القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

المقدّمة

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

الاعترافات للقدّيس أغسطينوس

 

مقدّمة المترجم

 

    وُلد أورليوس أغسطينوس في 354 م بطاغستة ( سوق أهراس، بشرق الجزائر) من أمّ مسيحيّة وأب وثنيّ. درس في مادورة ثمّ في قرطاج، حيث تحمّس لدراسة الفلسفة، ثمّ درّس فيها، وتأثّر بالمانويّة الّتي كانت إذّاك في أوج تأثيرها ثمّ غادرها في سنّ 28 للتّدريس في روما. ومنها سافر إلى ميلانو وعرف أسقفّها الشّهير أمبروسيوس الّذي عمّده في 387 بعد تحوّله إلى العقيدة الكاثوليكيّة في 386 ومنها عاد إلى إفريقية، حيث اشتغل مساعدا لأسقفّ هبّونة ( عنّابة) لتقدّمه في السّنّ من 391 إلى موته في 396 فعيّن إذّاك خلفا له وبقي أسقفّا لها حتّى موته في 430 وجيش الوندال يحاصرها. فهو من كتّاب شمال إفريقية اللاّتين، ومن آباء الكنيسة والمدافعين عن عقيدتها ضدّ المذاهب الأخرى وضدّ أصحاب البدع كمنتانوس وأبولّيناريوس وبيلاجيوس.

    كتب "الاعترافات" في بداية ولايته الأسقفّيّة 397 وهو أوّل سيرة ذاتيّة مركّزة على الجانب الرّوحيّ ويعدّ مع "مدينة الله" اللاّحق أشهر كتبه. أتى الكتاب في شكل اعتراف موجّه إلى الله يستعيد فيه ذكريات حياته منذ الطّفولة وتطوّره الفكريّ طالبا من الله مغفرة خطاياه، وشاكرا نعمته الّتي قادته من الضّلال إلى الإيمان. وفي الفصول الأربع الأخيرة، يعالج قضايا فلسفيّة ولاهوتيّة كطبيعة كلام الله، أو الزّمان والذّاكرة والخلق وتأويل الكتاب المقدّس. يبدو في اعترافاته صادقا وصريحا لا يحاول تبرير نفسه ولوم الآخرين كما يفعل روسّو أو شاتوبريان. وهو شديد الصّرامة في محاسبة ذاته ممّا يذكّرنا ببعض صوفيّة الإسلام كالمحاسبيّ، فقد تبدو لنا بعض الذّنوب الّتي يؤاخذ بها نفسه بشدّة، ويريد من خلالها إظهار الخطيئة في الإنسان، كالميل إلى اللّعب في صباه أو سرقة الفواكه من بستان جاره في شبابه من اللّمم. تظهر لنا حياة أغسطينوس في بدايتها سلسلة من الإخفاقات لأنّه ككلّ إنسان يحمل في ذاته الخطيئة، ويلتمس اللّذّة في ذاته وفي الآخرين وفي الأشياء بدلا من الله. منذ الصّغر نرى أخطاءه، بل خطاياه: في اللّعب، في الدّراسة، في علاقاته الجنسيّة، في السّرقة المجّانيّة، في اهتمامه بالتّنجيم، بل في الصّداقة، لأنّها ليست صداقة في الله، وفي اهتماماته العلميّة والفلسفيّة والجماليّة، إذ كان من المفروض أن يضعه كتاب هرتنسيوس لشيشرون على الطّريق إلى الحقيقة، لكنّه توجّه إلى المانويّة ثمّ إلى فلسفة الشّكّ الأكاديميّة؛ كذلك لم تقده دراسته الجماليّة إلى معرفة السّنا الأسنى والبهاء الأعظم. في نفس الوقت، كانت العناية الإلهيّة تحيط به باستمرار وما انفكّ الله يقوده إليه: بموت صديقه، بحلم والدته، بكشف أغاليط المانويّة عن طريق فاوستوس، بقيادته إلى أمبروسيوس، بفتح بصيرته على ضلال التّنجيم، بإطلاعه عن بعض كتب الأفلاطونيّين المحدثين، بقيادته إلى سمبلقيانوس، بإطلاعه على قصّة الرّاهب أنطونيوس وقصص شبيهة. الله هو الّذي أنار قلبه، وإن وُجد فيه القانون الأخلاقيّ ونور الحقّ في الأصل. نجد هنا فكرة النّعمة الإلهيّة، ورفض الحرّيّة الإنسانيّة بالمعنى المطلق، لكن مع تأكيد مسؤوليّة الإنسان: فالشّرّ من نفسه، من إرادته المنحرفة الّتي تزيّن له الشّهوة- شهوة الجسد والعين وفخر الحياة- فتصير عادة، وتستحكم منه، بينما الخير من الله وبإحسانه. فليست اعترافاته إذن استبطانا ودراسة في النّفس الإنسانيّة بل هي اعتراف بخطايا الإنسان ونعمة الله معا. وأغسطينوس يقارن باستمرار بين الله والإنسان: الله هو الحقّ والخير والجمال والأبديّة والإنسان هو الضّلال والشّرّ والدّمامة والفناء، والإنسان لا يجد في نفسه سوى العناء، أمّا الرّاحة الحقيقيّة ففي الله وحده. في الكتاب مقاطع ذات طابع قصصيّ مشوّق، كحادثة السّرقة أو مرضه أو إيقاف صديقه أليبيوس بتهمة السّطو أو الاستعدادات للزّواج إلاّ أنّ غرض الكاتب ليس روائيّا، فلا يلبث أن يعود إلى التّحليل والاعتبار. وفيه مقاطع مؤثّرة تحرّك قلوبنا بقوّة، كموت صديقه وأمّه وتحوّله الحاسم إلى الإيمان. يذكّرنا هذا التّحوّل بعد بحث مضن وأزمة شكّ حادّة ببسكال مثلا، أو عند المسلمين بالغزاليّ الّذي روى لنا هو الآخر، في "المنقذ من الضّلال" "تعطّشه إلى درك حقائق الأمور"، و"تردّده بين تجاذب شهوات الدّنيا ودواعي الآخرة"، وحيرته بين شتّى مذاهب عصره وأزمة الشّكّ الّتي خرج منها "بنور قذفه الله في صدره". يمكن كذلك تقريب القدّيس أغسطينوس من بعض صوفيّة الإسلام وما ذكروا من أحوال ومقامات السّالكين، وكذلك من بعض مقالات المتكلّمين ومواقفهم حول حرّيّة الاختيار أو طبيعة كلام الله والعلاقة بين ذاته وصفاته، لذا لن يكون قارئ "الاعترافات" العربيّ في عالم غريب عنه تماما وسيجد فيه بلا شكّ متعة كبرى.

    قبل أن نترك القارئ مع القدّيس أغسطينوس، نودّ الإشارة إلى أنّا أضفنا عناوين لفقرات النّصّ، وأنّا ضمّنّا الاستشهادات، وأغلبها من الكتاب المقدّس وعلى الأخصّ سفر المزامير ورسائل القدّيس بولس وإنجيل القدّيس متّى حسب التّرجمة اللاّتينيّة لهيرونيموس، حسب التّرجمة العربيّة الكاثوليكيّة ( ترجمة الآباء اليسوعيّين وهي في ظنّنا الأكثر تداولا) رغم الاختلاف في المعنى أحيانا، ودون الإشارة دوما إلى مصدرها لكثرتها. وقد أشرنا كذلك إلى بعض الصّيغ البلاغيّة الّتي يكثر منها القدّيس أغسطينوس، رغم صدق اعترافاته، بخلاف الغزاليّ المتّجه "إلى المعاني وتحقيقها دون الألفاظ وتلفيقها"، ولا عجب فقد كان أستاذ بلاغة. ونرجو أن نكون قد وفّقنا في نقل معاني هذا الكتاب العظيم إلى قرّاء العربيّة. والله وليّ التّوفيق.

 

عمّار الجلاصي، 10 أيلول 2001