القدّيس أغسطينوس

 

مدينة الله

 

الكتاب الأوّل- تابع

 

حواش 

22

21

20

19

18

17

16

15

14

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

1-17 في الموت الإرلديّ مخافة العذاب أو العار

    لذا فأيّ قلب فيه إنسانيّة يرفض الغفران لمن انتحرن لتفادي التّعرّض لشيء من هذا القبيل؟ واللاّئي رفضن الانتحار ليحلن بهذه الجناية دون فاحشة الغير لا يأمن من يتّهمهنّ بهذا الجرم الاتّهام بالخطل. فإن كان محظورا قتل إنسان، ولو كان مجرما، بناء على سلطة فرديّة، إذ لا يبيح القتلَ أيّ قانون، لا شكّ كذلك أنّ من يقتل نفسه يرتكب جريمة قتل، وهو بقتل نفسه آثمُ بقدر ما هو أبرأ من المبرّر الّذي استجاز استنادا إليه قتل نفسه. فإن كنّا نستشنع حقّا وعدلا فعلة يهوذا ويحكم الحقّ بأنّه بشنق نفسه زاد وزر خيانته عوض التّكفير عنها، لأنّه بيأسه من رحمة الله في ندمه المهلك لم يدعْ لنفسه مجالا لتوبة أسلم عقبى، فكم أحقّ بالامتناع عن قتل نفسه من لا يملك مسوّغا لعقاب نفسه بمثل هذا العذاب. ويهوذا في الحقيقة بقتل نفسه قتل مجرما، ومع ذلك أنهى حياته حاملا وزر موت المسيح وموته هو أيضا، إذ رغم أنّه قتل نفسه بسبب جريمته، مات مثقلا بوزر جرم إضافيّ. ماذا يدعو إذن من لم يفعل سوءا إلى إلحاق السّوء بذاته، وقتل إنسان بريء بقتل نفسه مخافة التّعرّض لسوء من الغير، وارتكاب إثم في حقّ نفسه كيلا يرتكبه فيه آخر؟

 

1-18 في العنف والشّهوة اللّذين تتعرّض لهما النّفس كرها في جسدها المستباح

   قد يُعتذر بأنّه يخشى التّدنّس برجس شهوة الغير. الحقّ أنّها لن تدنّسه إن كانت غريبة عنه، أمّا إن تنجّس فليست غريبة عنه. لكن بما أنّ العفّة فضيلة النّفس ويصاحبها العزم الّذي يجعلها تؤثر تحمّل أيّ سوء على الرّضى بالسّوء، فما بملْك أحد، مهما بلغ من سموّ وطهارة الرّوح، ما يُفعل بجسده، بل تنحصر مسؤوليّته في ما ترتضي أو ترفض إرادته. فمن تُفكّر برشاد أنّها فقدت عفافها إن تعرّضت لممارسة وإشباع شهوة غريبة عنها على جسدها المنتهك المستباح؟ إن كان العفاف يتلف بهذا النّحو، فما هو إذّاك قطعا بفضيلة النّفس، ولا هو في عداد تلك الخيرات الّتي بها يعيش الإنسان حياة صلاح، بل يجب أن يُعَدّ ضمن الخيرات الجسديّة كالقوّة والجمال والصّحّة والمتانة وما شابهها، وهي خيرات حتّى لو نقصت لا تُنقص من صلاح واستقامة الحياة. إن كان العفاف من هذا القبيل فلماذا يعرّض الإنسان جسمه حرصا عليه للمشاقّ والأخطار؟ أمّا إن كان من حسنات النّفس، فلا يُفقد حتّى إن انتُهك البدن. بل لمّا تصمد العفّة الطّهور فلا تستسلم لضراوة شهوات الجسد البشعة، يستمدّ الجسد بدوره من نقاوتها نقاوة، ولمّا تثبت أمامها بإرادة صامدة لا يفقد الجسد نقاوته نظرا لاستمرار إرادة صاحبه في التّصرّف فيه بعفّة، والمقاومة بما لديه من طاقة. ذلك أنّ البدن لا يستمدّ نقاوته من بقاء أعضائه صحيحة معافاة سليمة من كلّ أذى، إذ يمكن في حالات شتّى أن تتأذّى من العنف، وأحيانا يُجري عليها الأطبّاء لحفظ صحّتها عمليّات نشمئزّ لمرآها. أفقدتْ قابلةٌ فتاةً بكارتها، عمدا أو لقلّة خبرتها أو عرضا، عند محاولة التّأكّد منها بيدها: لا إخال أحدا يبلغ به الخطل حدّ التّفكير بأنّ شيئا من نقاوة جسمها تلف رغم فقدانها سلامة ذلك العضو فيه. لذا طالما ثبتت النّفس على تصميمها الّذي منه يزّكّى البدن بحقّ، ولا ينتزع عنف شهوة الغير من الجسد نقاوته طالما ظلّ العفاف مستمسكا بها.

   بالمقابل، إن سارت امرأة وقد رنّقت نفسَها الرّذيلة ونكثت بالعهد الّذي نذرت لله، إلى غاويها لممارسة الفجور، هل نعتبرها وهي في طريقها إليه نقيّة الجسد، والحال أنّها أضاعت وأتلفت نقاوة الرّوح الّتي منها يستمدّ الجسد نقاوته؟ بعيدا عنّا هذا الخطأ، ولنتعلّم من هذا المثال بالأحرى أنّ الجسد لا يفقد نقاوته ما دامت نقاوة الرّوح مصونة حتّى إن انتُهك الجسد، كما أنّ نقاوة الجسد تتلف بإتلاف نقاوة الرّوح حتّى إن ظلّ الجسد سليما لم يمسسه أذىن لهذا السّبب ليس لامرأة ما تعاقب في ذاتها بموت اختياريّ إن تمّت مواقعتها عنوة واستبيح جسدها بجناية غيرها وبدون رضاها؛ فمن باب أوْلى ألاّ يُقبل قبل وقوع الاغتصاب بجريمة قتل ثابتة بينما الجريمة نفسها، والّتي هي من فعل الغير، لا تزال ظنّيّة غير ثابتة.

 

1-19 في لُكريتية الّتي انتحرت بسبب اغتصابها

   أفيجرؤ على معارضة استدلالنا الدّامغ على أنّ انتهاك جسد دون أيّ تحوّل في تصميم الضّحيّة على التّمسّك بعفافها باتّجاه الرّضى بالرّذيلة يقع خزيه على المغتصِب فقط لا على الضّحيّة المغتصَبة قسرا، من نؤكّد ضدّ تخرّصاتهم عن المسيحيّات اللاّئي اغتُصِبن في الأسر أنّهنّ احتفظن بنقاوة أنفسهنّ وأجسادهنّ كذلك؟ يشيدون لا محالة إلى أعالي السّماء بلُكريتية، وهي سيّدة رومانيّة كريمة السّجايا عظيمة العفاف عاشت قديما، اغتصب عنوة جسدَها ابن الملك تركوينيوس لإشباع شهوته البهيميّة، فبلّغت بجريمة الفتى السّفيه زوجها كلاّتينوس وأباها بروتوس، وهما رجلان عظيما الجاه والشّجاعة، وأخذت منهما عهدا بالثّأر لها منه، ثمّ إنّها لشدّة تأثّرها من الجريمة النّكراء الّتي تعرّضت لها لم تطق صبرا فانتحرت. ماذا نقول فيها؟ أيجب الحكم بأنّها زانية أم عفيفة؟ من يجد صعوبة في البتّ في القضيّة؟ قال أحدهم في الحادثة هذا البيت البليغ النّابض صدقا: "واعجبا: كانا اثنين وأتى الزّنا واحد." قولة رائعة وصحيحة بدون شكّ: فقد لاحظ في التحام الجسدين الشّهوة الدّنسة في أحدهما والتّمسّك بالعفاف في الثّاني، وأدرك حقيقة ما يجري لا في التحام البدنين بل في اختلاف الرّوحين، فقال: "كانا اثنين وأتى الزّنا واحد."

   لكن ما الّذي استحقّ عقوبة أقسى من عقوبة الزّنا في من لم تقبل الزّنا؟ فالجاني أطرد من الوطن مع أبيه، بينما نالت الضّحيّة أقصى عقاب. إن لم يكن مخلاّ بالشّرف أن تُغتصب قسر إرادتها فليس عدلا أن تُعاقب وقد صانت عرضها. أستشهدكم يا قضاة رومية وشرائعها: لقد شئتم ألاّ يُعدم قطّ مجرم بنحو مشروع دون إدانته مسبقا، وإلاّ كان إعدامه جريمة، فلو أحيلت على أنظاركم هذه الجريمة للحكم فيها، وأُثبت لكم أنّ امرأة عفيفة وبريئة لم تُدن فقط بل قُتلت، ألا تعاقبون الجاني بالصّرامة المطلوبة؟ والحال أنّ الجاني لُكريتية نفسها. نعم لكريتيةُ الممجَّدة كلّ ذلك التّمجيد قتلت البريئة العفيفة وضحيّة العنف فوق ذلك لكريتيةَ. هيّا انطقوا بحكمكم، وإن تعذّر أن تعاقبوها لأنّها لم تمثل أمامكم فلِم تشيدون أيّما إشادة بقاتلة نفس بريئة وطاهرة؟ قطعاً لن يمكنكم كذلك الدّفاع عنها بأيّة حجّة أمام قاضيَي الجحيم كما يصوّرهما شعراؤكم في كتاباتهم، وهي لا شكّ تقيم بين "من بأيديهم قتلوا أنفسهم وهم أبرياء وبغضاً للنّور ألقوا بأرواحهم إلى الجحيم." وإن ابتغت الرّجوع إلى عالم الضّياء "فالقدر يعترض والمستنقع الكئيب ذو اللّجّة الكريهة يرتهنها"*. أم تُراها لا توجد هناك لأنّها انتحرت وهي غير بريئة بل تشعر بالذّنب. ماذا فعلا، وهو أمر عندها هي علمه، لو أنّها استسلمت طوعا، بعدما غواها شبقها، للفتى الّذي اغتصبها عنوة في البدء لا محالة، ثمّ بلغ بها النّدم والنّقمة على ذاتها حدّ التّفكير في التّكفير على سقطتها بالموت؟ مع أنّها لم تكن مضطرّة حقّا للانتحار لو أمكنها أن تعلن أمام آلهتها الزّائفة توبة مجدية. لكن إن حصل ذلك فعلا فسيكون خطأ إذّاك القول بأنّهما "كانا اثنين وأتى الزّنا واحد"، بل أتى الزّنا كلاهما، هو باعتدائه السّافر وهي برضاها الخفيّ بحيث لم تقتل بانتحارها بريئة ويجوز لمحاميها المتفقّهين القول إذن إنّها ليست في الجحيم بين "من بأيديهم قتلوا أنفسهم وهم أبرياء". لكنّ قضيّتها إذّاك في وضع حرج في الحالتين: إن خفّف جرم القتل ثقّل جرم الزّنا، وإن برّئت من الزّنا زيد وزر القتل، فلا مخرج قطّ من المأزق حين يقال: "إن زنتْ فلِم مُجّدت وإن أحصنت عرضها فبأيّ ذنب قُتلت؟"

   أمّا بالنّسبة لنا فللرّدّ بخصوص مثال هذه المرأة المجيد على من يعيّرون، لجهلهم التّامّ بمعنى النّقاوة، المسيحيّات اللاّئي اغتُصِبن في الأسر، يكفي ما قيل ضمن أروع ما مُدحت به: "كانا اثنين وأتى الزّنا واحد". فهو يؤكّد اعتقادهم الجازم بأنّ لكريتية لم تدنّس نفسها بأيّ شكل من الرّضا بالفاحشة، وما دامت قد انتحرت لتعرّضها للمواقعة مع أنّها لم تزن، فليس ما فعلت من حبّ العفاف بل هو من خَور الحياء. إذ استحت من فاحشة ارتكبها الغير عليها مع أنّها تمّت بدون رضاها، وخشيت شأن أيّة سيّدة رومانيّة حريصة على سمعتها أن يُظنّ أنّ العنف الّذي وقع عليها حيّة وقع برضاها إن استمرّت في الحياة، لذا رأتْ أن تُظهر، بإنزال ذلك العقاب على نفسها، شهادة بما في باطنها أمام النّاس الّذين لم تستطع إطلاعهم على سريرتها. بالتّحقيق استحت أن يُظنّ أنّها واطأت على الفعلة إن تحمّلت بتجمّل ما فعل بها الغير بنحو شائن.

   لم تفعل مثلها المسيحيّاتُ اللاّئي تعرّضن إلى اعتداءات مماثلة وهنّ مع ذلك مستمرّات في الحياة، ولم يعاقبن أنفسهنّ بذنب غيرهنّ كيلا يضفن إلى جرائم الآخرين جريمتهنّ لو دفعهنّ ارتكاب الغير فاحشة عليهنّ بتأثير الشّهوة، إلى ارتكاب جريمة قتل على أنفسهنّ بتأثير الخجل. فلهنّ في قرارة أنفسهنّ مجد العفّة، شهادة ضمائرهنّ، ولهنّ كذلك المجد في عيني الله، حيث لا حاجة بهنّ إلى المزيد، فليس ثمّة مزيد من أعمال الاستقامة يفعلنه، كيلا يحدن عن أوامر الشّريعة الإلهيّة إذ يتحاشين بفعل سوء سوء ريَب النّاس.*

 

1-20 لا توجد سلطة تخوّل المسيحيّات الانتحار بأيّ مبرّر

   فما عبثا يتعذّر وجود أيّ أمر أو إذن لنا من الله في الكتب المقدّسة المتّفق عليها* بقتل أنفسنا سواء للمسارعة إلى الحياة الأبديّة أو للتّخلّص أو التّملّص#* من إساءة ما، إذ ينبغي أن نفهم تحريم القتل علينا إطلاقا من وصيّة الشّريعة: "لا تقتل"، سيما وهي لا تضيف "قريبك"، كما في النّهي عن شهادة الزّور حيث تقول: "لا تشهد شهادة زور على قريبك."* لا يحسبنّ مع ذلك أحد، إن شهد شهادة زور على نفسه، أنّه براء من هذا الذّنب، فإنّ قاعدة حبّ القريب مستمدّة من قاعدة حبّ النّفس، إذ جاء في الكتاب: "أحببْ قريبك كنفسك."* لذا ليس أخفّ وزرا بشهادة الزّور إن شهد بالزّور على نفسه ممّا لو شهد بالزّور على القريب، وإن ورد في وصيّة تحريم شهادة الزّور تحريم إتيانها في حقّ القريب، وقد يبدو لمن لا يفهمونه بالوجه الصّحيح كأنّه لا يحرّم شهادة الزّور على النّفس. فما أحرانا بفهم تحريم قتل النّفس أيضا من الوصيّة المنزّلة في الكتاب: "لا تقتل" بدون أيّة إضافة، ولا يُفهم منها إذن أنّ أيّ أحد، حتّى الموصى ذاته، مستثنى من هذا التّحريم. بل يحاول البعض توسعة هذه الوصيّة إلى الحيوانات برّيّها وداجنها، بحيث لا يحلّ بموجبها قتل أيّ منها؛ فلِم لا يشمل كذلك، إن صحّ هذا التّأويل، النّبات وكلّ ما تثبّته في الثّرى وتغذّيه منه جذور، فهذا النّوع من الكائنات وإن عدم الإحساس يدعى "حيّا"، ويمكن بالتّالي أن يموت وكذلك، في حالة استخدام العنف ضدّه، أن يُقتل. لذا قال الرّسول متحدّثا عن البذور الّتي من هذا النّوع: "إنّ ما تزرعه لا يحيا إلاّ إذا مات،"* وكُتب في المزمور: "أهلك بالبرَد كرومهم وجمّيزهم بالصّقيع."* فهل ينبغي لمّا نسمع: "لا تقتل" أن نعدّ حراما قلع سديرة، فنقرّ ضلالة المانويّة ونقع في الجهالة الجهلاء؟ إن استبعدنا بالتّالي هذا الهذيان السّخيف وقرأنا: "لا تقتل"، فلمْ نؤوّلْ هذا القول على أنّه يشمل النّباتات لأنّها عديمة الإحساس ولا الحيوانات غير العاقلة من طيور وسابحات ودبّابات وزحّافات إذ لا مبرّر لإدراجها في عدادنا لأنّها لا تشترك معنا في العقل الّذي مُنحنا دونها ولذا سُخّر لخدمتنا محياها ومماتها بتدبير الخالق أحكم الحاكمين، فيبقى أن نؤوّل القول: "لا تقتل" على أنّه يقصد الإنسان، سواء غيرك أو نفسك، فإنّما يقتل قاتل نفسه إنسانا.

 

1-21 في حالات قتل النّفس المستثناة من تحريم القتل

   لكنّ نفس هذه السّلطة الرّبّانيّة وضعت استثناءات لتحريم قتل النّفس البشريّة، حيث يأمر الله بالقتل إمّا بمقتضى الشّريعة الّتي سنّ لنا، وإمّا مستهدفا شخصا معيّنا بأمر صريح وفي أوان محدّد، لكن ليس القاتل إذّاك من استمدّ رخصة القتل من مُصدر ذلك الأمر شأن السّيف في يد صاحبه، ومن ثمّة لم ينتهك الوصيّة القائلة: "لا تقتل" مَن شنّوا بتفويض من الله حروبا أو عاقبوا بالإعدام مجرمين بمقتضى صلاحيّاتهم كحاملين للسّلطة العموميّة ووفق أحكامه، أي وفق ما يمليه العقل العدل. وإبراهيم ليس براء فقط من تهمة الوحشيّة بل هو محلّ الثّناء على تقواه لأنّه عزم على قتل ابنه بدون ذنب وإنّما امتثالا لأمر ربّه*. ويحقّ التّساؤل عمّا إذا كان يجب أن نعتبر فعلا صادرا عن أمر إلهيّ قتل يفتاح ابنته الخارجة للقائه لأنّه نذر بأن يضحّي للرّبّ بأوّل خارج من باب بيته للقائه عند إيابه سالما من المعركة*. ولا عذر لشمشون لهدّ البيت عليه وعلى أعدائه* سوى أنّ الرّوح الّذي كان يصنع بواسطته معجزات أوحى إليه ذلك الأمر. باستثناء هؤلاء الّذين يأمر بقتلهم الشّرع العادل بوجه عامّ أو الله مصدر العدل تخصيصا، كلّ من يقتل بشرا، سواء نفسه أو غيره، يحمل وزر جريمة قتل.

 

1-22 أيجوز اعتبار الانتحار أبدا دليلا على سموّ النّفس

   وقد يستحقّ كلّ من ارتكبوه على أنفسهم الإعجاب لسموّ نفوسهم، لا الثّناء على سداد تفكيرهم. بل إن استشرنا العقل بتأنّ لن ندعو بالتّحقيق حتّى سموّ نفس انتحار من يعجز عن تحمّل الشّدائد أو خطايا الغير، بل نلمس فيه بالأحرى نفسا خرعة عاجزة عن احتمال رقّ جسدها القاسي أو رأي العامّة السّخيف. وأحقّ بأن يُنعت بسموّ النّفس من هو أقدر على احتمال حياة تعيسة من الفرار منها، ويستهين بحكم النّاس والعامّة بالخصوص، الّذي يلفّه غالبا ظلام الضّلال، أمام نور وصفاء الضّمير. لهذا السّبب، إن كان لا بدّ من اعتبار الانتحار دليلا على سموّ النّفس، فأوْلى بأن يُعَدّ مثالا لذلك السّموّ ثِيُمبروتوس الّذي يروى أنّه بعد قراءة كتاب لأفلاطون يبحث في خلود النّفس ألقى بنفسه من على جدار منتقلا بذلك من هذه الحياة إلى أخرى أفضل في اعتقاده. إذ لم تكن تدفعه شدّة ولا جريمة حقيقيّة أو باطلة حمله عجزه عن تحمّلها إلى التّخلّص من نفسه*، بل لم يحفزه للفوز بالموت وكسر قيود هذه الحياة العذبة سوى سموّ نفسه. غير أنّ أفلاطون نفسه الّذي قرأ كتابه كان قد شهد بأنّ فعله رائع أكثر ممّا هو حسن، إذ كان حتما سيفعله هو نفسه قبل أيّ أحد، بل وسيوصي به لو لم يكن يرى بفضل عقله الّذي به تبيّن خلود النّفس من الواجب الامتناع عنه بل ومنعه بصفة مطلقة*.

   قد يُعترض بأنّ كثيرين انتحروا كيلا يقعوا في أيدي أعدائهم*، لكنّا لا نناقش الآن إن تمّ فعله، بل إن كان ينبغي فعله. فحكم العقل الرّشيد مقدَّم حتّى على الأمثلة الواقعيّة، وتوافقه بالتّأكيد الأمثلة، لكن تلك الّتي هي أجدر بالاتّباع قدر ما هي أروع بتقواها. لم يفعل ذلك الآباء الصّدّيقون ولا الأنبياء ولا الحواريّون لأنّ ربّنا المسيح أشار عليهم في حالة التّعرّض للاضطهاد بالفرار من مدينة إلى مدينة* بينما كان يستطيع الإشارة عليهم بقتل أنفسهم بأيديهم كيلا يقعوا في أيدي مضطهديهم. وما دام لم يأمر أو ينصح بالارتحال من هذه الحياة بتلك الطّريقة من وعدهم بأنّ ديارا أبديّة أُعدّت لهم عند ارتحالهم*، فقد بيّن لنا، ومهما عارضتنا بالأمثال الأمم الّتي تجهل الله، أنّ ذلك غير مباح لمن يعبدون الله الواحد الحقّ.

 

1-23 مثال كاتون الّذي انتحر لأنّه لم يتحمّل انتصار قيصر

   لكن في ما عدا لكريتية الّتي ذكرنا أعلاه بنحو كاف ما يبدو لنا بشأنها، لا يجدون مَن يستندون إلى حجّيّته سوى كاتون الّذي انتحر في أوتيكة، لا لأنّه الوحيد الّذي فعل ذلك، بل لأنّه كان يُعدّ رجلا عالما وشريفا، فاستصوب النّاس وما زالوا، كما هو طبيعيّ، الاقتداء بفعله. ما عسى أن أقول في فعله أكثر من أنّ أصحابه، الّذين هم رجال علماء مثله، ثنوه عنه بتعقّل، معتبرين فعله علامة على خوَر النّفس لا قوّتها، ولا ينمّ عن الشّرف المستحصن من المخزيات بل عن العجز عن تحمّل النّائبات. وذاك في الواقع ما حكم به هو نفسه في وصيّته لابنه الحبيب: إن كان من الخزي العيش في ظلّ انتصار قيصر، لماذا حثّ على هذا الخزي ابنه قائلا له أن ينتظر من سماحة قيصر كلّ ما يرضيه؟ لِم لمْ يحمله على الموت معه؟ وإن نال تُركواتوس الثّناء لقتل ابنه لأنّه حارب الأعداء مخالفا أوامره وإن عاد غالبا، فلِم أعفى كاتون المغلوب ابنه المغلوب مع أنّه لم يُعف نفسه؟ أكان أخزى الانتصار خلافا للأوامر أم تحمّل منتصر خلافا للأنفة؟ لم يَعدّ كاتون شائنا بالتّالي العيش تحت قيصر المنتصر، وإلاّ لانتشل ابنه بسيفه من هذا الهوان، ولأيّ سبب ترى سوى حبّه لابنه الّذي أمل له ورغب في حِلم قيصر، بقدر ما غاظه، أو لقول ذلك بلفظ ألطف أخجله، أن ينال قيصر مجدا بالعفو عنه كما كان قد أعلن على ما يقال*.

 

1-24 في ضرب الشّجاعة الّذي بزّ فيه ريقولوس كاتون ويتفوّق فيه المسيحيّون بشأو

   لكنّ من نكتب للرّدّ عليهم يكرهون تفضيلنا على كاتون أيّوبَ العبد الصّالح الّذي آثر تحمّل أفظع الأدواء في جسده على التّخلّص من كلّ آلامه بالانتحار، أو غيرَه من الصّدّيقين الّذين، حسب كتابنا المقدّس المستمِدّ من مصدره العليّ أسمى الجلال والمصداقيّة، حبّذوا تحمّل الأسر وعنت العدا على اجتلاب الموت.* لكنّي حتّى في أدبيّاتهم أفضّل على مرقس كاتون مرقس ريقولوس. فكاتون لم يغلب أبدا قيصر بل غلبه قيصر، فأنف الخضوع له، وكيلا يخضع له اختار قتل نفسه بيده، بينما كان ريقولوس قد غلب البونيقيّين وسجّل للدّولة الرّومانيّة كقائد لجيشها نصرا لا يألم منه مواطنوه، بل لا يسع حتّى أعداءه إلاّ الثّناء عليه، ولمّا غلبوه آثر بطشهم بالخضوع لهم على الإفلات منهم بالموت. هكذا حافظ وهو تحت سيطرة القرطاجنّيّين على جميل الصّبر وثبت على حبّه للرّومان دون أن يسحب من الأعداء جسده المقهور ولا من مواطنيه نفسه الّتي لم تُقهر. وما جعله يُعرض عن الانتحار حبُّه لهذه الحياة: أثبت ذلك بالعودة بلا تردّد وفاء بوعده وعهده إلى العدا الّذين أساء إليهم أكثر بأقواله في مجلس الشّيوخ ممّا فعل بأسلحته في الوغى. لا شكّ بالتّالي أنّ ذلك الرّجل المستهين بهذه الحياة إلى ذلك الحدّ، باختياره إنهاءها تحت شتّى ألوان التّعذيب وسط أعداء قساة على إرداء نفسه بيده، قد حكم بأنّ الانتحار ظلم عظيم، وأنّ الرّومان لم يقدّموا، من بين رجالاتهم المشاد بمآثرهم رجلا أفضل منه، لم تفسده السّرّاء، إذ ظلّ حتّى في نصره الجليل فقيرا، ولا حطّمته الضّرّاء، إذ عاد بشجاعة إلى هلاك مرير. فإن كان أشجع وألمع الرّجال، حماة الوطن الأرضيّ والعبدة الصّادقون، ولو لآلهة زائفة، الموفون بالعهد، والّذين أمكن وهم غالبون أن يفتكوا بأعدائهم وفق عُرف وقانون الحرب، أبوا وهم مغلوبون في أيدي أعدائهم قتل أنفسهم، ومع أنّهم لا يرهبون الموت آثروا احتمال سيطرة الغالبين على اجتلابه، فما أحقّ المسيحيّين، عبدة الله الحقّ المتطلّعين إلى الوطن العلويّ، بالامتناع عن هذا الجرم إن أخضعهم التّدبير الإلهيّ في فترة من حياتهم لأعدائهم بقصد امتحانهم أو إصلاحهم، هم الّذين في اتّضاعهم واندحارهم لا يتخلّى عنهم من لأجلهم نزل من علائه بكلّ اتّضاع، سيما أنّ لا سلطة عسكريّة ولا قوانين حرب تفرض عليهم حتّى قتل عدوّهم إن ظهروا عليه. أيّ خطإ فادح يتسلّل إلى ذهن المرء فيدفعه إلى الانتحار لأنّ عدوّه أجرم في حقّه أو مخافة أن يفعل، بينما هو لا يجرؤ على قتل ذلك العدوّ وهو يرتكب جرما أو ينوي ارتكابه.

 

1-25 في أنّه لا يجوز اجتناب خطيئة بأخرى

   قد يقال: من الطّبيعيّ الخوف والاحتياط من أن يجرّ الجسد الخاضع لسطو شهوة العدوّ النّفس بإغراء اللّذّة إلى الرّضى بالخطيئة، لذا فليس إثم الغير بل تفادي الإثم الشّخصيّ قبل اقترافه هو ما يبرّر الانتحار. ونقول: كلاّ، لن تفعل ذلك أبدا، مستسلمة لشهوة جسدها المستفيقة تحت إثارة شهوة الغير، نفسٌ مسلمة لله وحكمته لا لشهوة جسدها. وإذا كان الانتحار هو أيضا فعلا بغيضا وجريمة نكراء، كما يعلن الحقّ المبين، مَن يصل به الخبل حدّ القول: "لنأثمْ حاضرا كيلا نأثم ربّما لاحقا، لنرتكب حاضرا جريمة قتل كيلا نقع ربّما لاحقا في خطيئة الزّنا"؟ إن سيطر الإثم على النّفس إلى حدّ اختيار الخطايا عوض البراءة، أليس زنا آت ظنّيّ أفضل من قتل حاضر يقينيّ؟ أليس ارتكاب معصية يمكن محوها بالتّوبة خيرا من جريمة لا تدع مجالا لتوبة منقذة؟

   ذاك مقالي في اللاّئي والّذين يستحبّون قتل أنفسهم تحاشيا لا لخطيئة الغير بل لخطيئتهم، في خوفهم من الاستسلام تحت إثارة شهوة الغير لتأثير شهوتهم الذّاتيّة أيضا. وحاشا نفسا مسيحيّة تؤمن بثقة بربّها، فيه رجاؤها وعلى عونه معوّلها، حاشا نفسا كتلك أن تذعن لشهوات الجسد أيّا كانت فترتضي الرّذيلة. وإن كانت الشّهوة الّتي لا تزال تسكن جوارحنا الآيلة إلى الموت قادرة على التّمرّد على قانون إرادتنا والتّحرّك وفق ما يبدو قانونها الخاصّ، فلا جُناح على من تتملّك جسده بدون رضاه، أكثر ممّن تتملّك جسده في المنام.

 

1-26 لمّا نعلم أنّ صدّيقين أتوا محظورات، أيّ باعث يلزمنا الاعتقاد بأنّه دفعهم إلى فعلها

   قد يقال: لكنّ بعض الصّدّيقات عمدن أيّام الاضطهاد للإفلات ممّن ينوون الاعتداء على عفافهنّ إلى إلقاء أنفسهنّ في النّهر ليحملهنّ ويودي بحياتهنّ، فمُتن بهذا النّحو، والحال أنّ مزاراتهنّ كشهيدات محلّ إقبال وإجلال جماهيريّ متواصل في الكنيسة الكاثوليكيّة. من جهتي لا أجرؤ على الحكم عليهنّ جزافا: لا أدري يقينا إن كان مصدر إلهيّ ألهم الكنيسة بآيات بيّنة تفرض التّصديق أن تكرَّم ذكراهنّ بهذا النّحو، ويجوز أن يكون الأمر كذلك. ألا يجوز فعلا أن يكنّ فعلن ذلك لا انقيادا لخطإ بشريّ بل امتثالا لأمر ربّانيّ، لا ضلالة بل طاعة، تماما كما لا يجوز أن نظنّ غير ذلك بخصوص شمشون. فحين يوجّه الله أمرا ويقذف في قلب العبد أنّه مصدره، مَن تُرى يجرّم الامتثال لحكمه؟ من يطعن في طاعته النّابعة من البرّ والتّقوى؟

   لكن لا يبرؤ من الإثم من يقرّر تقديم ابنه قربانا لله بدعوى أنّ إبراهيم فعل ذلك فحُمد عليه. كذلك الجنديّ لمّا يقتل امتثالا لسلطة نُصّبت فوقه بصفة شرعيّة لا يُتّهم بمقتضى قوانين مدينته بالقتل، بل إن لم يقتل يُتّهم بعصيان الأوامر والاستخفاف بها*. بينما لو فعل ذلك من تلقاء نفسه وبإملاء رأيه الخاصّ لاتُّهِم بسفح دم بشريّ. هكذا يعاقَب في هذه الحال إن فعل ولم يؤمر، وفي تلك إن لم يفعل وقد أُمر. إن كان الشّأن كذلك في ظلّ إمرة قائد، فما بالك لمّا يتعلّق الأمر بحكم الخالق؟ ليفعلْ إذن من يعلم تحريم قتل النّفس إن أمره بذلك من لا يجوز أن يُعصى له أمر، لكن بعد التّثبّت من أنّه أمر ربّانيّ لا يحتمل أدنى شكّ*.

   نحن من جهتنا، لأنّا بالسّماع نطالع سرائر النّاس، لا نستجيز الحكم على خفايا الصّدور، "فإنّه من من النّاس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الّذي فيه؟"* نقول إذن ونؤكّد ونؤيّد بدون تحفّظ أنّه لا يحقّ لأحد قطّ الموت بمحض إرادته هربا من عذاب زائل وإلاّ وقع في عذاب سرمديّ. لا يجوز لأحد ذلك بسبب خطايا غيره وإلاّ اكتسب بدوره خِطئا عظيما بينما لا يزر وزر آخر، ولا كذلك بسبب خطاياه الماضية الّتي هو بحاجة خاصّة إليها في هذه الحياة ليمكنه شفاؤها بالتّوبة، ولا كذلك بذريعة الشّوق إلى حياة أفضل يرتجيها بعد الموت إذ لا تتلقّى من يرتكبون جريمة الانتحار حياة أفضل بعد الموت.

 

1-27 أتجوز الرّغبة في الانتحار تحاشيا للخطيئة؟

   يبقى مبرِّر بدأت الحديث عنه آنفا يرى البعض جدوى في الانتحار بناء عليه: هو توقّي الوقوع في الخطيئة، سواء تحت غواية اللّذّة أو تحت تبريح الألم. إن استسغنا قبول هذا المبرّر، سيصل بنا بالتّدريج إلى نصح النّاس بالانتحار بالتّفضيل فورَ تعميدهم، "غسل الميلاد الثّاني"* والحصول على غفران كلّ خطاياهم، فذاك هو الوقت الأمثل لتوقّي كلّ الآثام الآتية، إثر محو كلّ الماضية رأسا. إن كان الموت الإراديّ مشروعا، فلِم لا ينفَّذ في تلك اللّحظة بالتّفضيل عن سواها؟ لِم يُبقي المعمَّد على حياته؟ لِم يحشر مجدّدا بين مهالك هذه الحياة رأسه بعد تخليصها، بينما يستطيع بسهولة تحاشيها كلّها بالانتحار؟ فلقد كُتب: "الّذي يحبّ الخطر يسقط فيه"* لِم يحبّ المرء كلّ تلك الأخطار الجسام أو على الأقلّ إن لم يحبّها لِم يعرّض لها نفسه بالاستمرار في هذه الحياة إن أُحلّ له الارتحال منها بمحض إرادته؟ أيقلب قلبَه تُرى انحراف أخرق ويحوّله عن مرأى الحقّ*، محبّبا إليه، في حين يحرو به الانتحار كيلا يقع جرّاء الخضوع لأيّ مسيطر في الخطء، الاستمرار في الحياة معانيا هذا العالم المليء في كلّ لحظة بالفتن، منها ما يُخشى تحت سيّد واحد وأخرى متعدّدة لا تخلو منها هذه الحياة؟ لأيّ سبب إذن نضيع الوقت سدى في تلك الخطب الّتي نوجّهها للمعمّدين محاولين بالوعظ حضّهم على البتوليّة، أو عفّة التّرمّل، أو الوفاء لعهد الزّوجيّة، بينما لدينا وسائل أنجع وبمنجى من كلّ مخاطر الخطيئة: أن نرسل منهم من استطعنا إقناعهم إثر مغفرة خطاياهم مباشرة باقتبال وتناوش الموت إلى الرّبّ وهم أصحّ وأزكى؟ الحقّ أقول: إنّ من يرى مخاطبتهم وإقناعهم بهذا الكلام لا يهرف في رأيي بل يرفث بمنكر من القول؛ وإلاّ فأخبروني بأيّ منطق يقول لإنسان: "انتحرْ كيلا تضيف إلى خطاياك الخفيفة خطيئة أفدح إن عشت تحت سلطان سيّد جاف مسيء"، والحال أنّه لا يستطيع دون اقتراف جريمة نكراء القول: "هيّا انتحر إذ غُفرت كلّ خطاياك كيلا تعود لمثلها أو لأسوأ منها بالاستمرار في العيش في عالم يغوي بشتّى اللّذّات الرّجسة ويتلظّى بشتّى ألوان الوحشيّة ويتربّص بك بما لا يحصى من الأخطار والأهوال." ما دام إثما قول هذا فإثم بالتّحقيق قتل الإنسان نفسه. إذ لو أمكن فرضاً أن يوجد مسوّغ قويم لفعل ذلك اختياريّا، لا شكّ أنّه لا يوجد أقوم من الّذي ذكرنا؛ وما دام غير قويم فما بقويم أيّ مسوّغ آخر.

 

1-28 بموجب أيّ حكم إلهيّ سُمح بأن يُشبع العدوّ شهوته الأثيمة في أجساد المتعفّفات

   لا تكن إذن حياتكنّ عليكنّ غمّة أيّتها المؤمنات بالمسيح إن عبث العدا بعفافكنّ، فلكنّ صادقُ وجميلُ العزاء إن برّأتكنّ ضمائركنّ من خطء من سُمح بأن يخطَؤوا فيكنّ. وإن سألتنّ ربّما لماذا سُمح لهم بفعل ذلك، فاعلمن أنّ عناية خالق ومسيّر الكون عميقة الغور "فبعيدة أحكامه عن الإدراك وطرقه عن الاستقصاء"*. لكن سلْن بصدق نفوسكنّ إن لم تكن فضيلة التّحصّن والتّعفّف أو الحياء الّتي وُهبتنّ ربّما نفختكنّ زهوا، وإن لم يكن حبّ ثناء النّاس أيضا أثار فيكنّ حسد الأخريات. لا أتّهم بما لا أعلم، ولا أنا أسمع ما تجيبكنّ على هذا السّؤال نفوسكنّ. لكن إن أجابتكنّ بالّذي ذكرتُ، فلا تعجبن من فقدان ما ابتغيتنّ به مرضاة النّاس، وبقاء ما لا يمكن إظهاره لهم. إن لم ترتضين فعل الخطأة، فذلك أنّ عونا ربّانيّا ردأ النّعمة الرّبّانيّة الّتي أوتيتنّ كيلا تضعنها، بينما ردف* البشريَّ الخزيُ البشريُّ كيلا تحببنه. فلتتعزّين أيّتها الجزوعات: فإنّما امتُحنتنّ هناك وعوقبتنّ هنا، هناك بُرّرتنّ وهنا أُصلحتنّ. أمّا اللاّئي تجيب قلوبهنّ حين يسألنها أنّهنّ لم ينتفخن كبْرا أبدا لامتلاك خلّة التّبتّل أو عفّة التّرمّل أو الوفاء لعشّ الزّوجيّة، بل "ابتهجن برعدة"* بهبة* الله "مائلات < مع المتواضعين> إلى ما هو أسفل"*، ولم يحسدن على نعمة العفّة الّتي تميّزن بها، بل للامبالاتهنّ بالثّناء الّذي يسخو النّاس عادة في منحه بقدر ندرة الخلّة الّتي تستوجبه آثرن بالأحرى ازدياد* عددهنّ على البروز أكثر بقلّتهنّ- من كنّ على ذلك الخُلق، فلا يبخعن نفوسهنّ إن هتكت أعراض بعضهنّ شهوة البرابرة لسماح الله بوقوع ذلك الضّرّ، ولا يحسبنّ اللّه غافلا عمّا اجترح المجرمون، لأنّه سمح بما لا يجترح أحد بدون عقاب. فإنّ حكم الله الخفيّ في اليوم الحاضر يرخي العنان لتسلّط بعض الشّهوات الأثيمة الشّبيهة بأثقال تُعنتنا ويستبقي لها عقابه الجليّ لليوم الآخر. كذلك ربّما كان لمن يعلمن في قرارة أنفسهنّ أنّ قلوبهنّ لم تهتزّ زهوا بنعمة العفّة الّتي أوتين، ومع ذلك تعرّضن في عرضهنّ لتعدّي العدا ضعف خافٍ قد يتعاظم إلى كبْر مختال فخور لو أفلتن من تلك المهانة خلال هذا الدّمار. فكما خطف الموت البعض "لكيلا يغيّر الشّرّ عقله"*، كذلك انتهك أولئك البرابرة عرض بعضهنّ لكيلا يغيّر السّعود تواضعهنّ. بالنّسبة لكلتا الطّائفتين إذن- من كنّ يتباهين أو من كان ممكنا، لو لم ينل منهنّ عنت العدا، أن يتباهين بعدم تعرّضهنّ في أجسادهنّ لفحش يمسّ* كرامتهنّ، لم تُنتزع العفّة وإنّما لُقّن التّواضع عظة بليغة. شُفي كبْر أولئك الفاشي واستُبق كبْر هؤلاء الموشك على الظّهور*.

   كذلك لا ينبغي إغفال هذا الاحتمال: ربّما بدا لبعض من تعرّضن لتلك التّعدّيات أنّه يجب اعتبار خلّة العفاف واحدة من الخيرات الجسديّة تبقى سالمة بالتّالي ما لم تمسّ الجسد شهوة الغير، لا كامنة في قوّة الإرادة وحدها معضودة من الله، مضفية قداسة على الجسد والرّوح معا، ونعمة لا يمكن انتزاعها بدون رضا النّفس. وهو خطأ أزيل على الأرجح عنهنّ: ذلك أنّهنّ لمّا يفكّرن بأيّة نقاوة ضمير عبدن الله، ويحسسن بإيمان راسخ أنّه لا يمكن أن يكون قد تخلّى أبدا عمّن يعبدنه ويدعونه بهذا الصدّق، ولا أن يساورهنّ شكّ في أنّه يرتضي عفّتهنّ، يرين بالتّالي أنّه ما كان أبدا ليسمح بأن تحصل لصدّيقاته تلك المحن لو أمكن أن تتلف بذلك النّحو القداسة الّتي أودع وارتضى فيهنّ.

 

1-29 ما يجب أن تجيب أسرة الله على الكفّار لمّا يعيّرونها بأنّ المسيح لم يخلّصها من عنت الأعادي

   لأسرة الله الحقّ العليّ جمعاء إذن عزاؤها الّذي لا يشوبه زيف ولا يقوم على رجاء أشياء هارية متهاوية، وإن كان يجب كذلك ألاّ تعاف هذه الحياة الفانية نفسها الّتي تعلَّم فيها الإعداد للحياة الأبديّة، فتستخدم، شأن المسافر العابر طيّبات الدّنيا دون الوقوع في أسر فتنتها، وتُبتلى كذلك، فتُزكّى أو تُصلَح، بشرورها. أمّا من يقدحون في فضلها ويقولون كلّما عرضت لها أنواء في الدّنيا: "أين إلهك؟"*، ليقولوا هم بالأحرى أين آلهتهم لمّا يتعرّضون لأنواء شبيهة، لتفادي مثلها تحديدا يعبدونها أو يزعمون وجوب عبادتها. فإنّها ستجيبهم: "إلهي حاضر في كلّ زمان ومكان، وبكلّيّته في كلّ زمان ومكان، دون أن يحويه حيّز الزّمان والمكان، قادر على الحضور دون أن تدركه الأبصار، والتّخلّي دون تحرّك في المكان. لمّا يبلوني بالشّرّ يختبر مؤهّلاتي أو يعاقب خطيئاتي، ويدّخر لي على تحمّلي بتقوى تلك الأنواء الدّنيويّة مكافأة أبديّة. أمّا أنتم فمن تكونون لتستحقّوا أن أكلّمكم حتّى عن آلهتكم، بله إلهي الّذي هو "مرهوب فوق جميع الآلهة لأنّ جميع الآلهة أصنام والرّبّ هو صنع السّماوات."*

 

1-30 أيّة مسرّات مخزية يريد المعرّضون بالعصر المسيحيّ التّشبّع منها

   لو كان يعيش اليوم ناسيكا شبيون الشّهير كبير أحباركم في زمانه، الّذي اختاره بالإجماع مجلس الشّيوخ لمّا كان يبحث، في جوّ الفزع الرّائن أيّام الحرب البونيقيّة عن أصلح رجل لتلقّي تمثال الإلهة الفريجيّة، لما جرؤتم حقّا على النّظر إلى وجهه ولنهركم هو نفسه عن هذه الوقاحة. أيّ سبب يدفعكم فعلا إلى شكوى عصر المسيحيّة كلّما مسّكم الضّرّ سوى الرّغبة في التّنعّم بترفكم وفسقكم بدعة والانغماس في مجونكم بمأمن من كلّ المنغّصات؟ فأنتم لا تبتغون التّمتّع بالسّلام وامتلاك الثّروات الطّائلة من كلّ صنف لاستخدام تلكم الخيرات بصلاح أي باعتدال واستقامة وقناعة وتقوى، بل لتستنزلوا اللّذّات المتنوّعة المتعدّدة وببطر أخرق، وتنشأ وسط الرّخاء في أخلاقكم تلك الأدواء الأدهى من ألدّ العدا.

   والحقّ أنّ شبيون ذاك، حبركم الأعظم، وأفضل رجل بينكم كما حكم مجلس الشّيوخ بأكمله، كان لخشيته عليكم من تلك المصيبة يرفض تدمير قرطاج، مخالفا كاتون الدّاعي إلى محقها، فقد كان يخاف على نفوسكم الضّعيفة من عدوّ أخطر هو الأمن، ويرى أنّ أنسب كفيل لمواطنيه الّذين يعدّهم بمثابة الأعيال هو الخوف*. وما أخطأ لعمري حكمه، فقد أثبت الواقع ذاته صحّته: إذ سرعان ما تبعتْ إبعادَ وإزالةَ فزّاعة الجمهوريّة الرّومانيّة الكبيرة آفات كبرى تمخّضت بها حالة الرّخاء فأفسدت وقوّضت الوفاق أوّلا صراعات دمويّة ضارية على السّلطة، بل ما لبثت أن تلتْ، بسببيّة ترابط الشّرور، حروب أهليّة أحدثت من التّخريب وأراقت من الدّماء وأجّجت مع تفشّي أحكام النّفي وأعمال النّهب من الوحشيّة ما جعل الرّومان الّذين كانوا يخافون في ظلّ حياة أكثر استقامة شرور الأعداء يعانون بعد فقدان استقامة حياتهم شرورا أنكى وأدهى من مواطنيهم. ونفس حبّ السّيطرة الّذي أسكر أكثر من كلّ نقائص الجنس البشريّ الأخرى الشّعبَ الرّومانيَّ أجمع جعله بعد الانتصار على بضعة شعوب  قويّة يوهن ويسحق أخرى ويحني رقابها لنير العبوديّة.

 

1-31 أيّة رذائل في الرّومان زاد حبّ السّيطرة درجاتها

   كيف يمكنه فعلا أن يقِرّ ويعرف الرّاحة في نفوس يملأها الكبْر قبل أن يصل مترقّيا على مدارج الشّرف إلى السّلطة على كلّ الأمم؟ فما كانت القدرة على التّدرّج على مراقي الشّرف لتوجد قطّ لو لم يسيطر عليها الطّموح، ولا كان الطّموح بدوره ليسيطر لولا سيطرة حبّ المال والمجون على شعب بلغ منه الفساد مبلغه. فإنّما جعلت الشّعب ماجنا ومحبّا للمال الرّفاهيةُ الّتي كان ناسيكا بفكر متبصّر سديد يرى من واجبه تحذيره منها لمّا وقف يعارض تدمير أكبر وأقوى وأثرى مدينة عدوّة، ليكبت الخوف الشّهوة، فيحول كبت شهوته دون انغماسه في المجون، ويحول كبح مجونه دون استمكان حبّ المال منه، وبقمع هذه الرّذائل تزدهر وتنمو الفضيلة النّافعة للمدينة، وتترسّخ الحرّيّة الموافقة لتلك الفضيلة. هذا التّفكير، وهذا الحبّ المتبصّر للوطن هو كذلك ما جعل حبركم الأعظم المذكور الّذي انتقاه مجلس الشّيوخ في ذلك العصر- وهو ما يجب التّنويه به- وبدون أدنى خلاف بين الآراء كأفضل رجل يَثني مجلس الشّيوخ الّذي كان ينوي بناء مسرح عن خطّته ورغبته ويقنعه في خطبة حازمة بألاّ يسمح لتفسّخ اليونان بالتّسلّل إلى تقاليد الوطن الرّجوليّة، ويتيح لرذيلة الأجانب خلخلة وتمييع فضيلة الرّومان. ولقد تأثّر مجلس الشّيوخ بقوّة حجّته فمنع نصب المقاعد الّتي كانت قد جُمّعت لحينها وبدأ المواطنون يستخدمونها لمشاهدة الألعاب*. بأيّ حماس كان ذلك الرّجل سيقصي من رومية الألعاب التّمثيليّة نفسها لو جرؤ على الوقوف في وجه سلطة الأصنام الّتي كان يعدّها آلهة ولا يدرك أنّها شياطين ضارّة أو، إن أدرك، كان يرى من الواجب استرضاءها لا ازدراءها! إذ لم يكن قد اعتُلن بعد للأمم الدّين السّماويّ الّذي ينقّي الرّوح ويرقّيها إلى المتع السّماويّة وفوق السّماويّة، ويحوّل كلّيّا وجدان الإنسان بالتّقوى والدّخور ويحرّره من سيطرة الشّياطين المستكبرة.

 

1-32 في إنشاء الألعاب التّمثيليّة

   ألا فاعلموا أنتم يا من تجهلون هذه الحقائق أو من تخفون علمكم بها، وتنبّهوا أنتم يا من تتمتمون ضدّ من حرّركم من الطّواغيت: لقد أنشأتْ برومية الألعابَ التّمثيليّة، عروضَ المخازي وإباحة الأباطيل، لا رذائلُ البشر بل أوامرُ آلهتكم. وكان أقرب إلى القبول أن تسندوا شرف الألوهة لشبيون من أن تعبدوا آلهة من ذلك القبيل، فما كانت تلك الآلهة بأفضل من كاهنها. فتبيّنوا إن سمح لكم بتبيّن أيّة حقيقة ذهنكم الثّمل منذ أمد طويل بخمر الأباطيل: كانت تلك الآلهة تطلب إقامة ألعاب تمثيليّة لها لشفاء أجسامكم من الوباء*، بينما منع حبركم الأعظم إقامة ركح للتّمثيل حذر وباء نفوسكم، فإن كانت في أذهانكم أثارة من نور لتؤثروا الرّوح على البدن اختاروا أيّهما تعبدون. لم ينفثئ وباء الأجساد المذكور لتسلّل جنون الألعاب التّمثيليّة المرهف إلى ذلك الشّعب المحارب والمتعوّد قبل على ألعاب السّرك فقط، بل حرصت أرواح الشّرّ الماكرة الّتي كانت تعلم مسبقا بأنّ ذلك الوباء سينتهي في أجله المقدّر على انتهاز تلك الفرصة لتحقن لا في الأجساد بل في الأخلاق وباء أشدّ وبالا يبهجها لفَّ بظلمات كثيفة قلوب أولئك التّعساء وشوّهها بذلك الانحراف إلى حدّ أنّا حتّى اليوم بعد تدمير رومية، وهو ما قد يصعب على الأجيال اللاّحقة إن علمت به تصديقه، نرى أولئك الّذين تمكّن منهم ذلك الوباء وتمكّنوا من الفرار إلى قرطاج يتنافسون على ارتياد المسارح يوميّا في ولعهم الهوسيّ بالممثّلين.

 

1-33 في رذائل الرّومان الّتي لم تصلحها نكبتهم

   يا للأذهان المصابة بالذّهان#*! أيّ خطإ، بل أيّ جنون وسُعر حتّى تتفجّع على نكبتكم شعوب الشّرق وتعلن الحداد الرّسميّ كبريات المدائن في أقصى الأرض بينما لا همّ لكم سوى المسارح، تبحثون عنها وتؤمّونها وتملؤونها* وتزيدونها على جنونها السّابق أضعافا. كان شبيون يخشى عليكم تحديدا هذا الدّمار والوباء الفاتك بالنّفوس، هذا الاندحار للفضيلة والاستقامة، لمّا كان يعارض بناء مسرح، ويرى أنّ بمقدور الرّفاهية إفسادكم وتدميركم بسهولة، ويرفض أن تعيشوا في أمان بلا خوف من الأعداء، إذ لم يكن يرى من سعادة لدولة متماسكة الأسوار متداعية الأخلاق. لكنّ غواية الشّياطين الكفورة غلبتْ فيكم تحذير رجالكم المتبصّرين. لذلك لا تحبّون أن تُعزى لكم الشّرور الّتي تأتون، بينما تنعون على العصور المسيحيّة تلك الّتي تقاسون. ففي سلمكم لا تنشدون استتباب الأمن للدّولة بل تعاطي فجوركم بدعة وبلا عقاب، إذ أفسدكم الرّخاء دون أن تصلحكم الضّرّاء. كان شبيون يريد تخويفكم بالعدوّ كيلا تتفسّخوا في المجون: لكنّكم حتّى بعدما سحقكم العدوّ لم ترعووا عن المجون فخسرتم فائدة البأساء وصرتم في قمّة البؤس وبقيتم على فسادكم.*

 

1-34 في لطف الله الّذي خفّف نكبة رومية

   مع ذلك من فضل الله ومنّه أنّكم ما زلتم أحياء: فهو بإبقائكم يدعوكم إلى إصلاح نفوسكم بالتّوبة، ورغم جحودكم يتيح لكم الإفلات من أيدي أعدائكم سواء بانتحال اسم عبّاده أو باللّجوء إلى مزارات شهدائه. يقال إنّ رومولوس وريموس أسّسا حرما من دخله كان آمنا، في سعيهما إلى زيادة سكّان المدينة الّتي اعتزما إنشاءها: ذاك مثال جدير بالإكبار سبق ما تمّ حديثا إجلالا للمسيح، فلقد أقرّ مخرّبو رومية ما سنّ مؤسّساها قبل. فما أروع أن يكون ذانك قد فعلا لزيادة مواطنيهما ما فعل هؤلاء لإبقاء العديد من عِداهم.

 

1-35 في أبناء الكنيسة الخافين بين الكافرين، وفي المسيحيّين الزّائفين داخل الكنيسة

   بذاك ومثله، إن أمكن وجود ردود أسهب وأنسب، يمكن أن تجيب أعداءها أسرة ربّنا المسيح فاديها، ومدينةُ المسيح الملك الغريبة في هذه الدّيار. عليها أن تذكر أنّ بين أعدائها أشخاصا خافين سيكونون لاحقا من مواطنيها، كيلا تفكّر أنّ لا نفع يُرجى حتّى من أولئك الّذين عليها تحمّل عنتهم إلى أن تصل بهم إلى شهادة الإيمان، كما تضمّ مدينة الله في عدادها، خلال رحلتها في هذا العالم، أناسا ينتمون إليها بالمشاركة في شعائر أسرارها ولن يشاطروها مُقام القدّيسين الأبديّ، بعضهم خافون وبعضهم سافرون ومع الأعداء أنفسهم لا يتردّدون في الدّمدمة ضدّ الله الّذين يحملون شارته المقدّسة ويؤمّون تارة معهم المسارح وتارة معنا الكنائس. لكن لا يجب أن نبالغ في اليأس من بعضهم ما دام هناك بين من يعادوننا جهارا أناس قُدر أن يكونوا من رفاقنا، خافون عنّا وجاهلون بذلك هم أنفسهم حتّى الآن. فتانك المدينتان متشابكتان حقّا ومتماشجتان في هذا العالم إلى أن يُفصل بينهما يوم الدّينونة. سأعرض بإذن الله في ما يلي ما ينبغي في اعتقادي أن يقال عن مَنشئهما ومسارهما ومآلهما المقدور، مشيدا بمجد مدينة الله الّذي، بمقابلتها بالأخرى، يبرز بنحو أسطع وأجلى*.

 

1-36 في القضايا الّتي سنعالجها في النّقاش التّالي

   لكن ما زال لديّ ما أقول ضدّ من يعزون نكبة دولة الرّومان لديانتنا لأنّها حظرت تقديم الذّبائح لآلهتهم. يجب فعلا أن نذكر أيّة خطوب- وقدر ما يمكن أن تحصل أو تبدو ممكنة بنحو كاف- عانت هذه المدينة أو الأقاليم التّابعة لامبراطوريّتها* قبل أن يُحظر تقديم الذّبائح لتلك الآلهة. فإنّهم حتما سيعزونها كلّها لنا لو كان ديننا قد سطع يومذاك على الدّنا أو منع طقوسها المقدّسة الأثيمة.*

   ثمّ علينا أن نبيّن بأيّة أخلاق حصلوا ولأيّة غاية أعانهم الله الّذي بيده كلّ مُلك على توسيع سلطانهم، بينما لم تنفعهم قطّ بل ضرّتهم بالأحرى بغشّهم وتضليلهم الآلهة الّتي يتوهّمون. أخيرا سنردّ على من يحاولون، بعدما تمّ دحضهم وإفحامهم بالأدلّة الدّامغة، إثبات لزوم عبادة الآلهة لما فيها من نفع لا للحياة الحاضرة بل للآخرة. وهي قضيّة ستكون، إن لم يخطئ ظنّي، أشقّ وأحقّ بنقاش أدقّ، إذ سنتصدّى فيه لفلاسفة، لا من العيار العاديّ بل يحظون لديهم بأحسن صيت ويشاطروننا أفكارا كثيرة كخلود النّفس وخلق الله الحقّ للعالم وعنايته مسيّرة العالم الّذي خلق.* لكن لمّا كان لزاما تفنيدهم هم أيضا في أفكارهم المناقضة لعقيدتنا، يجب ألاّ نتقاعس عن هذه المهمّة لنُقرّ، بعد ردّ اعتراضات الكفر بقدر ما يمنحنا الله من الطّاقات، مدينة الله والتّقوى الحقيقيّة وعبادة الله الحقّ الّتي هي وحدها وعدت حقّا بالنّعيم الأبديّ. فلنضع حدّا هنا لهذا الكتاب، لنتناول المواضيع الّتي اعتزمنا عرضها انطلاقا من مقدّمة أخرى.