القدّيس أغسطينوس
الاعترافات
الكتاب الثّامن
|
||||||||||||||||
8-
الكتاب الثّامن
8-1 تذبذب 1 سأذكر اللّهمّ
لأشكرك رحماتك
عليّ وأعترف بها.
لتمتلئ بحبّك
عظامي ولتصح:
"من مثلك أيّها
الرّبّ؟" "لقد
حللت قيودي فلك
أذبح ذبيحة الاعتراف."سأروي
كيف حللتَها،
وسيقول كلّ الّذين
يعبدونك: "الرّبّ
مبارك في السّماء
والأرض واسمه
عظيم ومعروف."
انتقشت في قلبي
أقوالك ومن كلّ
ناحية كنتَ تطوّقني.
كنتُ موقنا بحياتك
الأبديّة، وإن
كنتُ "أنظر إليها
كما في مرآة على
سبيل اللّغز".
وزايلني مع ذلك
كلّ شكّ في أنّ
جوهرك المنزّه
عن الفساد منه
انبثق كلّ جوهر.
كانت بغيتي أن
أزداد لا ثبوتا
منك، بل ثباتا
فيك. لكن كان كلّ
شيء في حياتي الدّنيويّة
يترنّح وكان لا
بدّ أن أنقّي قلبي
من "الخمير العتيق".
كنت أرتضي الطّريق،
الّذي هو المخلّص،
لكنّي أنفر من
السّير عبر مضايقه.
وأدخلتَ في روعي،
واستخرتُ أن أسير
إلى سمبلقيانوس*،
الّذي كان يبدو
لي عبدا صالحا
لك تشرق فيه نعمتك.
سمعتُ كذلك أنّه
منذ شبابه يعيش
بورع ناذرا لك
نفسه. كان إذّاك
شيخا، ويبدو لي،
بفضل العمر الطّويل
الذي قضاه بمثل
ذلك التّفاني
الحميد ليسلك
في طريقك، ذا تجربة
ثريّة وعلم واسع:
وكذلك كان فعلا.
لذا كنت أريد محادثته
عن بلابلي واستشارته
حول الطّريقة
المثلى في مثل
حالي لأسلك في
طريقك. 2 فعلا كنت أرى
الكنيسة ملأى،
يسير "بعضهم هكذا
وبعضهم هكذا".
أمّا أنا فصرت
مستاء من حياتي
في هذا العالم،
وأنوء بحملها،
إذ لم تعد تلهبني
أهوائي، كما اعتاد
حبّ الجاه والمال،
لأتحمّل وِقر
رقّ بذلك الثّقل.
فعلا لم تعد تلك
الأمور تلذّ لي
أمام حلاوتك وجمال
بيتك الّذي أحببتُ.
لكنّي ما فتئتُ
مشدود الوثاق
إلى المرأة. لم
يحرّم عليّ رسولك
الزّواج وإن دعا
إلى وضع أفضل،
في رغبته الشّديدة
أن يكون كلّ النّاس
كما كان*. لكنّي
ظللتُ لخؤوري
أخيّر مسلكا أيسر،
ولهذا السّبب
وحده أتأرجح في
الأمور الأخرى،
مضنى معنّى من
هواجسي المتلفة،
ففي أمور أخرى
لا أتحمّلها برضا،
كان عليّ التّكيّف
بالحياة الزّوجيّة
الّتي كنتُ قد
ألزمت بها وكرّست
لها نفسي. سبق أن
سمعتُ من فم الحقّ
أنّ ثمّة خصيانا
"خصوا أنفسهم
من أجل ملكوت السّماوات"،
لكنّه يقول: "فمن
استطاع أن يحتمل
فليحتملْ."* "إنّ
جميع الّذين لم
يعرفوا الله هم
حمقى من طبعهم
لم يقدروا أن يعلموا
الكائن من الخيرات
المنظورة". لكنّى
لم أعد في تلك الحماقة،
بل تجاوزتها،
وبشهادة الكون
كلّه وجدتُك أنت
خالقنا وكلمتك
الّذي هو إله عندك
وإله واحد معك
به خلقتَ كلّ شيء.
يوجد نوع آخر من
الكفرة "لمّا
عرفوا الله لم
يمجّدوه ولم يشكروه
كإله"*. في هذا الضّلال
وقعتُ أنا أيضا،
و"يمينك عضدتْني"،
سحبتْني من هناك
فوضعتْني حيث
أستطيع التّماثل
للشّفاء فقد قلت
للنّاس: "ها أنّ
خشية الله هي الحكمة"
وكذلك: "لا ترغب
في أن تظهر حكيما".
"فقد زعموا أنّهم
حكماء فصاروا
حمقى". ووجدت
"اللّؤلؤة الحسنة"*
وكان عليّ أن أبيع
كلّ شيء وأشتريها
وبقيت أتردّد.
8-2 سمبلقيانوس
يروي له قصّة تحوّل
فكتورينوس 3 سرتُ إذن
رأسا إلى سمبلقيانوس
الّذي كان أبا
في الله لأمبروسيوس
الأسقفّ إذّاك،
والّذي كان يعزّه
حقّا كأب. فرويتُ
له متائه ضلالي.
فلمّا ذكرتُ له
أنّي قرأتُ بعض
كتب الأفلاطونيّين
الّتي ترجمها
إلى اللاّتينيّة
فكتورينوس*، أستاذ
الخطابة بمدينة
رومية، والّذي
سمعت أنّه مات
على دين المسيح،
هنّأني على أنّي
لم أقع على كتب
فلاسفة آخرين
مليئة بالأباطيل
والمغالطات،
"على مقتضى أركان
هذا العالم"،
بينما ذُكر في
هذه الله وكلمته
بطرق شتّى. ثمّ
ذكر لي، ليحضّني
على تواضع المسيح
"المخفيّ عن الحكماء
والعقلاء والمكشوف
للأطفال"، فكتورينوس
نفسه الّذي كان
على صلة وثيقة
به أثناء وجوده
برومية، وروى
لي عنه ما لن أكتمه
ففيه ما يدعو
"لحمد مجد نعمتك".
إذ أنّ ذلك الشّيخ
العلاّمة المتضلّع
في كلّ العلوم
الشّريفة، الّذي
قرأ وقيّم العديد
من كتابات الفلاسفة،
معلّم كثيرين
من أعضاء مجلس
الشّيوخ الأكارم،
والّذي استحقّ
وقبِل، جزاء تعليمه
الممتاز الّذي
كان يحظى بفائق
التّقدير لدى
مواطني هذا العالم،
نصبا بميدان القصبة
برومية- إذ ظلّ
حتّى تلك السّنّ
يقدّس الأصنام
ويشارك في عباداتها
الأثيمة، الّتي
كان كلّ الأشراف
الرّومان تقريبا
كلِفين بها يومذاك
وينشرون بها في
الشّعب تقديس
أوزيريس* وشتّى
الوحوش الّتي
اتّخذوها آلهة
كأنوبيس* النّابح،
الّتي شهرت فيما
مضى أسلحتها ضدّ
نبتون* وفينوس*
ومينرفة* ثمّ صارت
رومية تعبدها
بعدما قهرتها،
وما انفكّ ذلك
الشّيخ فكتورينوس
يدافع عنها طيلة
سنين عديدة- لم
يخجله أن يصير
غلام مسيحك ورضيع
نبع حكمتك وأرضخ
رقبته لنير التّواضع
وحنى جبهته لخزي
الصّليب. 4 ربّاه!
ربّاه! يا من طأطأت
سماواتك ونزلت،
ومسست الجبال
فصارت دخانا،
بأيّة طرق ولجتَ
في ذلك القلب؟
كان يقرأ، على
ما ذكر سمبلقيانوس،
الكتاب المقدّس
وينقّب بعناية
فائقة عن كلّ الكتب
المسيحيّة، ويتقصّى
معناها العميق،
ويقول لسمبلقيانوس،
لا علانية بل مسارّة
وكما بين الأخلاّء:
"ها أنت تعلم أنّي
مسيحيّ." فيردّ:
"لن أصدّقك ولن
أعدّك من المسيحيّين
ما لم أرك في كنيسة
المسيح." فيضحك
قائلا: "أهي الجدران
الّتي تجعل النّاس
مسيحيّين إذن؟"
كثيرا ما قال إنّه
اعتنق المسيحيّة
وكثيرا ما ردّ
عليه سمبلقيانوس
بذلك، وكثيرا
ما أعاد عليه مزحة
الجدران. كان يخشى
إغاظة أصحابه
المتكبّرين عبدة
الشّياطين متصوّرا
أنّهم من قمّة
بابل المستعلية
كما من أرَز لبنان
الّذي لم يكن الرّبّ
قد حطّمه سيُنزلون
به نقمات ماحقات.
لكنّه بعدما نهل
في قراءته المتعطّشة
ما ثبّت به فؤاده
وخشي أن "ينكره
المسيح أمام الملائكة"
الأبرار إن خشي
أن "يعترف به قدّام
النّاس"، ورأى
أنّه يأتي إثما
عظيما إن لم يستح
من الباطل واستحى
من الحقّ، مخافتا
بأسرار تواضع
كلمتك ومجاهرا
بطقوس شياطين
الكِبر الأثيمة*
الّتي ارتضى مقلّدا
مختالا لهم. ذات
يوم قال بغتة وبنحو
غير متوقّع لسمبلقيانوس
كما روى لي: "هيّا
بنا إلى الكنيسة،
أريد أن أصير مسيحيّا."
فسار معه رأسا
وهو لا يتمالك
نفسه من الفرح.
بعد تلقّي أسرار
العقيدة الأوّليّة،
لم تمض مدّة طويلة
حتّى سجّل اسمه
لتلقّي العماد
المحيي وسط دهشة
رومية وغبطة الكنيسة.
كان المتكبّرون
يشاهدون ويتميّزون
من الغيظ ويصرّون
بأسنانهم ويذوبون.
لكنّ عبدك كان
قد "جعلك يا ربّ
متوكّله ولم يعد
يميل إلى المختالين
المنعطفين إلى
الكذب" 5 لمّا حانت
أخيرا ساعة بيان
العقيدة الّذي
جرت العادة في
رومية على أن يفصح
عنه الدّاخلون
في نعمتك بعبارات
محدّدة تُحفظ
غيبا وتُلقى من
على منبر مرتفع
على مرأى من جمهور
المؤمنين، عرض
الكهنة على فكتورينوس،
حسب ما روى لي عنه،
أن ينطق بالشّهادة
سرّا، كما كانوا
يفعلون مع بعض
النّاس الّذين
يُخشى أن يربكهم
الوجل. لكنّه آثر
خلاصه بالشّهادة
قدّام حشد المؤمنين.
إذ ما كانت نجاةً
دروسه في الخطابة
ومع ذلك اعتاد
إلقاءها علانية،
فكم كان أحقّ بألاّ
يخاف قطيعك الوديع
إذ يلقي كلمتك،
هو الّذي لم يكن
يخاف جموع الخُبل
إذ يلقي كلماته!
لذا لمّا صعد على
المنبر لينطق
بالشّهادة عالن
باسمه كلُّ من
يعرفه صاحبَه
وعلتْ جلبة التّهاني.
ومن لم يكن هناك
يعرفه؟ وتهامس
الجميع مستبشرين:
"فكتورينوس! فكتورينوس!"
سرعان ما هتفوا
لمرآه من فرط بهجتهم
ثمّ سارعوا بالصّمت
وتنبّهوا ليسمعوه.
فنطق بشهادة الحقّ
بثقة لا مثيل لها،
والجميع يودّون
أن يخطفوه ليكنّوه
في قلوبهم. وخطفوه
بالمحبّة والفرحة:
تانك كانتا يدي
خاطفيه. 8-3 قوّة
الفرح بتوبة الخاطئ
6 إلهي الودود،
ما الّذي يحصل
في الإنسان حتّى
يفرح بخلاص نفس
يائسة أُنقذتْ
من خطر أكبرَ أكثرّ
ممّا لو ظلّ الأمل
فيها متوفّرا
باستمرار أو كان
الخطر أقلّ؟ أنت
أيضا يا أبانا
الرّحيم، "يكون
فرحك بخاطئ واحد
يتوب إليك أكثر
ممّا يكون بتسعة
وتسعين صدّيقا
لا يحتاجون إلى
التّوبة". ونحن
أيضا نسمع ببهجة
عظيمة أنّ الرّاعي
أعاد الشّاة الّتي
ضلّت على كتفيه
المنتشيين جذلا،
وأنّ امرأة أعادت
إلى صندوق صدقاتك
وسط فرح الجيران
الدّرهم الّذي
وجدت، وتستدرّ
دمعنا مباهج بيتك
إذ نقرأ فيه عن
ابنك الأصغر الّذي
"كان ميتا فعاش
وكان ضالاّ فوُجد"*.
إنّك لتفرح بنا
وبملائكتك المبرورين
ببرّ محبّتك. فإنّك
ثابت في ذاتك دوما
وتعلم دوما وبنفس
النّحو كلّ الأشياء
الّتي لا توجد
دوما أو لا توجد
بنفس النّحو دوما*.
7 ما الّذي
يحصل إذن في النّفس
حين تلتذّ بما
تجد أو تستعيد
من الأشياء المحبّبة
إليها أكثر ممّا
لو ظلّت تمتلكها
باستمرار؟ فإنّ
مَواطن أخرى تشهد،
وتعجّ كلّها بآيات
تشهد هاتفة: "هو
كذلك." الامبراطور
المظفّر يتبختر
في موكب النّصر:
وما كان لينتصر
لو لم يحارب، وعلى
قدر هول الخطر
في المعركة تأتي
الفرحة في محفل
الانتصار. العاصفة
تقذف بركّاب السّفينة
مهدّدة بإغراقهم،
فتشحب الوجوه
خوفا من الموت
الوشيك، ثمّ تهدأ
ثائرة السّماء
والبحر، فيفرحون
كثيرا بقدر ما
خافوا قبل كثيرا.
يمرض شخص عزيز
وينبئ باستفحال
مرضه وهنُ نبضه،
فتعتلّ نفوس كلّ
من يرجون له الفرج.
ثمّ تتحسّن حاله،
فيمشي لكن دون
استعادة سابق
قواه، فيعمّ فرح
لم يوجد مثله قبل
لمّا كان يمشي
معافى وبكامل
قواه. حتّى ملاذّ
الحياة البشريّة
يدركها النّاس
لا بمتاعب مفاجئة
وطارئة رغم إرادتهم،
بل بالتّصميم
والجهاد. لا لذّة
في الأكل والشّرب
إن لم تسبق مكابدة
الجوع والعطش.
كذلك يتناول السّكارى
بعض المملّحات
ليلهبوا ظمأهم
فإذا أطفأه الشّرب
حصلت اللّذّة.
كذلك جرى العرف
ألاّ تُزفّ النّساء
فور خطوبتهنّ
إلى بعولتهنّ
كيلا يستخفّ البعل
بامرأة أعطيت
له دون أن يتحرّق
من الارتجاء. 8 كذا هو
الشّأن في الفرحة
الخسيسة والمرذولة،
وهو كذلك في الفرحة
المباحة الحلال،
وحتّى في فضيلة
الصّداقة المخلصة
الصّادقة، وهو
مماثل أيضا في
مَن "كان ميتا
وعاش وكان ضائعا
فوُجد": في كلّ
الحالات يسبق
فرحة كبرى عناء
أكبر. لم ذاك يا
ربّ، وأنت فرح
أبديّ لذاتك،
ومنبع فرح دائم
للملإ الأعلى
حواليك؟ لِم يتناوب
على هذا الجزء
من كائناتك الازدياد
مع النّقصان،
والخلاف مع الوفاق؟
أم ترى تلك سنّتها،
وذاك المقدارَ
أعطيتَها لمّا
وضعتَ، من أقاصي
السّماوات إلى
أعماق الأرضين،
ومنذ بدء الخليقة
حتّى نهاية الدّهور،
ومن الملاك حتّى
الدّودة، ومن
الحركة الأولى
حتّى الأخيرة،
كلّ أنواع الخيرات
وكلّ أعمالك القويمة
كلاّ في مكانه،
وأنجزت كلاّ في
زمانه؟ يا ويلتى،
ما أعلاك بين العليّين
وأعمق غورك في
الأعمقين! لا تبتعدُ
عنّا أبدا ومع
ذلك ما أشقّ مآبنا
إليك! 8-4 على قدر
صيت المرء يكون
الفرح بهدايته
6 هلمّ اللّهمّ،
هيّا أيقظنا وادعُنا،
قِدنا وقُدنا،
ألهبنا واحلوْلَ
لنا، ولنحبّك
ولنعْدُ نحوك.
أما آب إليك الكثيرون
من هاوية عمىً
أعمق من الّتي
تردّى فيها فكتورينوس،
ووصلوا إليك،
ويُضاؤون متلقّين
نورك الّذي يستمدّ
متلقّوه* منك القدرة
على أن يصيروا
أبناءك؟ فإن كانوا
أقلّ ذكرا عند
النّاس، كانت
الفرحة بهم أقلّ
حتّى عند من يعرفونهم.
فحين يفرح المرء
مع كثيرين يكون
الفرح أوفر لكلّ
منهم لأنّهم يتحاضّون
ويستثير بعضهم
بعضا. ثمّ إنّ المعروفين
لكثيرين قادرون
على إيصال كثيرين
إلى النّجاة ويتقدّمون
متبوعين بكثيرين.
لذا يسعدون كثيرا
بهم وبمن سبقوهم
إذ لا يسعدون بأنفسهم
فقط. بعيدا عنّي
القول بأنّ الأغنياء
يُقبَلون قبل
الفقراء أو المشاهير
قبل المغمورين
في مقدسك، فإنّك
"اخترتَ الضّعيف
من العالم لتُخزي
القويّ واخترتَ
الخسيس من هذا
العالم والحقير
وغير الموجود
لتعدم الموجود".
مع ذلك فإنّ "أصغر
رسلك" نفسه الّذي
وضعتَ على لسانه
أقوالك، أثناء
ولاية باولوس*
الّذي خضع، بعدما
قهرتْ كبْرَه
أسلحتُه، لنير
مسيحك اللّيّن،
راضخا لمَلِك
ذي ملْك عظيم،
أحبّ استبدال
اسمه السّابق
شاول ببولس كشارة
لهذا النّصر المبين.
فإنّ هزيمة العدوّ
أتمّ في من كانت
سيطرته عليه أشدّ
وشملت من خلاله
عددا أكبر من النّاس.
وهو يمسك بقبضة
أشدّ المتكبّرين
بشرف اسمهم، وكثيرين
من خلالهم بتأثير
اسمهم. لذا لمّا
كان النّاس يفكّرون
في قلب فكتورينوس
الّذي كان الشّيطان
قد احتلّه كحصن
حصين، وبلسان
فكتورينوس ذلك
الرّمح الذّرب
الأصمّ الّذي
أودى فيما مضى
بالكثيرين، حسُن
أن يبتهج أبناؤك
بوجه أتمّ أنّ
ملكنا قيّد الجبّار،
وكانوا يرون أوانيه
السّليبة "تطهَّر
وتعَدّ لكرامتك،
وتصير أهلا لاستعمال
سيّدهم، معَدّة
لكلّ عمل صالح".
8-5 صراع
الرّوح والجسد
10 لمّا روى
لي عبدك سمبلقيانوس
تلك الأخبار عن
فكتورينوس التهبتُ
حماسا لتقليده،
ولذاك بالذّات
رواها لي. لكن بعدما
أضاف أنّ قانونا
سُنّ في عهد الامبراطور
يوليانوس* يحظر
على النّصارى
تعليم الأدب،
فامتثل له فكتورينوس
وآثر التّخلّي
عن تدريس الهذر
على ترك كلمتك
الّذي "به جعلتَ
ألسنة الأطفال
تفصح"، لم يبد
لي أشجع بقدر ما
بدا لي أسعد إذ
وجد فرصة للتّفرّغ
لك. كنت أتوق إلى
نفس الانعتاق
وأنا مكبّل لا
بقيد حديدٍ خارجيّ
بل بغلّ إرادتي
الحديديّ. كان
العدوّ يسيطر
على إرادتي وصنع
منها سلسلة قيّدني
بها. فمن الإرادة
المنحرفة تنشأ
الشّهوة، فإن
استبدّت الشّهوة
نشأت العادة،
فإن لم تقاوَم
العادة استحالت
ضرورة. من هذه الحلقات
المتشابكة- لذا
سمّيتها سلسلة-
كنت في أسر قاس
لا فكاك منه. والحال
أنّ الإرادة الجديدة
الّتي بدأت تتكوّن
لديّ، أن "أتّقيك
مجّانا" وأن ألتذّ
بك يا ربّي ومسرّتي
الثّابتة الوحيدة،
لم تكن بعد قادرة
على التّغلّب
على الأولى الّتي
قوّاها القِدم.
هكذا كانت إرادتاي،
القديمة والجديدة،
الجسديّة والرّوحيّة،
تتصارعان، وبصراعهما
تتلفان نفسي. 11 هكذا أخذت
أفهم، من خلال
تجربتي الذّاتيّة،
ما قرأتُ من أنّ
"الجسد يشتهي
ما هو ضدّ الرّوح،
والرّوح ما هو
ضدّ الجسد"* وأنا
في كليهما لا شكّ،
لكنّي في ما أرتضي
فيّ أكثر منّي
في ما أستقبح فيّ.
ففي هذا وإلى حدّ
بعيد لستُ أنا
المعنيّ إذ أتحمّل
كارها أكثر ممّا
أفعل مختارا. لكن
منّي أتت تلك العادة
المستشرية ضدّي،
فبمحض إرادتي
وصلتُ حيث لم أكن
أريد. ومن يحقّ
له أن ينازع في
أن يلحق بالخاطئ
عقابه العادل؟
ولم تعد لديّ تلك
الذّريعة الّتي
اعتدتُ بها تصوّر
أنّي لم أدفع بعد
عنّي هذا العالم
باحتقارٍ وأشرع
في خدمتك لأنّ
إدراكي للحقيقة
كان ظنّيّا غير
ثابت، فها قد بات
ثابتا. وإنّما
لم أزل، لارتباطي
المتواصل حتّى
ذلك الوقت بالأرض،
أرفض التجنّد
لخدمتك، وأخاف
أن تُفَكّ قيودي
قدر ما يُفترض
أن يخاف المرء
تقييده. هكذا كنتُ
أنغطّ تحت وطأة
العالم مستعذبا
كما يحدث في الحلم،
وتسابيح روحي
عند تفكّري فيك
كمحاولات الرّاغبين
في الاستيقاظ
ثمّ لا يلبثون
أن يستسلموا لغمرات
النّوم فيغرقوا
فيه من جديد. وكما
أنّ لا أحد يحبّ
النّوم باستمرار،
بل اليقظة مفضّلة
حسب الحسّ السّليم
المشترك بين النّاس،
ومع ذلك كثيرا
ما يرجئ المرء
نفض غبار النّوم
عنه لمّا يغشى
أطرافه خدر ثقيل
فيستحليه مع أنّه
صار يضايقه حتّى
وقد حلّ وقت النّهوض،
كذلك كنتُ على
يقين أنّ نذْر
نفسي لمحبّتك
خير من استسلامي*
لهواي، لكن كان
ذلك يعجبني ويقنعني،
وهذا يستهويني
ويغويني*، ولم
يكن لديّ ما أجيبك
به إذ تقول لي:
"استيقظ أيّها
النّائم وقم من
بين الأموات فيضيء
لك المسيح." كلاّ
ولا كان لديّ قطّ
ما أجيبك به إذ
تجلي لي الحقائق
فيفحمني حقّك
سوى كلمات متثاقلة
وسنى: "الآن! هأنذا
حالا! لحظة قصيرة
فقط!" لكنّ "الآن"
يتمدّد بلا حدّ*،
واللّحظة تتمطّط
وتتمطّى. وعبثا
كنتُ "أرتضي ناموسك
الّذي في أعضائي،
الّذي يحارب ناموس
روحي ويأسرني
تحت ناموس الخطيئة
الّذي في أعضائي".
ناموس الخطيئة
هو جبروت العادة
الّتي تجرّ وتكبّل
كذلك نفسي قسرا،
وعدلا لأنّها
باختيارها وقعت
فيها. فمن كان
"سينقذني أنا
الشّقيّ من جسد
الموت هذا سوى
نعمتك بيسوع المسيح
ربّنا؟" 8-6 حديث
مليء بالعظات
13 سأروي
وأعترف لاسمك
"أيّها الرّبّ،
صخرتي وفاديّ"
كيف خلّصتَني
من غلّ الشّهوة
الجسديّة الّذي
كان يكبّلني بإحكام،
ومن أسر الشّؤون
الدّنيويّة. بتُّ
أمارس أعمالي
المعتادة بقلق
متزايد، وأهفو
كلّ يوم إليك،
وأتردّد على كنيستك
قدر ما تترك لي
فراغا تلك المشاغل
التي أنوء وأئنّ
تحت عبئها. ومعي
أليبيوس الّذي
تفرّغ بفضل عمله
الآن كقاض مستشار
بعد وظيفته الثّالثة
كقاض مساعد، في
انتظار من يبيع
لهم مجدّدا إشاراته،
كما كنتُ أبيع
فنّ الكلام، إن
أمكن بحال نقله
بالتّعليم. أمّا
نبريديوس، فنزولا
عند واجب صداقته
لنا صار يشتغل
مساعدا لويريكندوس
مواطن مديولانيوم
والأستاذ بها،
بعدما طلب منّا
بإلحاح وترجّانا
باسم مودّتنا
أن يقدّم له أحدنا
عونا مخلصا كان
بأمسّ الحاجة
إليه. لم يجرّه
الحرصُ إذ كان
بوسعه الاستفادة
أكثر من أدبه لو
شاء لكنّ ذلك الصّديق
الفريد في طيبته
ودماثته أبى استجابةً
لواجب خدمة الخلاّن
أن يخيّب طلبنا.
وعين الحكمة ما
فعل، في حيطته
من أن يصير معروفا
للكبار حسب هذا
العالم، فتجنّب
بذلك منهم كلّ
شاغل لنفسه الّتي
كان يريدها خليّة
من الهموم ومتفرّغة
أطول وقت ممكن
للحكمة بحثا وقراءة
واستماعا. 14 ذات يوم،
في غياب نبريديوس
لسبب لا أذكره،
أتانا، أنا وأليبيوس،
في البيت رجل يدعى
بُنتقيانوس،
هو من إفريقية
مثلنا، يشغل منصبا
مرموقا في القصر
الامبراطوريّ:
لا أدري أيّة حاجة
كان يريد منّا،
وجلسنا للحديث.
بالصّدفة لفت
انتباهه، على
طاولة اللّعب
الّتي كانت أمامنا،
كتاب، فتناوله
وفتحه ووجده لبولس
الرّسول، دون
أن يتوقّع طبعا،
لأنّه كان يتصوّره
أحد الكتب الّتي
اهترأتُ من تدريسها؛
فابتسم ونظر إليّ
وهنّأني مبديا
عجبه أن يجد على
حين غرّة أمام
عينيّ ذلك الكتاب
وحده. كان مسيحيّا
صادق الإيمان،
وكثيرا ما ركع
لك يا ربّنا في
الكنيسة في صلوات
متكرّرة طويلة.
فلمّا أخبرته
بأنّي أولي تلك
الكتابات اهتماما
بالغا، دار بيننا
حديث بهذا الصّدد؛
فروى لنا أخبار
الرّاهب المصريّ
أنطونيوس* الّذي
يسطع اسمه بين
خدّامك كالكوكب
الدّرّيّ، وإن
ظلّ حتّى ذلك اليوم
خافيا عنّا. فلمّا
اكتشف ذلك تبسّط
في الحديث عنه،
مقدّما لنا هذا
الرّجل العظيم
المجهول لدينا،
متعجّبا من جهلنا.
فلبثنا ننصت مشدوهين
إلى عجائبك المشهودة،
حديثة العهد والقريبة
من عصرنا، والتي
تمّت في إطار العقيدة
القويمة والكنيسة
الكاثوليكيّة*.
فكنّا جميعا في
عجب، نحن الاثنان
من سماع مثل تلك
العجائب، وهو
من عدم سماعنا
بها. 15 ثمّ انتقل
بنا الحديث إلى
جماعات الأديرة،
ورياضاتهم لإدراك
نفحات أنسك، وخلوات
الصّحراء الخصبة*،
الّتي لم نكن نعرف
شيئا عنها. كان
يوجد بمديولانيوم،
خارج أسوار المدينة،
دير مليء بإخوان
صالحين، تحت إشراف
أمبروسيوس، ونحن
لا نعرفه. استرسل
في حديثه ونحن
نستمع إليه في
صمت. حتّى وصل به
الحديث إلى أن
روى لنا أنّه خرج
مع ثلاثة من زملائه
يوما، لا أذكر
متى لكن حدث ذلك
قطعا في تريويري*،
للتّفسّح في البساتين
المحاذية للأسوار
بعد الظّهر حين
يكون الامبراطور
مشغولا بمشاهدة
عروض السّرك. من
هناك راحوا يتمشّون
موزّعين حسب مشيئة
الصّدفة، واحدا
معه والآخريْن
معا وكلتا المجموعتين
في اتّجاه. ظلّ
هذان يسيران على
غير هدى إلى أن
دخلا كوخا يسكنه
بعض خدّامك "المساكين
بالرّوح" ممّن
"لهم ملكوت السّماوات".هناك
وجدا كتابا عن
حياة أنطونيوس.
فبدأ أحدهما يقرأه
ويعجب ويتحمّس
ويفكّر أثناء
قراءته في تبنّي
أسلوب الحياة
ذاك وترك خدمة
العالم لخدمتك.
كانا من "وكلاء
أعمال" الامبراطور
كما يُدعون. صوّب
إذّاك عينيه إلى
صاحبه وقال له:
"قل أرجوك، إلى
أين نبغي الوصول
بكلّ أعمالنا؟
ماذا ننشد؟ لأجل
ماذا نخدم؟ أيمكن
أن نأمل في البلاط
أكثر من أن نكون
من خلصاء الامبراطور؟
وأيّ شيء في ذلك
الوضع ليس هشّا
مليئا بالأخطار؟
وعبر كم من المخاطر
نصل إلى خطر أكبر؟
ومتى سنصل إلى
تلك الغاية؟ لكن
هأنذا أصير حالا
خليصا لله إن شئت."
قال هذا وأعاد
عينيه إلى صفحات
الكتاب وهو في
خضمّ المخاض بحياة
جديدة. أنشأ يقرأ
ويتحوّل في صميمه
حيث كنتَ تبصر،
وأخذ فكره يتجرّد
من العالم كما
بان بعد حين. فلمّا
قرأ ومارت به لجّة
قلبه، سرتْ فيه
أخيرا رعشة وتبيّن
وقرّر* ما هو خير
وأجدى وقال لصاحبه
وقد صار لك: "ها
أنا قد انتزعتُ
نفسي من أملنا
ذاك وقرّرتُ أن
أخدم الله، وإنّي
فاعل بدءا من هذه
اللّحظة وهذا
المكان. فإن كرهتَ
تقليدي فلا تعارضني."
أجابه بأنّه حريص
على مشاركته في
تلك التّجارة
الرّابحة والخدمة
الجليلة. وصارا
فورا من خدّامك،
وشرعا يبنيان
برج خلاصٍ بالنّفقة
المناسبة مصمّمين
على ترك كلّ شيء
واتّباعك. في ذلك
الأوان وصل بنتقيانوس
ومرافقه اللّذان
كانا يتمشّيان
في أجزاء أخرى
من البستان وأخذا
يبحثان عنهما،
فلمّا وجداهما
هناك دعواهما
إلى العودة إذ
آذن النّهار بانتهاء.
فحدّثاهما بقرارهما
ومشروعهما ورجياهما
ألاّ يثبّطاهما
إن رفضا الانضمام
إليهما. ومع أنّ
صديقيهما لم يتحوّلا
قطّ عن أسلوب حياتهما
السّابق، بكيا
على نفسيهما،
كما روى لي، وهنّآهما
بصدق وأوصياهما
بالدّعاء لهما،
وانصرفا إلى القصر
جارّين على الأرض
قلبيهما، بينما
بقي الآخران في
الكوخ معلّقين
بالسّماء قلبيهما.
وكانا قد خطبا
امرأتين، فلمّا
سمعتا بذلك نذرتا
لك بكارتهما. 8-7 تأثّره
بحديث بنتقيانوس
16 مضى بنتقيانوس
يروي لنا ذلك،
وأنت اللّهمّ
خلال كلامه تحوّل
بصري إلى ذاتي
من قفاي حيث كنت
ألتفت، كيلا ألحظها،
وتنصبني أمام
وجهي لأرى كم كنت
بشعا معوجّا قذرا
ملطّخا ومقرّحا،
وكنت أرى ذاتي
وأستفظعها، لكن
أين المفرّ منها؟
وإن حاولت تحويل
نظري عن ذاتي مضى
يقصّ ما يقصّ،
ومن جديد تنصبني
تجاه ذاتي وتضعني
أمام ناظريّ لأكتشف
إثمي وأمقته. كنتُ
أعلمه لكنّي أستره
وأكتمه وأتناساه.
17 لكن بقدر
ما أخذتُ إذّاك
أحبّ بحرارة من
أسمع عن مشاعرهم
السّليمة إذ فوّضوا
إليك أمرهم تماما
لتشفيهم، ازددتُ
كراهية ومقتا
لذاتي إذ أقارنها
بهم. فقد مضت من
عمري سنون طوال،
حوالي اثنتي عشرة،
منذ أن قرأت وأنا
في التّاسعة عشرة
كتاب "هرتنسيوس"
لشيشرون فتحمّست
لدراسة الحكمة،
وها أنا لا أزال
أرجئ احتقار مسرّات
الأرض للتّفرّغ
للبحث عن تلك الّتي
ينبغي أن يؤثَر
مجرّد نشدانها
بلْه اكتشافها
على وجدان كنوز
وممالك الأمم
قاطبة وعلى طفاح
من ملذّات الجسد
جاهزة رهن الإشارة*.
لكنّي أنا الشّقيّ
حقّا وأنا بعد
شابّ، بل حتّى
في مطلع الشّباب
طلبتُ منك العفّة
وقلت: "أعطني العفّة
والنّقاوة، لكن
لا تعطنيهما حالا".
إذ كنت أخاف أن
تستجيب لي وتشفيني
فورا من علّة الشّهوة
الجسديّة الّتي
كنت أوثر إشباعها
على إخمادها. وسرت
على الطّرق العوجاء
لعقيدة فاسدة
ملؤها الكفر لا
لوثوقي منها،
بل لتفضيلها اعتباطا
على المذاهب الأخرى
الّتي لم أكن أبحث
عنها بنزاهة بل
أحاربها بعداء.
18 وقد توهّمتُ
سبب تأجيلي يوما
فيوما محقِرة
أمل العالم لاتّباعك
وحدك أنّي لم أر
بعد شيئا ثابتا
أوجّه به مسيري.
وأتى اليوم الّذي
ظهرت فيه عاريا
لذاتي وراح يقرّعني
ضميري: "أين لسانك؟
كنتَ تزعم قبل
أنّك لعدم ثبوت
الحقّ تأبى إلقاء
وِقر الباطل عنك.
فهذا الحقّ بيّنا،
ووزرك ما زال يثقلك
بينما تلقّى ريشا
على عواتقهم الطّليقة
من لم يهترئوا
في البحث ولا قضوا
عقدا ونيّفا في
التّفكير مثلك!"
هكذا راح ضميري
ينهشني وخجل فظيع
ينخرني بشدّة
بينما بنتقيانوس
يتابع سرد تلك
الأخبار. بعد انتهائه
من حديثه وقضاء
الحاجة الّتي
جاء لأجلها انصرف
وانصرفتُ أنا
إلى ذاتي. ماذا
لم أقل ضدّي؟ بأيّة
سياط من الفِكَر
لم أجلد نفسي لتتبعني
في محاولتي السّعي
إليك؟ وهي تتمنّع
وتقاوم ولا تجد
عذرا. نفدت وفُنّدت
كلّ الحجج: بقيت
مخافةٌ خرساءُ،
فكالموت كانت
ترهب أن تُمنع
من مجرى عادتها
حيث كانت تتلف
في الموت.
8-8 الأزمة
19 إذّاك
في خضمّ هذا الصّراع
المرير الدّائر
في بيتي الباطن
والّذي كنت أخوضه
مع نفسي في حجرتنا
الجوّانيّة- قلبي،
أقبلتُ على أليبيوس،
كدر الوجه والفكر،
وهتفتُ: "ماذا
ننتظر؟ أسمعتَ
ذلك؟ جهَلةٌ ينهضون
ويفتكّون السّماء
ونحن مع علمنا
نتمرّغ في أوحال
اللّحم والدّم!
ألأنّهم سبقونا
نخجل من اتّباعهم؟
أليس أحقّ بنا
الخجل من ألاّ
نتّبعهم؟" قلتُ
كلاما كهذا لا
أذكره، ثمّ انتزعني
منه شجني، وهو
صامت يحملق فيّ
مشدوها. فما اعتاد
أن يسمع منّي مثل
تلك الأقوال. وكانت
أبلغ من كلماتي
عبارةً روحي وجبيني
وخدّاي وعيناي
وسحنتي ونبرة
صوتي. كانت لبيت
مضيّفنا حديقة
نستخدمها كبقيّة
أقسام المنزل،
إذ لم يكن صاحب
البيت يقطن هناك.
أخذني الإعصار
المحتدم بقلبي
إلى هناك حيث لا
يزعج أحد ذاك النّزاع
الحامي الدّائر
بيني وبين نفسي
حتّى يجد نهايته،
الّتي كنت تعلمها
من دوني. كنت أهذي
لأُشفى، وأموت
لأحيا، وأعلم
بما بي من شرّ،
وأجهل ما سيكون
بي من خير بعد قليل.
انصرفتُ إذن إلى
الحديقة وتبع
أليبيوس خطاي.
فما كان لي سرّ
لا أطلعه عليه،
ثمّ هل كان يمكن
أن يتركني وأنا
في مثل ذلك الاضطراب؟
جلسنا بعيدا عن
البيت قدر ما أمكننا.
كان يهزّني استنكار
عنيف أنّي لم أسرْ
يا ربّ للدّخول
في عهدك وميثاقك
كما كانت تصيح
بي أن أفعل جميع
عظامي وترفعني
إلى السّماء بتسبيحك.
وما كان السّير
إلى هناك بسفائن
ولا مراكب ولا
أقدام، ولا سرتُ
حتّى مقدار ما
بين البيت والمكان
حيث كنّا جالسيْن.
فليس السّير فقط
بل كذلك الوصول
إليك لا شيء سوى
إرادة المسير،
لكن بحزم وعزم،
لا أن تقذف وتحرّك
هنا وهناك إرادة
متخاذلة متنازعة
بين جزء يُنهضها
وآخر يهوي بها.
20 كنت في
تذبذبات تردّدي
أقوم بحركات كثيرة
كما يفعل النّاس
أحيانا لمّا يريدون
ولا يستطيعون،
سواء لأنّ الأعضاء
المناسبة تعوزهم،
أو لأنّها مكبّلة
بقيود، أو موهنة
من سُقام، أو مشلولة
بنحو ما. إن جذبتُ
شعري، إن ضربتُ
جبيني، إن لففتُ
يديّ على ركبتي
شابكا أصابعي،
فقد فعلت ذلك لأنّي
أردته. لكن أمكن
أن أريد ولا أستطيع
إن لم تطاوعني
أعضائي لعجزها
على الحركة. إذن
فعلت أشياء كثيرة
لم تكن فيها الإرادة
والقدرة متماثلتين،
ولم أفعل ما كان
يروق لي أكثر بما
لا يقاس، ويكفي
أن أريده لأستطيعه
إذ يكفي أن أريده
لأريده حقّا. هنا
كانت القدرة هي
الإرادة، والمشيئة
هي الفعل. مع ذلك
لم يكن يحصل المراد
وكان جسمي يستجيب
لأدنى إرادة لنفسي
محرّكا بإشارة
منها أعضائي بأيسر
من استجابتها
لذاتها بإنجاز
إرادتها الكبرى
المتمثّلة في
مجرّد الإرادة.
8-9 صراع
في نفسه بين إرادتين
21 من أين
أتت هذه الأعجوبة؟
ولِم يحصل ذلك؟
لتُنرني رحمتك
ولأسلْ إن استطاعت
إجابتي خفايا
آلام البشر وأحزان
بني آدم القاتمة
عقاب خطيئتهم.
من أين أتت هذه
الأعجوبة؟ ولِم
يحصل ذلك؟ توجّه
النّفس أوامرها
للبدن فيطيع فورا.
وتأمر النّفس
ذاتها فتلقى مقاومة.
تأمر النّفس بتحريك
اليد، فتكون المسألة
من السّهولة بحيث
لا نكاد نميّز
الأمر من الاستجابة.
والنّفس هي النّفس،
واليد من البدن.
تأمر النّفس بأن
تريد النّفس،
وما ذي غير تلك،
ومع هذا لا تفعل
ما تؤمر. فمن أين
أتت هذه الأعجوبة؟
ولِم يحصل ذلك؟
أقول إذن إنّها
تأمر بأن تريد-
وهي ما كانت لتأمر
لو لم تكن تريد-
ولا تفعل ما تأمر.
غير أنّها لا تريد
كلّيّا، فهي تأمر
قدر ما تريد، لأنّ
الإرادة هي الّتي
تأمر، بحيث إن
وُجدت إرادة فما
هي سواها بل هي
بعينها. هي إذن
لا تصدر أمرها
بامتلائها وكلّ
كيانها، ومن ثمّة
ليس هناك ما تأمر
به. فلو كانت في
امتلائها لما
أمرت بأن تكون،
إذ لكانت إذّاك
أيسا. ليس عجبا
إذن أن تريد جزئيّا
وتمتنع جزئيّا.
بل هو سقم في النّفس،
لأنّ العادة تثقلها
فلا تنهض كلّيّا
وقد استخفّها
الحقّ. ففيها إرادتان،
كلتاهما غير تامّة
ويتوفّر فيها
ما ينقص الأخرى.
8-10 صراع
الإرادتين لا
يعني وجود جوهرين
متضادّين في النّفس
22 "ليهلكْ
أمام وجهك" يا
ربّ، كما "يهلك
ذوو الكلام الباطل
وخدّاعو" النّفوس،
من يؤكّدون كلّما
لاحظوا عند تداول
النّفس في أمرٍ
إرادتين، وجود
روحين من طبيعتين
مختلفتين، إحداهما
حسنة والأخرى
سيّئة. ألا إنّهم
هم السّيّئون
بتفكيرهم هذه
الأفكار السّيّئة،
وليكوننّ أخيارا
لو فكّروا ما هو
حقّ واتّفقوا
مع أتباع الحقّ*،
فيقول لهم رسولك:
"كنتم حينا ظلْمة
أمّا الآن فأنتم
نور في الرّبّ."
يريد أولئك أن
يكونوا نورا لا
في الرّبّ بل في
أنفسهم، بظنّهم
أنّ النّفس من
ذات طبيعة الله
وبذلك صاروا ظلْمة
أشدّ تلبّدا. ففي
قحتهم القبيحة
نأوا أكثر عنك
أنت النّور الحقّ
الّذي "ينير كلّ
إنسان آت إلى هذا
العالم." انتبهوا
إلى ما تقولون
واستحوا والتمسوه
"واستنيروا ولا
تخزَ وجوهكم".
من جهتي، لمّا
رحت أشاور ذاتي
في الانقطاع لخدمة
الله كما اعتزمتُ
منذ مدّة طويلة،
كنتُ أنا الّذي
أريد وأنا الّذي
آبى، كنت كلا الشّخصين:
لا أريد تماما
ولا آبى تماما،
فأتنازع إذن مع
ذاتي وأنقسم. وهذا
الانقسام ذاته
يحصل غصبا عنّي
لا محالة، لكنّه
لا يُظهر وجود
روح أجنبيّة فيّ
من طبيعة مغايرة،
بل يُظهر عقابي.
ولم يكن بالتّالي
يحصل بفعلي أنا،
بل لأنّ "الخطيئة
ساكنة فيّ" عقابا
على خطيئة ارتُكبت
بفعل أكثر حرّيّة،
لأنّي من ذرّية
آدم. 23 فلو وُجد
من الطّبائع المتضادّة
بقدر ما يوجد من
الإرادات المتعارضة،
لما وُجدت اثنتان،
بل طبائع كثيرة.
لمّا يتداول أحد
في سرّه هل يسير
إلى منتداهم أو
إلى المسرح، يهتفون:
"تان طبيعتان،
واحدة حسنة تقوده
إلى هنا، وأخرى
سيّئة ترتدّ به
إلى هناك. وإلاّ
فما علّة تردّده
بين إرادتين متضاربتين؟"
أمّا أنا فأقول
إنّ كلتيهما سيّئة
الّتي تقوده إليهم
والّتي ترتدّ
به إلى المسرح،
لكنّهم لا يخالون
إلاّ حسنةً تلك
الّتي تحمله إليهم.
ماذا؟ إن تفكّر
أحدنا، فيما بينه
وبين نفسه، وتردّد
بين إرادتين متنازعتين،
هل يسير إلى المسرح
أو إلى كنيستنا،
ألا يُتوقّع أن
يتردّد الجماعة
في ما يقولون؟
إمّا سيعترفون،
وهو ما لا يريدون،
بأنّ إرادة حسنة
تسيّره إلى كنيستنا،
كما يسير إليها
من تشرّبوا أسرارها
المقدّسة واستمسكوا
بها، وإمّا سيرون
طبيعتين سيّئتين
وروحين شرّتين
تتنازعان في شخص
واحد، ولن يصحّ
ما اعتادوا قوله،
بأنّ واحدة حسنة
وأخرى سيّئة،
وإمّا سيثوبون
إلى الحقّ ولن
ينكروا، في حال
تشاور أحد مع ذاته،
تذبذب نفس واحدة
بين إرادات مختلفة.
24 فلا يقولُنّ
إذن، إن رأوا إرادتين
تختصمان في شخص
واحد، إنّ روحين
متضادّتين من
جوهرين متضادّين
ومبدأين متناقضين
تتصارعان، واحدة
حسنة وأخرى سيّئة.
فإنّك أنت "الله
الصّادق" تسفّههم
وتفنّدهم وتخسّئهم.
فربّ إرادتين
كلتاهما سيّئة،
كما هي الحال حين
يفكّر أحد هل يقتل
شخصا بالسّمّ
أو بالسّيف، وهل
يستحوذ على قطعة
الأرض هذه أو تلك
إن تعذّر استيلاؤه
على كلتيهما،
هل ينفق المال
على المتعة الجسديّة
الحرام أو يدّخره
شحّا، هل يقصد
السّرك أو المسرح
إن وُجد يوما عرض
في كليهما، بل
أضيف خيارا ثالثا:
هل يذهب إلى دار
غيره للسّرقة
إن توفّرت المناسبة،
وأضيف رابعا: هل
يزني إن سنحت الفرصة
في نفس الوقت،
وإن عرضتْ كلّ
هذه الإمكانيّات
في فسحة زمنيّة
واحدة، وكلّها
مرغوبة بالتّساوي،
ويتعذّر فعلها
كلّها معا. فإذّاك
تتمزّق النّفس
بين أربع إرادات
متضاربة، بل بين
كثرة منها بقدر
ما هناك من الأشياء
المبتغاة، ومع
ذلك لم يعتادوا
القول بوجود كثرة
مماثلة من الجواهر
المختلفة. والشّأن
مماثل في الإرادات
الحسنة. أسألهم:
"أحسنٌ أن نستمتع
بقراءة الرّسول،
أحسن أن نستمتع
بمزمور ربّانيّ
الجلال، أحسن
أن نشرح الإنجيل؟"
سيجيبون على كلّ
سؤال: "حسن." ماذا؟
ماذا؟ إذن إن راقت
معا كلّ تلك الخيارات
بالتّساوي وفي
نفس الوقت، ألا
تتنازع إذّاك
إرادات شتّى قلب
الإنسان، حين
نفكّر بأيّ منها
نفضّل الشّروع؟
كلّها حسنة وتتنازع
فيما بينها حتّى
نختار أحدها،
فتأتلف وتتّحد
به الإرادة المنقسمة
قبل إلى كثرة. والأمر
كذلك أيضا لمّا
تجذبنا الأبديّة
إلى أعلى وتشدّنا
شهوة متاع الدّنيا
الزّائل إلى أسفل،
فالنّفس إذّاك
لا تريد هذه ولا
تلك إرادة تامّة
فتتمزّق والحال
تلك وتغدو في رهق
ومشقّة إذ تفضّل
تلك حبّا للحقّ
ولا تطرح* هذه لاستسلامها
للعادة. 8-11 احتدام
الصّراع بين داعي
الحقّ وعادات
الباطل 25 هكذا بقيتُ
أضنى وأتعذّب،
مقرّعا نفسي بأشدّ
كثيرا ممّا اعتدتُ،
راسفا ومتخبّطا
في قيدي إلى أن
ينكسر تماما ما
ظلّ يمسكني قليلا،
لكنّه على أيّة
حال يمسكني. وكنتَ
يا ربّ تستحثّني
في خفايا ذاتي
وبرحمتك الصّارمة
الحازمة* تجلدني
بسياط الخشية
والخجل، كيلا
أتخاذل مرّة أخرى
وأفشل عن قطع ذاك
القيد الهشّ النّحيل
المتبقّي فيستعيد
قوّته ويوثقني
بلا فكاك. في باطني
كنتُ أقول لنفسي:
"لا تتوان، هيّا!
هيّا!"، ومع القول
أحزم أمري وأكاد
أفعل ولا أفعل،
لكن دون السّقوط
مجدّدا في وضعي
الأسبق بل أتوقّف
وأنا على وشك الوصول
وألتقط أنفاسي.
ومن جديد أحاول
وها أنا من الهدف
قاب قوسين، أكاد
أبلغه وألمسه
وأمسكه. ولا أبلغه
ولا ألمسه ولا
أمسكه في تردّدي
بين أن أموت للموت
أو أحيا للحياة،
والشّرّ المتأصّل
فيّ أصلب عودا
من الخير المستجدّ*.
وبقدر ما تقترب
اللّحظة الّتي
سأصير فيها آخر
تبعث فيّ هلعا
أكبر لكن دون أن
تعيدني القهقرى
أو تحوّل وجهتي
بل توقفني معلّقا
فقط. 26 كانت تفاهات
تفاهاتي و"أباطيل
أباطيلي"، صديقاتي
القديمات، يمسكنني،
ويجذبن ثوب جسدي
ويهمسن: "أتصرفنا؟
من هذه اللّحظة
لن نكون معك إلى
الأبد، من هذه
اللّحظة لن يباح
لك كذا وكذا". وبم
كنّ يوسوسن، ما
أسميته كذا وكذا،
بم كنّ يوسوسن
يا ربّ؟ لتُبعدْ
رحمتك عن نفس عبدك
وساوسهنّ! أيّة
قبائح وأيّة مخاز
كنّ يزيّنّ لي!
وأنا أستمع إليهنّ
قليلا، دون نصف
استماع، وهنّ
لا يعترضن سبيلي
جهرة ووجها لوجه،
بل كأنّما يوشوشن
في قفاي ويقرصنني
خلسة وأنا ماض
في سبيلي لألتفت.
لكن كنّ يعطّلنني
عن انتشال نفسي
والنّأي عنهنّ
والعبور إلى حيث
يدعوني النّداء
بينما تقول لي
العادة في عتوّ:
"أتظنّ بإمكانك
الاستغناء عنهنّ؟"
27 لكنّها
باتت تقول ذلك
بفتور، إذ أخذت
تتبدّى لي، من
النّاحية الّتي
إليها ولّيت وجهي
وكنت أخشى العبور،
كرامةُ العفّة
الطّهور، رصينة
وباسمة في غير
خلاعة مهزاق تدعوني
ملاطفةً بنزاهة
أنْ تعال ولا تتردّد،
مادّة لاستقبالي
واحتضاني يديها
السّمحاوين المليئتين
بزمر من الأمثلة
الصّالحة. ففيها
ما لا يحصى من الصّبية
والصّبايا، والشّباب،
ومن كلّ الأعمار،
والأرامل المتعفّفات
والعجائز الأيامى،
وفي الجميع نفس
العفّة "لا عاقر
بل أمّ بنين مسرورة"
بنوها المسرّات
الّتي أنجبتْ
منك أنت بعلها
يا ربّ. وتتضاحك
ساخرة منّي لتستنهض
همّتي كأنّما
تقول: "ألا تستطيع
ما استطاع كلّ
هؤلاء من الجنسين؟
أفي أنفسهم أم
في الله يجدون
القدرة؟ الله
ربّهم وهبني لهم.
فلِم تتّكل على
نفسك ولا تتّكل
عليه؟ ارتمِ في
حضنه ولا تخف،
لن ينزاح فتقع.
ارم بنفسك مطمئنّا،
وسيتلقّاك ويشفيك."
وينتابني خجل
كبير لأنّي ما
زلت أستمع إلى
همسات تلك التّفاهات
والأباطيل، حيران
كالمعلّق لا إلى
هنا ولا إلى هناك.
ومن جديد تبدو
كأنّما تقول لي:
"صمّ سمعك عن نداءات
جسدك النّجسة،
لتميته. فإنّه
يحدّثك عن متع
لكن لا على حسب
شريعة الرّبّ
إلهك." لم يكن هذا
العراك يدور في
قلبي إلاّ بين
ذاتي وذاتي*. أمّا
أليبيوس فمكث
بقربي صامتا ينتظر
مآل صراعي الدّاخليّ
غير المعهود. 8-12 التّحوّل
الحاسم 28 لكن لمّا
سحب ولمّ فحصٌ
عميق من قعر ذاتي
الخفيّ بؤسي كلّه
قدّام قلبي، ثارت
فيّ عاصفة هوجاء
حاملةً معها مطرا
هتونا من الدّمع.
ولأهرقه مع ما
يضجّ بمهجتي من
نشيج قمت من حذو
أليبيوس، إذ بدت
لي الوحدة أنسب
للبكاء، وانتبذت
مكانا قصيّا كيلا
يزعجني حضوره.
كذلك كانت إذّاك
حالي، وقد أحسّ
بها إذ قلتُ شيئا
لا أذكره بدت فيه
نبرة صوتي مخضلّة
بالبكاء. هكذا
نهضت بينما بقي
هو حيث كنّا جالسين
وقد انتابه ذهول
كبير. استلقيتُ
تحت شجرة تين* لا
أذكر كيف، وأطلقت
العنان لدموعي،
فسالت أودية من
مقلتيّ، قربانا
لك ترضاه، وقلتُ
لك كلاما كثيرا،
لا بهذه الألفاظ
تحديدا بل بهذا
المعنى: "وأنت
يا ربّ فإلى متى؟
أإلى الأبد غضبك؟
لا تذكر لنا الآثام
القديمة". إذ كنتُ
أشعر بأنّها ما
زالت مستحكمة
منّي. كنت أطلق
صرخات بائسة:
"حتّام؟ حتّام
غداً وغداً؟ لِم
لا الآن؟ لِم لا
تكون الآن نهاية
خزيي؟" 29 كنت أقول
ذلك وأبكي بانسحاق
قلبي المرير. وإذا
بي أسمع من البيت
المجاور صوتا،
لصبيّ أو صبيّة
لا أدري تحديدا،
يغنّي مردّدا
مرارا: "خذ اقرأ،
خذ اقرأ". في الحال
تغيّر وجهي وأخذت
أنقّب في شعاب
فكري متسائلا
إن اعتاد الصّبيان
في أحد ألعابهم
غناء شيء كذاك،
فلم أذكر أنّي
سمعت مثله في مكان
ما. فأمسكت سيل
دموعي وقمت، مؤوّلا
ذلك حصرا كأمر
ربّانيّ بفتح
الكتاب* وقراءة
أوّل إصحاح أجده.
فقد سمعت عن أنطونيوس
أنّه تلقّى كإنذار
موجّه إليه ما
سمعه يُقرأ لمّا
وصل على حين غرّة
أثناء تلاوة من
الإنجيل: "اذهب
وبع كلّ شيء لك
وأعطه للمساكين
فيكون كنز لك في
السّماء وتعال
اتبعني"*، وبذلك
النّذير تحوّل
إليك في الحال.
فعدتُ متحمّسا
إلى المكان حيث
يجلس أليبيوس.
إذ كنتُ قد وضعتُ
هناك كتاب الرّسول
لمّا قمتُ من عنده.
تناولتُه وفتحتُه
وقرأتُ في سرّي
أوّل إصحاح وقعت
عليه عيناي: "لا
بالقصوف والسّكر
ولا بالمضاجع
والعَهَر ولا
بالخصام والحسد،
بل البسوا الرّبّ
يسوع المسيح ولا
تهتمّوا بأجسادكم
لقضاء شهواتها."*
لم أشأ قراءة المزيد
وما كان بي إليه
حاجة. فور انتهائي
من هذه الآية انتشر
نور الطّمأنينة
في قلبي مبدّدا
كلّ ظلمات الشّكّ*.
31 إذّاك
بعدما أمّرت الصّفحة
بإصبعي أو بعلامة
أخرى أغلقتُ الكتاب،
وأخبرتُ أليبيوس
بوجه عاوده الهدوء.
فكشف لي من جهته
ما حصل بداخله،
وكنتُ أجهله. طلب
رؤية ما قرأتُ،
فأريته، وواصل
هو انتباهه إلى
ما بعد الفقرة
الّتي قرأتُ،
وكنت أجهل ما يليها،
وكان هذا ما يلي:
"من كان ضعيفا
في الإيمان فاتّخذوه".
وهو ما نسبه لنفسه
وفاتحني به. فثبّته
ذلك التّنبيه،
وانضمّ بلا أدنى
تردّد أو ارتباك
إلى ذلك القرار
والمشروع المبارك
الموافق تماما
لخلقه الّذي كان
يفضلني به منذ
أمد بعيد ويتقدّم
عليّ بشأو طويل.
ذهبنا رأسا إلى
أمّي وأخبرناها
فسُرّتْ. روينا
لها كيف تمّ ذلك
فامتنّتْ وأشرقتْ
بنشوة الانتصار.
وطفقتْ تباركك،
أنت "القادر أن
تصنع كلّ شيء بحيث
يفوق جدّا ما نسأله
أو نتصوّره"،
وهي تراك منحتَها
بشأني أكثر بكثير
ممّا كانت تطلب
في شكاواها البائسة
الباكية. فقد حوّلتَني
إليك بحيث لم أعد
أبغي امرأة ولا
أيّ مطمح في هذا
العالم، ثابتا
على قاعدة الإيمان
الّتي أريتني
لها واقفا عليها
قبل عدّة سنوات.
"وحوّلتَ ندْبَها
إلى سرور" أوفر
وأوفى بكثير ممّا
كانت تتمنّى،
وأحبّ وأنقى بكثير
ممّا كانت ترتجي
من حفدة يولدون
لها من جسدي. |