القدّيس أغسطينوس

 

الاعترافات

 

الكتاب الثّاني عشر- تابع

 

حواش 

13

12

11

10

9

8

7

6

5

4

3

2

1

مقدّمة

 

12-29 الأسبقيّة المقصودة بعبارة "في البدء"

  40 لكن لا بدّ لمن يفهم عبارة: "في البدء خلق" بمعنى: "أوّلا خلق"، لفهم "السّماء والأرض" على الوجه الصّحيح، من تأويلهما بمعنى مادّة السّماء والأرض، أو الكون، أو الخليقتين العقليّة والجسمانيّة. فعلا إن شاء أن يعتبرهما الكون بعد تصويره فلسائل أن يطرح هذا السّؤال الوجيه: "إن خلق الله ذلك أوّلا فماذا خلق من بعد؟" لن يجد بعد الكون شيئا وإذّاك سيواجه هذا السّؤال المفحم: "كيف نقول أوّلا إن لم يكن هناك شيء بعد؟" لكن حين يقول: "أوّلا مادّة غير مصوّرة ثمّ أُلقيتْ عليها الصّورة"، لا يجوز إذّاك تسخيفه إن أمكنه فقط أن يميّز بين الأسبقيّة في الأبديّة والزّمان والفضل والمصدر*. ففي الأبديّة مثل الله على كلّ الكائنات، وفي الزّمان مثل الزّهرة على الثّمرة، وفي الفضل كالثّمرة على الزّهرة، وفي المصدر كالصّوت على الغناء. في هذه الأسبقيّات الأربع، يصعب فهم الأولى والرّابعة المذكورتين، بينما الاثنتان الوسطاوان في منتهى السّهولة. فنادر وصعب المنال أن نرى يا ربّ أبديّتك الّتي تخلق الأشياء المتغيّرة دون أن يدركها التّغيّر وهي بذلك سابقة على سلّم الوجود. ثمّ من تُرى أوتي بصيرة حذّاء ليمكنه أن يعرف، بدون جهد كبير، أسبقيّة الصّوت على الغناء، لأنّ الغناء هو الصّوت المتّسق، ويمكن بدون شكّ أن يوجد صوت غير متّسق، لكن هل يمكن أن يتلقّى الصّورة والاتّساق ما ليس موجودا؟ هكذا فالمادّة سابقة عمّا صُنع منها، لكن لا لكونها صنعته لأنّها صُنعت بالأحرى، ولا زمنيّا، فنحن لا نصدر الأصوات في وقت سابق بنحو غير متّسق بدون غناء، ثمّ في وقت لاحق نؤلّفها وننظّمها في شكل أغنية كما يُصنع صندوق من الخشب أو قدح من الفضّة، فهاتان المادّتان تسبقان زمنيّا كذلك صورَ الأشياء المصنوعة منهما، بينما الأمر مختلف في الغناء. حين يغنّي أحد نسمع صوته، لكنّه لا يصوّت بنحو مشوّش، ثمّ يُشكَّل في صورة أغنية. بل حالما يصوّت يمضي، ولا نجد بُقيا منه لنأخذها وننسّقها بأسلوب فنّيّ. ومن ثمّة يتمثّل الغناء في الصّوت الّذي هو مادّته، ويشكَّل ليكون أغنية. لذا لمّا كنتُ أقول إنّ المادّة الصّوتيّة سابقة للصّورة الغنائيّة، لا سبق علّة فاعلة إذ ليس الصّوت صانع الغناء، بل يضعه الجسم على ذمّة نفس المغنّي لتصنع منه أغنية، ولا سبقا بالزّمان فهو يصدر مع الأغنية، ولا سبقا من حيث الفضل فليس الصّوت أفضل من الغناء، إذ ليس الغناء الصّوت فقط بل هو الصّوت المنغّم كذلك. وإنّما يتقدّم الصّوت على الغناء من حيث كونه مصدره، لأنّ الغناء لم يؤلَّف ليكون الصّوتُ، بل أُحدث الصّوتُ ليكون الغناءُ. ليفهم من استطاع، بهذا المثال، أنّ مادّة الأشياء المصنوعة أوّلا والمدعوّة سماء وأرضا، حيث صُنعتْ منهما السّماء والأرض، لم تُصنع أوّلا في الزّمان، لأنّ صور الأشياء هي الّتي تُنشئ الزّمان، والحال أنّها كانت بلا صورة، ولم تلاحَظ في الزّمان إلاّ مع نشأته. ومع ذلك لا يمكن التّحدّث عنها إلاّ بوصفها متقدّمة في الزّمان وإن عُدّت متأخّرة في المنزلة، لأنّ حامل الصّورة أفضل من عديمها. وقد سبقتْها أبديّة الخالق لينشأ من لاشيء ما أُنشئ منه شيء.

12-30 ضرورة روح التّسامح في الاختلاف

  41 في تنوّع الآراء الصّحيحة الّذي نرى، ليوجِدِ الوفاقَ الحقُّ ذاته، وليرحمْنا إلهنا "لنستعملَ النّاموس بمقتضاه، وبروح المحبّة الخالصة، غاية الوصيّة". لذلك إن سألني أحد أيَّها كان يرى موسى خادمك الجليل، فما أقوالي هذه بكلام اعترافات إن لم أقرّ لك بجهلي بذلك. مع ذلك أعلم أنّها آراء صحيحة باستثناء المجسِّدة الّتي قلتُ فيها رأيي كاملا. مع ذلك لا تخيف صغارَك المكنون فيهم الرّجاء الصّالح أقوال كتابك الرّفيعة في تواضعها والقليلة مع ثرائها*. أمّا نحن كلّنا الّذين نرى ونقول الحقّ حول هذه الأقوال كما أُقرّ، فلْنتحابّ ولنحبّك بالمثل يا إلهنا ينبوع الحقّ إن كنّا عطاشا له لا للأباطيل، ولْنُجلّ عبدك وكيل رسالاتك الممتلئ بروحك، مؤمنين بأنّه لمّا كتب ذلك بإلهامك قد تنبّه إلى الأفضل فيها بسنا حقيقته وكمال منفعته.

12-31 ثراء الكتاب بالمعاني يُحسب له لا عليه

  42 هكذا لمّا يقول هذا: "رأى رأيي" وذاك: "بل رأيي"، أعتقد أنّي أقرب إلى روح الدّين حين أقول: "لِم لا كليهما بالأحرى، إن كان كلاهما صحيحا*؟ وإن رأى غيركما في هذه الأقوال رأيا ثالثا ورابعا وغير ذلك من الآراء الصّحيحة، فلِم لا نظنّه رآها كلّها، هو الّذي بواسطته هيّأ الله الواحدُ كتابه المقدّس لأفهام الكثيرين الّذين سيذهبون فيه مذاهب شتّى صحيحة؟" أقولها من قلبي بصراحة: لو كتبتُ ما أُعِدَّ ليكون المرجع الأعلى لآثرتُ كتابته بحيث ما يدركْ أحد من حقيقة حول هذه المسائل يجدْ أقوالي تنطق بها، على إقرار معنى صحيح واحد على قدر من الوضوح كاف لاستبعاد سواه من التّأويلات الّتي لا تضيرني*. لذا لا أحبّ اللّهمّ أن أكون من الجسارة بحيث لا أظنّ ذلك الرّجل حظي منك بتلك النّعمة. فلا شكّ أنّه أدرك وتصوّر في تلك الأقوال لمّا كتبها كلّ ما أمكننا أن نجد فيها من حقائق، وما لم يمكنّا أو لم يمكنّا بعد، ويمكن مع ذلك وجدانه فيها.

12-32 يطلب من الله توفيقه في فهم الكتاب

  43 أخيرا يا ربّي الّذي أنت إله لا لحم ودم، إن لم ير الإنسان كلّ ما تتضمّن أقوالك، فهل أمكن أن يخفى على روحك الصّالح الّذي "يهديني في أرض الاستقامة" ما كنتَ ستكشفه فيها للقرّاء اللاّحقين، حتّى إن فكّر مبلّغها ربّما بواحد فقط من معانيها الصّحيحة المتعدّدة؟ إن صحّ ذلك فالمعنى الّذي رأى أحسن حتما من الأُخَر. فبيّنْ لنا ذلك المعنى أو آخر صحيحا ترتضيه بحيث تجعلنا، سواء كشفتَ لنا حول نفس الأقوال ما كشفتَ له أو سواه، بمأمن من أن تخدعنا ضلالة. انظر اللّهمّ كم كتبتُ حول هذه الكلمات القليلة! أفتكفي، على هذه الوتيرة، قواي ووقتي لكتابك كلّه؟ لذا اسمح لي أن أعترف لك حولها باختصار، وأختار معنى واحدا هو الّذي قذفتَ في قلبي صحيحا وثابتا وصالحا حتّى إن عرضت لي معان عديدة كلّما أمكن أن تعرض. ولصدق اعترافي الّذي تعلم وفّقْني إلى قول ما رأى رسولك بالوجه الصّحيح والأمثل، فذاك ما ينبغي أن أسعى إليه. فإن لم أبلغ القصد فسأقول على الأقلّ ما شاء إلهامي بكلماتك تلك الحقُّ الّذي ألهمه بواسطتها ما شاء.