القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب الثّالث عشر- تابع

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

13-22 مغزى خلق الله الإنسان على صورته

  32 هكذا اللّهمّ ربّنا وخالقنا نحوّل عن حبّ الدّنيا مشاعرنا الّتي تميتنا بعيشنا حياة سيّئة، وتصير لدينا نفس حيّة بعيشنا حياة صالحة، ويحقّ القول الّذي قلتَ على لسان رسولك: "لا تتشبّهوا بهذا الدّهر". ويتبعه كذلك القول الّذي أردفتَ فورا: "لكن أصلحوا أنفسكم بتجديد قلوبكم"، لا بحسب الصّنف الآن بالاقتداء بسلفنا، أو العيش على مثال إنسان أفضل. فما قلتَ: "ليكن الإنسان حسب صنفه" بل قلتَ: "لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا"، وذلك لنتبيّنَ مشيئتَك. لذلك قال رسولك، الوالد بإنجيلك أبناء، كيلا يستمرّ في تعهّد صغار يرضعهم لبنا ويرعاهم كالمرضعة: "أصلحوا أنفسكم بتجديد قلوبكم حتّى تتبيّنوا مشيئة الله، فذلك صلاح ورضوان وكمال." لذلك لا تقول: "ليكن الإنسان" بل تقول: "لنصنعْه"، ولا تقول: "بحسب صنفه" بل: "على صورتنا ومثالنا". فإنّ من جدّد قلبه حقّا ويدرك حقّك ويتأمّله بغير حاجة إلى إنسان يرشده ليقتدي به حسب صنفه، بل بهداك يتبيّن بنفسه مشيئتك الّتي هي صلاح ورضوان وكمال. وتعلّمه أن يرى- بعدما بات قادرا على ذلك- تثليث وحديّتك ووحديّة ثالوثك؛ لذا قلتَ بصيغة الجمع: "على صورتنا" ثمّ بصيغة الإفراد: "وخلق الله الإنسان"؛ فتقول في الجمع "على صورتنا" ثمّ في المفرد بأنّك خلقته على صورتك. "هكذا يتجدّد الإنسان لمعرفة الله على صورة خالقه" ويصير روحيّا "فيحكم في كلّ شيء في كلّ ما ينبغي أن يحكم فيه وليس أحد يحكم فيه".

13-23 حدود استخلاف الإنسان في الأرض

  33 "يحكم في كلّ شيء"، أي يتسلّط على أسماك البحر وطير السّماء وكلّ البهائم والوحوش، وجميع الأرض وعلى الدّبّابات الدّابّة على الأرض. وهو يمارس هذا السّلطان بفكره الّذي يتيح له "إدراك ما لروح الله". وقد "رُفع الإنسان إلى هذه الكرامة فلم يفهم فماثل البهائم وتشبّه بها". هكذا اللّهمّ نجد كنيستك بالنّعمة الّتي منحتَها- "لأنّا نحن صنعك مخلوقين للأعمال الصّالحة"- لا تضمّ فقط من يأمرون حسب الرّوح، بل كذلك من يخضعون حسب الرّوح لمن يأمرون. ولقد خلقتَ الإنسان من ذكر وأنثى في نعمتك الرّوحيّة "حيث ليس ذكر ولا أنثى ولا يهوديّ ولا يونانيّ ولا عبد ولا حرّ". فالرّوحيّون- سواء منهم من يأمرون ومن يخضعون- يحكمون حسب الرّوح. لا يحكمون في الحقائق الرّوحيّة السّاطعة في جلد السّماء إذ لا يجوز الحكم في سلطة بمثل تلك الرّفعة. ولا هم يحكمون كذلك في كتابك المقدّس، حتّى حيث يبدو غير واضح، فنحن نُخضع له فكرنا، ونعتقد جازمين أنّ حتّى ما استغلق على أنظارنا قيل حقّا وصدقا. فالإنسان، حتّى الّذي صار روحيّا و"تجدّد لمعرفة الله على صورة خالقه" مطالَبٌ بتطبيق الشّريعة لا الحكم عليها، ولا يستجيز تصنيفَ النّاس إلى روحيّين وجسديّين، بل عيناك اللّهمّ فقط تميّزان بينهم، قبل أن يكشفهم لأعيننا أيّ عمل "لنعرفهم من ثمارهم". بينما أنت يا ربّ تعرفهم من قبل، وقد ميّزتهم ودعوتهم في خفيّ علمك، قبل أن تخلق جلد السّماء. ورغم أنّه روحيّ لا يحكم على جماهير هذا العالم النّزقة. "فإنّه ماذا يعنيه أن يَدين الّذين في الخارج"، وهو يجهل من سيخرج منهم ليذوق حلاوة نعمتك، ومن سيبقى إلى الأبد في مرارة الكفر؟

  34 هكذا لم يؤت الإنسان الّذي خلقته على صورتك سلطانا على نيّرات السّماء ولا على السّماء الخفيّة ولا على النّهار واللّيل اللّذين سمّيتَ قبل خلق السّماء ولا على جمع المياه الّذي هو البحر. لكنّه أوتي سلطانا على أسماك البحر وطير السّماء وجميع الأرض والدّبّابات الدّابّة على الأرض. يحكم فيؤيّد ما يجده سويّا ويشجب ما يجده منحرفا، سواء في إقامة الأسرار المقدّسة الّتي يُلقّاها ويتشرّبها مِن رحمتك مَن تجتاب لتجتلبهم غمار المياه، أو في الشّعيرة الّتي يقدَّم فيها سمكٌ صيدَ من الأعماق لتقتات به الأرض الدّيّنة*، أو في عروض وشروح كتابك الخاضعة لسلطانه كالطّير تحت جلَد السّماء- تأويله وتفسيره والنّقاش والمناظرة فيه وحمدك ودعائك، بالألفاظ الّتي تنطق بها الأفواه فيجيب الشّعب: آمين. لا بدّ من بيان كلّ تلك المعاني بلغة الجسد بسبب غمر هذا العالم وعمى الجسد، فهما لعجزهما عن تبيّن المعقولات بحاجة إلى أقوال تقرع الآذان. هكذا رغم تكاثرها على الأرض، تستمدّ الطّيور من المياه أصلها. والرّوحيّ يحكم كذلك، مؤيّدا ما يراه سويّا وشاجبا ما يجده منحرفا في أعمال وأخلاق المؤمنين، في صدقاتهم الشّبيهة بالأرض المثمرة وفي النّفس الحيّة الّتي راضت بالعفّة والصّوم والأفكار الدّيّنة أهواءها، وفي ما يدرك حسّ الجسد. بناء على هذا يمكن القول إذن إنّه يحكم في كلّ ما له قدرة على إصلاحه*.

13-24 معنى النّموّ والتّكاثر

  35 لكن أيّ لغز هذا؟ ها أنت اللّهمّ تبارك البشر "لينموا ويكثروا ويملؤوا الأرض". ألستَ بذلك تنبّهنا لنفهم حقيقة معيّنة؟ لِم لمْ تبارك بذلك النّحو النّور الّذي أسميته نهارا، ولا جلَد السّماء ولا النّيّرات ولا النّجوم ولا الأرض ولا البحر؟ سأقول إنّك اللّهمّ إلهنا الّذي خلقتنا على صورتك، سأقول إنّك شئت أن تمنح الإنسان دون سواه نعمة مباركتك لو لم تبارك بنفس النّحو الأسماك والحيتان لتنمو وتتكاثر وتملأ ماء البحر، والطّير لتتكاثر فوق الأرض. سأقول كذلك إنّك خصصتَ بهذه البركة أنواع الكائنات الّتي تنتشر بالتّوالد لو وجدتُها في الشّجر والقضب وبهائم الأرض. لكنّ النّباتات والأشجار والدّبّابات لم تتلقّ منك هذا الأمر: "انموا وتكاثروا"، وكلّها مع ذلك تنمو بالتّوالد شأن الأسماك والطّيور والبشر، وتحفظ بذلك بقاء نوعها.

  36 ماذا أقول إذن يا نوري أيّها الحقّ؟ أأقول إنّ ذلك هراء ولغو باطل؟ أبدا يا أبا البرّ. بعيدا عن خادم كلمتك قول ذلك. إن كنتُ لا أفقه ماذا تعني بذلك القول، فلْيتجرّد له بنحو أفضل من هم أفضل، أعني أفطن منّي، حسبما منحت من الفطنة كلاّ منّا. لكن تقبّل اعترافي الّذي به أعترف لك يا ربّ باعتقادي أنّك ما تكلّمتَ كذلك باطلا، ولن أغفِل ما توحي إليّ قراءته من الفِكر. فهو حقّ ولا أرى ماذا يمنعني من فهم أقوال كتابك المجازيّة بهذا النّحو. إذ أعلم أنّ بالإمكان التّعبير بعديد من الصّور الحسّيّة عن الفكرة الواحدة المتمثَّلة بالذّهن، وأنّ الذّهن يتمثّل بعديد من الطّرق ما عُبّر عنه بصورة واحدة. هذه مثلا محبّة الله والقريب: هي فكرة بسيطة تترجَم بشعائر عدّة وبما لا يحصى من اللّغات وبعديد العبارات الحسّيّة في كلّ لغة. هكذا ينمو ويتكاثر نسل المياه. انتبه كذلك يا من تقرأني إلى هذا الأمر: ألا يمكننا فهم ما يقدّم لنا الكتاب المقدّس بعبارة واحدة ونقرأه بطريقة واحدة: "في البدء خلق الله السّماء والأرض" بطرق متعدّدة، مستبعدين كلّ خطإ أو تضليل، وفق شتّى التّآويل الصّحيحة؟ هكذا ينمو ويتكاثر نسل البشر.

  37 هكذا إن فهمنا حسب المعنى اللّفظيّ لا على سبيل المجاز، فعلى كلّ المخلوقات الّتي تولد من بذرة يصدق قولك: "انموا وتكاثروا". لكن إن أوّلنا هذه الجملة مجازا وهو في اعتقادي ما قصد إليه الكتاب المقدّس الّذي ما عبثاً خصّ بهذه المباركة نسل الأحياء المائيّة والبشر، فسنجد بلا شكّ كثرات في الخلائق الرّوحيّة والجسمانيّة كما في السّماء والأرض، في النّفوس البارّة والأثيمة كما في النّور والظّلمة، وفي الصّدّيقين الّذين بواسطتهم بُلّغنا شريعتك كما في جلَد السّماء المستقرّ بين مياه ومياه، وفي مجموع الشّعوب الّتي لم تزل تعيش في مرارة الكفر كما في لجّة البحر، وفي قنوت الأنفس التّقيّة كما في اليبس، وفي أعمال الرّحمة بحسب حياتنا الحاضرة كما في الأعشاب النّاشئة من بزرها والأشجار المثقلة بثمرها، وفي المواهب الرّوحيّة الّتي تُظهرها لمنفعتنا كما في نيّرات السّماء، وفي الأهواء المروضة بالانضباط كما في النّفس الحيّة. في كلّ هذه الأشياء نلقى الوفرة والخصب والتّزايد، أمّا النّموّ والتّكاثر بحيث يعبَّر على شيء واحد بعديد من الطّرق، وتُفهم عبارة واحدة بعديد من الطّرق، فلا نجدهما إلاّ في الرّموز المبان عنها بلغة الحسّ أو الأفكار المتمثَّلة بالعقل. فالرّموز الّتي يبين عنها حسّ الجسد نفهمها على أنّها نتاجات المياه الّتي حتّمها تردّي الجسد في الحضيض، وأمّا الأفكار المتمثّلة بالعقل فنفهمها على أنّها نتاجات البشر المنبثقة من قوّة العقل المبدعة. لذا قلتَ اللّهمّ في اعتقادنا لكلا الصّنفين: "انموا وتكاثروا". أدرك أنّك بهذه المباركة منحتنا الملَكة والقدرة على أن نعبّر بعديد الطّرق على الفكرة الواحدة الماثلة في أذهاننا، ونفهم بعديد الطّرق النّصّ الواحد الغامض الّذي نقرأه. هكذا تمتلئ مياه البحر الّتي إنّما يحرّكها استنباط شتّى معانيها، وهكذا تمتلئ كذلك بنسل البشر الأرض الّتي يتجلّى يبسها في الحماس للمعرفة الخاضع للعقل.

13-25 ثمرات الأرض

  38 أريد كذلك أن أقول يا ربّ وإلهي ما يوحي به إليّ ما يلي من كتابك وسأقول بلا وجل إذ سأقول الحقائق الّتي ألهمتني وشئتَ أن أقول حول أقوالك. فما أظنّني أقول حقّا إلاّ ما تلهمني فأنت "صادق وكلّ إنسان كاذب"، و"من يتكلّم بالكذب فإنّما يتكلّم بما هو له". لأتكلّمْ بالحقّ إذن، لأتكلّم بما هو لك. "أعطيتَنا كلّ عشب يبزر بزرا على وجه الأرض كلّها وكلّ شجر فيه ثمر يبزر بزرا يكون طعاما لنا"، لا لنا وحدنا بل كذلك لكلّ طير السّماء وبهائم الأرض والدّبّابات لكنّك لم تعط ذلك الأسماك والحيتان العظام. قلنا إنّ ثمرات الأرض تلك تعني وتمثّل مجازا أعمال الرّحمة الّتي تُبرزها من الأرض الخصبة حاجات هذه الحياة. كتلك الأرض كان أونيسفورس* التّقيّ الّذي منحتَ بيته رحمتك لأنّه "فرّج مرّات كثيرة عن رسولك بولس ولم يستحيِ بسلسلته". صنيعا وثمرا مماثلين آتى كذلك "الإخوة الّذين قدموا من مقدونية وسدّوا كلّ حاجاته". بالمقابل يشكو رسولك من بعض الأشجار الّتي لم تعط ثمرها الواجب له حيث يقول: "عند احتجاجي الأوّل لم يحضر معي أحد لكنّ الجميع تركوني، ولا حاسبهم الله على ذلك". تلك أمور واجبة لمن ينشرون دينا عقلانيّا شارحين لنا الأسرار الإلهيّة. تجب لهم كبشر، وتجب لهم كنفوس حيّة تقدّم لنا مثالا نقتدي به في كلّ فضيلة، وتجب لهم كطير في السّماء للبركات الّتي ينشرون على الأرض، "ففي الأرض كلّها ذاع منطقهم".

13-26 العطيّة والثّمر

  39 يقتات بهذه الأطعمة كذلك الّذين يفرحون بها، لكن لا يفرح بها من "إلههم البطن". فحتّى في من يقدّمونها، ليست الثّمرة ما يعطون بل الرّوح الّذي به يعطونه. لذلك أرى جيّدا مصدر فرح رسولك الّذي يخدم إلهه لا بطنه وأهنّئه عليه كثيرا. كان قد تسلّم من أبفروديتُس* ما أرسل إليه أهل فيلبّي. أرى مع ذلك مصدر فرحه الحقيقيّ، فحيث يجد قوت قلبه يجد فرحه، إذ يقول بحقّ: "لقد فرحتُ في الرّبّ فرحا عظيما بأنّه الآن أخيرا قد أزهر اعتناؤكم بي فيما اعتنيتم فيه ثمّ نالتكم السّآمة". كانوا يعانون إذن من السّآمة وكما لو جفّوا وخلوا من ثمرة العمل الصّالح. فهو يفرح لهم إذ أزهروا من جديد لا لنفسه لسدّ حاجته. يتابع فعلا: "لست أقول ذلك عن احتياج فإنّي قد تعلّمت أن أكون قنوعا في أيّة حالة كنت فيها. وأعرف أن أتّضع وأعرف أن أُرغد فإنّي في كلّ مكان وفي كلّ شيء قد ألفتُ أن أشبع وأن أجوع وأن أرغد وأن أعوز. إنّي أستطيع كلّ شيء في الذي يقوّيني".

  40 ما مصدر فرحك إذن يا بولس العظيم؟ ما مصدر بهجتك وقوتُ قلبك، أنت "الإنسان المتجدّد لمعرفة الله على صورة خالقك"، والنّفس الحيّة المسيطرة على شهواتها، واللّسان المجنّح النّاطق بالأسرار اللّدنّيّة؟ لمثل هذه النّفوس الحيّة يجب حقّا هذا القوت. ما الذي يغذّيك؟ الفرح. لأستمعْ إلى ما يلي. يقول: "تعلمون أيضا يا أهل فيلبّي أنّه في ابتداء البشارة حين خرجتُ من مقدونية لم تشاركني كنيسة من الكنائس في شيء يُعَدّ من العطاء والأخذ إلاّ أنتم وحدكم، فإنّكم بعثتم إليّ في تسّالونيكي مرّة بل مرّتين بما أحتاج إليه". هو الآن يفرح بعودتهم إلى أعمالهم الصّالحة، ويبتهج بإزهارهم مجدّدا كتجدّد خصوبة الحقل.

  41 أبسبب حاجاته قال: "بعثتم ما يسدّ حاجاتي"؟ أبسبب ذلك يفرح؟ كلاّ. من أين نعلم ذلك؟ لأنّه يتابع هو نفسه كلامه قائلا: "ولست أبتغي العطيّة وإنّما أبتغي الثّمر"*. تعلّمتُ منك اللّهمّ التّمييز بين العطيّة والثّمر. العطيّة هي الشّيء ذاته الّذي يعطيه من يوفّر تلك الضّروريّات كالمال والطّعام والشّراب واللّباس والسّكن والمساعدة. أمّا الثّمر فهو إرادة المانح الصّالحة المستقيمة. إذ لا يقول المعلّم الصّالح: "من قبِل نبيّا" فقط، بل يضيف: "باسم نبيّ"، ولا يقول: "من قبل صدّيقا" فقط بل يضيف: "باسم صدّيق"، فبذلك "أجرَ نبيٍّ ينال ذاك وأجرَ صدّيقٍ ينال هذا". لا يكتفي بالقول: "من أعطى كوب ماء بارد لأصغر تلميذ لي" بل يردف: "باسم تلميذ لي" ويواصل: "الحقَّ أقول لكم أنّه لن يضيع أجره." تتمثّل العطيّة في قبول النّبيّ وقبول الصّدّيق وتقديم كوب الماء البارد للتّلميذ. أمّا الثّمر فيتمثّل في فعل ذلك باسم نبيّ وباسم صدّيق وباسم تلميذ. بالثّمر غذّت إلياسَ الأرملة وهي تعلم أنّها تطعم رجل الله ولهذا السّبب كانت تطعمه. بينما الغراب بالعطيّة كان يغذّيه فلم يكن يقتات بأطعمته إلياس الدّاخليّ بل الخارجيّ الّذي كان يمكن أن يتلفه افتقاره إليها*.

13-27 عطايا ولا ثمر

  42 لذا سأقول الحقّ أمامك يا ربّ. لمّا يقبل أبناءَك الأمّيّون والكفرةُ، الّذين يقتضي تحويلهم وكسبهم إلى الإيمان طقوس الأسرار المقدّسة وعجائب كبرى نظنّها المسمّاة أسماكا وحيتانا، لتوفير حاجاتهم المادّيّة أو مساعدتهم على بعض شؤون حياتهم الحاضرة، وهم يجهلون لماذا يجب فعل ذلك والغاية منه فلا هم يُطعمونهم ولا أولاء منهم يَطعمون: لا هم يفعلون ذلك بقصد نقيّ زكيّ ولا أولاء تفرحهم منهم تلك العطايا الّتي لا يرون فيها ثمرا. حيث يجد القلب قوته يجد فرحه. لذا لا تقتات الأسماك والحيتان بالأطعمة الّتي تنبتها الأرض فقط بعد إفرازها وتخليصها من مرارة لجج البحار.

13-28 بداعة خلق الله 

  43 "ورأيتَ اللهمّ جميع ما صنعتَ فإذا هو حسن جدّا". نحن أيضا نراه فإذا هو كلّه حسن جدّا. في شتّى أنواع خلائقك حين قلتَ: "لتكن" فكانت رأيتَ أنّ كلاّ منها حسن. عددتُ سبع مرّات قولك في كتابك إنّك وجدت ما صنعت حسنا. وجاء في المرّة الثّامنة أنّك رأيت جميع ما صنعت فإذا هو لا حسن فقط بل كذلك حسن جدّا في مجموعه. الأشياء فرادى كانت حسنة فقط لكنّها مجتمعة حسنة بل وحسنة جدّا. الشّأن كذلك في الأجسام الجميلة: فالجسم المؤلّف من أعضاء جميلة كلّها أجمل كثيرا من تلك الأعضاء الفرديّة الّتي في تركيبها المتّسق يتمثّل الكلّ، وإن تكن هي أيضا جميلة فرادى.

13-29 استجادة الله خلقه تمّت خارج إطار الزّمان

  44 وركّزتُ انتباهي لأرى إن كنت قد رأيتَ ما صنعتَ حسنا وارتضيته سبع أو ثماني مرّات، فلم أجد في رؤيتك أثرا للزّمان الّذي أفهم في إطاره أنّك رأيت ما صنعت كذا مرّة. وقلتُ: "يا ربّ، أليس كتابك حقّا لأنّك صادق ولم تقل سوى الحقّ؟ لماذا إذن تقول لي إنّ رؤيتك لا يدخل فيها الزّمان، ويقول لي كتابك إنّك في كلّ يوم رأيتَ ما صنعتَ ووجدته حسنا، ولمّا عددتُ تلك المرّات وجدتُ عددها؟" ردّا على سؤالي تقول لي، لأنّك إلهي، وبصوت قويّ تقول في أذن عبدك الباطنة صاخّا في صممي هاتفا: "أيّها الإنسان ما يقول كتابي أنا الّذي أقوله. لكنّه يقوله في الزّمان بينما كلامي لا يدركه الزّمان، فهو باق معي مساو لي في القدم. هكذا ما ترون بروحي، أنا الّذي أراه، وما تقولون بروحي، أنا الّذي أقوله. وهكذا لمّا ترونه في حدود الزّمان، لا أراه أنا في حدود الزّمان، كما أنّ ما تقولون في إطار الزّمان لا أقوله أنا في إطار الزّمان".

13-30 خطأ القائلين بوجود شرّ في الكون

  45 وسمعتك اللّهمّ ربّي وارتشفتُ قطرة عذبة من حقّك، وأدركت لماذا يوجد أناس لا تعجبهم مبروءاتك ويزعمونك صنعتَ العديد منها كبناء السّماوات وترتيب النّجوم قسرا وضرورة، وأنّك ما خلقتَها بل أوجدتْ من قبل في محلّ آخر ومن مصدر آخر، وإنّما جمعتَها وألّفتَ بينها ورتّبتها، وأنّك بعدما هزمتَ أعداءك شدت سورا للعالم ضامنا بذلك البنيان ألاّ يستطيعوا التّمرّد عليك ثانية. وأنّك لم تصنع أو ترتّب بعض الكائنات الأخرى ككلّ الكائنات الجسديّة والأحياء المستدقّة وما يتّصل بالأرض بجذور، بل أوجدها وكوّنها في أسافل الكون روح معادٍ وجوهر مغاير لم تخلقه وهو مضادّ لك. يردّد أولئك الخُبل هذه التّرّهات لأنّهم لا يرون بروحك خلائقك ولا يتعرّفون عليك فيها.

13-31 يجب أن نستحسن الخلق ونحبّ الله فيه

  46 أمّا الّذين يرونها بروحك فأنت الّذي تراها بأعينهم. حين يرونها حسنة أنت الّذي تراها حسنة، وما يروق لهم فيها حبّا فيك، أنت الّذي من خلاله تروق لهم، وما يروق لنا بروحك، لك أنت يروق فينا. "فإنّه مَن مِن النّاس يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الّذي هو فيه، فهكذا لا يعلم أحد ما في الله إلاّ روح الله." يضيف: "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الرّوح الّذي من الله لنعرف ما أنعم الله علينا به من العطايا"*. ثمّة ما يحدوني إلى القول: "لا أحد قطعا يعلم ما في الله إلاّ روح الله فكيف نعرف نحن أيضا ما أنعم الله علينا به من العطايا؟" سيُردّ عليّ بأنّ ما نعلم بروحه لا أحد يعلمه إلاّ روح الله. وكما قيل بحقّ لمن يتكلّمون بروح الله: "فإنّكم لستم أنتم المتكلّمين" كذلك يقال بحقّ لمن يستمدّون من روح الله علمهم: "إنّكم لستم أنتم العالمين"، وبحقّ يقال لمن بروح الله يبصرون: "إنّكم لستم أنتم المبصرين". هكذا كلّ ما يرونه بروح الله حسنا، ليسوا هم بل الله من يراه حسنا. شتّان إذن بين أن يستقبح أحد ما هو حسن شأن الّذين ذكرنا قبل، وبين أن يستحسن الإنسان ما هو حسن، كما تروق خليقتك لحسنها لعدّة أناس لستَ مع ذلك أنت الّذي تروق لهم فيها، ولذا يريدون الاستمتاع بها أكثر من الاستمتاع بك أنت. لكن يختلف عن كلتا الحالتين أن يستحسن الإنسان شيئا والله هو الّذي من خلاله يراه حسنا بحيث يكون هو من يحبّ في خليقته تلك والّتي لا يحبّها إلاّ بالرّوح الّذي أعطانا، لأنّ "محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالرّوح القدس الّذي أعطي لنا"، وبه نرى حسنا كلّ ما هو كائن بوجه ما، فإنّما يستمدّ وجوده ممّن ليس كائنا بوجه ما، بل هو كائن كينونة مطلقة.

13-32 عظمة خلق الله

  47 نشكرك أيّها الرّبّ! نرى السّماء والأرض، سواء كانتا جزءي الكون العلويّ والسّفليّ، أو الخليقتين الرّوحيّة والمادّيّة. نرى النّور الّذي خلقتَه وفصلته عن الظّلام لتجعله زينة لهذين الجزءين اللّذين تتألّف منهما كتلة العالم الكلّيّة أو الخليقة جمعاء. ونرى جلَد السّماء، سواء كان جسم العالم البدئيّ الكائن بين المياه الرّوحيّة العلويّة والمادّيّة السّفليّة، أو جوّ الهواء الممتدّ فوقنا والمدعوّ أيضا سماء، حيث تسبح الطّير صافّات بين المياه المطلّة فوقها في شكل بخار والنّازلة طلاّ في اللّيالي الصّافية وتلك المنسابة في هيئة أكثف على الأرض. نرى جمال المياه المتجمّعة في أرجاء البحر الشّاسعة والأرض اليبس جرداء أو مزدانة في صورة بهيّة متّسقة وقد أنجبت أبّا وقضبا. نرى النّيّرات ساطعات فوقنا، الشّمس آية النّهار تكفيه والقمر والنّجوم تؤنس وحشة اللّيل، وكلّها آيات توقّع وتؤمّر مجرى الزّمان. نرى العنصر الرّطب في كلّ مكان يعجّ بالأسماك والوحوش والمائيّة وذوات الأجنحة، فمن تبخّر المياه تكثّفت ثخانة الهواء الّتي تحمل الطّير في طيرانها. نرى أديم الأرض مزدانا بالحيوانات البرّيّة، والإنسان "على صورتك ومثالك" يفضُل كلّ الحيوانات العجماء بصورتك ومثالك، أي بملكة العقل والإدراك. وكما يوجد في نفسه جزء يسيطر بالتّفكير وآخر يخضع ممتثلا له، كذلك نرى المرأة خُلقتْ جسمانيّا للرّجل، فمع أنّها تملك بفكرها لا شكّ طبيعة عقليّة مثله، هي خاضعة من حيث جنسها لجنس الرّجل كما يخضع النّزوع إلى الفعل للعقل فينتج من ذلك السّلوك الأريب. نرى كلّ هذه الأشياء حسنة فرادى، وحسنة جدّا مجتمعة.

13-33 مادّة الكون وصورته غير منفصلتين في الزّمان

  48 لتمدحْك أعمالك لنحبّك ولنحبّك لتمدحك أعمالك. لها في الزّمان بداية ونهاية، لها طلوع وأفول، ولها ازدياد واضمحلال، وظهور واختفاء. لها إذن صباحها ومساؤها المتعاقبان، بنحو خفيّ أحيانا وجليّ أحيانا. من عدم خلقتَها، لا من ذاتك ولا من جوهر آخر غير تابع لك أو سابق لها في الوجود، بل من مادّة خُلقتْ وإيّاها معا، فقد صوّرتَها من هيئتها غير المصوّرة بدون أيّ فاصل زمنيّ. فمع أنّ مادّة السّماء والأرض غير صورتهما، وأنّك صنعتَ المادّة من عدم مطلق بينما ألقيتَ صورة العالم على المادّة اللاّمصوّرة إلاّ أنّك صنعتَ كلتيهما معا فلم تفصل الصّورة عن المادّة أيّة مهلة زمنيّة.

13-34 عالم الإنسان صورة من الكون

  49 تحرّينا كذلك علّة النّسق الّذي شئتَ ترتيب خلق مبروءاتك أو وصفها في كتابك بمقتضاه ورأينا أنّها حسنة فرادى وحسنة جدّا مجتمعة. رأينا في كلمتك، في ابنك الوحيد، السّماءَ والأرضَ، رأسَ وجسدَ كنيستك، بتدبيرك السّابق لكلّ زمان وقبل وجود الصّباح والمساء. لكن لمّا شرعتَ تنجز في الزّمان ما قدّرتَ بسابق تدبيرك، لتبدي ما كان خافيا وتنظّم فوضانا- فعلى كواهلنا كانت خطايانا، وفي الهاوية الظّلماء كنّا ننأى عنك، وكان روحك الصّالح يرفّ فوقنا ليساعدنا في الوقت المناسب- وبرّرتَ المنافقين وميّزتهم عن الآثمين، وثبّتَّ سلطة كتابك بين الأعلين الممتثلين لك والأدنين الخاضعين لهم، وجمّعتَ في عصبة فئة الكفرة ليبرز تفاني المؤمنين فيُعدّوا لك أعمال البرّ موزّعين على الفقراء متاع الدّنيا لينالوا متاع الآخرة. وأوقدتَ في جلد السّماء نيّرات: صدّيقيك مالكي كلمة الحياة المستمدّين من مواهبهم الرّوحيّة إشعاعا عظيما. ولتُدخل في دينك الأمم الكافرة، أنشأتَ من المادّة الجسمانيّة طقوس أسرار مقدّسة ومعجزات ظاهرةً وترجمة حسّيّة لكلامك# حسب جلَد كتابك، تبارك بها عبادك المؤمنين. ثمّ كوّنتَ نفس المؤمنين الحيّة من خلال التّحكّم في الأهواء بقوّة العفّة. ومن هنا جدّدتَ على صورتك ومثالك الرّوح الخاضع لك وحدك، والّذي لا يحتاج إلى الاقتداء بأيّة سلطة بشريّة، وأخضعتَ العمل العقلانيّ لسلطان الفكر كالمرأة للرّجل، وشئتَ أن يوفّر لكلّ خدّامك اللاّزمين للارتقاء بالمؤمنين إلى أعلى الدّرجات أنفسهم ما يفي بحاجاتهم في هذه الحياة أولئك المؤمنون أنفسهم معدّين بذلك لهم ثمارا آتية. نرى كلّ هذه الأشياء وهي حسنة جدّا، لأنّك أنت فينا تراها، أنت الّذي أعطيتنا الرّوح لنراها به ونحبّك فيها.

13-35 السّلام

  50 اللّهمّ ربّنا يا من آتيتنا كلّ شيء آتنا السّلام، سلام الدّعة، سلام السّبت، سلاما بدون مساء. فسيمضي حتما هذا النّسق البديع للأشياء الحسنة جدّا كلّه ببلوغ غايته ولا شكّ أنّ فيها صباحا ومساء.

13-36 استعارة يوم الخلق السّابع

  51 لكنّ اليوم السّابع بدون مساء ولا غروب، فقد كرّمته بجعله دائما إلى الأبد، كما يهيب بنا كتابك أن نقتدي بك في استراحتك في اليوم السّابع بعد أعمالك البديعة، وإن أنجزتها وأنت في منتهى الرّاحة، فنستريح فيك بعد أعمالنا الّتي هي حسنة جدّا طالما أنت آتيتنا أن نعملها، في سبت الحياة الأبديّة.

13-37 عمل الله وراحته من خلال الإنسان

  52 وإذّاك تستريح فينا مثلما تعمل الآن فينا، وهكذا ستكون راحتك من خلالنا كما من خلالنا تُنجَز اليوم أعمالك. لكنّك يا ربّ في عمل مستمرّ وراحة مستمرّة. لا ترى في إطار الزّمان ولا تستريح ضمن حدود الزّمان. ومع ذلك أنت صانع الرّؤية في الزّمان والزّمان نفسه والرّاحة من الزّمان.

13-38 الرّاحة في كنف الله

  53 لذا نرى كلّ مبروءاتك لأنّها كائنة، لكنّها كائنة لأنّك تراها. نحن نرى من الخارج أنّها كائنة، وبباطننا أنّها حسنة. أمّا أنت فقد رأيتها متحقّقة حيث رأيتَ لزوم تحقّقها. نحن ميّالون حاضرا إلى فعل الخير بعدما أدركه قلبنا مستنيرا بروحك. بينما كنّا في زمن سابق نميل إلى فعل الشّرّ نائين عنك. لكنّك يا ربّنا الواحد الودود لم تكفّ عن فعل الخير أبدا. بعض أعمالنا حسنة بإحسانك طبعا، لكنّها غير أبديّة. وإنّا لنرجو بعدها أن نستريح في عظيم نعماك. فأنت لا تحتاج إلى أيّ خير، وأنت دوما في راحة لأنّك ذاتُ راحتك. وأيّ إنسان سيمنح الإنسان أن يفهم هذا؟ أو أيّ ملَك سيمنح ملَكا أن يفهمه؟ أيّ ملَك سيمنح الإنسان ذلك؟ بل منك أنت يُسأل الأمر، وفيك يُطلب وعلى بابك يقرع كلّ ذي حاجة: فهكذا، أجل هكذا يعطى السّائل ويجد الطّالب ويُفتح للقارع.