القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب الثّالث عشر

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

13- الكتاب الثّالث عشر

13-1 دعاء

  1 أدعوك اللّهمّ "رحمتي"، من خلقتني ولم تنسني وإن نسيتُك، أدعوك في نفسي الّتي تُعدّها لتتلقّاك برغبتها الّتي ألهمتها. لا تدعْني إذ أدعوك فقد استبقتَ دعائي وحضضتَني مرارا مردّدا لي بمتعدّد الأصوات لأسمعك من بعيد وأولّي نحوك وجهي وأدعوك مجيبا دعوتك. قد محوتَ اللّهمّ كلّ ما اكتسبتُ من سيّئات كيلا تجزي يديّ اللّتين بهما خذلتك وبادرتَ إلى ما كسبتُ من صالحات لتجزيني بما عملتْ يداك اللّتان بهما صنعتني. فقد كنتَ قبل أن أكون وما كنتُ أهلا لتتدبّر لأكون. وها أنا مع ذلك أوجد بإحسانك الّذي به تدبّرتَ كلّ ما عليه صنعتَني وما منه صنعتني. فما كنتَ بحاجة إليّ، وما كنتُ خيرا ترجو أن ينالك نفعه يا ربّي وإلهي، لا قصد أن أخدمك فلا تكلَّ من الفعل ولا مخافة أن تنقُص قدرتك إن عدمتَ طاعتي ولا لأتعهّدك بالعبادة تعهّد الأرض فتبور إن لم أفعل*، بل لأخدمك وأعبدك* فأكون في مسرّة منك أنت الّذي منك كوني قادرا على المسرّة.

13-2 سرّ خلق الله للكون

  2 من فيض إحسانك وجود خليقتك كيلا ينعدم خير ما هو بجالب لك نفعا، ولا هو بفيضه عنك بمساو لك، ومع ذلك أمكن إيجاده منك*. بم استحقّتْ إحسانك السّماء والأرض اللّتان خلقت في البدء؟ لتقلِ الطّبيعتان الرّوحيّة والجسمانيّة اللّتان "صنعتَهما بحكمتك" بم استحقّتا أن تعلقا بها، حتّى وهما في طور بدئيّ خلو من الصّورة، كلّ واحدة في نوعها إن روحيّا أو جسمانيّا، مع جنوحهما إلى الطّغوى وإلى مباينتك. الرّوحيّة حتّى بدون الصّورة أفضل من الجسم حتّى باكتمال صورته، لكنّ الجسمانيّة حتّى مع انتفاء الصّورة أفضل من العدم المطلق. وهكذا كانتا ستظلاّن عالقتين بكلمتك بلا صورة، لولا أنّك بنفس الكلمة دعوتَهما لتعودا إلى وحدتك وتستمدّا منك الصّورة وتصيرا بك أنت الواحد والخير الأعظم كونا حسنا جدّا. بم استحقّتا منك حتّى أن تكونا غير مصوّرتين هما اللّتان ما كانتا لتوجدا على ذلك الوجه بدونك؟

  3 بم استحقّتْ منك المادّة الجسمانيّة أن تكون حتّى لامرئيّة ومشوّشة، فما كانت لتوجد على حالها تلك لو لم تخلقها؟ لأنّها لم تكن، لم يمكن أن تستحقّ منك أن تكون. أو بم استحقّتْ منك بُداءة المادّة الرّوحيّة حتّى أن تبقى في تسيّبها وظلمتها شبيهة بالغمر ومباينة لك لو لم تعِدها بنفس كلمتك إلى مصدرها وتصرْ بتلقّي نوره نورا هي ذاتها لا مساوية لك بل على صورتك. بالنّسبة للجسم لا يستوي أن يكون وأن يكون جميلا وإلاّ لما أمكن لجسم أن يكون دميما*، كذلك بالنّسبة لروح مخلوق لا تترادف الحياة والحياة بمقتضى الحكمة وإلاّ لكان كلّ روح ثابتا في الحكمة دون أن يدركه التّغيير. لكن حسنٌ له القرب منك دوما كيلا يخسر بابتعاده عنك النّور الّذي اكتسب باقترابه منك، ولا يسقط مجدّدا في حياة شبيهة بغمر مظلم. نحن أيضا بالنّفس خليقة روحيّة وحِدنا عنك أنت نورنا. "وكنّا حينا ظُلمة" في هذه الحياة، ونحن نكدّ في ما بقي من ظلمتنا إلى أن "نصير بِرّك" في ابنك الوحيد، مثل "جبال الله"، فقد جرتْ علينا "أحكامك الّتي هي غمر عظيم".

13-3 سرّ خلق النّور

  4 أمّا أنّك في بدء الخلق قلت: "ليكن نور" وكان نور، فأفهم ذلك بدون مشقّة في الخليقة الرّوحيّة، إذ كانت تتمتّع بحياة يمكن أن تتلقّى النّور منك. لكن كما لم تستحقّ منك أن تكون تلك الحياةَ القابلة للإنارة لم تستحقّ بعدما صارت كذلك أن تنيرها. فما كانت كمادّة بلا صورة لتعجبك لو لم يكن النّور فبه لم تعد كائنة فقط بل غدت مستغرقة في تأمّل النّور الّذي ينيرها ومتعلّقة به بحيث لا تَدين لغير نعمتك بأنّها تحيا وتحيا بغبطة متّجهة بفضل ذلك التّحوّل المبارك نحو ما لا يمكن تغيّره إلى أحسن أو أسوأ، وهو أنت وحدك لأنّك كائن ببساطة لا فرق فيك بين الحياة والسّعادة فأنت ذات سعادتك.

13-4 خلْق الله الخلائق من فيض إحسانه

  5 ماذا يُنقص الخيرَ الّذي تمثّل لذاتك حتّى لو بقيتا عدما أو مادّتين غير مصوّرتين فما لحاجة إليهما صنعتَهما بل من فيض إحسانك قاسرا إيّاهما وملقيا عليهما الصّورة لا لتتمّ بهما سعادتك وإنّما تستقبح أنت الكامل نقصهما فتُكملهما وترتضيهما لا لنقص فيك ولتكمل بكمالهما ذاتك. فقد كان روحك يرفّ فوق المياه غير محمول عليها كما لو كان يستريح فيها. فالّذين يقال إنّ روحك يستريح فيهم هو الّذي يجعلهم يستريحون فيه. بل كانت إرادتك الّتي لا يدركها التّغيّر والفساد ترفّ كافية ذاتها فوق الحياة الّتي أنشأتَها والّتي لا تستوي فيها الحياة والسّعادة، فهي تحيا كذلك متموّجة في الظّلمات لذا ينقصها أن تتّجه نحو باريها وتحيا أكثر وأكثر عند "نبع الحياة"، وترى النّور في نوره وتتمَّم وتنار وتُسعد.

13-5 تجلّي معنى الثّالوث المقدّس

  6 لكن ها قد ظهر لي على سبيل اللّغز الثّالوث* الّذي تتمثّل فيه، فأنت الآبّ في بدء حكمتنا الّتي هي حكمتك المولودة منك المساوية لك في المقام والقدم أي في ابنك، خلقتَ السّماء والأرض. وقد تحدّثتُ طويلا عن سماء السّماوات والأرض اللاّمرئيّة المشوّشة والغمر المظلم مشيرا إلى المادّة الرّوحيّة غير المصوّرة في تسيّبها وتفسّخها لولا توجّهها نحو من هو مصدر كلّ حياة، لتصير بنوره حياة بهيّة، وتكون سماء تلك السّماء الّتي أنشأتها من بعد بين ماء وماء. وصرتُ أفهم في اسم الله الآبّ الّذي خلق كلّ تلك الكائنات وفي اسم البدء الابن الّذي خلقها فيه، ومؤمنا بأنّ إلهي ثالوث رحتُ أبحث عنه في كلامك القدسيّ فأجد روحك الّذي كان يرفّ على وجه المياه. هو ذا الثّالوث يا ربّ: الآبّ والابن والرّوح القدس، خالق الخلق كلّه.

13-6 روح الله يرفّ على وجه المياه

  7 لكن أيّ سبب، أيّها النّور الصّادق، منك أقرّب قلبي كيلا يعلّمني الأباطيل فاقشع ظلماته، قل لي، أدعوك، بأمّنا المحبّة قل لي، أدعوك، أيّ سبب جعل كتابك، بعد ذكر السّماء والأرض اللامرئيّة المشوّشة والظّلام الرّائن على وجه الغمر، إذّاك فقط يذكر روحك؟ أكان ينبغي الإلماع إليه بحيث يقال إنّه كان يرفّ، ولا يمكن قول ذلك عنه إن لم يُذكر سابقا ما يرفّ فوقه روحك حتّى يمكن فهمه. لم يكن يرفّ على الآب ولا الابن ولا يجوز القول إنّه يرفّ إن لم يكن يرفّ فوق شيء ما. لزم إذن ذكر ما كان يرفّ فوقه أوّلا، ثمّ ذكره بدوره فما كان ينبغي ذكره إلاّ مع الإشارة إلى رفيفه. فلِم كان ينبغي ألاّ يشار إليه إلاّ مع ذكر أنّه كان يرفّ؟

13-7 المعنى المجازيّ للمياه

  8 من هنا ليتبعْ بفكره من استطاع رسولَك لمّا يقول إنّ "محبّتك أفيضتْ في قلوبنا بالرّوح القدس الّذي أُعطي لنا"، ويعلّمنا عن الرّوحيّات ويبيّن لنا طريق المحبّة الّتي هي أفضل جدّا من كلّ الطّرق جاثيا لك من أجلنا على ركبته لنعلم "محبّة المسيح الّتي تفوق المعرفة". لذا كان منذ البداية يرفّ فوق المياه. لمن أقول وكيف أقول وقْر الشّهوة الهاوي على أحدور سحيق، أو عوْن المحبّة الّتي ترفع بروحك الّذي كان يرفّ على المياه؟ لمن أقوله وكيف أقوله؟ أنهوي ونطفو؟ فما بمكان ذاك الّذي فيه نهوي ومنه نطفو. ما وجه الشّبه في هذه الاستعارة وما وجه الاختلاف؟ هي الانفعالات والأهواء رجس أرواحنا الهاوي بنا إلى الحضيض بتعلّقنا بشواغل باطلة، وفي المقابل قداسة ابنك الصّاعدة بنا بحبّ روْحك لنرفع قلوبنا إلى علائك، حيث "روحك يرفّ على وجه المياه"، ونصل إلى الرّاحة القصوى لمّا "تجوز أنفسنا على المياه" الّتي هي بلا قوام*.

13-8 النّور والعالم الرّوحيّ

 9 سقط الملاك، سقطت النّفس الإنسانيّة، فأظهرا في أيّة هاوية مظلمة كان غمر العالم الرّوحيّ سيتردّى لولا أن تداركه رحمة منك إذ قلتَ منذ البداية: "ليكن نور" وكان نور، وامتثل لك كلّ عقل وعلق بك في مدينتك السّماويّة، وارتاح في روحك الرّافّ بلا تغيير فوق كلّ الكائنات المتغيّرة. وإلاّ لكانت سماء السّماوات غمرا مظلما في ذاته، بينما هي الآن "نور في الرّبّ". في قلق وبؤس الأرواح السّاقطة الكاشفة لتعرّيها من رداء نورك عن ظلماتها، تظهر عظمة الخليقة العقليّة الّتي صنعتَ والّتي لا يكفيها دونك شيء لترتاح وتسعد وبذلك هي لا تكفي ذاتها. فأنت يا ربّنا ستنير ظلمتنا ومنك ستنشأ ألبسة لنا وسيكون ظلامنا مثل ظهر النّهار. فأعطني اللّهمّ وأعد لي ذاتك. أحبّك فإن استقللتَ حبّي أتحْ لي أن أحبّك بمزيد من القوّة، لا يمكنني قيسه لأعلم كم ينقصني لأبلغ القدر الكافي لترتمي في حضنك حياتي ولا تنفصل عنك إلى أن "تسترها في ستر وجهك". أعلم فقط أنّي في رهق في كلّ ما سواك لا خارج ذاتي فقط بل وفيها أيضا، وكلّ غنًى ليس بإلهي عوَز لديّ.

13-9 تسامي القلب بالحبّ الإلهيّ

  10 ألم يكن الآبّ أو الابن يرفّ على وجه المياه؟ إن اعتبرنا ذلك بالمعنى المكانيّ شأن الجسم، فذلك لا يصحّ حتّى على الرّوح. أمّا إن عنينا سموّ الألوهيّة المنزّهة عن التّغيير على كلّ متغيّر، فكلّ من الآبّ والابن والرّوح القدس كان يرفّ على وجه المياه. لماذا إذن قيل ذلك عن الرّوح القدس وحده؟ لماذا عنه وحده قيل أين يوجد كما لو كان مكانا، وما هو بمكان، وقيل عنه فقط إنّه "موهبتك"؟ في "موهبتك" نستريح، وفيها نلتذّ بك. راحتنا محلّنا. الحبّ يرفعنا إلى هناك، و"روحك الصّالح" "يرفع بؤسنا من أبواب الموت". في مشيئتك الصّالحة السّلام لنا. الجسم ينزع بثقله نحو محلّه. الثّقل لا يتّجه إلى أسفل فقط بل يتّجه نحو محلّه الخاصّ. النّار تصعد والحجر ينزل. كذلك يتصرّفان تحت تأثير ثقليهما، ملتمسيْن محلّيْهما. الزّيت المسكوب تحت الماء يطفح فوق الماء، والماء المسكوب فوق الزّيت يغطس تحت الزّيت. كذلك يتصرّفان تحت تأثير ثقليهما، ملتمسيْن محلّيْهما. ما ليس في محلّه قلِقٌ، فإن وُضع في محلّه وجد الرّاحة. ثقلي أنا حبّي، هو الذي يحملني أينما أُحمل. "موهبتك" تُلهبنا وتسمو بنا، فنتّقد ونرتفع. نصعد في قلوبنا مراقي إليك وننشد "نشيد المراقي". بلهيبك، بنارك المباركة نتّقد ونسير صعودا إلى أورشليم حيث السّلام. "فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الرّبّ ننطلق"، هناك ستُحلّنا المشيئة الصّالحة، فلا نبغيَ شيئا سوى البقاء هناك إلى الأبد.

13-10 سعادة الرّوح بنور الله

  11 يا سعد الخليقة الّتي لا تعرف سوى ذيّاك المقام! ما كانت بذاتها ستعرفه لو لم ترفعها "موهبتك" الرّافّة فوق كلّ متغيّر حال خلقها، بلا انتظار، نحو ندائك حين قلتَ: "ليكن نور" وكان نور. فينا نحن يميَّز في الزّمان بين حالتينا حين "كنّا ظُلمة" وحين "نصير نورا". أمّا عن تلك الخليقة فقيل ماذا كانت ستكون لو لم تتلقّ النّور، إذ كانت من قبلُ متسيّبة ومظلمة، ليظهر السّبب الّذي جعلها على غير تلك الحال أي الّذي حوّلها نحو النّور السّرمديّ لتكون به نورا. ليفهمْ من استطاع وليطلبْ منك إنارته. لكن فيم يضايقني سائلي كما لو كنتُ "أنير كلّ إنسان آت إلى هذا العالم؟"

13-11 ذات الإنسان صورة من الثّالوث بعناصره ووحدته

  12 من يفهم الثّالوث اللاّمتناهي القدرة؟ من مع ذلك لا يتكلّم عنه، هذا إن كان يتكلّم عنه حقّا؟ فقلّما تعلم نفس تتكلّم عنه عمّا تتكلّم. ويمتري الخلق جرّاه ويختصم، ولا أحد بدون سلام الرّوح يمكن أن يشاهد ذاك الكشْف. ليت النّاس يفكّرون بباطنهم في تلك الجوانب الثّلاثة. شتّان ما بين تلك الوقائع وبين الثّالوث. لكن أذكرها ليُفكّر النّاس فيها ويروا ويتبيّنوا مدى بُعدها عن الثّالوث. ها أنا أذكرها: الكون والعلم والإرادة. فأنا أكون وأعلم وأريد. أكون عالما ومريدا وأعلم كوني وإرادتي وأريد الكون والعلم. فلْير من استطاع في هذه العناصر الثّلاثة وحدة الحياة الصّمّاء تؤلّفها حياة واحدة وفكر واحد وماهية واحدة لا تنفصل وإن أمكن التّمييز بينها. هو قطعا أمام ذاته، فلينظرْ في ذاته وير ويقل لي. لكن إن يجد فيها واقعا ويقله فلا يظنّنّ أنّه قد وجد السّنا الأسنى الّذي لا يدركه التّغيّر، الكائن بلا تغيّر والعالم بلا تغيّر والمريد بلا تغيّر. أعلى هذه العناصر الثّلاثة متّحدة يقوم الثّالوث، أم ثلاثتها في كلّ أقنوم بحيث يتّصف كلّ بثلاثتها، أم الحالتان معا مندمجتين بطرق عجيبة في وحدة بسيطة ومتعدّدة بحيث يكون لذاته حدّه اللاّمحدود، فالكائن ذاته من ثمّة يعلم ذاته ويكفي ذاته دون أن يطرأ عليه تغيير في عظمة وحدته الثّريّة؟ من يستطيع تمثّل ذلك بسهولة؟ من يقول بأيّ نحو؟ من يجازف بالقول في المسألة بأيّ رأي*؟

13-12 في عالم الإنسان تتجلّى حقائق سفر التّكوين

  13 امض في اعترافك يا إيماني. قل لربّك: "قدّوس، قدّوس، قدّوس يا ربّ وإلهي الّذي عُمّدنا باسمك الآبّ والابن والرّوح القدس، ونعمّد باسمك الآبّ والابن والرّوح القدس. فبيننا أيضا بمسيحه "خلق الله السّماء والأرض"، أي روحيّي وجسديّي كنيسته، وكانت أرضنا قبل تلقّي صورة الإيمان لامرئيّة ومشوّشة وظلام الجهل يلفّنا، لأنّك على الإثم "أدّبتَ الإنسان" و"أحكامك غمر عظيم". لكن لأنّ "روحك كان يرفّ على وجه الماء"، لم تترك رحمتك بؤسنا وقلتَ: "ليكن نور"، وكان نور. "توبوا فقد اقترب ملكوت السّماء"، توبوا، ليكن نور. ولأنّ "نفسنا كانت تكتئب فينا ذكرناك يا ربّ من أرض الأردنّ" ومن جبل يساويك علوّا لكنّه اتّضع من أجلنا. وساءتنا ظلماتنا، وقبّلنا نحوك وكان النّور. وبعدما "كنّا حينا ظُلمة"، ها نحن "صرنا نورا في الرّبّ".

13-13 المعنى الرّمزيّ لأقوال الكتاب المقدّس

  14 لكنّا ما زلنا كذلك "بالإيمان لا بالعيان" "لأنّا بالرّجاء خُلّصنا"، لكنّ الرّجاء الّذي يُرى ليس رجاء. ما زال "غمر ينادي غمرا، لكن على صوت خرّاراتك". وما زال الّذي يقول: "لم أستطع أن أكلّمكم كالرّوحيّين بل كالجسديّين" "لا يحسب أنّه قد أدرك" حتّى هو ذاتَه، و"ينسى ما وراءه ليمتدّ إلى ما أمامه"، و"يحنّ مُثقلا" و"تظمأ نفسه إلى الله الإله الحيّ" كالأيائل إلى ينابيع المياه، ويقول: "متى آتي؟" متشوّقا لأن "يلبس بيته الّذي من السّماء"، ويخاطب غمره الباطن قائلا: "لا تتشبّهوا بهذا الدّهر بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد قلوبكم" و"لا تكونوا أطفالا في أذهانكم بل كونوا أطفالا في الشّرّ، أمّا في أذهانكم فكونوا كاملين"، و"أيّها الغلاطيّون الأغبياء من الّذي سحركم؟" لكن لم يعد يقول ذلك بصوته، وإنّما بصوتك أنت الّذي "بعثتَ روحك القدّوس من الأعالي" بالّذي "صعد إلى العلى" و"فتح كوى بركاته" "لتُفرّح مجاري النّهر مدينة الله". إليها هي يتوق "صديق العروس" الحامل في الأعماق "باكورة الرّوح"، لكنّه ما زال يئنّ في ذاته، منتظرا التّبنّي، افتداء جسده. إليها يتوق فهو عضو من العروسة، ولها يتحمّس فهو صديق العروس، لها لا لذاته يتحمّس، وبصوت خرّاراتك لا بصوته هو يخاطب غمرا* آخر له يتحمّس وعليه "يخاف أنّها كما أغوت الحيّة حوّاء باحتيالها، كذلك تُفسَد بصائرهم عن الخُلوص الّذي في عروسنا"، ابنك الوحيد. أيّ نور بديع سيكون يوم "نعاينه كما هو" ويذهب "الدّمع الّذي صار لي خبزا نهارا وليلا إذ يقال لي كلّ يوم: أين إلهك؟"

13-14 بالرّجاء صرنا أبناء النّور

 15 وأنا أيضا أقول: "أين إلهي؟" هأنتذا. أتنفّس فيك قليلا لمّا "أُفيض نفسي عليّ بصوتِ ترنيمٍ واعترافٍ بهتاف تعييدٍ". لكنّها لم تزل حزينة لأنّها تسقط مجدّدا وتصير غمرا، أو لأنّها بالأحرى تدرك أنّها لا تزال غمرا. يقول لها إيماني الّذي أوقدتَه في اللّيل أمام قدميّ: "لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فيّ؟ ارتجي اللهَ فكلمته مصباح لقدميّ. ارتجيه وثابري إلى أن يمرّ اللّيل أب الآثمين*، إلى أن يمرّ غضب الرّبّ، الّذي كنّا أبناءه، "كنّا حينا ظُلمة" ما زلنا نجرّ آثارها في جسدنا "الميّت من أجل الخطيئة" "إلى أن ينسم النّهار وتنهزم الظّلال". ارتجي الله. سأقف أمامه في الغداة وأتأمّله، وسأعترف له دوما. سأقف أمامه في الغداة وأرى خلاص وجهي، إلهي الّذي سيحيي أجسادنا الميّتة بفضل روحه الحالّ فينا وكان يرفّ برحمة على ريانق باطننا الكدراء. منه نلنا في رحلتنا عربونا بأن نصير نورا. لقد خلّصنا بالرّجاء فصرنا أبناء النّور وأبناء النّهار، بعدما كنّا أبناء الظّلام واللّيل". في الشّكّ الّذي ما زال سمة كلّ علم بشريّ، أنت وحدك تفصل بيننا فإنّك تحكم على ما في قلوبنا وتسمّي النّور نهارا والظّلام ليلا. و"من الّذي يميّزنا سواك وأيّ شيء لنا لم ننله" منك أنت الّذي صنعتنا من كتلة واحدة إناءً للكرامة وإناءً آخر للهوان؟

13-15 المعنى الرّمزيّ لآيات التّكوين

  16 ومن سواك يا ربّنا جعل لنا جلَدا سماكا من السّلطة في كتابك المقدّس؟ "ستُطوى السّماء مثل الكتاب"* وهي الآن "مبسوطة كالسُّجُف" فوقنا. كتابك الإلهيّ أرفع سلطةٍ، مذ صار إلى الموت أولئك الفناة الّذين بواسطتهم أنزلتَه علينا. وتعلم يا ربّ، تعلم كيف كسوت البشر جلودا لمّا صاروا بالخطيئة ميِّتين*. لذا بسطتَ مثل الجِلد جلَد كتابك، كلامك المتوافق* الّذي أقمتَه فوقنا برسالة بشر ميّتين. فبموتهم ذاته امتدّت سامقة كالبنيان المتين سلطة كلامك الّذي نشروه على كلّ الأشياء، الّتي هي تحتها*. فما كانت في حياتهم في هذا العالم تمتدّ كاليوم رفيعة العماد، ولا كنتَ قد سمكتَ كالجَلد سماءها، ولا أذعتَ خبر موتهم في كلّ مكان.

  17 امنحنا يا ربّ أن نرى تلك السّماوات، عمل أصابعك. اقشعْ عن عيوننا الضّباب الّذي به غشيتَها. هذه "شهادتك تُحكّم الصّغار"، أكملْ يا ربّ مجدك "بأفواه الأطفال والرّضّع". فنحن لا نعرف كتبا أخرى بمثل قوّتها تحطّم الكبْر، وتحطّم العدوّ والمنتقم الرّافض صلحك اللاّجّ في الدّفاع عن آثامه. لا أعلم يا ربّ أقوالا بمثل نقاء أقوالك، قادرة على إقناعي بالاعتراف وتليين رقبتي لنيرك ودعوتي إلى عبادتك ابتغاء وجهك. فامنحني أيّها الأب البرّ الودود أن أفهمها في خضوعي، لأنّك للخاضعين متّنتها.

  18 توجد مياه أخرى فوق جلَد هذه السّماء، في ظنّي، أبديّة وبمنأى عن الفساد الأرضيّ. ليسبّح اسمَك، ليسبّحك الملأ الأعلى من ملائكتك الّذين لا يحتاجون إلى النّظر إلى هذه السّماء ولا إلى معرفة كلامك بالقراءة فهم ينظرون إلى وجهك باستمرار، وفيه يقرؤون بدون حروفِ كلامِنا الزّمانيّ مقاصد مشيئتك الأبديّة. يقرؤون ويرتضون ويحبّون*. باستمرار يقرؤون ولا يمضي أبدا ما يقرؤون. يقرؤون خطط تدبيرك المنزّهة عن التّغيير، وهم لها مرتضون ومحبّون. لا يُغلَق كتابهم ولا تُطوى صحيفتهم، لأنّك أنت الكتاب الّذي فيه يقرؤون وأنت تدوم إلى الأبد، ولقد جعلتهم فوق هذه السّماء الّتي سمكتها فوق ضعف الشّعوب الموجودين تحتها ليتأمّلوا من هناك ويعرفوا رحمتك المعلِنة في الزّمان عنك أنت الّذي خلقت الزّمان. "فإلى السّماء يا ربّ رحمتك وإلى الغيوم أمانتك". الغيوم تمضي لكنّ السّماء تبقى. كذلك يمضي الكارزون بكلامك من هذه الحياة إلى حياة أخرى، أمّا كتابك فيبقى مبسوطا فوق الشّعوب مدى الدّهر. لكنّ "السّماء والأرض تزولان وكلامك لا يزول"، فإنّ الجلد سيطوى والعشب الّذي كان يمتدّ فوقه سيمضي مع نضرته، لكنّ كلامك يبقى إلى الأبد. الآن في لغز الغيوم وفي مرآة السّماء يظهر لنا، لا كما هو، فرغم حبّنا لابنك "لم يتبيّن بعد ماذا سنكون". نظر إلينا عبر سَدى الجسد وداعبنا وألهبنا بحبّه ونحن نجري خلف عَرفه. لكن "إذا ظهر نكون نحن أمثاله لأنّا سنعاينه كما هو"، سيكون بمَلْكنا يا ربّ أن نرى كما هو ما لم نمتلك بعد.

13-16 الطّابع المطلق لكينونة الله وعلمه وحياته

 19 فكما أنّك الكائن المطلق، أنت وحدك تعلم، لأنّك تكون بلا تغيّر، وتعلم بلا تغيّر، وتحيا بلا تغيّر، وكينونتك تعلم وتريد بلا تغيّر، وعلمك يكون ويريد بلا تغيّر، وإرادتك تكون وتعلم بلا تغيّر. لا تستحبّ أن يعلم نورَك الّذي لا يدركه التّغيّر، كما يعلم ذاتَه، المتغيّرُ المستنير به. لذا فإنّ "نفسي كأرض مجدبة"، وكما لا يمكنها أن تستنير بذاتها كذلك لا يمكنها أن تشبع من ذاتها. "لأنّ عندك ينبوع حياة وبنورك نعاين النّور".

13-17 المعنى الرّمزيّ للمياه واليبس

  20 من جمع في كتلة واحدة نافثي المرارة*؟ فإنّ لهم نفس الغاية: السّعادة الأرضيّة العابرة الّتي يصنعون من أجلها كلّ شيء وإن تقاذفتهم لجج شواغل لا تحصى. من سواك يا ربّ "قال للمياه لتجتمع إلى موضع واحد وليظهر اليبس" ظمآن إليك، "فلك البحر وأنت صنعته ويداك جبلتا اليبس"؟ ليست مرارة الإرادات ما يُدعى بحرا بل اجتماع المياه. فإنّك تكبح كذلك أهواء النّفوس السّيّئةَ، وجعلتَ لها حدودا لا يُسمح للمياه بأن تتعدّاها وفيها تسكن أمواجها، وهكذا تُخضع البحر لنظام ملكك الممتدّ على كلّ شيء. أمّا النّفوس الظّمأى إليك والماثلة أمامك، فقد فصلتها عن خضمّ ذاك البحر، وتسقيها من نبع عذب خفيّ "لتعطي الأرض ثمرها". فتعطي ثمرها وبأمرك أنت ربّها وإلهها، تُخرج نفسنا أعمال الرّحمة كلٌّ بحسب صنفه: تحبّ القريب وتعينه على توفير حاجاته الجسديّة وتحمل طيّها بذرة المحبّة بمقتضى التّماثل فضعفنا يحدونا إلى العطف على المحتاجين ومساعدتهم، كما نريد أن نتلقّى العون منهم إن احتجنا مثلهم*. وليس ذلك فقط في الأمور اليسيرة الشّبيهة بعشب حديثا أخرج شطءه، بل كذلك بالمساعدة الحازمة الحاسمة كالقضب آتى أُكله، أي بإسداء المعروف للضّعيف الملهوف، وانتزاعه من يد القويّ، وتوفيرمأوى آمن له، بعون قويّ لعدالة منصفة.

13-18 المعنى الرّمزيّ للنّيّرات في جلَد السّماء

 22 كما تخلق وكما تعطي الفرح والقدرة كذلك، اللّهمّ أدعوك أن "ينبت* الحقّ من الأرض وأن يتطلّع العدل من السّماء"، وأن "تكون في جلَد السّماء نيّرات". "لنكسر للجائع خبزنا ولندخل البائسين المطرودين بيتنا، ولنكسُ العُريان ولا نتوار عمّن هم من لحمنا". لمّا تولد تلك الثّمار من أرضنا، انظر إلى ذلك إنّه حسن، ولينبلجْ نورنا في الأوان، ومن حصاد أعمالنا الصّالحة المتواضعة هذا قُدنا إلى نعيم تأمّل كلمتك نبع الحياة في علاك، لنظهر في هذا العالم كنيّرات في جلَد كتابك. ففيه تعلّمنا كيف نفصل بين الرّوحيّات والحسّيّات كما بين النّهار واللّيل، أو بين النّفوس المشغولة بالرّوحيّات والمشغولة بالحسّيّات. هكذا لم تعد منفردا في خفاء بصيرتك، كقبل خلق السّماء، بالتّفريق بين النّور والظّلمة، لكن روحيّيك المصطفّين في تلك السّماء والنّيّرين بنعمتك المتجلّية في العالم كلّه هم أيضا يضيئون على الأرض ويفصلون بين النّهار واللّيل ويكونون آيات على أوقات. "فقد مضى القديم وها إنّ كلّ شيء قد تجدّد". و"خلاصنا الآن أقرب ممّا كان حين آمنّا" و"قد تناهى اللّيل واقترب النّهار"، وها إنّك تبارك و"تكلّل عام جودك" و"ترسل عمَلة لحصادك" الّذي تعب فيه آخرون، وترسل كذلك لبذار آخر حصادُه في آخر الزّمان. هكذا تمنح الطّالب رغائبه وتبارك أعوام البارّ، لكنّك أنت أنت وفي سنيك الّتي لا تفنى تُعِدّ مخزنا للسّنين الّتي تمرّ.

  23 بتدبير أزليّ تُنزل بركاتك من السّماء على الأرض في الأوان المناسب. "فيُعطى واحد بالرّوح كلامَ الحكمة"، نيّرا أكبر، "وآخر كلامَ العلم"، نيّرا أصغر، "بذلك الرّوح عينه، وآخرُ الإيمانَ، وآخرُ مواهبَ الشّفاء، وآخرُ صنعَ القوّات* وآخرُ النّبوّةَ وآخرُ تمييزَ الأرواح وآخرُ أنواعَ الألسنة، وهذا كلّه" كالكواكب "يعمله الرّوح الواحد بعينه موزّعا على كلّ واحد كيف يشاء"، و"مُظهرا للمنفعة" تلك الكواكب ساطعة. فكلام الحكمة المتضمّن كلّ الأسرار المقدّسة الّتي تتغيّر بمرّ الزّمان كالقمر، ومعارفُ المواهب الأخرى الّتي ذكرتها بعده مباشرة مشبّها إيّاها بالكواكب تختلف عن سنا الحكمة بشرى النّهار البهيجة، فهي منه بمثابة غبش العشيّ. لكنّها ضروريّة لأولئك الّذين لم يستطع عبدك الأريب أن يكلّمهم كروحيّين، بل فقط كجسديّين، ذاك الّذي "ينطق بالحكمة بين الكاملين". أمّا الإنسان الجسديّ فهو بمثابة الطّفل الرّضيع في المسيح، يغتذي باللّبن إلى أن يشتدّ عوده فيتناول طعاما صلبا، ويحدّق في ضياء الشّمس بعينيه، فلا يحسبْ ليله بلا رفيق، وليقنعْ بنور القمر والكواكب. علّمتَنا يا ربّنا هذه الحقائق بحكمة في كتابك، في جلَد سمائك، كي نميّز الأشياء بتأمّل معجب، وإن لم نزل "في عالم الآيات والأوقات والأيّام والسّنين".

13-19 الأرض الخصبة والأرض الجدباء

  24 لكن بدءا "اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا الشّرّ من أنفسكم ومن أمام عينيّ"، "حتّى يظهر اليبس". "تعلّموا الإحسان وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" لتنبت الأرض كلأ ومرعى وشجرا مثمرا، و"تعالوا نتحاجج، يقول الرّبّ"، لتكون نيّرات في جلَد السّماء فيسطع على الأرض نورها. لمّا طلب ذاك الرّجل الغنيّ* من المعلّم الصّالح "ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديّة"، قال له المعلّم الصّالح- وكان يظنّه إنسانا لا غير بينما هو صالح لأنّه إله- قال له إن أراد أن يصل إلى الحياة فلْيحفظ الوصايا ولْينفصلْ عن مرارة المكر والشّرّ ولا يقتلْ ولا يزْنِ ولا يسرقْ ولا يشهدْ بالزّور حتّى يظهر اليبس ويُنبتَ البرَّ بالأمّ والأب ومحبّةَ القريب. ردّ: عملتُ كلّ ذلك. فقال: "من أين إذن كلّ تلك الأشواك إن كانت الأرض تنتج ثمارا؟ اذهب فاقلع نُجُل الشّحّ وبع كلّ ما تملك، وامتلئ من ثماره بإعطائه للمساكين فيكونَ لك كنز في السّماء، واتبع الرّبّ إن أردت أن تكون كاملا، وانضمّ إلى الّذين تحدّث بينهم بالحكمة من يعلم ماذا يمنح بالنّهار وباللّيل، فتعرف أنت أيضا، وتصير لك نيّرات في جلَد السّماء، ولن يكون ذلك ما لم يكن قبلُ قلبُك هناك، ولن يكون قلبك هناك إن لم يكن كنزك هناك، كما سمعتَ من المعلّم الصّالح". لكنّ الأرض الجدباء حزنتْ والشّوك خنق كلام الرّبّ.

  25 أمّا أنتم أيّها الشّعب المختار في سماء هذا العالم، الّذين تركتم كلّ شيء لتتبعوا الرّبّ، فسيروا خلفه واخزوا الأقوياء، سيروا خلفه وأقدامكم تشعّ جمالا، وأضيئوا في جلد السّماء، لتروي السّماوات مجده، مفرّقة بين نور الكاملين- وإن لم يبلغوا بعد مرتبة الملائكة- وظلام الصّغار- وإن لم يقنطوا من بلوغ الكمال-، أضيئعوا على جميع الأرض، ولْيُفْض نهار مشمس لنهارٍ كلمةَ العلم، وليُفضِ ليل مقمر لليل كلمةَ العلم. القمر والنّجوم تضيء اللّيل فلا يعتّم ضياءها، لأنّها تنيره بالقدر المناسب له. وكما لو أنّ الله قال: "لتكن نيّرات في جلَد السّماء" "حدث بغتة صوت من السّماء كريح شديدة عاصفة وظهرت ألسنة منقسمة كأنّها من نار فاستقرّت على كلّ واحد منهم"*، وظهرت نيّرات في جلَد السّماء تملك كلمة الحياة. فاسعوا في كلّ مكان يا حملة النّيران المقدّسة، أيّتها النّيران الرّائعة! فأنتم نور العالم ولستم "تحت المكيال"*. لقد رُفع من تعلّقتم به ورفعكم فاسعوا وعرّفوا أنفسكم لكلّ الأمم.

13-20 المعنى الرّمزيّ للزّحّافات والطّيور

  26 وليحبل البحر وليلدْ أعمالكم ولتنتج المياه زحّافات ذات نفوس حيّة؛ فبتفريقكم النّفيس من الخسيس صرتم فم الله الّذي به يقول: "لتنتج المياه"، لا النّفس الحيّة الّتي تنتجها الأرضُ، بل "زحّافات ذات نفوس حيّة، وطيورا تطير فوق الأرض". لقد زحفَت اللّهمّ أسرارُك المقدّسة عبر أعمال صدّيقيك وسط لجج فتن الدّنيا لتُلقح باسمك الأمم في عمادك. ومن بين تلك الأعمال صُنعتْ آيات وعجائب كبرى شبيهة بالحيتان العظام في البحر، وطارت أقوال رسلك فوق الأرض في سماء كتابك إذ اتّخذوه السّلطة الّتي يطيرون تحتها أينما ذهبوا. "فليس قولٌ ولا كلامٌ لا يُسمع به صوتهم. في الأرض كلّها ذاع منطقهم وفي أقاصي المسكونة كلامهم"* فقد باركتَه اللّهمّ ونشرتَه ونمّيتَه.

  27 أأكذب أم أخلط عاجزا عن التّمييز بين المفاهيم الواضحة للأمور الكائنة في جلد السّماء، والأعمال الجسمانيّة في البحر المصطخب تحت جلد السّماء؟ مفاهيم تلك الأمور ثابتة صلبة ونهائيّة بدون زيادات تُضاف جيلا بعد جيل كأنوار الحكمة والعلم مثلا، بينما الأعمال الّتي تحقّقها على أرض الواقع المادّيّ متنوّعة ومتعدّدة، وتنمو وتتكاثر بمباركتك اللّهمّ أنت الّذي عوّضت عن سرعة إتخام حواسّ البشر بجعلك الحقيقة الرّوحيّة الواحدة تقبل التّعبير عنها وتصويرها بحركات جسمانيّة عديدة. المياه أنتجت تلك الأعمال لكن في كلامك. حاجات الشّعوب المبتعدة عن حقّك الأبديّ تمخّضت بها لكن في إنجيلك. فقد قذفتها تلك المياه ذاتها وكان ركودها المرّ سبب ظهورها بكلمتك.

  28 حسنة كلّ الأشياء الّتي هي من صنعك، لكنّك أنت الّذي صنعتها كلّها أحسن منها بما لا يقاس. لو لم يسقط من عندك آدم لما انبثق من صلبه لجّ ذاك البحر الأجاج، الجنس البشريّ بفضوله العميق وكبْره المصطخب ولجّه الرّجراج*، ولما احتاج بذاك النّحو وكلاء كلامك إلى ترجمة أقوالك وأعمالك الخفيّة في المياه المتنوّعة بلغة الحسّ والجسد. كذلك يتراءى لفكري الآن معنى الزّحّافات والطّير إذ لا يمكن لمن تلقّوا تلك الأسرار المقدّسة كطقوس مادّيّة تجاوز ذلك الجانب إن لم تخطُ نفوسهم خطوة أخرى لتحيا حياة الرّوح وتتطلّعْ بعد شهادة الإيمان الأصليّة إلى التّمام.

13-21 البهائم والنّفس الحيّة

  29 هكذا تُخرج بكلمتك الأرضُ المُفرَزةُ من مرارة المياه، لا أعماقُ البحر، لا زحّافاتٍ ذوات أنفس حيّة وطيورا، بل نفسا حيّةً. وهي لا تحتاج إلى تعميد- كما تحتاج "الأمم" وكما كانت تحتاج هي ذاتها لمّا كانت مغمورة بالمياه؛ إذ لا دخول إلى ملكوت السّماوات بغير الطّريقة الّتي وضعتَ لدخوله. هي لا تطلب عجائب كبرى للإيمان ولا تشترط لتؤمن رؤية آيات ومعجزات. فقد انفصلت الأرض المؤمنة عن مياه بحر الكفر المرّة، و"الألسنة آية لا للمؤمنين بل للكفرة." ولا تحتاج الأرض الّتي أقمتَها "فوق المياه" إلى تلك الطّيور الّتي أنتجتْها بكلامك المياهُ. فأرسلْ فيها كلامك بواسطة رسلك. نحن نروي أعمالهم، لكنّك أنت الّذي تعمل فيهم ليينتجوا نفسا حيّة. الأرض تنتجها لأنّها أتاحت أن ينجزوا فيها تلك الأعمال، كما أتاح البحر إنشاء زحّافات ذات أنفس حيّة وطير تحت جلَد السّماء، لم تعد الأرض تحتاج إليها وإن اقتاتت بالسّمك المستخرج من أعماق البحر، على تلك المائدة الّتي أعتدتَها أمام المؤمنين، فقد استُخرِج من أعماق البحر غذاء الأرض اليبس. والطّير من نسل البحر لكنّها تتكاثر فوق الأرض اليابسة. كان كفر البشر سبب الرّسالات التّبشيريّة الأولى لكنّ المؤمنين أيضا يجدون فيها يوما فيوما عظات وبركات لا تحصى. أمّا النّفس الحيّة فتجد في الأرض أصلها إذ لا جدوى لغير المؤمنين في الزّهد في مستحبّات هذه الحياة، لتحيا فيك أنفسهم الّتي كانت ميّتة لمّا كانت تعيش في الملاذّ- الملاذّ المميتة يا ربّ، فأنت وحدك اللّذّة المحيية للقلب الطّاهر.

  30 ليعملْ إذن في الأرض خدّامك، لا كما في مياه الكفر حيث يبشّرون وينذرون بالمعجزات والأسرار المقدّسة والكلام الخفيّ، فتشدّ خشيةُ الآيات الخافية انتباه الجهالة أمّ العجب. كذلك فعلا يدخل في الإيمان بنو آدم الّذين ينسونك لمّا يختبئون من وجهك ويصيرون غمرا. بل ليعملوا أيضا كما في الأرض اليبس المفرزة من فوّارات الغمر، وليكونوا للمؤمنين مثالا بالعيش أمامهم وحضّهم على الاقتداء بهم. هكذا يصغون إليهم لا لسماع أقوالهم فحسب بل كذلك للعمل. "ابحثوا عن الله ولتحي أنفسكم". لتنشئ الأرض نفسا حيّة. "لا تتشبّهوا بهذا الدّهر واحترسوا منه"، فإنّما تحيا النّفس باجتناب ما تميتها شهوته. احترسوا من شراسة الكبْر الوحشيّة ومن متعة الشّهوة الخذواء وممّا يسمّى بالعلم زورا، لتضحي الوحوش مروّضة والبهائم مدجّنة والحيوات غير مؤذية. فهذه الحيوانات كناية عن نزعات النّفس. طغوى الاستعلاء ولذّة الشّهوة وسمّ الفضول هي حركات نفس ميّتة لم تمت بحيث تنتفي منها كلّ حركة فإنّما تموت بانفصالها عن نبع الحياة فيتلقّاها هذا العالم وهو ماض في مساره وتتكيّف به.

  31 لكنّ كلامك اللّهمّ "نبع الحياة الأبديّة" و"لا يمضي". لذا يحول دون الانفصال عن كلمتك ويهيب بنا: "لا تتشبّهوا بهذا الدّهر"، لتنتج الأرض الرّيّى من نبع الحياة نفسا حيّة، نفسا مزكّاة بكلمتك بفضل المبشّرين به من خلال الاقتداء بالمقتدين بمسيحك. ذاك معنى "بحسب صنفه"، فإنّما يقتدي بالمرء قرينه. هذا رسولك يقول: "كونوا مثلي فإنّي مثلكم". هكذا ستكون في النّفس الحيّة وحوش صالحة وديعة في كلّ أعمالها، فقد أمرتَنا: "اقض أعمالك بالوداعة فيحبّك الإنسان الصّالح"؛ وكذلك بهائم صالحة إن أكلتْ لم تزدد وإن لم تأكل لم تنقص، وحيوات صالحة لا تميل إلى الأذى لكنّها حكيمة حذرة وتستكشف الطّبيعة الدّنيويّة فقط بالقدر الكافي لترى أبديّتك المدركة بمبروءاتك. هكذا تخدم تلك الأحياء العقل لمّا تُبعَد عن طرقها المردية فتحيا وتكون صالحة.

<<