث أناسا صدّيقين صادقي التّقى، مستعدّين للموت في سبيل الحقّ لانتزاع الأباطيل من أفئدة النّاس.

 

4-30 ما يعترف باعتقاده حول الآلهة الوثنيّة عبدتها أنفسهم

   يسخر شيشرون العرّاف من العرّافين، وينتقد من يضبطون مسار حياتهم حسب نعيق غراب أو زاغ. لكنّ هذا الفيلسوف الأكاديميّ الّذي يزعم أنّ لا شيء ثابت ويقينيّ غير جدير بالثّقة في هذه المسائل. في الكتاب الثّاني من مؤلّفه "في طبيعة الآلهة" يتحدّث كونتوس لوقليوس بلبوس، ومع إتيانه هو نفسه انطلاقا من دراسة الطّبيعة بأفكار سخيفة في الطّبيعيّات وما بعد الطّبيعة، يستنكر إقامة التّماثيل والإيمان بالأساطير قائلا: "ألا ترون إذن كيف جُرّ العقل من اكتشافاته الجيّدة والنّافعة في الطّبيعيّات إلى آلهة زائفة ووهميّة؟ تولّدت عن ذلك أفكار خاطئة وضلالات ضبابيّة وسخافات كخرافات العجائز، فباتت معلومة لدينا ملامح الآلهة وأعمارها وملابسها وحلاها وكذلك أنسلبها وزيجاتها وقراباتها، وكلّ صفاتها صيغت على مثال الضّعف البشريّ. فهي تقدَّم لنا كذلك بنفوس كدرة تشوّشها الأهواء: فقد أنبئنا بشهواتها وأتراحها وغضباتها. بل لم تستنكف الآلهة، حسبما نقلت عنها الأساطير، عن الحروب والمعارك، لا فقط، كما نجد في ملحمة هوميروس، بالوقوف في الحرب بين جيشين بعض إلى جانب وبعض إلى جانب، بل كذلك، كما فعلت مع التّيتان والعمالقة، بخوض حروبها الخاصّة. مثل هذه التّرّهات تروى وتصدَّق بحماقة خرقاء، وملؤها هراء وسخف ما بعده سخف."* هذا ما يُقِرّ به أنصار آلهة الوثنيّين. ثمّ بعدما ذكر أنّ هذه المعتقدات مجرّد أباطيل، يجعل من الدّين ما يرى هو نفسه تعليمه وفق مذهب الرّواقيّين، فيقول: "لم يكن الفلاسفة وحدهم، بل شاركهم أجدادنا، في التّفريق بين الخرافة والدّين. فقد سمّي الّذين كانوا يقضون أيّاما كاملة في التّضرّع وتقديم القرابين ليبقى أبناؤهم بعد موتهم superstites متّبعي أوهام superstitiosi."* من لا يرى أنّه من باب التّقيّة إزاء تقاليد المدينة يحاول امتداح دين الأجداد وفصله عن الأوهام ولا يجد إلى ذلك سبيلا؟ فإن دعا أولئك الأجدادُ متّبعي أوهام من يقضون أيّاما كاملة في التّضرّع وتقديم الذّبائح، أليس مثلهم كذلك من ابتدعوا للآلهة، كما يعيب هو نفسه عليهم، تماثيل بأعمار مختلفة وملابس مميّزة وأنسابا وزيجات وقرابات بينها؟ لا شكّ أنّه حين يوجّه إلى هذه المعتقدات تهمة التّخريف يُشرك ضمنيّا فيها الأجداد منشئي وعابدي تلك الأصنام بل وإيّاه فرغم محاولته التّحرّر من تأثيرها قولا، ظلّ يعدّ واجبا إجلالها، وما جلجل به ببلاغة في هذا الحوار الإنشائيّ ما كان يجرؤ على التّمتمة به في اجتماع لجنة شعبيّة. فلنشكر إذن، نحن المسيحيّين، لا السّماء والأرض كما يريد إقناعنا ذلك المهاتر، بل خالق السّماء والأرض الّذي جاء إلى تلك العقائد الفاسدة الّتي يقف إزاءها بلبوس مبلسا ولا يشجبها جهرة بلا لبس، وبتواضع المسيح السّحيق#، وبكرز الرّسل في الآفاق، وبإيمان الشّهداء وهم للحقّ يموتون كما بالحقّ عاشوا، أزالها لا في قلوب المؤمنين فقط، بل كذلك في معابد الباطل بحسن بلاء عبيده المتطوّعين لخدمته.

 

4-31 في آراء وارّون الّذي مع شجبه للمعتقدات الشّعبيّة لم يصل إلى معرفة الله الحقّ وإن رأى من اللاّزم عبادة إله واحد

   وارّون نفسه، الّذي يؤسفنا أنّه صنّف ضمن الإلهيّات الألعاب التّمثيليّة وإن لم يعتمد في ذلك رأيه الخاصّ، لمّا يدعو كرجل ورع في مواضع عديدة إلى عبادة الآلهة، ألا يُقرّ بذلك بأنّه يتبع، دون اعتماد رأيه الخاصّ، تلك الطّقوس الّتي يذكر أنّ رومية وضعتها، غير متردّد في الاعتراف بأنّه لو أنشأ تلك المدينة من جديد لكرّس الآلهة وأسماءها وفق صيغة مستمَدّة بالأحرى من الطّبيعة. لكن لأنّه كان يعيش في شعب مسنّ رأى من الواجب الاحتفاظ بقصّة أسماء وألقاب الآلهة كما نقلها القدماء، ولهذا الغرض أراد كتابتها وتقصّيها لحمل الشّعب على عبادتها واجتناب الاستخفاف بها. لقد أبان هذا الرّجل الثّاقب الفكر بهذه الأقوال أنّه لم يكشف كلّ الحقائق الّتي لا تثير استهجانه فقط، بل قد تبدو إن لم تُكتم زريّة حتّى في عيون الشّعب. قد يُظنّ أنّي أقول ذلك من باب التّخمين لو لم يذكر هو نفسه في موضع آخر بصريح العبارة، متحدّثا عن العبادات أنّ هناك حقائق كثيرة لا جدوى من أن تعرفها العامّة، وكذلك أغاليط كثيرة من المفيد أن تنظر إليها على غير حقيقتها، ولذلك بالذّات أقفل اليونان على طقوس المسارّة والأسرار الرّبّانيّة بالكتمان والجدران. لا شكّ أنّه قدّم هنا بالكامل منهج من يُعَدّون عقلاء الأمّة ويُفترض أن تكون بأيديهم مقاليد الأمور في المدن والشّعوب*. لكن في هذا الزّيف تجد بأساليب عجيبة متعتها الشّياطينُ الماكرةُ الّتي تحتنك المضِلّين والمضَلّين سويّا، ولا يخلّص من سلطانها سوى نعمة الله بربّنا يسوع المسيح.

   يقول كذلك هذا الكاتب العلاّمة الفهّامة إنّهم وحدهم أدركوا في نظره حقيقة الإله من رأوا فيه نفسا تسيّر العالم بالحركة والعقل، وبذلك حتّى إن لم يكن قد ملك الحقيقة بعد- فما الله الحقّ نفسا بل هو صانع وخالق النّفس أيضا- لا شكّ أنّه لو استطاع التّخلّص من الأفكار المسبقة الّتي ثبّتتها في ذهنه التّقاليد لأقرّ وأشار بعبادة إله واحد يسيّر العالم بالحركة والعقل، فيبقى في هذا الباب خلاف واحد معه: إن لم يكن ما يدعوه نفسا هو بالأحرى خالق النّفس أيضا. يذكر كذلك أنّ قدماء الرّومان ظلّوا لأكثر من مائة وسبعين عاما يعبدون الآلهة بدون تماثيل. ثمّ يقول: "لوبقي ذلك إلى اليوم لكانت عبادة الآلهة تتمّ في شكل أنقى. ويورد تأييدا لرأيه ضمن أمثلة أخرى ملّة اليهود، ولا يتردّد في القول في ختام ذلك المقطع إنّ أوّل من أقاموا تماثيل للآلهة لتعبدها الشّعوب أزالوا الخوف وزادوا الضّلال عند مواطنيهم، معتبرا  بصواب أنّه يسهل الاستخفاف بالآلهة في مظهر أصنامها الموحي بالغباء. الحقّ أنّه بقوله: "زادوا الضّلال"، لا "أدخلوا الضّلال" يقصد بالتّحقيق إفهامنا أنّ الضّلال كان يوجد حتّى بدون التّماثيل. لذا حين يقول إنّهم وحدهم أدركوا حقيقة الإله من رأوا فيه نفسا تسيّر العالم بالحركة والعقل، واعتبر تعظيم الآلهة بدون تماثيل شكلا أنقى من العبادة، من لا يرى كم هو قريب من الحقيقة؟ فلو كان يستطيع شيئا ضدّ ضلالة بتلك الخطورة تأصّلت في النّفوس، لآمن بلا شكّ بالإله الواحد مسيّر الكون ورأى أن يُعبد بلا تمثال، وربّما سهل عليه، لشدّة قربه من الحقيقة، انطلاقا من ملاحظة قابليّة التّغيّر في النّفس، أن يدرك أنّ الله الحقّ ذو طبيعة لا يدركها التّغيير، وهو الّذي خلق النّفس أيضا. ما دامت الأمور كذلك، فكلّ ما أورد أولئك العلماء في كتبهم عن الآلهة الوثنيّة من المضحكات إنّما دفعتهم إلى الاعتراف به مشيئة الله الخفيّة أكثر من سعيهم إلى الإقناع. وإن سقنا إذن من كتبهم بعض الشّهادات، فإنّما سقناه للرّدّ على من لا يريدون ملاحظة أنّ خلاصنا من سلطان الشّياطين الخبيث العاتي متاح بالدّم الزّكيّ الّذي أريق مرّة واحدة لافتدائنا، وبموهبة الرّوح الممنوحة لنا.

 

4-32 بتعلّة المصلحة أراد حكّام الوثنيّين أن تبقى أديان الضّلال قائمة عند الشّعوب الخاضعة لهم

   يقول كذلك عن أنساب الآلهة إنّ الشّعوب أميلُ إلى الشّعراء منها إلى الفلاسفة الطّبيعيّين، لذلك اعتقد أجداده، أي الرّومان الأوائل، في جنس وأنساب للآلهة وعقدوا لها زيجات. يبدو واضحا أنّ ذلك حصل لا لسبب سوى أنّ من يُعَدّون عقلاء وحكماء الأمّة كان همّم تضليل الشّعب في شؤون الدّين، لا ليعبد فقط بل ليقلّد كذلك الشّياطين الّتي رغبتها القصوى خداع البشر. وكما لا تستطيع الشّياطين أن تتملّك إلاّ من تضلّهم بأكاذيبها، كذلك كان رؤساء كلّ الأمم، الأبعد ما يكونون عن الاستقامة والأشبه ما يكونون بالشّياطين، يقنعون باسم الدّين شعوبهم بمعتقدات يعلمون بطلانها كحقائق، وبذلك يربطونها بنحو أوثق بالمجتمع المدنيّ ليتملّكوها بنحو مماثل ضامنين خضوعها*. فأيّ شعب كان يستطيع في ضعفه وجهله الإفلات من تضليل رؤساء المدينة والشّياطين في آن واحد؟

 

4-33 في أنّ تعاقب كلّ الملوك والممالك رتّبته مشيئة الله وقدرته 

   الله إذن، خالق وواهب السّعادة، لأنّه الإله الحقّ الأوحد، يؤتي مُلك الأرض الصّالحين والأشرار سويّا، ولا يفعل ذلك جزافا وعبثا، لأنّه الله لا الحظّ، بل وفق تدبير للأحداث والأزمان خفيّ علينا جليّ له. أمّا هو فلا يخضع ويرضخ لهذا التّرتيب، بل يحكمه حكم مليك قدير ويسيّره تسيير لطيف خبير. لكنّه لا يهب السّعادة إلاّ للصّالحين، وقد ينالها أو لا ينالها المحكومون، وقد ينالها أو لا ينالها الحاكمون، وهي ستكون تامّة في تلك الحياة حيث لا يُحكم أحد. وهو يؤتي مُلك الأرض الصّالحين والأشرار سويّا، كيلا يتمنّى منه عبّاده الّذين لا يزالون في مسيرة ترقّي الرّوح صغارا تلك الهبات كفضل عظيم. وذاك هو السّرّ المقدّس المكنون في العهد العتيق، حيث يكمن العهد الجديد خافيا، فإنّ الوعود والهبات فيه ذات طبيعة دنيويّة لكنّ الرّوحيّين آنذاك كانوا يدركون، حتّى إن لم يصرّحوا علانية، أنّ تلك النّعم الدّنيويّة تعني الأبديّة، وأنّ في هبات الله السّعادة الحقيقيّة.

 

4-34 في مُلك اليهود الّذي أنشأه الله وحفظه طالما حفظوا الدّين الصّحيح

   لذلك، وليُعرف أيضا أنّ تلك الخيرات الدّنيويّة الّتي يبغيها وحدها من لا يستطيعون تصوّر أحسن منها بيد الله وحده لا بأيدي الآلهة الزّائفة المتعدّدة الّتي ظنّ الرّومان قديما من الواجب عبادتها، نمّى شعبه في مصر من أفراد قلائل وخلّصه من هناك بآيات عجيبة. وما لوقينةَ دعت نساؤهم لمّا حفظ الله مواليدهنّ من بطش مضطهديهنّ المصريّين المزمعين قتل أبنائهنّ* لإكثارهم بنحو عجيب وتنمية ذلك الشّعب بوتيرة لا تصدَّق. وبدون رومينة رضعوا، وبدون كونينة وُضعوا في المهود، وبدون إيدوكة وبوتينة تناولوا الطّعام والشّراب، وبدون كلّ تلك الآلهة راعية الأطفال ترعرعوا، وبدون آلهة الزّواج تزوّجوا، وبدون عبادة بريابوس جامعوا نساءهم، وبدون دعاء نبتونوس انشقّ لهم البحر ليعبروا ثمّ ارتدّ الموج مطبقا على أعدائهم الجادّين في أثرهم، وما اتّخذوا إلهة باسم منّة لمّا أنزل الله عليهم المنّ من السّماء، ولا عبدوا، لمّا استسقى لهم نبيّهم وضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه عيون، جنّيات المياه وربّات الينابيع*، وبدون طقوس مارس وبلّونة المسعورة خاضوا الحروب، وما كانوا بدون نصرةٍ سيغلبون لكنّهم لم يعدّوها إلهة بل نعمة من ربّهم، وزرعاً بلا سيقيتة وثيرانَ بلا بوبونة وعسلا بلا ملّونة* وفاكهة بلا بومونة، باختصار كلّ الخيرات الّتي لأجلها رأى الرّومان أن يدعوا ذلك الكم الرّهيب من الآلهة الزّائفة، نالوا من الله الواحد الحقّ وبنحو أسعد بما لا يقاس. ولو لم يخطَؤوا فيه مفتونين بفضول أثيم في شكل الفنون السّحريّة ومنزلقين إلى آلهة الأمم الأخرى والأصنام، وأخيرا بقتلهم المسيح*، لبقوا في مُلكهم الّذي إن لم يكن أوسع فهو أسعد، واليوم إن تشتّتوا على كلّ البلدان والأمم تقريبا فهذا تدبير ذاك الإله الحقّ الأحد. كذلك فإنّ تحطيم أصنام الآلهة الزّائفة ومذابحها وغاباتها المقدّسة ومعابدها بنحو كامل شامل ومنع الإهلال لها كلّ ذلك أنبئ به منذ دهور كما تثبت كتبهم كيلا يخطر ببال أحد ربّما، لمّا يقرأه في كتبنا، أنّا اختلقناه. والآن علينا أن نرى البقيّة في الكتاب الآتي ونضع حدّا لهذا العرض المطوّل.